مفهوم النجاة

من دروس حضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد المصلح الموعود رضي الله عنه الخليفة الثاني لحضرة الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام

(قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) (البقرة: 140)

التفسير:

تقدم هذه الآية دليلاً غاية في اللطافة والشفافية. يقول الله: قولوا كيف نقبل قولكم بأن هدي الله منحصر في قومكم؟ لو قلتم هذا الكلام عن شيء لا نعرفه كانت هناك حاجة للبحث والتحقيق، ولكنكم تقولون لنا هذا عن ربٍّ هو ربنا وربكم، فكيف نقبل قولكم بأن النبوة لا يمكن أن تكون في غير بيت إسحاق؟ السؤال الحقيقي هو من الذي يُرسل نبياً؟ وما دام الله هو الذي يرسله.. فلماذا تقولون هذه الأقوال التي لا تقبلها الفطرة الصحيحة؟ إنه ربكم وربنا، لو كان ربكم أنتم فقط لحقَّ لكم أن تقولوا بأنه لا ينشئ صلة مع غيرنا، ولكنه ربنا وربكم، فكيف يمكن أن يتركنا ويتصل بكم فقط؟

وقوله تعالى (ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم) يبين ألا داعي للحسد في الدين، لأنه لا يمكن أن يسلب أحد ما كسبه غيره، وإنما ينال كل إنسان جزاءه بحسب أعماله هو نفسه. ولسوف يكافأ كلٌّ قدر ما اجتهد، ولن تكون هناك معاملة بالنظر إلى شعبه وقومه.

وقوله (ونحن له مخلصون) يبين أن حبنا لله غير مشروط، ولا نقول إننا نؤمن به ونطيعه إذا أعطانا شيئاً، وإنما حالنا أنه سواء أعطانا أو لم يعطنا فإننا وقْفٌ له ومطيعون له، ولا نريد أي شيء أكثر من ذلك.

(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ۗ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ* تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (البقرة: 141-142)

التفسير:

في هذه الآية يذكر الله ادعاء اليهود أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وأولاده كانوا يهوداً ونصارى. ويفنّد القرآن هذا الادعاء بجواب بسيط، ولكنه بمثابة الذبح لهم. يقول إن إبراهيم وكل أبنائه وأحفاده مضوا في زمن قبل نزول التوراة والإنجيل. والتوراة التي يعتبرونها إلهامية تذكر هذا الأمر بكل وضوح. يقول الله: لماذا تكذبون عمداً وتخفون الشهادات المذكورة في التوراة بكل وضوح..

مِن أن هؤلاء جميعاً قد ماتوا قبل نزول التوراة، فكيف يمكن أن يؤمنوا بما لم ينزل بعد، وكيف يمكن أن يكون هؤلاء قد آمنوا بموسى وعيسى؟

إن حمقهم هذا يماثل الحمق الذي بدا من القسيس وُود wood في مناظرة معي، إذ قال لي مرة بأن إبراهيم أيضاً مان يؤمن بكفارتهم، لذلك نجا. أو كحمق بعض الشيعة الذين يقولون بأن القرآن أيضاً يقر بأن إبراهيم كان من الشيعة، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى (وإن من شيعته لإبراهيم) (الصافات: 84).

يقول القرآن هل نقبل ما تقولون أو ما تقوله كتبكم؟ تقول توراتكم إن إبراهيم كان قبل نزولها، أما أنتم فتقولون أنه كان يهودياً. ألا ما أشد حماقتكم! والعجب أنه يوجد في هذا الزمن أيضاً من يقولون أن إبراهيم كان يهودياً، فقد جاء:

” Abraham was considered to have been the first adherent of Judaism” أي أن إبراهيم كان أول المنتمين إلى اليهودية (دائرة المعارف البريطانية، تحت كلمة “اليهودية”).

وقوله تعالى (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم).. يعني أن هذه أمة قد مضت وخلت، فلماذا تشركونها في أخطائكم؟ هؤلاء مسؤولون عما فعلوا، وأنتم مسؤولون بأنفسكم عما فعلتم. فما الفائدة في أن تشركوهم في أخطائكم؟ عليكم أن تهتموا بإيمانكم، لأن إيمانهم لن ينفعكم شيئاً، وكذلك لن تكون حسناتهم ذريعة لنجاتكم. وكأن هذه الآية تطرق نفس الموضوع الوارد في آيات أخرى تقول (ولا تَزِرُ وازرَةٌ وِزْرَ أُخرى) (الأنعام: 165). لقد ذكر هنا نفس الموضوع بأسلوب آخر، ونبّه اليهود والنصارى ألا ينظروا إلى آبائهم بل إلى أعمالهم أنفسهم، ويفكروا فيما يفعلون وكيف يستحقون النجاة.

هؤلاء مسؤولون عما فعلوا، وأنتم مسؤولون بأنفسكم عما فعلتم. فما الفائدة في أن تشركوهم في أخطائكم؟ عليكم أن تهتموا بإيمانكم، لأن إيمانهم لن ينفعكم شيئاً، وكذلك لن تكون حسناتهم ذريعة لنجاتكم.

الترتيب والربط:

في الآية (130) أشار الله تعالى إلى أنه بعد أن حُرم بنو إسحاق من نعمة النبوة أصبحت من حق بني إسماعيل، لأن إبراهيم دعا لهم أيضاً، وكان هناك دعوة خاصة لسيدنا إبراهيم ببعث نبي من بني إسماعيل ذي شريعة.

ثم في الآيتين (131 و132) قال الله تعالى لليهود ألا يرتكبوا الحماقة بالنكوب عن طريق إبراهيم الذي كان يقبَل بكل ما يأتي من عند الله تعالى، فمن لا يسلك هذا الطريق يخسر.

وفي الآية (133) بيّن أن إبراهيم لم يكن بنفسه عاملاً بهذا المبدأ فحسب، بل وصّى أولاده وأحفاده به، ونصحهم أن يكونوا دائماً مطيعين لله تعالى، وكلما بعث مأموراً دخلوا في حزبه.

وفي الآيتين (134 و135) بيّن أن أولاد يعقوب (إسرائيل) تعهدوا على يده أنهم سوف يعبدون إلهاً واحداً ويكونون مسلمين له. فإذا كنتم بني إسرائيل حقاً وجب عليكم أن تفوا بهذا العهد، وتكونوا مطيعين كما فعل يعقوب، ولن ينفعكم كونكم من أولاده، لأن كل إنسان مسؤول عن أعماله. وفي الآية (136) قال لا تتعنّدوا ولا تقولوا أن الإنسان لن ينجو ما لم يكن يهودياً أو نصرانياً، بل عليكم أن تسلكوا المسلك الذي اتبعه إبراهيم.. أي أن يكون الإنسان مستعداً على الدوام لقبول ما ينزل من عند الله تعالى في أي زمن، ولا يكترث للعوائق التي تحول دون ذلك.

وفي الآية (137) خاطب المسلمين ونبههم: سواء اتبع هؤلاء الملة الإبراهيمية أم لا.. إلا أن واجبكم أن تعلنوا أننا نسلم بكل ما جاء من الله في أي زمن.

وفي الآية (138) بيّن أنه لو قبِل أهل الكتاب هذا المبدأ كما فعلتم نجوا وإلا فسوف يُعاقبون. وفي الآية (139) أكد على المسلمين أن يصطبغوا بالصبغة التي يريدها الله لهم، أي يختاروا اللون الذي يأتيهم به مأمور من عند الله تعالى.

وفي الآية (140) نصح المسلمين أن يقولوا لأهل الكتاب: أتجادلوننا في الله وتقولون لماذا اختاركم الله لكلامه؟ هذا فضل منه، وهو أعلم بأعمالنا وأعمالكم، فمن عمل بإخلاص نال الجائزة.

وفي الآية (141) قال للمسلمين: اسألوهم إذا كانت النجاة في كون الإنسان يهودياً أو مسيحياً فما رأيكم في إبراهيم وأبنائه وأحفاده.. هل كانوا يهوداً أو نصارى؟ كلا، لأن هؤلاء جاءوا قبل نزول كتبكم السماوية. وفي الآية (142) بعد أن أقام الحجة عليهم قال: إن هذه الأمة من الأنبياء قد مضوا في ومنهم، فلا أعمالهم تنفعكم، ولا تعرُّض المسيح للأذى ينجيكم. إنما تُسألون عن أعمالكم، فيجب أن تهتموا بما تقومون به من أعمال. (يُتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك