دلالة "الصبي" في المصطلح القرآني
  • من هما النبيان الذان أشير إلى كل منهما ب “الصبي” في القرآن؟
  • ما وجه التشابه بين هذين النبيين؟
  • ما دلالة لفظ “صبي” في سياق سورة مريم؟

___

يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا* وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (مريم: 13و 14)

 شرح الكلمات:

حنانًا: الحنـانُ هو الرحمةُ؛ الرزقُ؛ البركةُ؛ الهيبةُ؛ الوقارُ ورقّةُ القلب (الأقرب).

والمراد من الحنان هنا رقّة القلب.

 

التفسير:

نستنبط من هذا أن التوراة وصُحفها لم تكن قد أصبحت منسوخة حتى ذلك الوقت. ذلك لأن يحيى لم ينـزل عليه أي كتاب جديد بحسب عقيدة المسلمين والمسيحيين أيضًا. فالمراد من الكتاب الذي أُمر يحيى بأخذه بقوة هو التوراة.

هذا، وإن المسيح أيضًا قد تعمَّد على يد يوحنا (يحيى)، أي اعترف بكونه تابعًا لدينه. وهذا يعني أن المسيح أيضًا لم يأت بدين جديد. ذلك لأن الله تعالى إذا كان قد بعث نبيينِ في زمن واحد، وإلى شعب واحد، وكان أحدهما تلميذًا للآخر، فكيف يمكن أن يكون أحدهما آخذًا بالتوراة بقوة، ويكون الآخر ناسخًا لها بكتاب جديد يأتي به. إذن فإن قوله تعالى يا يحيى خُذِ الكتاب بقوة إشارةٌ إلى أن الشرع الموسوي ما كان ليُنسَخ عاجلاً على يد المسيح، إذ لو كان نسخه مقدّرًا على يد المسيح لما أوصى الله يحيى بهذه الشدة يا يحيى خُذِ الكتاب بقوة . إن هذه الكلمات تؤكد أنه كان على بني إسرائيل أن يعملوا بشرع التوراة نفسه. لو كانت التوراة لتُنسخ عاجلاً لما أُمروا بالعمل بها بهذا التأكيد والشدة. كلا، إن مثل هذه الكلمات لا تقال للعمل المؤقت، وإنما تقال إذا كان ذلك الشرع ما زال واجب العمل به لفترة من الزمن.

أما قول الله تعالى وآتيناه الحكمَ صبيًّا فيعني أن الله تعالى قد شرّفه بقربه وهو صغير. بمعنى أن الوحي بدأ ينـزل عليه وهو لا يزال صغيرًا في أعين القوم، بدليل قولنا: إن فلانًا وليد الأمس، إذ لا يعنون بذلك أنه طفل رضيع. ثم إن الصبي يعني الشاب أيضًا.

الغريب أنه قد جاء في ذلك الزمن نبيّانِ الواحدُ بعد الآخر، وقد استخدم القرآن لكل واحد منهما كلمة صبيًّا . يخبرنا الله تعالى أن أمّ عيسى لما جاءت به قومَها قال لها اليهود كيف نُكلّم مَن كان في المهد صبيًّا (مريم: 30). وهذا يعني أن الناس سموا عيسى صبيًّا، وأما يحيى فسماه الله صبيًّا. وذلك ليشير إلى أنه إذا كان كلام عيسى في صغره معجزة فإن يحيى أيضًا كان موصوفًا بهذا الوصف حيث قال الله عنه وآتيناه الحُكم صبيًّا .

بل هناك فرق بينهما وهو أن الذين سمّوا المسيح صبيًّا هم اليهود، ولكن الله تعالى نفسه قد سمى يحيى صبيًّا. فإذا كان المسيحيون يعظّمون المسيح بسبب كلمة قالها أعداؤه في حقه، فلم لا يعظّمون يحيى بسبب الكلمة نفسها خاصة وإن الله تعالى هو الذي قالها في حقه لا الأعداء. لا شك أن الله تعالى قد قال عن المسيح يكلّم الناسَ في المهد وكَهْلاً (آل عمران: 47) ، ولكن فيما يتعلق بتسميته صبيًّا فلم يطلقها على عيسى إلا الأعداء.

وكما أن قوله تعالى وآتيناه الحُكْمَ صبيًّا يمثّل لومًا للمسيحيين بأنهم إذا كانوا يعظّمون المسيح لكونه غالبًا على أعدائه منذ صغره فلم لا يؤتون يحيى العظمة نفسها وقد حظي هو الآخر بقرب الله تعالى منذ الصغر، كذلك قد عُقدت في قوله تعالى وحنانًا مِن لَدُنَّا وَزَكَاةً وكان تقيًّا المقارنة بين المسيح ويحيى نظرًا إلى تعليم المسيح. يركّز المسيحيون على أن المسيح علّم الرفق والحكم والعفو، فيرد الله تعالى عليهم بأن يحيى أيضًا كان متصفًا برقة القلب والرفق والحلم. فإذا كان الرفق والحلم سببًا لعظمة عيسى فإن يحيى أيضًا كان عظيمًا مثله لاتصافه بالصفة نفسها.

إذًا فالله تعالى قد فنّد في هذه السورة مزاعم المسيحيين بذكر كل الأمور التي يستدلون بها على أفضلية المسيح. وإليك بيانها:

أولاً: يقال أن المسيح كان حليم القلب ورءوفًا ومحبًّا للجميع. فردّ الله تعالى عليهم بقوله إن يحيى أيضًا كان حليم القلب ورءوفًا ومحبًّا للجميع.

ثانيًا: يقال أن المسيح قد أتى بشرع جديد، فيقول الله تعالى لقد أمرنا يحيى هو الآخر بأخذِ الكتاب بقوة.

ثالثًا: يقال أن المسيح تكلم وهو صغير، وهذا دليل على أفضليته، فيقول الله تعالى إننا جعلنا يحيى مأمورًا من عندنا وهو صغير، وبعثناه إلى الناس.

رابعًا: يقال أن المسيح كان بريئًا من الذنوب، فيقول الله تعالى إن يحيى أيضًا كان مبرأً من الذنوب حيث قال وزكاةً .. أي منحناه الطهر والقدس.

لقد وصف الله تعالى يحيى هنا بكل الخصوصيات التي تعزى إلى المسيح ليقيم الحجة على المسيحيين، وقال إذا كنتم تفضلون المسيح على الأنبياء الآخرين بسبب هذه الأمور فلم لا تؤمنون بأفضلية يحيى الذي كان هو الآخر مخصوصًا بها.

وبعد أن وصف الله تعالى يحيى بأنه آتاه زكاةً قال الآن وكان تقيًّا .. أي كان صاحب تقوى وورع. علمًا أننا في لغتنا الأردية عندما نقرأ كلمات مترادفة نظن أنها لا تضيف أي مفهوم جديد، وإنما جيء بها من أجل تحبير الكلام وتزيينه فقط. ولكن الأمر ليس كذلك في اللغة العربية، بل إن كل كلمة فيها تنطوي على دلالة معينة. فقوله تعالى آتيناه زكاة يعني غير ما يعنيه قوله تعالى وكان تقيًّا . ذلك أن الزكاة في العربية تعني إزالة العيوب الباطنة، أما التقوى فيعني إزالة العيوب الخارجية. فالآية تعني أننا منحناه من عندنا الحلم والرفق، وجعلنا أفكاره المختلجة بداخله طاهرة، كما وهبنا لـه القوة ضد المساوئ التي تهاجم من الخارج.

يخبرنا الله تعالى أن أمّ عيسى لما جاءت به قومَها قال لها اليهود كيف نُكلّم مَن كان في المهد صبيًّا (مريم: 30). وهذا يعني أن الناس سموا عيسى صبيًّا، وأما يحيى فسماه الله صبيًّا. وذلك ليشير إلى أنه إذا كان كلام عيسى في صغره معجزة فإن يحيى أيضًا كان موصوفًا بهذا الوصف حيث قال الله عنه وآتيناه الحُكم صبيًّا .

وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (15)

 شرح الكلمات:

بَرًّا: بَرَّ في يمينه: صدَق. وبَرَّ والدَه: أحسنَ الطاعةَ إليه ورفَق به وتَحرَّى مَحابَّه وتَوقَّى مَكارِهَه، فهو بَرٌّ به وبارٌّ (الأقرب).

وهذا يعني أن الإنسان إذا حاول إرضاء والده فتخلَّقَ في ظاهره وباطنه بكل الأخلاق التي تسرّ أباه، وترك كل المساوئ التي يكرهها فقد صار بَرًّا وبارًّا. غير أن البَرّ أبلغ وأقوى من البارّ.

جبّارًا: جبَر العظمَ: أصلحَه مِن كَسْرٍ؛ وجبَر العظمُ بنفسه: صلُح بعد الكسر. وجبَر الفقيرَ: أغناه. وجبَر فلانًا على الأمر: أكرهَه (الأقرب). وهذا يعني أن الجبر يعني الخير والإصلاح من جهة، ومن جهة أخرى ينطوي على معنى القسر والظلم.

عصيًّا: العصيّ هو العاصي أي الخارج عن الطاعة والمخالف والمعاند (الأقرب).

 

التفسير:

لقد أخبر الله تعالى بقوله وبَرًّا بوالديه أن يحيى كان مطيعًا كاملاً لوالديه. كان متخلقًا بالأخلاق التي يحبّانها، ومتجنبًا لجميع المساوئ التي كانا يكرهانها.

ثم قال الله تعالى ولم يكن جبّارًا عصيًّا . لقد وصف الله تعالى يحيى بهذه الصفات خاصة ليفنّد مزاعم النصارى الذين يقدمون بكل زهو وتباه التعليمَ التالي للمسيح: «مَن لطَمك على خدّك الأيمن فحَوِّلْ لـه الآخرَ أيضًا» (متى 5: 39). فيردّ الله تعالى عليهم ويقول إن يحيى أيضًا لم يكن جبّارًا، وأنه هو الآخر قد دعا الناس إلى ترك الظلم والعدوان.

ثم إن النصارى يزعمون أن من أكبر مزايا المسيح قوله: «أعطُوا إذًا ما لِقيصرَ لقيصر، وما للهِ للهِ» (متى 22: 21). فيرد الله عليهم ويقول إن يحيى أيضًا لم يكن عصيًّا. إنه هو الآخر أمر الناس ألا يرتكبوا العصيان، بل عليهم أن يعطوا لقيصر ما لقيصر، ولله ما لله .

إذن فقد وهب الله تعالى ليحيى كل المحاسن التي تُعزى إلى المسيح . لا شك أن المسيح كان أعظم درجة من يحيى عليهما السلام، ولكن الحديث هنا لا يدور عن الدرجة والمقام، وإنما يخبر الله تعالى هنا أن المسيح لم تكن فيه خصوصية خارقة للعادة. ذلك لأن المسيحيين يبالغون جدًّا في تعظيم المسيح زاعمين أنه قد وُجدت فيه صفات خارقة، ولذلك رد الله تعالى على مزاعمهم هذه، مؤكدًا أن يحيى أيضًا كان متحليًّا بتلك المزايا والمحاسن؛ فإذا كنتم تبالغون في تعظيم المسيح بسببها فلم لا تفعلون ذلك بحق يحيى أيضًا.

وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (16)

 التفسير:

يظن البعض أن السلام المشار إليه في هذه الآية هو السلام المادي، ولأن السلام كان مقدرًا ليحيى يوم موته أيضًا فثبت أنه لم يُستشهد.

ولكني أقول إذا كان السلام يعني سلامته من القتل، فما هو المراد إذن من السلام عليه يوم القيامة؟ فهل سيحاول عدو من أعدائه اغتياله يوم القيامة حتى وعده الله بالسلام في ذلك اليوم أيضًا؟ إذا كان هذا هو مفهوم السلام فسيكون معنى الآية كلها كالآتي: أن يحيى سيسلَم من القتل يوم يولد، وسيسلَم من القتل يوم يموت، وسيسلم من القتل حين يُبعث حيًّا يوم القيامة!

الحق أن الله تعالى قد أشار هنا إلى ثلاثة أدوار مختلفة، ولكن أصحاب الرأي المذكور أعلاه قد أخطأوا في فهم هذه الآية. الواقع أن حياة الإنسان ثلاث. فتبدأ الحياة الأولى بولادة الإنسان وتنتهي بموته. وأما الثانية فتبدأ بموت الإنسان وتستمر إلى يوم القيامة، وتسمى الحياة البرزخية. وأما الثالثة التي تُسمَّى يوم البعث في القرآن الكريم، فتبدأ بدخول أهل الجنة الجنةَ وأهل النار النارَ بشكل كامل. فالولادة بداية للحياة الدنيا، والموت بداية للحياة البرزخية، ويوم القيامة بداية للحياة الآخرة. ويخبرنا الله تعالى هنا أن سلامنا سيشمل يحيى في كل هذه الفترات من الحياة؛ فسينـزل منا عند ولادته، وسيظل متمتعًا به في حياته الدنيا كلها. ثم يشمله السلام منا حين يموت، وسيظل في سلام خلال حياته البرزخية. ثم يكون في سلام يوم القيامة، وسيظل موردًا لفضل الله ورحمته في حياته الآخرة.

باختصار لا ذكر للقتل في هذه الآية، وإنما يدور الحديث هنا حول الأنواع الثلاثة من الحياة، حيث أخبر الله تعالى أن يحيى سيكون موردًا لسلام الله تعالى في كل فترة من فترات حياته الثلاث.

بيد أن هذا السلام الإلهي ليس خاصًّا بعيسى أو بيحيى عليهما السلام، بل إن جميع المؤمنين يتمتعون به. يقول الله تعالى للنبي : وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقُلْ سلام عليكم كتَب ربُّكم على نفسه الرحمةَ (الأنعام: 55). وبالرغم من أن هذا السلام على المؤمنين كان من عند الله تعالى، ومع ذلك قد استُشهد كثير منهم.

ثم يقول الله تعالى عن المؤمنين جميعًا الذين تتوفاهم الملائكة طيّبين يقولون سلام عليكم ادخُلوا الجنّةَ بما كنتم تعمَلون (النحل: 33).. أي الذين تقبض الملائكة أرواحهم وهم طيبون أطهار فإن الملائكة تقرأ عليهم السلام وتدعوهم إلى الدخول في الجنة. والظاهر أن الملائكة تقبض أرواح الناس بطرق شتى، منها الاستشهاد. فلو كان السلام يعني السلامة من القتل، أفليس عجيبًا أن يكون العدو يقتلهم والملائكة تقول لهم سلام عليكم، سلام عليكم! أي كانت تقول على عكس ما يجري معهم. (يُتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك