حقيقة تعليم الله الإنسان بالقلم

حقيقة تعليم الله الإنسان بالقلم

حلمي مرمر

كاتب
  • ما هي أصناف العلم؟
  • ما معنى تعليم الله الإنسان بالقلم؟

___

قبس من الفتوحات الربانية على المصلح الموعود في بيان الدقائق القرآنية

  

صنفان من العلم

العلم علمان، لَدُنّي وتحصيلي، أما العلم اللدُني فهو الذي يؤتاه المرءُ هبةً من الله لصلاح علِمهُ فيه ووظيفة يوظفه إياها حتى يكون هذا العلم معينا له عليها، بشرط أن يكون الموهوب قد نذر حياته وباع نفسه لله وخدمة دينه وخلع عباءة الدنيا ومطامعها عن نفسه تماما، وأسلم وجهه لله وكان من المحسنين.

وأما العلم التحصيلي فهو الذي يناله المرء بسعيه واطّلاعه ومدارسته ووعيه، فاسدا كان أو صالحا، والفرق بينهما أن التحصيليّ ظنيٌّ، لأنه من اجتهاد بشرٍ يصيب ويخطئ، أما اللدنيّ فيقينيٌّ لأنه من لدن عليم خبير، وعلامة العلم اللدني أن يدّعي صاحبه أنه من الله، ثم تحالفه التأييدات ولا يصيبه مكروه يمكن لأحد معه القول بأنه انتقام إلهي، على شاكلة الأخذ باليمين وقطع الوتين، ثم يكون علما إصلاحيا يحقق النماء والمصالحة والتقارب بين العباد والمعبود من جهة وبين العباد وبعضهم البعض من جهة أخرى، وهذا العلم ثابتٌ عبر التاريخ وله ألف مثال ومثال بعدد ما أرسل الله من المرسلين، بل ومن بعض عباده الصالحين، وقد يكون هذا العلم عَلَما عليهم وعلامة لهم أنَّ هؤلاء من عباد الله الصالحين، خصوصا إذا كان الناس يرونهم كاذبين مدّعين، فأوتي آدم هذا الصنف من العلوم، وعلمه الله الأسماء كلها وصولا إلى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقد خصَّه الله بجوامع الكلم، وقد صرح القرآن الكريم بأن الله علّم أحد عباده من لدنه علما وأمر أحد أولي العزم من الرسل باتباعه والتتلمذ على يديه، وهو ما أصبح مفهوما من قصة لقاء موسى بالعبد الصالح، والتي تعلمناها في سياق تفسير سورة الكهف.

معنى تعليم الله الإنسان بِالْقَلَمِ

وخزائن علم الله لا تنفد، وآل محمد والصالحون من الناس الذين يتلقون هذه العلوم باقون إلى قيام الساعة، وصفات الله وأسماؤه ساريةٌ لا تنقطع، فهذا هو ماء السماء الذي يحيي أرض القلوب التي أمحلت وأجدبت، فهو الله العليم لا يزال، ونحن الفقراء إلى علمه لا نزال أيضا.

ولكل زمان يصطفي الله من عباده من ينزل عليهم علمه ويرسلهم مصلحين لما فسد من أفكار الناس وعقائدهم، ومن هؤلاء في زماننا هذا حضرة المسيح الموعود عليه السلام والمصلح الموعود مرزا بشير الدين محمود رضي الله عنه الذي هو منه، وقد تنبأ عنه أنه سيهبه الله نفَسا مسيحيا، أي أنه سيكون ذا صلة متينة بمسيح الزمان، وسوف يكون له نصيبٌ من علمه اللدنيّ، وكأنه صورةٌ مصغرة منه، وقد تجلّى هذا النفَس المسيحيّ والعلم اللدنيّ فيما تركه حضرته من آثار علمية تفوق قدرات البشر والعلماء التحصيليين بشكل ملموس، فهو في منظور العالم من الأميين الذين لم يتتلمذوا التلمذة المنهجية، ولم يدرسوا الدراسة الأكاديمية، وليس من حملة الشهادات العالية من الجامعات العالمية، ومع ذلك فقد بلغ من الدقائق العلمية والنكات القرآنية ما لم يبلغه من تناولوا القرآن الكريم بالشرح والتفسير عبر تاريخ الإسلام وحتى اليوم، وهذا ظاهرٌ لكل من يطالع آثاره التفسيرية في كثير من المصادر التي تركها وأبرزها سِفره العظيم المسمى: التفسير الكبير، ونتناول هنا ـ كمثال ـ على العلم اللدنّي جانبا من تفسيره لقوله تعالى: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (1)، في سياق تفسير سورة العلق من المجلد التاسع من التفسير المذكور، حيث قدّم حضرته طرحا فريدا لم يطرحه قبله من المفسرين أحد يقينا، فقد طالعتُ جُلّ التفاسير القرآنية لعقد مقارنة بين المفهوم الذي قدمه حضرته لهذه الآية والمفهوم الذي قدمه السادة الأجلاء الآخرون الذين تعرّضوا للقرآن الكريم بالشرح والتفهيم، فلم أجد تقديما خيرا مما قدّمه، ولا تعليما كالذي علّمه، ولا أقول هذا الكلام انحيازا لما هو مني وما أنا منه، بل تلك حقيقة ملموسة، ومن أراد أن يتبين صدق هذا فله ما أراد، أما السادة الأجلاء من المفسرين التقليديين فلم يتجاوز مفهومهم لهذه الآية ظاهر المعنى، ولم تكن تعني عندهم إلا أن الله علّم الناس الكتابة لتقييد العلم وحفظه في صُحف ومخطوطات حفظا له من خيانة الذاكرة، حتى إنهم ينسبون إلى الله كل ما خط قلم، وكل ما تعلم الناس من علوم مكتوبة، صالحةً كانت أم طالحة، أما حضرة المصلح الموعود رضي الله عنه فقد تعامل مع الآية تعاملَ الغواص الماهر الذي يُبحر في الأعماق باحثا عن اللآلئ الثمينة، ولا يقنع بصيدٍ يسير فضلا عن الزبَد، ولعلنا نخرج مما قال حضرته بقبس نشير إليه في هذه العجالة، ومنه ما يلي:

وقد تجلّى هذا النفَس المسيحيّ والعلم اللدنيّ فيما تركه حضرته من آثار علمية تفوق قدرات البشر والعلماء التحصيليين بشكل ملموس، فهو في منظور العالم من الأميين الذين لم يتتلمذوا التلمذة المنهجية، ولم يدرسوا الدراسة الأكاديمية، وليس من حملة الشهادات العالية من الجامعات العالمية، ومع ذلك فقد بلغ من الدقائق العلمية والنكات القرآنية ما لم يبلغه من تناولوا القرآن الكريم بالشرح والتفسير عبر تاريخ الإسلام وحتى اليوم،

1ـ ليس كل ما تعلّمه الناس بالقلم نزعم أنه من تعليم الله لأنه يحوي الصدق والكذب، والأمانة والخيانة، والوفاء والغدر، وكثيرا من الخداع والافتراء، ومن أهل القلم من يشيع الشرك والإلحاد ونكران الذات العلية، فكيف ننسب هذا إلى تعليم الله بالقلم؟ كما وأنه من الخطأ الفاحش نسبة تعليم النقائص والمعايب إلى الله القدوس.

2ـ ليس معنى ورود الفعل: «علَّم» بصيغة الماضي أن تعليم الله بالقلم يخصّ الماضي ولا يتجاوزه، بل إن القرآن الكريم كثيرا ما يستعمل الماضي للتأكيد على حصوله في الاستقبال أيضا، كما قال تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ (3)، فالمستعجَل لم يأت بعد، لكن الله يؤكد أنه لا محالة واقع كأنه قد وقع، فجاء الفعل «أتى» بصيغة الماضي ليمحو أي شك في وقوعه، كذلك عندما قال أنه … عَلَّمَ بِالْقَلَمِ فإنه يفيد أنه سيعلم بالقلم مستقبلا أيضا، لكن المستقبل عنده في حكم الماضي، ويخصّ الله فيما يخصّ هنا تعليم القرآن الكريم، فيقول أنه سوف يحفظ القرآن الكريم بالقلم كما لم يُحفَظ كتابٌ من قبل، وقد اعترف بهذا أعداء الإسلام قبل أتباعه، وسوف يعلِّم الناس علوم القرآن الكريم ومعارفه، وأنه سوف يسخِّر أقلامهم لخدمته، وقد تحقق هذا بكل جلاء، فلم يُكتب كتاب في العالم كما كُتب القرآن الكريم، ومن هذا نخلص إلى أن نبوءة تعليم الله بالقلم كانت تشير في المقام الأول إلى حفظ القرآن الكريم بحفظ الله، وتدوينه فور نزوله، وعدم اندثاره وتحريفه وتبديله كما كان شأن الكتب السماوية السابقة، وسوف يعلِّم بنفسه سبحانه علومَ هذا الكتاب لمن يرتضيه من الصالحين، ليكونوا سفراء إلى الناس.

3ـ معنى أن الله حفظ القرآن الكريم وعلومه بالقلم، أن هذا القرآن سيكون منبع جميع العلوم التي تكون الإنسانية في أمسّ الحاجة إليها، كالتاريخ والنحو والصرف والبلاغة والفقه والفلسفة والاقتصاد والسياسة والعمارة والزخرفة، حتى الموسيقى التي تعلموها من ترتيل القرآن الكريم وأحكام تجويده، ومنها تنكشف على الناس حقائق القرآن الكريم وعظمته، ولهذا صار للمسلمين مننٌ عظيمة على العالم كله، إذ فتحوا عليهم أبواب كل تلك العلوم وأسسوا لها ثم انطلق العالم كله من تلك الأسس، وقد اعترف الشرفاء من علماء الغرب بهذه الحقيقة، ولولا القرآن والإسلام ما كان للعرب ذكر في العالمين، فقد كانوا قبل القرآن أمة منسية مغمورة، وصاروا بعده معلِّمي العالم، كل هذا يخبر به قوله تعالى: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ وقد أثبت التاريخ أنه في الوقت الذي نزل فيه القرآن وذاع وانتشر لم يكن لدى أوربا شيء من العلوم والفنون، وقد انتقلت إليهم من المسلمين في إسبانيا والشام والجزيرة العربية، وهذا ثابت تاريخيا وليس نوعا من التحيز للعرق والدين.

إن كل الأقلام التي سخرها الله تعالى لحفظ القرآن الكريم وعلومه حتى خدمت البشرية في كافة المناحي لهي مصداق لتعليم الله بالقلم، لدرجة أننا نزعم أن كل العلوم التي تشع بها أوربا اليوم إنما كانت ثمرة قوله تعالى: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، ولولا القرآن الكريم لظل العالَم يتخبط في متاهات الجهل والوحشية، فجاء القرآن الكريم وأخرجهم ـ بحق ـ من الظلمات إلى النور وعلَمهم ما لم يكونوا يعلمون.

 

الهوامش:

  1. (العلق: 5)
  2. انظر: مرزا بشير الدين محمود أحمد، التفسير الكبير،
  3. مجلد 9، ص 374-377
  4. (النحل 2)
Share via
تابعونا على الفايس بوك