الحج في الإسلام بِرؤية أَحمدية

الحج في الإسلام بِرؤية أَحمدية

حلمي مرمر

كاتب
  • أسلمت السيدة هاجر وجهها لله عندما أيقنت أن هذا هو أمر الله.
  • من شعائر الحج ذبح الأضحية وهو ذبج النفس الأمارة.
  • مقام إبراهيم هو غاية التوكل على الله وحاز اليقين الكامل في صدف وعده.

لم تكن الأحمدية كغيرها من الجماعات الإسلامية مقلدة للسابقين في فهمهم لفلسفة العبادات، وإنما كانت لها نظرتها الخاصة التي لا تعدو أن تكون ترجمة فعلية لكتاب الله القرآن، وسنة نبيه ، تلك الجماعة التي لها ما ليس لغيرها، وهو مسيح موعود مهديٌّ من الله تعالى، يقدم لها لآلئ المعرفة على أطباق من ذهب حلال، فالحج عند الأحمدية يتطابق تماماً مع المفهوم اللغويّ لتلك الكلمة، فالحج يعني القصد، والقصد ينبعث من النية، والنية أساس كل عمل، وعليها يدور حُسنه وقُبحه، خيره وشره، وفي الحديث الأول في صحيح البخاريّ يؤكد الرسول أن الأعمال بالنيات. فإن أبا الأنبياء إبراهيم قد ترك زوجته وابنه الوحيد بوادٍ غير ذي زرع متكئاً على اليقين في الله القيوم والتوكل عليه، وهو بذلك يكون قد قصد اللهَ وحج بيته وأدرك أسماءه حقاً، فزاده الله عزاً وشرفاً وجعل له لسان صدق في الآخِرين. وسيدتنا هاجر أسلمت وجهها لله عندما أيقنت أن هذا هو أمره، وما دام هذا هو أمرُه فلن تضيع ولن يضيع وليدُها، فهي بذلك قد حجَّت لله، وتملَّكها إيمان جارف بحفظه وعدله ورعايته.
والحج لله قصدُه وحده دون إشراك غيره معه في أسمائه وصفاته، وجعْل كل ما سواه في مرتبةٍ هي دونه، فهو وحده المالك لمراتب الكمال الذي لا يعلو صهوتَها غيرُه.

وسيدتنا هاجر أسلمت وجهها لله عندما أيقنت أن هذا هو أمره، وما دام هذا هو أمرُه فلن تضيع ولن يضيع وليدُها، فهي بذلك قد حجَّت لله، وتملَّكها إيمان جارف بحفظه وعدله ورعايته، والحج لله قصدُه وحده دون إشراك غيره معه في أسمائه وصفاته.

الحج هو الركن الأخير من أركان الإسلام ليشير إلى بلوغ المرحلة الأخيرة من إسلام الوجه والوجهة لله وحده، والانقطاع عما سواه، واللجوء إلى بيته دون بيوت غيره من العالمين. إننا إذا ذهبنا إلى بيته فقد ذهبنا ولسان حالنا يقول: خلعنا ملابسنا المليئة بالألوان المتباينة، ولبسنا ثوبا ذا لون واحد رمزا لتوحيدك وتفريدك، هو أبيض إشارةً إلى فطرتك التي فطرتنا عليها، وأننا أصبحنا بين يديك أمواتاً نلبس أكفاننا، فليس لنا إرادةٌ إلا إرادتك، وليس لنا عمل إلا ما أمرتَنا، وما نهيتنا عنه، فإننا أموات أمامك فكيف نكون لك فاعلين؟
أتيناك لنشهدك أننا نضحي من أجلك بأنفسنا قبل أموالنا، ومن قبل كنا نضحي بأسباب حياتنا بالانقطاع عن الطعام والشراب في رمضان، أما وقد علمنا قدرَك، ورأينا أنوارك، فلا يسعنا إلا أن نتقرب إليك بالتضحية بأرواحنا، وجعَلنا الهَدْيَ والأضاحي بالأنعام رمزا على ذلك ودليلا. وحلقنا شعر رؤوسنا رمزاً أننا مستعدون لنقدم رؤوسنا في سبيلك.
الحق أنه لا يحتك الإنسان بمن لا يحب، ولا يطوف حول بيت من يكره، إنما الحب أساس الطواف بالبيت، كما كان يفعل الشعراء العرب قبل الإسلام، يطوفون حول بيوت النساء اللواتي يعشقونهن، ويحترقون شوقاً وكمدا للقائهن، لعلهم يسترقون شيئاً من أصواتهن، أو يختلسون نظرةً من أعينهنّ، وقد قال امرؤ القيس في ليلاه:

أمرُّ على الديار ديار ليلى / أُقبِّل ذا الجدارَ وذا الجدارَ
وما حُبُّ الديار شغفْنَ قلبي / ولكنْ حبُّ من سكن الديارَ

فكيف لهذا الشاعر العربيّ أن يُدرك أن مضمون الطواف بالبيت هو حب أهله وسكانه وأصحابه، ولا يدرك العقلاء في هذا الزمان أن مضمون الحج ليس الطواف بحجارة البيت وجدرانه تقديساً لها، أو أولئك الذين يعتبرون الحج لوناً من ألوان الوثنية، ويرون الطواف بالبيت عبادةً له لا تختلف كثيراً عن عبادة الأصنام قبل الإسلام. نستطيع أن نُجزم أن هؤلاء ما مسَّ قلوبَهم إيمان حقيقيٌّ برب البيت، وما لامست عقولَهم حقيقة حج بيته والطواف به وفلسفة شعائره. إن الطواف ببيت الله، محوره الأساسي هو الحب والعشق والشوق لله وفي الله سبحانه وتعالى، لعل الطائف يقتبس شيئا من صفات صاحب البيت الذي يطوف به، وربما نال شيئاً من تكليمه له، أو حظي بشرف استماعه إليه، أو أجاب له سؤلاً، أو وضع عنه وزراً، أو رفع له ذكراً، أو ربما ألبسه من حلله، و زيَّنه من زينته، أو عطَّره من طِيبه وشذا أسمائه وصفاته، التي هي المقصود الحقيقيّ من حج بيته، وقصده بالطواف حوله. كما نحُكّ قطعة من الحديد بقطعة مغناطيس حكاً شديدا لنكسبها صفة المغنطة عن طريق هذا الاحتكاك (وما ذلك إلا نوع من الطواف أيضاً)، هكذا يذهب العبد إلى ربه، ويحتك ببيته، ويطوف حوله، طالباً صفاته وصبغته. لقد أخبرنا بذلك المسيح الموعود فقال:

«ليس المراد من الحج أن يخرج أحد من بيته ويعبر البحار، ثم يرجع من هناك بعد ترديد بعض الكلمات بلسانه ترديداً فارغاً فحسْب. الحق أن الحجَّ عبادة عالية، هي آخر درجة من درجات السلوك إلى الكمال».

ولقد قال المصلحُ الموعود حضرةُ بشير الدين محمود أحمد الخليفة الثاني للإمام المهديّ والمسيح الموعود في التفسير الكبير:

«ويجب ألا يُفهم من الطواف أن الإسلام قد رفع بيتاً هو مجرد جمادٍ ميّت إلى مرتبة الله تعالى. كلا ، بل الطواف عادة قديمة ترمز إلى الفداء والتضحية . فكان المرء يطوف حول المريض تعبيراً عن أنه يقدم نفسه فديةً عنه لينجو من الموت.» (1)

ومن شعائر الحج السعي بين الصفا والمروة، لنحيي في القلوب ذكرى السَّعي الحثيث الشغوف، الذي كانت تسعاه هاجر عليها السلام، مضحيةً بنفسها وراحتها من أجل رشفة ماء تبلل بها جوف وليدها الذي كاد أن يقتله الظمأ. فلم تأتها أفضال الله، رغم ثقتها الكاملة فيه ـ وهي جالسةٌ في مكانها آمنةً مطمئنة، إنما الأخذ بالأسباب من أهم دواعي نظر الله تعالى إلينا، كذلك فإن السعيَ بين الصفا والمروة يذكرنا ويؤكد على أهمية السَّعي من أجل الوصول إلى القرب من الله ونوال عطاياه، فلا ينال قُرب الله من كان من الكسالى المتواكلين.
ومن شعائر الحج المبيت في مِنى، وهي من الأمنيات، إشارة إلى أن ما كان يرجوه المرء من حجه فإنه في سبيله إلى التحقق ويصير حقيقةً ملموسة، وعليه أن يقضي الليلة في الدعاء من أجل الاستجابة والقبول.
ومن شعائر الحج المبيت في مزدلفة، التي يشير معناها إلى التماس القرب من الله تعالى، فكما أن مشركي مكة عندما استُهجنت عبادتهم للأصنام قالوا (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)، فأبدل الله تعالى التزلُّف إلى الأصنام بالتزلُّف إليه لأنه أحق به وهو أهله.

ومن شعائر الحج ذبح الأضحية، التي ما أدرك العالم كله حقيقة معناها، إلا بعدما نزل المسيح الموعود وألهمه به ربه في الخطبة الإلهامية، وعلَّمه أن الضحية في الحقيقة تشير إلى ذبح النفس الأمارة بالسوء، فلا تأمره بسوء بعد ذلك، وما كان ذبح الأضحية إلا من أجل لفت أنظار الناس وأفهامهم إلى تلك الشعيرة العظيمة، التي تختصر دين الإسلام كله فيها…

ومن شعائر الحج ذبح الأضحية، التي ما أدرك العالم كله حقيقة معناها، إلا بعدما نزل المسيح الموعود وألهمه به ربه في الخطبة الإلهامية، وعلَّمه أن الضحية في الحقيقة تشير إلى ذبح النفس الأمارة بالسوء، فلا تأمره بسوء بعد ذلك، وما كان ذبح الأضحية إلا من أجل لفت أنظار الناس وأفهامهم إلى تلك الشعيرة العظيمة، التي تختصر دين الإسلام كله فيها، فإذا لم يعد لك نفسٌ أمارةٌ بالسوء فلم يعد فيك إلا الخير، فكأنما أعانك الله على شيطانك فأسلمَ كخير البرية محمد عليه أفضل الصلوات والتسليمات، فقال المسيح الموعود عن مقام هذه الشعيرة الرائعة، مشيراً إلى يوم عيد الأضحى «يَا عِبَادَ اللهِ.. فَكِّرُوا فيِ يَوْمِكُمْ هَذَا يَوْمِ الأَضْحَى، فَإِنَّهُ أُودِعَ أَسْرَارًا لأُولِي النُّهَى.»
إذن فإن يوم الأضحى يحتاج إلى تفكير، لأن فيه أسراراً لا تُنال بظاهر الحال، إنما هي أسرار دقيقة يتوجب على الإنسان الغوص في أعماقها لاصطياد لؤلئها ودُرِّها.
ثم يقول :

«وَظَنِّي أَنَّ الأَضَاحِي فيِ شَرِيعَتِنَا الْغَرَّاءِ، قَدْ خَرَجَتْ مِنْ حَدِّ الإِحْصِاءِ،…… وَقَدْ عُدَّ هَذَا الْعَمَلُ فيِ مِلَّتِنَا مِمَّا يُقَرِّبُ إِلَى اللهِ سُبْحَانَهْ، وَحُسِبَ كَمَطِيئَةٍ تُحَاكِي الْبَرْقَ فيِ السَّيْرِ وَلُمْعَانَهْ. فَلأَجْلِ ذَلِكَ سُمِّيَ الضَّحَايَا قُرْبَانًا، بِمَا وَرَدَ أَنَّهَا تَزِيدُ قُرْبًا وَلُقْيَانًا، كُلَّ مَنْ قَرَّبَ إِخْلاَصًا وَتَعَبُّدًا وَإِيمَانًا. وَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ نُسُكِ الشَّرِيعَةِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ بِالنَّسِيكَةِ. وَالنُّسُكُ الطَّاعَةُ وَالْعِبَادَةُ فيِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيَّةِ، وَكَذَلِكَ جَاءَ لَفْظُ النُّسُكِ بِمَعْنَى ذَبْحِ الذَّبِيحَةِ، فَهَذَا الاِشْتِرَاكُ يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى أَنَّ الْعَابِدَ فيِ الْحَقِيقَةِ، هُوَ الَّذِي ذَبَحَ نَفْسَهُ وَقُوَاهُ، وَكُلَّ مَنْ أَصْبَاهُ، لِرِضَى رَبِّ الْخَلِيقَةِ. وَذَبَّ الْهَوَى، حَتَّى تَهَافَتَ وَانْمَحَى، وَذَابَ وَغَابَ وَاخْتَفَى. وَهَبَّتْ عَلَيْهِ عَوَاصِفُ الْفَنَاءِ، وَسَفَتْ ذَرَّاتِهِ شَدَائِدُ هَذِهِ الْهَوْجَاءِ.» (3)

انظر إلى هذه الفلسفة الرائعة لمعنى الأضاحي الذي جعله الله كالسر المكنون والجوهر المصون الذي لا يَفكُّ ختمَه، ولا يَملك زمامَه إلا من كان منه سبحانه وتعالى، ليجعله الله آيةً من آياته، وعلامة من علاماته، ليصل الناس منه إلى يقين أنه ـ حقاً ـ من الله، لأن حيازة تلك المعاني ليس من قدرات البشر، فكم من مليارات من الناس الذين وُلدوا وعاشوا وماتوا وواراهم التراب، وما تَفتَّقت قرائحهم، ولا نطقت ألسنُهم، ولا نبست شفاههم بكلمة من هذا البيان الربانيّ.
أما الوقوف بعرفة، فقد عرفنا الله بعد كل هذه الشعائر التي كان هدفها أن تقربنا منه، فالآن اقتربنا منه حتى عرفناه، إضافةً أنه تذكير بيوم الحشر العظيم أيضاً، حيث يجتمع الناس بكثرة كثيرة في مكان واحد.
كذلك يرمز صعود الجبل إلى الانقطاع عن الدنيا، ومغادرتها، وترك ما فيها، والتخلي عنها جميعاً، والترقي إلى الله ببذل الجهد، وإرهاق النفس، وتحمل المعاناة، مما يولِّد في الإنسان رغبة في السموّ والترقي، والترفع عن العيش في الأسافل والإخلاد إلى الأرض.
إن الحج الذي تنتهي شعائره بدون معرفة الله على الحقيقة فإنه ليس بحجٍّ على الإطلاق، لأن الحج في الأصل هو معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته على الوجه الأكمل. ومن حج ولم يعرف الله فلم يحج، وإن طاف وسعى ورمى الجمار وصعد الجبال، لذلك قال رسول الله ( الحج عرفة ) (4)، أي أن المعنى الحقيقيَّ للحج هو معرفة الله تعالى الحق أنه مَن حج فطاف بالبيت فرأى طرَفاً من أفضال الله، فاشتاق إلى المزيد، فصعد إلى عرفة ليسمو ويترقى ويقترب، فسعى لينال القرب الأقرب، وبات ليزدلف، فأصبح أقرب إلى تحقيق أمنياته في مِنىً. ولكن الشيطان لا يعجبه ترقيه فيترصد له الدوائر، لكنه مُصرٌّ على الترقي لِما ذاق من حلاوته، فيرجم الشيطان ليبعده عن طريقه في أيام التشريق، حينما يُدرك أن روحه بدأت تُشرق بنور الإيمان واليقين، فيَحلق رأسه متحللاً، متخلياً عن كل كَدُورة، بادئاً حياةً مبرأةً من الخطايا، على فطرة الإسلام النقية كيوم ولدته أمه.
وقد اتخذ من مقام إبراهيم مُصلَّىً، حيث أصبح متوكلاً على الله غاية التوكل، وقد حاز اليقين الكامل في صدق وعوده، وحتمية تحققها دون أدنى شائبة من شك أو تردُّد، فإنه ما دام قد وعد، فإنه ـ حتماً ـ سوف يفي بوعده، فالكريم إذا وعد وفَّى. فليتخلَّ كلٌ منا عن نفسه وأهله وعياله وكل عزيز لديه، في صحراء قاحلةٍ لا زرع فيها ولا ماء، ولا نبت ولا نماء، ولا أثر فيها لأحد من العجماوات ولا العُقلاء، إرضاءً لله تعالى، ونزولاً على أوامره، وطلباً لرضاه، متيقناً من نزول غيث الله في وقته المناسب تماماً بلا أدنى شكٍّ أو مراء. ومن كان هذا حاله، كان عند الله إبراهيم، وجعل اللهُ له لسان صدق في الأولين والآخرين، بما برَّأ نفسه من الفتن والشكوك والوساوس والأهواء.

1. التفسير الكبير، المجلد السادس، تفسير سورة الحج
2.سورة الزمر آية 4
3. من كتاب الخطبة الإلهامية للمسيح الموعود  
4. صحيح البخاري تحت رقم 11602
Share via
تابعونا على الفايس بوك