روح القدسِ، وإِطلالة على العالم الروحاني

روح القدسِ، وإِطلالة على العالم الروحاني

حلمي مرمر

كاتب
  • ماذا عن مراتب الخلق؟!
  • ثم ماذا عن مراتب الملائكة وهيئاتهم؟!
  • العلاقة بين الاسم والمسمى
  • نقطة لطيفة في فهم شيء من ماهية الروح
  • الملاك روح أيضا

__

ماذا عن مراتب الخلق؟!

خلق الله الخلق على مراتب متباينة، ودرجات متفاوتة، ليؤدي كل منهم وظيفته التي من أجلها خُلق، فمنهم من كان له أقرب، ومنهم من كان عنه أبعد، ومنهم من كان بين بين، يملك إرادة الاقتراب والابتعاد، فمن تصبَّغ بصبغة الأقرب اقترب، ومن تصبَّغ بصبغة الأبعد ابتعد، أما الأقرب فهم الملائكة الطيّعون، وأما الأبعد فهم الشياطين المردة، وأما من هو بين بين فهو الإنسان القادر على أن يتخلق بأي الفريقين شاء، ولقد زوده سبحانه بالقوى والقدرات التي تؤهله أن يكون ملاكاً، وأن يكون شيطاناً أيضاً، ورفع يده عنه في اختياره، فلا جبر ولا إكراه، إنما جعل له من الملائكة قرينا يحضه أن يميل إليه، كذلك جعل له من الشياطين قرينا يزيِّن له سوء عمله، وأمهله ومدَّ له، ثم يأتي يوم القيامة لينشر له ديواناً، وينصب له ميزاناً، ليكشف عليه حسنه وإحسانه، وسوءه وإساءاته، ليجعله هو ينطق على نفسه بالحق، ويقرر مصيره بالرضا، ويعرف مواطن ضعفه، ويرغب في تقويتها ليدرك ما فاته، ويسعى بيقين ليحصل على ما لم يستطع أن يحصل عليه بظن.

ثم ماذا عن مراتب الملائكة وهيئاتهم؟!

وللملائكة مراتب، ومرتبة الملَك تحددها وظيفته، ووظيفته تحددها قواه وقدراته، وقدراته عبر عنها سبحانه في كتابه وعلى لسان نبيه بالأجنحة، يقول تعالى

الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)

فمن الملائكة من له القدرة على إظهار صفتين من صفات الله المتعالي، ومنهم من له القدرة على إظهار ثلاث صفات، ومنهم من له القدرة على إظهار أربع منها، وليس ذلك فحسب، بل منهم من له أضعاف ذلك من الأجنحة القادرة على إظهار صفات شتى له سبحانه. ولقد روى ابن مسعود عن رسول الله : «رأى رسول الله جبريل في صورته على السدرة وله ستمائة جناح» (2).

والعجيب أن عامة الناس قد أخذوا عن علماء الأمة عبر العصور أن أجنحة الملائكة كأجنحة الطير من ريش وزغب……. وهذا تصور ساذج تماماً، وباطل أيضاً، بل يؤدي إلى فكرة التجسيم والتحيّز، إذ جعل لله مكاناً يحيطه، وحيِّزا يضمه…..

والعجيب أن عامة الناس قد أخذوا عن علماء الأمة عبر العصور أن أجنحة الملائكة كأجنحة الطير من ريش وزغب، ومنشأ ذلك نابع من ظنهم أنهم يحتاجون إلى الطيران والتحليق للأعلى لارتفاعات شاهقة حتى يتمكنوا من الصعود والصعود حتى يصلوا إلى (المكان) الذي يجلس فيه الله تعالى على عرشه، واضعاً قدميه على كرسيه ليشاهد العوالم من علٍ، فيتمكن من إدارة شؤونها، ومراقبة أهلها، حتى إذا ما جاء يوم حسابهم، جاء وقد رأى وسمع وسجل كل شيء في سجلات، وصوَّر كل مشهد في تصاوير، وسجل كل صوت على كروت حفظ الذاكرة، فيقيم الحجج على المحتجين، ويقطع دابر الكافرين. وهذا تصور ساذج تماماً، وباطل أيضاً، بل يؤدي إلى فكرة التجسيم والتحيّز، إذ جعل لله مكاناً يحيطه، وحيِّزا يضمه، غير أنه بعيدٌ بعيد، ويحتاج الوصول إليه إلى سفر شاق طويل، لذلك كانت أجنحة الملائكة بالغة الطول تسد الأفق، وتملأ ما بين السماء والأرض، لتساعد الملاك على هذا السفر الطويل الذي يمكِّنه من الوصول إلى حيث يجلس ربه عَبر تلك المجاهل البعيدة. ولا يخفى على الأريب اللبيب بؤس هذه الأفكار وتَدنِّيها. فإذا سلَّمنا أن أجنحة الملائكة تمثِّل قدراتهم على إظهار صفات الله سبحانه يكون جبريل أكثرهم قدرةً في هذا المجال، إذ ورد أن له العدد الأكبر من الأجنحة من الملائكة جميعاً، وبالتالي فله القدرة على إظهار ستمائة صفة من صفات رب العالمين، ولا شك أن أكثر الملائكة حملاً لصفات الله يكون أقربهم إليه، وأجدرهم ليكون الواسطة بين الله وعباده، إذ باستطاعته أن يعلمهم الصفات الربانية التي لا يقوى غيره من الملائكة على أن يعلمهم إياها، وهذا هو أُس العبادة، إذ المقصود الحقيقيّ من العبادة أن يتمثَّل الناس صفات الله في أنفسهم، ويتشبهوا به قدر طاقاتهم، ومن كان أكثر تخلقاً بأخلاق الله واتصافاً بصفاته كان أعبد الناس، ومن كانت أخلاق الله وصفاته نادرة فيه ضحلةً أو منعدمة كان أبعدهم عنه، وأدنى من الشياطين المردة، أو البهائم العجماوات، ومن هنا كان جبريل هو الملاك الذي يصلح أن يكون رسولَ الله من الملائكة إلى رسله من الناس

اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (3)

فاصطفاه الله من الملائكة نظراً لصلاحيته للمهمة التي أوكله بها، كما اصطفى من الناس من يصلح لاستقبال الفيوض منه والتصبغ بها ليكون أسوةً يتأسى بها سائر بني آدم.

فإذا سلَّمنا أن أجنحة الملائكة تمثِّل قدراتهم على إظهار صفات الله سبحانه يكون جبريل أكثرهم قدرةً في هذا المجال، إذ ورد أن له العدد الأكبر من الأجنحة على الملائكة جميعاً، وبالتالي فله القدرة على إظهار ستمائة صفة من صفات رب العالمين، ولا شك أن أكثر الملائكة حملاً لصفات الله يكون أقربهم إليه، وأجدرهم ليكون الواسطة بين الله وعباده، إذ باستطاعته أن يعلمهم الصفات الربانية التي لا يقوى غيره من الملائكة على أن يعلمهم إياها…

العلاقة بين الاسم والمسمى

ولأن الأسماء التي وضعها الله أعلاماً على مسمَّياتها تكون معبرة كل التعبير عن وظائفها، فمن الجدير أن نعرف أصل تسمية ملاك الوحي (جبريل) أو (جبرائيل). ومن خلال كتب اللغة يتبيَّن أن الجبر يحمل معنى الإصلاح والإحسان والعطف والمواساة وإزالة الانكسار وإعادة الأمر إلى الوضع السليم الذي كان عليه في السابق قبل أن يتعرض للتلف. وأما (إيل) وهو الشق الثاني من (جبريل) فإنه يعني في اللغتين العبرية والعربية (الله)، وبالتالي فإن المعنى الكامل لاسم جبريل هو (حامل أسباب الإصلاح والمواساة الإلهية).. ومن أجل الزيادة في توضيح معنى الجبر نقول أنه إذا انكسرت إحدى عظامي فإنه يكون لزاماً عليَّ أن أذهب إلى من يجبرها، أي يعيدها إلى حالتها الأولى، ويصل كل عظمة بالأخرى ليعيد التحامها كما كانت في السابق. ومن جَبر الفقيرَ فقد أحسن إليه وواساه وأزال عوَزَه وحقق حاجاته، ومن جبر خاطر جيرانه وذوي قرباه فقد ودَّهم وزارهم وتردد عليهم ولبى مطالبهم وأدى ذلك إلى نشر السكينة والطمأنينة في حياتهم، فأصلح بعد فساد، ووصل بعد قطيعة، وجبر بعد كسر. وهذه هي عين المهمة التي كلف بها الله تعالى جبريل ، إذ كلفه بمهمة إصلاح أهل الأرض بالشريعة التي تزيل همومهم ومعاناتهم، وتصلح بالهم وأعمالهم، وتصل بهم إلى التحلي بأسماء ربهم، ولأن تلك المهمة أسمى المهمات فلقد سمَّى الله صاحبها اسماً من أشرف الأسماء، فسمَّى جبريلَ (الروح)، فقال عن كتابه الكريم

نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (4)،

وجعل الملائكة جميعاً في كفة وملاك الوحي وحده في كفة أخرى، فقال:

يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (5)

نقطة لطيفة في فهم شيء من ماهية الروح

فرُوح كل شيء أصله وخلاصته وأساسه الذي بدونه لا يكون، وروح الإنسان جوهر نفيس لا يعادله أي جوهر، وإن غابت عنه غاب عن كل شيء، وغاب كل شيء عنه، وصار جثةً هامدة سرعان ما يتسرب إليها العفن والنتن، بعدما كان يشع نضارةً وبهاءً، وتكاد علامات القوة والذكاء والرياسة تنطق بغير لسان، فإذا كان ذلك هو شأن الروح البشرية التي هي الحد الفاصل بين الموت والحياة، والعدم والوجود، فإن ملاك الوحي جبريل هو الروح الأمين الذي ينفخ في البشرية روح التعاليم السماوية التي تجعل من الحيوان بشراً، ومن البشر متخلِّقين محمودين، ومن المتخلقين المحمودين ربانيين، فيستنيرون بعد ظلمات، ويحيَون بعد موت.

الملاك روح أيضا

وللملائكة وظائف ومهمات غايتها إظهار صفات الله سبحانه على خلقه، ليتمثلوها في أنفسهم، ولمَّا كانت غاية الله من الناس أن يعبدوه بالتشبه به قدر وسعهم، كانت هذه أنفس الوظائف، وأسمى المهام، فقد سمَّى سبحانه الملاك الموكَّل بها (الروح) وكان رئيس الملائكة، لأنه يحمل خلاصة المنافع الروحانية لكافة بني آدم، والتي بدونها لا يكونون أحياءً حياة حقيقية تميزهم عن بقية العجماوات، ولأن تلك التعاليم التي تحتوي عليها الكتب المقدسة والوحيُ الطاهر للمرسَلين تحقق لهم الطهارة والتزكية، حتى يتمكنوا من أن يكونوا أسوةً صالحة يتأسى بهم أتباعهم، ولا يجد أي معاند فرصةً للطعن في أخلاقهم وسيرتهم متعللاً أنهم ليسوا أكفاءً لادِّعاء الصلاح فضلاً عن الإصلاح، ولأن هذا الملاك مكلَّف بإظهار صفة الله القدوس أيضاً، أضاف إلى تسميته (الرُّوح) (القُدُس) فصار اسمه (روح القدُس) أي حامل التعاليم التي تجعل الموتى أحياءً طاهرين مبرئين من كل دنَس، فقال تعالى مخاطباً رسوله :

قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (6)،

وإذا كان خروج الروح من الجسد يجعل الإنسان الحي ميْتاً، ويتحول الجمال والحُسن قبحاً، والبهاء والنضارة نتناً، فإنه بالمثل بل هو يزيد إذا انتفت روح التعاليم والشرائع الربانية، وانقطعت كل صلة بين البشر وخالقهم كان الناس وكأنهم جِيَف متعفنة يرتع فيها الدود، ويفوح منها النَّتَن، وإذا هبت عليها الريح حملت منها السموم والأوبئة إلى حيث مرَّت، ولأن الله يأبى أن يكون هذا حال البشر، فقد أرسل إليهم مَن يحييهم بشريعته، وينشر نوره في ظلمات دنياهم، فيجبُر نور العقل بنور الوحي، وبذلك يُتم نورَه. من هنا يتبيَّن أن الأسماء التي يطلقها الله على أصحابها إنما هي نابعةٌ من الوظائف التي سيؤدونها، والمهام الموكلة إليهم، وأنه تدبير إله حكيم، كل شيء خلقه بقدَر، وكل شيءٍ عنده بحسبان.

الهوامش

1. (فاطر 2)

2. صحيح البخاري 3232

3. (الحج 76)

4. (الشعراء 194)

5. (النبأ 39)

6. (النحل 103)

Share via
تابعونا على الفايس بوك