كيف نفهم رؤيا ذبح إبراهيم لابنه إسماعيل؟!

كيف نفهم رؤيا ذبح إبراهيم لابنه إسماعيل؟!

حلمي مرمر

كاتب
  • من المؤاخذ في هذه القضية؟ أصحاب التفاسير التقليدية القدامى أم أهل هذه الأيام؟!
  • ما المعنى الحقيقيّ للذبح في قوله تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}؟

__

لم تكن القرابين البشرية يوماً شريعة إلهية، فلا يُذبح الإنسان لأي شيء، بل كل شيءٍ خُلق ليُذبح من أجل الإنسان،

وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ (1)

وليس أعز على الله من الإنسان، فلا يرضى له أن يهان أو يَكفُر أو يدخل النار أو يُذبح، بل إنّ فعل الذبح غير منسوب للإنسان أصلاً، بل هو من لزوميات الأنعام والطير، وإذا وُصف به إنسانٌ كان ذلك حتماً على سبيل الاستعارة والمجاز.

هل أصحاب التفاسير التقليدية مؤاخَذون؟

لا شك عندنا أبداً في صلاح نوايا المفسرين القدماء الأجلاء، لكنهم بشر في النهاية، ومن شأنهم أن يصيبوا وأن يخطئوا، وليس عليهم من وزر فيما أخطؤوا، لأن أخطاءهم كانت عفوية غير مقصودة، وهذا ما آلت إليه أفهامهم في أزمانهم، وذلك ما قدمته لهم المعطيات العلمية والمعرفية المتواضعة في أزمانهم وأماكنهم وسياقاتهم التاريخية وتأثيرات البيئات التي يعيشون فيها وما يحيط بهم من ظروف وأحوال، ولكن الخطأ الحقيقيّ هو خطأ أهل زماننا هذا، حيث يتجاهلون كل ما أنعم الله به عليهم من نعم لم يكن قد أنعمها على السابقين، ويعيدون أنفسهم ألف سنة أو يزيد إلى الوراء ظنًّا منهم أن كل قديم ممتاز، وأنه ليس أحد يأتي أفهم ممن مضوا، فقد كانوا أناساً صالحين ربانيين، ليسوا كأهل زماننا هذا من الأبالسة الشياطين، ولذلك فقد حرَم الله هؤلاء من الفهم الصحيح للدين، حيث كان قد وهبه كله لأولئك الأقدمين، وبالتالي فليس علينا إلا مطالعة كتبهم والأخذ بتفسيراتهم والتزامها وعدم الحيد عنها وإلا انزلقنا وهلكنا.  هكذا يقولون، وهذا هو حالنا.

أهل هذا الزمان هم المؤاخذون

وإن تمسكهم هذا بكل قديم لا يخلو من الأخطاء والمصائب، فيقولون بأقوال لا يقبلها دين، ولا ترتضيها شريعة، بل ويأباها كل عقل، ويجعلون القرآن عِضين بعضه يخالف بعضاً، ومن الطبيعيّ أن هذا الحال يستدعي المعترضين على الإسلام والملحدين، فإنها وليمة دسمة قدمناها إليهم بأيدينا ليستقوُوا بها علينا ويمتلئوا صحة وقوة وشباباً ويكونوا قادرين على حمل المعاول والضرب والهدم في بنياننا، وتحقق فينا قول الله تعالى

يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ (2)

وقول الناس «يفقأ عينه بيديه» فقد كان الملحدون والمعترضون على الإسلام بدون تمسكهم بتلك التفسيرات على أنها هي المعاني الحقيقية لآيات القرآن بلا حول ولا قوة، لولا أن قدمتم لهم ما يغيرون به عليكم ويجيحونكم، ولكن ما يعزينا أن «ربك لبالمرصاد».

ومن هذه الآيات التي يهيم بها المنصرون والملحدون وغيرهم قوله تعالى حكايةً عن إبراهيم

فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى (3)

فقال المفسرون أن الله تعالى أرى إبراهيمَ في المنام أنه يذبح ابنه، ورؤيا الأنبياء حق، وما دامت حقاً فلا بد من تحقيقها على أرض الواقع وإلا يكون ذلك النبي آثماً عصياً، وكأن رؤيا الذبح تلك معناها أن الله يقول لإبراهيم: إني آمرك أن تذبح ابنك حالاً، وأي توانٍ أو تغافلٍ فإنه يعني أنك عصيت أمري هكذا رأى المفسرون، وهكذا يرى سواد الناس حتى اليوم، والحق أن هذا التفسير باطل كل البطلان، وذلك للأسباب التالية:

1ـ  لم يثبت أن الله أمر عباده أن يتقربوا إليه بذبح بشر كقربان، وكل ما يدعيه أصحاب الحضارات كالمصريين وغيرهم من قرابين بشرية كعروس النيل مثلاً فإنها أفكار بشرية بحتة تمخضت عنها عقول البشر بناءً على حاجاتهم وخيالاتهم، وليست من الله في شيء.

2ـ من أسمائه تعالى العدل، وليس في ذبح إسماعيل بلا ذنب جناه ولا جريرة ارتكبها أي عدل، ولم يثبت لإسماعيل جُرم، وما دام الجرم لم يثبت، فلا تثبت العقوبة، وتكون غير ذات محل، لأنه يجب أن تكون الجريمة مذكورة إذا ذُكرت العقوبة، وحيث لم تثبت جريمة فلا عقوبة، وهنا أصبح لزامًا علينا أن نبحث عن المقصود الإلهي الحقيقيّ لهذه الآية، إذ إن هذا الذبح المذكور ليس عقوبة، وليس ذبحًا بالمعنى الظاهريّ المتبادَر إلى الأذهان.

3ـ ظل إبراهيم يسمع لربه ويطيع طيلة حياته، فجاهد حتى أبطل عقيدة عبادة النجوم، وكسّر أصنام قومه وعرّض نفسه لأشنع عقوبة، وأثبت عجزها وانتفاء أي صفة للألوهية عنها، أُلقي في النار بنفس راضية ولم يشتكِ ولم يتضجر، أمره الله بالهجرة فهاجر، أمره أن يذهب بابنه الوحيد وزوجته إلى صحراء قاتلة فأطاع، وأمره أن يتركهما ويرجع فرجع ، وقد حكم الله أنه وحده يعدل أمة بكاملها، وسماه الله من المحسنين، وقد وضع الله قاعدة أن الإحسان جزاؤه الإحسان، فهل يضع الله قانونًا ويوصي الناس به ويكون هو أول المخالفين له، حاشاه، وهل يستحق إبراهيم بعد كل تلك الطاعة والامتثال والإحسان أن يكون هذا جزاؤه؟

لم يثبت أن الله أمر عباده أن يتقربوا إليه بذبح بشر كقربان، وكل ما يدعيه أصحاب الحضارات كالمصريين وغيرهم من قرابين بشرية كعروس النيل مثلاً فإنها أفكار بشرية بحتة تمخضت عنها عقول البشر بناءً على حاجاتهم وخيالاتهم، وليست من الله في شيء.

4ـ خلق الله عباده ليرحمهم، وكذلك قال، وليس في ذبح إبراهيم لابنه إسماعيل بيديه أي معلم من معالم الرحمة، إذ يمسي الجميع بعد هذا الذبح المزعوم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية من شدة هول الصدمة وبشاعة الحادث، وبالتالي فليس الذبح هو مقصود الله من الآية.

5ـ لا يسع المتدبر في هذا الحادث أن يجد له أي غاية حميدة، إذ ماذا عساه أن يتحقق من ذبح غلام مراهق على يديْ أبيه المسن الذي ليس له أبناء غيره، وليس هناك فرصة لإنجاب سواه، فقد بلغ من الكِبَر والوهن منتهاه.

6ـ  ليس هناك مصلحة تتحقق من وراء هذا الذبح لأيٍّ من البشر، بل يترك هذا الحادث قلب أبٍ جريحاً، وقلب أمٍ كسيرًا، وقلوب أناس عرفوه وعايشوه وأحبوه داميةً، بلا أي حكمة مرجوة.

7ـ لو كان الله تعالى قد أمر إبراهيم بذبح ابنه على سبيل الحقيقة لكان من المحتم أن يذبحه، ولكن الذبح لم يحدث، وبالتالي فإن الله لم يأمر به، لماذا؟ لأن الله تعالى قال بقول صريح في كتابه: لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ (4) بمعنى أن الأوامر الصادرة من الله لا يمكن بحال من الأحوال أن يتوقف تنفيذها أو تتبدل بغيرها، ولكننا نرى بكل وضوح أن ذبح إسماعيل بالسكين لم يقع، وبالتالي فإن الله لم يأمر به في الحقيقة، لأنه لو كان قد أمر بذبحه ولم يحدث أن ذُبح، يكون كلام الله قد تبدل والعياذ بالله، وهذا مستحيلٌ أن يحدث، أو لعُد إبراهيم عاصيًا، وحاشاه، ولكن لا ذكر لعصيانه في الآيات، بل على العكس هناك ذكر واضح لسرعة استجابته لتنفيذ الأمر في قوله تعالى قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا (5) وبالتالي فما دام هناك أمر بالذبح وهناك ذكر لاستجابة هذا الأمر والثناء عليه، إذاً الذبح المقصود قد حدث مع تمام العلم أن الذبح بالسكين ظاهرٌ جليٌ أنه لم يحدث.

8ـ لقد أمر الله إبراهيم أن يغير محل إقامة إسماعيل من بلاد الشام العامرة إلى عمق جزيرة العرب الخاوية الموحشة الخرِبة آنذاك، ويُحرَم كلٌّ منهما من الآخر حرمانًا شديدًا، وكل ذلك لغاية، ولم نجد أي غاية قد تحققت في زمن الأمر بالذبح هذا، فليست مكة بلداً بعدُ يعرفها الناس ويسكنونها، وليس البيت الحرام مرفوع القواعد شامخًا يشتاق إليه الناس ويتبركون به وإليه يحجون، وليس إسماعيل زوجًا ولا اثنيْ عشر نقيباً أنجب كما هي نبوءة التوراة، بل لم يصل إلى سن الزواج بعدُ، وسوف ينقطع نسله ولن تكون له ذرية أصلاً، فمن أين يأتي خاتم النبيين الذي وضع الله تلك الخطة كلها في الأساس لينشأ هو في هذا المكان تحديداً؟

المعنى الحقيقيّ للذبح في هذه الآية

لسبب واحد من هذه الأسباب منفرداًـ فضلاً عن كل تلك الأسباب مجتمعةـ نؤكد بكل يقين أن الله تعالى لم يأمر سيدنا إبراهيم بذبح ابنه سيدنا إسماعيل ذبحاً حقيقياً كما هو المعنى المتبادر إلى الأذهان بأن يُمسك سكينًا ويحز بها عنقه حزًا حتى يقطع شرايينه ويسيل دمه متدفقاً على الأرض وينفصل رأسه عن جسده.

أما المعنى الذي نراه صحيحًا هو أن الله تعالى يخبر إبراهيم كل ليلة أنه يذبح ابنه، ولا يأمره أن يذبحه كما يدَّعون، أين جاء الأمر بالذبح؟ إنه يرى أنه يذبحه فعلاً، إذاً فإن الذبح كان يحدث كل ليلة يرى هو فيها تلك الرؤيا، فماذا كان ذلك الذبح الذي يحدث؟ وماذا كانت الغاية من الرؤيا؟ ولماذا كان الله يلح عليه كل ليلة ليريه أنه يذبح ابنه؟ وماذا كان عليه أن يفعل حيال هذه الرؤيا؟ هل كان مطلوبًا منه أن يُمسك بسكين ويقطع رأس ابنه ويفصلها عن جسده كما يفعل الدواعش ظناً منهم أنهم يتعجلون  طاعة أمر الله ليزدادوا منه قربى؟ إن جماعات الإسلام السياسي اللاهثين وراء خلافة الوحشية والقتل وغزو العالم ونهب ثرواته والسيطرة عليه وإذلاله باسم الله أيضًا يدَّعون أنهم يفصلون رؤوس الناس عن أجسادهم ليعجلوا إلى ربهم بالطاعة لتكون لهم زلفى وقربى، كلٌ يزعم أنه يقتل الناس بأمر من الله، والله بريء منهم، وإن الذين يرون أن الرؤيا معناها أن يذبح إبراهيم ابنه بيديه طاعةً لأمر ربه هم أنفسهم الذين يرون الدواعش أصحاب خلافة إسلامية ويقيمون حدود الله ويقتلون الناس باسمه وشريعته، وأن كل من كان يؤيدهم ويعاونهم ويمدهم بالإمدادات إنما هو من المجاهدين، وإن قُتل فله ما للشهداء من الأجر والمكانة، وسوف يكون رفيق النبيين والصديقين في الفردوس الأعلى حتماً.

لم يقل الله لإبراهيم: اذبح اسماعيل، وحاشاه أن يقول، إنه يخبره أنه يذبحه فعلاً، ويذبحه منذ مدة، ويريد الله لهذا الذبح أن يتوقف، لأنه عذاب مستمر قد لا يطيقه إسماعيل، وأصبح هذا العذاب الآن فوق طاقته، وربما أدى ذلك إلى نتائج سلبية وخيمة، فعلى هذا الذبح أن يتوقف الآن.

الحق أن إبراهيم كان يذبح ابنه إسماعيل منذ كان رضيعًا، حيث ألقاه بأمر من الله في صحراء شديدة القسوة خالية من أي معلم من معالم الحياة، فلا شجرة مثمرة ولا عين ماء، ولا أنيس ولا جليس، ولا جار إلا الضواري والسباع، إنها أرض موت لا حياة، إنها قبر محكوم عليهما عاجلاً أن يُتركا على ظهره جثتين دون أن يجدا من يواريهما تحت التراب، فلا أحد غيرهما، وقد ظل إسماعيل إلى الآن ثلاثة عشر أو أربعة عشر عاماً يُذبح، فلا هو يموت ولا هو يحيى، لا يموت فيستريح من حز سكين كل يوم على عنقه، ولا هو يحيى متنعما كما يتنعم الأحياء، هذا هو الذبح الذي أراد الله أن يريه لإبراهيم ، وكأنه يقول له: (رفقا بابنك، يكفيه هذا العذاب، لقد تجرع ما يفوق طاقاته من ألم الفراق عن أبيه وعطفه وعنايته) فقد كان إبراهيم صدِّيقًا نبيًّا طائعًا ممتثلاً صادق الوعد، وقد أمره ربه بترك ابنه في تلك الأرض فتركه دون تردد أو تأويل للأمر، ويبدو أن هذا كان دأبه، فإنه إمعانًا في الطاعة كان يروق له أن ينفذ أوامر الله إليه على شكلها الظاهريّ حتى لو كان الأمر في حاجة إلى تأويل، فربما رأى التأويل تهرباً وتخاذلاً ومخرجًا من المشقة والحرج، هكذا كان إبراهيم، ولذلك كان أمة، ولذلك ظل ذكره في الآخرين، ولذلك تراه مقدسًا عند سائر أهل الأديان حتى الوضعية منها، ولذلك لا تصح صلاتنا نحن المسلمين إلا إذا ذكرنا فيها إبراهيم بالثناء والصلاة عليه والدعاء لنبينا أن يحظى بما حظي به إبراهيم من بركة، فقد أراد الله أن يقول له: (ليس معنى أمري لك بأن تأخذه وتتركه في تلك الأرض أن تنقطع عنه تماماً ولا تزوره إلا لمامًا كل بضعة أعوام، بل عليك منذ الآن أن تتردد عليه وتضمه إلى صدرك وتنشئ معه علاقة ملؤها الود والمحبة تمهيدًا للمهمة التي سوف تكلَّفان بها، فقد اقترب أوان رفع القواعد من البيت وأن تؤذن في الناس بالحج)

الحق أن إبراهيم كان يذبح ابنه إسماعيل منذ كان رضيعًا، حيث ألقاه بأمر من الله في صحراء شديدة القسوة خالية من أي معلم من معالم الحياة، فلا شجرة مثمرة ولا عين ماء، ولا أنيس ولا جليس، ولا جار إلا الضواري

طاعة متفانية وشديدة البصيرة

وجدير بالذكر أن إبراهيم لم ينقطع عن ابنه إسماعيل بعدما تركه في هذه الأرض الخالية جفاءً وغلظة، بل إمعاناً منه في تنفيذ أوامر الله التي اجتهد رأيه في تطبيقها، حيث كان يظن أن الله أمره بفراقه، وأنه كلما زادت مدة الفراق كان ذلك علامة على الطاعة الكاملة، وأن شوقه له، والتياعه إليه، ورغبته في زيارته زيارات متقاربة متوالية يُعدُّ نوعًا من التراخي في تنفيذ أمر الله، وأنه كلما باعد بين فترات حنينه إليه، وزياراته له، كان ذلك أرضى لله ومدعاة حبه وتلقي تجلياته، فقد شق على نفسه، وعلى ابنه، وعلى زوجته طلبًا لرضا ربه ولو لم يأمرْه ربه بذلك أمراً صريحًا.

هذا هو الذبح الذي كان يذبحه إبراهيم لإسماعيل، وهذا تأويل الرؤيا، وهذا ما كان على إبراهيم أن يفعله، وتلك كانت الغاية من الرؤيا التي ظل الله يلح عليه كل ليلة ويريه إياها.

الله ليس ظالماً، بل أعدل العادلين، الله لم يرسل أنبياءه لذبح الناس، بل لإحيائهم، لم يشرّع الله ذبح إنسانٍ بتقديم قرابين بشرية تقربًا إليه، بل يبذل هو كل شيء ليتقرب عباده منه، ويتقرب هو أيضًا منهم، ومن جاءه يمشي هرول هو إليه.

المراجع:

  1. (الجاثية 14)
  2. 2. (الحشر 3)
  3. (الصافات 103)
  4. (يونس 65)
  5. (الصافات 106)
Share via
تابعونا على الفايس بوك