يوم دون شراء
  • مقدمة لا بد منها عن فكرة الاحتفال بيوم لا شراء فيه
  • التبذير أو الاستهلاك النَّهم شيطان العصر الحديث
  • الاستهلاك للاستهلاك
  • استهلاك للموارد أم إهلاك للجسد والنفس؟!
  • كيف هي حال العلاقات الاجتماعية لدى المستهلك النهم؟!
  • الدواء في مواجهة الغلاء بالاستغناء

__

مقدمة لا بد منها

تجتاح العالم خلال القرون الأخيرة وتحديدا منذ القرن الثامن عشر عادات وسلوكيات وتوجهات نفسية واجتماعية ما كان لها أن توجد لولا بيئة عصر الحداثة الذي افتتحته الثورة الصناعية، وقد أخذت صيحات الرغبة في الخلاص من الآثار السلبية لعصر الحداثة تتعالى في الدول المتقدمة بشكل كبير، بعدما شهدته تلك البلدان من حوادث الانتحار والجرائم النفسية المتكررة، على الرغم من رفاهية العيش البادية للعيان، على الأقل بالنسبة لنا نحن أبناء العالم الثالث، كما نُدعى!

ومن تلك الصيحات المتعالية مؤخرا، «يوم بدون شراء» ويعبر عن هذا المعنى بالإنكليزية بعبارة «Buy nothing day»والتي أصبحت من العبارات الرائجة، خصوصا في التاسع والعشرين من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من كل عام، والذي أضحى يوما عالميا للاحتجاج على النزعة الاستهلاكية، ويجري الاحتفال به في أمريكا الشمالية والمملكة المتحدة وفنلندا والسويد وبلدان متقدمة أخرى، وذلك في أعقاب الاحتفال بعيد الشكر في الولايات المتحدة. انطلقت الدعوة الأولى لتكريس يوم بدون شراء في فانكوفر من قِبَل الفنان الكندي تيد ديف، بالتزامن مع احتفالات المستهلكين في العديد من الدول بما يسمونه بالجمعة السوداء، وهو اليوم الذي يُعلن فيه عن إجراء تخفيضات هائلة في أسعار العديد من السلع الاستهلاكية بشكل يسيل إزاءه لعاب الكثيرين.وفي هذه السطور نسعى إلى تحرِّي أساس تلك النزعة التي تتصف في كثير من الأحيان بالجنون، إنها نزعة الاستهلاك النَّهِم.

شيطان العصر الحديث

في مقابل ترشيد الاستهلاك هناك صورتان لسوء الاستهلاك، إحداهما الإفراط في استهلاك شيء معين، كالماء مثلا، فنسمي هذا النوع من الإفراط إسرافا، يشابهه إنفاق المال جله أو كله على شيء واحد، أو الإفراط في إيذاء النفس بأي شكل من الأشكال، بينما النوع الآخر من سوء الاستهلاك نلحظ فيه إضاعة الموارد في طرائق مختلفة، مثل أن ينفق المرء جل ماله على أمور عديدة غير ذات فائدة، فيقتني ما يحتاج إليه وما لا يحتاج، كما لو أنه ينثر البذور حوله دون حكمة أو تسديد. وعلى مدى التاريخ الإنساني يبرز مفهوم الحكمة ليعبر عن وضع الشيء في موضعه، وفي مقابل مفهوم الحكمة يبرز مفهوم مضاد، وهو «الشيطان» معبرا عن كل ما من شأنه الشطط بالإنسان والحيود به عن جادة الطريق المستقيم، فيؤدي إلى ضلاله أو مرضه أو سوء عاقبته بشكل عام. وفي الوقت الذي كانت فيه أمور الحياة والمعيشة متصفة بالبساطة والبدائية، كذلك كان مفهوم الشيطان بدائيا، فلما تعقدت أمور الحياة، تعقد مفهوم الشيطان بالتبعية، وعلاوة على كون الشيطان تعبيرا مختزلا لكافة دعاوى معارضة النبيين وإيذاء جماعة المؤمنين أو محاولة إضلالهم، اكتسب بعد حقبة زمنية من اندلاع الثورة الصناعية صورة جديدة ما كانت مألوفة فيما مضى، فبرز شيطان الإفراط في الاستهلاك والاقتناء غير المقنن، والذي لفت القرآن وتطبيقه النبوي أنظارنا إليه في الذكر الحكيم في قوله تعالى:

وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (1).

لقد صدر ذلك المرسوم القرآني التحذيري من شيطان التبذير هذا قبل أن يشرع هذا الشيطان في الإطلال برأسه القبيح بتسعة قرون سبقت حركة الكشوف الجغرافية، والتي تزامنت مع مطلع القرن الخامس عشر الميلادي ثم خرج ذلك الشيطان بمعظم هيئته مع قيام الثورة الصناعية في أوروبا. لقد كانت الكشوف الجغرافية أولا بابا لترويج سلع الشرق في بلاد الغرب، كالشاي والبهار وغيرها، وصارت الدول الأوربية، لا سيما الإمبراطوريات الاستعمارية الكبرى، صارت سوقا تتنعم الطبقة الأرستقراطية فيها بما تجلبه السفن القادمة من المشرق، وكان مقدار ما يقتنيه الفرد أو الأسر من السلع العابرة للقارات يمثل درجة ثرائه النسبي في محيطه، حتى وإن كان ما يقتنيه من تلك السلع لا يمثل ضرورة حيوية لديه، وتجارة الشاي وحروبه مثال واضح على هذا الكلام، ألم تُمثِّل أحداث تمرد مستهلكي الشاي الأمريكيين أولى خطوات الطريق نحو استقلال أمريكا عن التاج البريطاني فيما عُرف بتظاهرات عصبة الشاي في بوسطن؟! ويُعد مثال استهلاك الشاي والدور الذي لعبه في التاريخ الأمريكي القريب نموذجا موضِّحا للدور الذي يمكن للاستهلاك بشكل عام أن يمارسه.

وبينما كانت أساليب الإنتاج اليدوية لا تكاد تفي بحاجة المستهلكين، بدأت الثورة الصناعية ليصبح إنتاج الآلات والمصانع الكبرى زائدا عن الحاجة أضعافا مضاعفة، وبشكل بات مهدِّدا لرؤوس أموال أصحاب المصانع أنفسهم، إذ تحولت أموالهم إلى بضائع مكدسة في المخازن، فكان لا بد لهم من تصريفها قبل أن تفسد، فبرزت هنا فكرة الترويج للبضائع المخزنة بالإعلانات الدعائية واسعة النطاق، ثم بالإعلان عن تخفيضات كبيرة في أثمانها، مما أسال لعاب شريحة كبيرة من المستهلكين الذين كانوا من قبل يكتفون بالتطلع إلى السلعة دون أن تكون لديهم القدرة على شرائها.

الان اتخذت مشكلة نهم الاستهلاك بعدا آخر مع ظهور ما يسمى الآن بالثورة الصناعية الرابعة، التي من أبرز سماتها الاعتماد على تقنية المعلومات سواء في التصميم أو الإنتاج أو التسويق، ففي الوقت الذي تتسارع فيه عجلة الإنتاج، ينبغي أن تسير معها بالتوازي عجلة الاستهلاك، وإلا اختل ميزان العرض والطلب، وأصبحت السلعة المنتَجة بلا قيمة نظرا إلى شيوعها الزائد عن الحاجة. فالآن مثلت التكنولوجيا الحديثة طوق نجاة للمصنعين والتجار، فقد أصبحت السلعة المراد شراؤها على بعد كبسة زر، الأمر الذي سرَّع من وتيرة الشراء، فالعملية التي كانت تستغرق يوما فيما مضى ويُستنزَف خلالها وقت المستهلك وجهده في قصد المتاجر ثم في انتقاء السلعة المطلوبة، أصبحت تلك العملية أكثر سهولة ومتعة بفضل تطبيقات الشراء عبر الإنترنت. لقد صارت ممارسة عملية الشراء بواسطة تطبيقات الإنترنت هدفا للبعض في حد ذاتها، بغض النظر عن الحاجة إلى السلعة المشتراة، بتعبير آخر صار الاستهلاك في حد ذاته متعة، حتى إننا الآن كثيرا ما نسمع بهواية عُرِفت وشاعت مؤخرا، إنها هواية التسوُّق.

الاستهلاك للاستهلاك

تكمن أغلب المشكلات في الخلط بين الوسائل إلى غايات، كأن يتحول المال الذي هو وسيلة تيسير للإنسان إلى غاية مبتغاة في حد ذاته، أو يُنظر إلى المجاهدات على أنها غاية العبادة، في حين أنها في الحقيقة وسيله توصلنا إلى العبادة.. بهذا نختصر المشكلة في الإعلاء من قيمة الوسائل ومن ثم تحويلها إلى غايات.. لقد حدث الأمر ذاته بالنسبة لعملية الاستهلاك الإنساني، والذي جعله الله تعالى من سنن البقاء المادي، فما لم نأكل ونشرب ونتنفس فلا سبيل لنا إلى العيش في هذا العالم، بيد أننا نلاحظ أن الإنسانية خلال الألفية الأخيرة بدأت تعاني من آفة اعتبار الوسائل غايات، فبات الاستهلاك المفرط هدفا في حد ذاته، وصرنا نرتقب كل عام مناسبات للاستهلاك الفاحش كاليوم المسمى بـ «الجمعة السوداء» في هذا اليوم تقوم أغلب المتاجر بتقديم عروض وخصومات كبيرة، حيث تفتح أبوابها في وقت مبكر جدا حتى قبيل طلوع فجر الجمعة، مما يضطر أغلب المستهلكين إلى افتراش الأرض أمام أبواب المتاجر ارتقابا لساعة الصفر، وعند الافتتاح تأخذ الجموع الغفيرة من المستهلكين في التسابق، وكلٌ يسعى للحصول على النصيب الأكبر من البضائع المخفضة الثمن، حتى لو لم يكن بحاجة إليها على الأغلب.

استهلاك أم هلاك؟!

ليس خافيا على متأمل ما بين لفظتي «استهلاك» و»هلاك» من اشتراك في المعنى، فاللفظتان مأخوذتان من المادة اللغوية نفسها (هـ ل ك) التي من معاني اشتقاقاتها المعجمية في العربية الهلاك، أي الموت، والعاقبة الوخيمة، والخسارة الفادحة. ربما يقول قائل بأن هذا الاشتراك في المعنى مرجعه إلى أن الاستهلاك يعني استنفاد الموارد، نعم، هذا صحيح، ولكن يبدو أن لذلك الاشتراك بعدًا أعمق، فالواقع يقول بأن المجتمعات الاستهلاكية أكثر عرضة للأمراض العضوية والنفسية كذلك، وفي حين أن الاستهلاك المعتدل سبب هام من أسباب البقاء، فعلى النقيض من ذلك يُعدُّ الاستهلاك المفرط منشأ العديد والعديد من الخسائر التي قد تصل إلى حد الهلاك، بحيث تطرق الذهن خاطرة تُشعر بالعلاقة الوثيقة بين طبيعة العصر الاستهلاكي الراهن وحجم الخسائر الناتجة، تلك الخاطرة تفرض نفسها بقوة من خلال آيات الذكر الحكيم:

وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (2).

أولسنا نعيش عصرا بات الاستهلاك المفرط فيه الصفة الغالبة؟! بل وإن هذا الشيطان ساق قطاعا عريضا من الناس، أفراد ومجتمعات ودول، إلى الخسارة الفادحة، وليست أحداث الأزمة العالمية الأولى والثانية بعيدة عنا، إذ كان أساس كلتا الأزمتين شيطان الاستهلاك المستحكم في الأنفس. غير أنه كان ولا زال هناك ناجون من ربقة ذلك الشيطان، إنهم الفئات الأقل مطالب، الذين يروجون فيما بينهم قيمة الاستهلاك على قدر الحاجة، ويتواصون بالصبر على تحقيق رغباتهم في عصر الاستهلاك الجنوني هذا.

تشريح النفسية الاستهلاكية

تتناسب درجة الإفراط في الاستهلاك عكسيا مع قيمة صيانة المقتنيات وإصلاحها وتطويرها، فالمستهلك النهم لا يميل، بل قد لا يعرف كيف يصلح شيئا، وهو يطرحه أرضا ليقتني غيره مهما كان العطل بسيطا، وعلى مستوى أعلى نرى أن الدول المصنعة للسيارات مثلا يندر أن تجد فيها مراكز صيانة لتلك السيارات، إذ يكون من الأسهل اقتناء سيارة جديدة، فلم يعد الإصلاح مهارة مطلوبة، أما في المجتمعات المتدنية اقتصاديا فقد ارتبطت ثقافة ترشيد الاستهلاك بصفات ذميمة كالبخل وضيق الأفق. وعلى المستوى الاجتماعي، لنتخيل إنسانا نهجه في حياته الاستغناء عن الشيء الذي يحتاج إلى صيانة، لصالح شراء الجديد، كيف ستكون حال علاقاته الاجتماعية يا ترى؟! إن منظومة القيم التي ينتهجها إنسان ما لا تؤثر في جزء من حياته دون الآخر، والعادات السلوكية لا يقتصر تأثيرها على ناحية واحدة من نواحي نفسية المرء وقيمه وأخلاقه وعلاقاته، ومن هنا نرى أن ثقافة الاستهلاك ليست مجرد عادة في التسوق فحسب، وتداعياتها لا تقتصر على الجانب الاقتصادي وحده، بل تتعداه إلى أعمق أسرار النفس، مثل التعامل مع الإحباط، وطريقة تقييم الأشياء، وترتيب الأولويات، ومعايير تقدير المرء لذاته وللآخرين. فقديما كان الناس يدققون في الزواج كعلاقة ممتدة تُبنى على التكافؤ وصلاح الدين، الآن باتت نسبة لا يمكن إغفالها تتعامل معه على أنه مباراة استهلاكية، تُقدَّر مراتب الأشخاص فيها بحسب قدرتهم على توفير أكبر قدر من التجهيزات، وليت الأمر بحثٌ عن مال، وإنما هو تفاخر بغيض عديم النفع والبركة في الدنيا والآخرة، فلا يكون الخاطب لائقا إلا إذا كان قادرا على إشباع النَّهم الاستهلاكي المجتمعي، وكذلك الفتاة وأهلها مطالبون بتقديم صورة استهلاكية مرهقة وغير ذات جدوى. وكما أثرت ثقافة الاستهلاك على نظرة الرجل الخاطب إلى ذاته، فإنها أثرت وبشكل بالغ على النظرة إلى المرأة، فلم تعد في نظر الكثيرين كيانا مستقلا وإنسانا مفعما بالجمال والخير الوجداني قبل الظاهري، بل صار التعامل معها كـسلعة للمتعة، بل كوسيلة لترويج سلع أخرى، وهو ما تعانيه المجتمعات التي انتشر فيها العري والإباحية، فالزواج في ظل ثقافة الاستهلاك يُنظر فيه إلى الإنسان، رجلا كان أو امرأة، كـشيء قابل للتسليع وخاضع لقانون العرض والطلب.

الدواء في مواجهة الغلاء بالاستغناء

من صفات الله تعالى الحسنى «الغني»، ولنا أن ندرك هاهنا أن الغِنى ليس معناه مجرد الثراء، وإنما له مفهوم أوسع وأشمل وأعمق، فكم من ثري بالمال لا يقدر على شيء منه! فيعوزه من ألوان الطعام ومشتهياته ما يحرمه منه الطبيب مثلا، فبينما يتلخص تعريف الثراء في امتلاك الكثير من المال، يعلن الغنى معرفا بنفسه أنه عدم الحاجة إلى المال أصلا! وطالما أشارت السنة النبوية إلى هذا المعنى بقوله :

«مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا»(3).

لقد أصبح ارتفاع ثمن كثير من السلع استراتيجية لترويجها بعد حين، إذ يتظاهر طائفة من التجار المحتكرين لسلعة ما برفع سعرها إلى مدة معينة، ثم يجري الإعلان عن انخفاض السعر فجأة، فترى المستهلكين يتهافتون عليها، وأكثرهم غير ذوي حاجة إليها، وإنما تأثروا بمكيدة شيطانية حذرتنا منها آيات سورة الإسراء آنفة الذكر، وكذلك أرشدتنا إلى الفكاك منها السنة النبوية. ولمواجهة تلك الاستراتيجية الشيطانية لا بد من استراتيجية إلهية تثبت جدواها، فكان الصوم أنجع وأنجح استراتيجية في هذا المضمار، حتى إن الشياطين جميعها، وليس شيطان التبذير وحده، تُصَفَّد حال صوم المرء، فباستغنائنا عن شيء فإن قيمته ترخص في أعيننا، وكانت مواقف السلف الصالح واضحة في مواجهة الغلاء بالاستغناء، فكان نهج الصحابة الكرام إذا ما زادت الأسعار أن يرخصوا السلع باستبدالها بغيرها أو الامتناع عن شرائها، وحصل ذلك في خلافة حضرة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فورد مثلا عن رزين بن الأعرج أنه قال: «غلا علينا الزبيب بمكة فكتبنا إلى علي بن أبى طالب بالكوفة أن الزبيب قد غلا علينا، فكتب أن أرخصوه بالتمر» (4)، أي استبدلوه بشراء التمر الذي كان متوفرًا في الحجاز وأسعاره رخيصة فيقلّ الطلب على الزبيب فيرخص. كذلك ورد في كتب الطبقات وغيرها أنه قيل لإبراهيم بن أدهم: إن اللحم قد غلا! فقال: «أرخصوه»، أي لا تشتروه. وتأصيلا لمبدأ أن الصوم علاج فعال لآفة إدمان الاستهلاك، قال النَّبِيِّ وَسَلَّمَ:

«مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» (5)،

والأمر هنا لا يتوقف عند حد الصبر عن الزواج، وإنما يشمل الصبر على كافة الشهوات لا سيما حين يفوق الحصول عليها حد الاستطاعة. لسنا بصدد الترويج للرهبنة ولا للمقاطعة التجارية على إطلاقها، فهذا ضرب من ضروب الفساد والإفساد، ولكن أبسط رد فعل عقلاني ممن لا يملك ما يكفي لشراء سلعة ما هو الاستغناء عنها زهدا فيها، وهذا أوقع وأنجع، لا سيما إذا لم تكن الحاجة إلى هذه السلعة حاجة ماسة. بينما نرى شريحة كبيرة من الناس تسارع إلى الاستدانة إما باقتراض ثمن السلعة أو بتقسيطه بفائدة ربوية، وكلا النهجين خراب واستنزاف للحاضر وتدمير للمستقبل، فقط في سبيل اتباع الصيحات وتقليد الآخرين، بحيث ينطبق على مثل هذه التصرفات قول الله تعالى حكاية عن الأشقياء:

وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (6)،

فتقييم هؤلاء الأشقياء لأنفسهم كان على أساس اقتنائهم لما يقتنيه سواهم، إنها لآفة عظيمة لا يكاد يسلم منها مجتمع، ولكن علاجها متاح على أية حال لمن يشاء، وفي هذا الصدد يقول حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله): «ثمة تدابير كثيرة مقترحة لتحقيق السلام، منها النصح بأن يقوِّمَ الإنسان رغباته ويحُدَّ منها ويتحكم فيها، وإلا استحال عليه بلوغ السلام من خلال إشباع رغباته، فإن الرغبات تجري بأسرع مما يلاحقها المرء. ومع أن هذه التدابير تبدو بسيطة إلا أنها ذات إمكانيات شديدة التأثير والأهمية. فمثلا ينصح القرآن الكريم:

وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (طه: 132)» (7)

والشكر على النعم يتمثل أول ما يتمثل في استعمالها على الوجه الأمثل، فالشكر الواجب على كل امرئ يدفعه دفعا إلى ترشيد الاستهلاك في كل مجال، فالشكر إذن هو علاج وتعويذة من شيطان النهم الاستهلاكي، وعلى قيمة الشكر يركز حضرة خليفة المسيح الخامس في إرشاداته فيقول: «من واجب العابد الحقيقي أن يكون قنوعا أيضا. لقد علَّمَنا النبي أن التحلِّي بالقناعة يُعين على الشكر كذلك. والمؤمن أكثر الناس شكرًا لله، وينبغي أن يكون كذلك، فالذين يقولون بأفواههم إننا نشكر الله، لكنهم في الوقت نفسه يلهثون وراء متاع الحياة الدنيا والجاه والحشم فهُم في الحقيقة واقعون في شَرَكِ حب الشهوات، ولا يقدرون على الشكر الحقيقي» (8). لا يمكن أن ترى شخصا زاهدا في الاقتناء قنوعا بالقليل الذي يملكه شاكرا عليه، وفي نفس الوقت يكون أسيرا لشهوة نهم الاستهلاك، مما يؤكد أن الصوم والقناعة والشكر أدوية فعالة لهذا الداء العضال.

الهوامش:
1 . الإسراء: 27-28
2 . العصر: 2-4
3 . سنن الترمذي، كتاب الزهد عن رسول الله
4 . حسام الدين بن موسى عفانة، «يسألونك عن المعاملات المالية المعاصرة»، الجزء 16، ص 159
5 . صحيح البخاري، كتاب الصوم

6. المدثر: 46

7 . حضرة مرزا طاهر أحمد (الخليفة الرابع للمسيح الموعود عليه السلام)، الإسلام والتحديات المعاصرة، الطبعة العربية الثانية، ص107

8 . خطبة الجمعة لأمير المؤمنين الخليفة الخامس للمسيح الموعود، يوم 8 ديسمبر 2017

Share via
تابعونا على الفايس بوك