كيف نحيي نفسا؟! منهج الاسلام في مكافحة هاجس الانتحار

كيف نحيي نفسا؟! منهج الاسلام في مكافحة هاجس الانتحار

سامح مصطفى

كاتب وشاعر
  • لماذا نرى الانتحار ظاهرة واضحة في هذا العصر بالذات؟
  • لم قد يُقدِم المرء على إزهاق نفسه بيده؟
  • ما المَنْهَجُ الذي وضعه الإِسْلامِ لمُكَافَحَةِ هَاجِسِ الاِنْتِحَار؟

___

يُعرف الانتحار ببساطة بأنه إقدام المرء على إنهاء حياته بنفسه، كرد فعل مأساوي تجاه مواقف الحياة المسببة للضغوط، بحيث يتراءى للمرء المُقدِم على الانتحار وكأنه لا توجد وسيلة لحل مشكلاته، وأن الانتحار هو الطريقة الوحيدة لإنهاء الألم. ولكن لو أمهل نفسه هُنيهة لأمكنه اتخاذ خطوات للبقاء آمنًا، والبدء في الاستمتاع بحياته مرة أخرى.

توصيف الظاهرة

الانتحار ظاهرة نفسية واجتماعية، ولنكن دقيقين أكثر فنقول، إنه ظاهرة ضد المجتمع، وحين نقول إنها ظاهرة اجتماعية فإننا نعني أنها آفة تصيب المجتمع، أو أن المجتمع ببعض مظاهره يتسبب فيها، فهي آفة تعاني منها شتى المجتمعات على اختلاف ثقافاتها. ووفق إحصاءات منظمة الصحة العالمية، يموت شخص كل أربعين ثانية منتحرًا، ومقابل كل شخص منتحر يوجد أكثر من 20 شخصًا حاولوا الانتحار، ويبلغ عدد المنتحرين سنويًّا ثمانمائة ألف منتحر(1).. مع ملاحظة عدم تسجيل كثير من حالات الانتحار، لأسباب تتعلق بالثقافة المجتمعية وعدم إفصاح الأهل بأن [الوفاة] كان انتحارًا (2). ولعل هذا الأمرَ أحدُ أهم صعوبات التعامل مع الظاهرة، إذ إن العاداتِ والتقاليدَ الخاصة ببعض المجتمعات، لا سيما المجتمعات المحلية، تضع هذه الظاهرة ضمن الأمور المحرمة على النقاش الصريح، ومما ضاعف من حجم الحُجُب التي تتستر على مناقشة هذا الفعل، ربما ما اكتسبه من سمعة سيئة من منطلق القيم الدينية، لا سيما وأن عدم تمني الرحمة للمتوفَّى المنتحر ولا توقع أن تكون الجنة مصيره، هو من العادات الاجتماعية المتجذرة في مجتمعاتنا الشرقية عموما والعربية والإسلامية منها خصوصا. ناهيك عما توصم به الاضطرابات النفسية والعقلية أيضا في نفس هذه المجتمعات، بوصف هذه الاضطرابات مسًّا من الجن لا يصيب إلا الشخص البعيد عن الدين! كل ذلك مما يُصعِّب مهمة الوصول إلى جذر وعمق الأسباب التي تؤدي إلى الانتحار داخل مجتمعاتنا. فلا يتسنى للمختصين معالجة مشكلة الانتحار معالجة كافية بسبب الأحكام المسبقة التي يفرضها صنم العادات والتقاليد الفارغة، والتي ألقت القيمُ الحقيقية لديننا الحنيف على عاتقنا مسؤولية تحطيمه.

لماذا ينتحرون؟!

ظاهرة الانتحار وإن لم تكن شائعة فيما مضى في المجتمعات المتدينة، ولو تدينا سطحيا، حين كانت تلك المجتمعات منغلقة على نفسها قبل عصر امتداد شبكات الاتصال والتواصل، إلا أن هذه الظاهرة المقيتة لم تعد الآن تفرِّق بين مجتمع غربي وشرقي، الكل الآن في الهمِّ سواء.. على أية حال دعونا نحاول سبر السر المكنون وراء ارتباط فكرة الانتحار لدى صاحبها من الناحية النفسية بضعف عنصر الدين لديه.. وقبل الخوض في هذا النقاش ينبغي أن نوضح أننا لا نعني الحط مطلقا ممن يحملون أية أفكار إلحادية، ولا يعدو الأمر هنا سوى مجرد وصف لظاهرة ملحوظة، لا سيما وأننا ننظر إلى المنتحر أو المقدم على الانتحار بعين المواساة، كضحية ضلت الطريق أو أعياها طول السفر.

إذا نظرنا إلى عمق ظاهرة الانتحار فسنلاحظ بضعة أمور، منها أن الجاني والمجني عليه كلاهما نفس الشخص.. يقول المختصون في أمور القانون بأن ارتكاب أية جناية يتطلب عنصرين: الدافع، والأداة، وما لم يتوافر هذان العنصران تنتفي الجناية ويظفر المتهم بالبراءة، فإذا ما نظرنا إلى ظاهرة الانتحار كجناية، وهي كذلك بالفعل، وغالبا ما تكون وسيلتها معروفة، وتُسجَّل بوصفها سببا مؤديا إلى الموت.. فيكتب المحققون في سجلاتهم مثلا أن سبب الموت هو الانتحار غرقا أو شنقا أو حرقا إلى آخر ما نعلم من أسباب ظاهرية، ونكرر تأكيدا، من أسباب ظاهرية، ذلك أن للانتحار أسبابًا حقيقيةً قد لا تظهر للعيان في أغلب الأحيان، وإلا لو كانت ظاهرة لأمكن علاجها والحيلولة بين الشخص وتحقيق رغبته في الانتحار.. أما الأسباب الحقيقية لظاهرة الانتحار، فقد ذكرها كتاب الفطرة (القرآن الكريم) مجملة في بضع آيات من سورة المعارج، يقول تعالى:

إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (3)،

ما أجمله من تعليم يُقدِّم تشخيصا عميقا لأصل وأسباب مشكلة الإقدام على الانتحار، ويُتبع التشخيص بالعلاج الناجع والنافع، باختصار، إن آيات سورة المعارج من الآية العشرين إلى السابعة والعشرين سيرتكز عليها تناولنا لموضوع ظاهرة الانتحار وأسبابها وأهم التوصيات لتجنبها.

للانتحار أسبابًا حقيقيةً قد لا تظهر للعيان في أغلب الأحيان، وإلا لو كانت ظاهرة لأمكن علاجها والحيلولة بين الشخص وتحقيق رغبته في الانتحار.. أما الأسباب الحقيقية لظاهرة الانتحار، فقد ذكرها كتاب الفطرة (القرآن الكريم) مجملة في بضع آيات من سورة المعارج

إن القاسم المشترك بين جميع المنتحرين أو من حاولوا الانتحار حتى دون أن يُتمُّوه، أنهم وقعوا لسبب ما تحت طائلة الجزع الشديد، والجَزَع، كما ذكر الراغب في مفرداته

«أبلغ من الحزن، فإنّ الحزن عام، والجزع هو حزن يصرف الإنسان عمّا هو بصدده، ويقطعه عنه، وأصل الــجَزَع قطع الحبل من نصفه.»(4).

لقد ثبت بالتحقيقات التي تُجرى بعد كل محاولة انتحار تامة أو ناقصة، أن عامل الجزع كان العامل الدافع والمحرك نحو إنهاء المنتحر حياته.. ما نعنيه بالجزع ذلك الحزن الشديد الذي يصرف ضحيته عن السلوك الصحيح، فيلطم خديه أو يمزق ملابسه في فورة حزن شديد ممزوج بالغضب العارم، يُتَرجَم غالبا صورة إيذاء النفس، وقد يصل هذا الإيذاء إلى قرار إنهاء الجَزِع حياته، لهذا نهانا النبي عن الجزع فقَالَ:

«لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ»(5)..

لندرك ما للجزع من تداعيات لا تُحمد عقباها. وحين يصف الله تعالى الطبيعة البشرية قبل التسوية والتهذيب فإنه عز وجل يصفها بالهلع والجزع.. هذا الوصف عام ينطبق على كل الجنس البشري في المستوى الأدنى من التربية والتحضر الفردي والاجتماعي، فإذا ما أصبح المرء مصليا، بمعنى أنه محافظ على الصلة القائمة بينه وبين ربه من جهة، ثم الصلة بينه وبين الخلق من جهة أخرى، فإن هاتين الصلتين لمما يُبعد فكرة الانتحار عن الذهن تماما. هذه النظرية القرآنية توصل إليها علماء الاجتماع والنفس مؤخرا، حين قيل أن العزلة التي يعيشها البعض تكون دافعا قويا لهم نحو الانتحار، العزلة ليست السبب في الانتحار، ولكنها البيئة الرطبة التي تنمو فيها جرثومته، حتى أن الباحثين النفسيين تفطنوا إلى هذا الأمر فسجلوا دور العزلة كعامل مُهيئ سابق للسلوك الانتحاري(6). فالبيان القرآني واضح بشأن علاقة العزلة الاجتماعية والنفسية بإذكاء الرغبة في الانتحار..

موقف المنتحر من خلُقِ المواساة

يتفق كذلك ملاحظو الظاهرة على أن الأشخاص الذين يميلون إلى نفع الغير ومواساتهم يكونون أقل عرضة للإصابة بهواجس الانتحار، لا سيما وأن مثل هؤلاء يشعرون بقيمة حياتهم من أجل الآخرين، وهذه الفكرة تحيلنا من جديد إلى الوصفة القرآنية في سورة المعارج، فالذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم، قلما يلجأون إلى وضع حد لحياتهم بأيديهم.. إن خُلُق المواساة ومعونة الناس يعزز لدى المتخلق به الإحساس بقيمة حياته وجدواها، إنه نفس الإحساس الذي يفتقر إليه المنتحر بكل أسف.. فالعلاج إذا في متناول كل شخص، هلم إلى المواساة! ولنعلم جيدا أن مواساتنا للخلق هي في حقيقة الأمر مواساة لنا نحن أيضا، بل إن مواسي خلق الله يكون هو المستفيد الأول، وهو يقدم الخير لنفسه، يقول تعالى

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (7).

 

نفسية الانتحاري، والشعرة الدقيقة بين الانتحار والتضحية

تتعدد الأسباب والنهاية واحدة، وهي أن لكل امرئ أجله المحتوم في هذه الدنيا، فالموت إذن شئنا أم أبينا هو النهاية التي لا مفر منها، سواء بأيدينا أو رغم أنفنا.. هذا ما يبدو لنا في الظاهر، ولكن في حقيقة الأمر ثمة بون شاسع بين حياة وحياة، وبين موت وموت..

شاع في العقود الأخيرة على ألسنة الإعلاميين تعبير «العمليات الانتحارية» ليوصف بها كل عمل إرهابي نتج عنه قتل منفذه بشكل مباشر. ومن يتبنون تلك الأعمال الإرهابية يسمونها فداءً ويدعون مقترفها شهيدا. لقد جانبهم الصواب أيّما مُجانَبَة! وغاب عنهم العنصر الخاص الذي يَفْرُقُ بين المجرم الانتحاري من ناحية والفدائي الشهيد من ناحية أخرى.. الإرهابي الانتحاري يُقدِم على فعلته غالبا بوازع الانتقام، وحتى لو لم يكن الانتقام وازعَه، فإن الأنانية تكون كذلك. لقد اعتدنا ضمن ما نطلع عليه من إخباريات أن نسمع ونرى عشراتِ ومئاتِ الأعمال الانتحارية التي فعلها انتحاريون طمعًا في الفوز بنعيم ليس له وجود إلا في أذهانهم، فكانت أعمالهم الانتحارية كسراب بقيعة يحسبه الانتحاري شهادة، وهو أبعد ما يكون عن الشهادة! فأن يكون القتيل شهيدا بالمعنى الشرعي في عقيدة الإسلام الحقيقية، معناه أن تكون مواساة الخلق هدفا للقتيل، بحيث يُقدم على إنهاء حياته ببيده، مدفوعا إلى ذلك برغبة مُلِحَّة في صون حياة الآخرين وحمايتهم، فالفرق بيِّن تماما بين كلا العملين.

كيف نحيي نفسا؟!

الانتحار ظاهرة باتت واقعا عالميا، فالصواب إذن أن نتعامل معها ونواجهها، لا أن نغض الطرف عنها، والإسلام كمنهج متكامل يقدم الحل الأمثل والأنجع بامتياز، ممثلا في سلوك المواساة، والحق أن المرء لا يكون مسلما تماما إلا بعد أن يجعل من هذا السلوك خُلُقا له. ونظرا إلى ضرورة هذا الخُلُق الحميد جعله الله تعالى بمثابة مهمة إحياء للخلق، فقال عز من قائل:

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا (8)،

فليس الإحياء المتصور إحياء الأجساد المقبورة، وإنما هو إحياء الأنفس المقهورة.

العزلة ليست السبب في الانتحار، ولكنها البيئة الرطبة التي تنمو فيها جرثومته، حتى أن الباحثين النفسيين تفطنوا إلى هذا الأمر فسجلوا دور العزلة كعامل مُهيئ سابق للسلوك الانتحاري(6). فالبيان القرآني واضح بشأن علاقة العزلة الاجتماعية والنفسية بإذكاء الرغبة في الانتحار..

يقول حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله تعالى بنصره العزيز) الخليفة الخامس للمسيح الموعود (عليه الصلاة والسلام) في معرض شرحه للشرط التاسع من شروط البيعة للانضمام إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية، والذي يُلزِم المبايع بأن يظل مشغولاً في مواساة خلق الله عامةً لوجه الله تعالى خالصةً، وأن ينفعَ أبناء جنسه قدر المستطاع بكلِّ ما رزقه الله من القوى والنِّعَم:  «إنكم إذا رغبتم أن يُغشِّيكم الله بمغفرته، فعليكم أن تعينوا المكروبين والمبتلين والمحرومين، وتساعدوهم قدر استطاعتكم، فسيرحمكم الله تعالى»(9)، وهل من كرب أفظع من ذلك الذي يدفع المكروب إلى إزهاق نفسه بيديه!

 

الهوامش:

  1. الصفحة الرسمية لمنظمة الصحة العالمية باللغة العربية
  1. نجوى طنطاوي، لماذا ينتحر شخص كل 40 ثانية حول العالم؟، ساينتفك أميريكان، النسخة العربية، 20 مارس 2019
  2. (المعارج: 20-27)
  3. الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، مادة (ج ز ع)
  4. سنن النسائي، كتاب الجنائز
  5. فريد علي محمد فايد، «المساندة الاجتماعية كمتغير وسيط بين ضغوط الحياة وتصور الانتحار»، ورقة بحث منشورة في مجلة «دراسات في الخدمة الاجتماعية والعلوم الانسانية» (جامعة حلوان – كلية الخدمة الاجتماعية)، ع 21, ج 2، إبريل 2006
  6. (البقرة: 111)
  7. (المائدة: 33)
  8. حضرة مرزا مسرور أحمد، «شروط البيعة وواجبات المسلم الأحمدي»، ص134، الشركة الإسلامية المحدودة
Share via
تابعونا على الفايس بوك