كيف لموت أن يهب الحياة؟!

كيف لموت أن يهب الحياة؟!

التحرير

  • سر البقاء الذي حيَّر الفلاسفة والعلماء.
  • ماهية الموت الذي بعده ننعم بالحياة الحقيقية.
  • نظائر ذلك الموت في العالم المادي المحيط من حولنا.

___

في محاولاتها الفكريةِ القديمةِ لتفسير سر البقاء، توصلت الإنسانية إلى عدة فرضيات، أبرزها فرضيات ثلاث، كانت أولها الفرضية القائلة بأن البقاء للأقوى. غير أن هذه الفرضيةَ لم تلبث أن ذَرَتْها عاصفة السؤال القائل: إن كان البقاء للأقوى فعلا، فبم نفسر انقراض أصناف الديناصورات جميعِها مقابل بقاء العديد والعديد من أصناف الحشرات والكائنات المجهرية؟! لا، بل ولقد هلك قبلنا من كانوا أكثر منا قوة وأشد بأسا! يقول عز وجل:

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (1)..

وهذه الآية الكريمة من سورة غافر تعرض سنة كونية ثابتة، تصدق على ما قبل نزولها كما تنطبق على ما بعد نزولها، فلم يكن هلاك قوم عاد وثمود وفرعون وغيرهم يعزى إلى ضعف مادي، بل كان يضرب بهم المثل في القوة والبطش، حتى ذَكَرَ هذه الملاحظة خطيب العرب المفوَّهُ قس بن ساعدة الإيادي في خطبة عصماء من خطبه إذ قال:

«يا مَعْشَرَ إيَاد، أيْنَ الآبَاءُ والأجْدَادُ؟! وأيْنَ الفَرَاعِنَةُ الشِّدَادُ؟! أَلَمْ يَكُوْنُوا أكْثَرَ مِنْكُم مَالاً وأطولَ آجالاً؟! طَحَنَهُم الدهْرُ بِكَلْكَلِهِ، ومزَّقَهم بتطاوُلِه»(2)..

كذلك لم يكن انهيار إمبراطورية الفرس وتزعزع قدم إمبراطورية الروم خلال عقد واحد من القرن السابع الميلادي على يد من كانوا بالأمس لا يحسب لهم حساب ولا يقام لهم وزن، أعني العرب الذين آمنوا توًّا برسالة الإسلام، كل هذه الأمور شواهدُ على سيرورة تلك السنة الكونية، وتأكيدٌ على أن القوة المادية بحد ذاتها لا تضمن بقاء. يقول عز وجل:

كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ .(3).

نعم، إنما البقاء للأتقى، والصلحاء المصلحون هم من يرثون الأرض كما يقول تعالى:

إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (4)،

  فهؤلاء المتقون من يستخلفهم الله تعالى ويُبقي ذريتهم ويباركُ فيها، حتى لو كان الواقع يقول بغير ذلك. لقد واسى إبراهيم ضيفه بالقِرَى حتى قبل أن يسألهم عن الخطب، فكتب الله له البقاء واستمرار الذرية على الرغم من بلوغه الكبر هو وزوجه(5).

والتقوى في أرقى مفاهيمها، عُدَّت نوعا من الموت! لأن المرء عندما يخالفُ هوى نفسه من جميع الجوانب فكأنما يُميتها، لذلك قيل: موتوا قبل أن تموتوا(6).

وخير نموذج حسي يمكن تقديمه كدليل على أن التقوى موت يهب الحياة، هو نموذج حبات البذور المنبتة، والتي جرى اصطلاح الفلاحين في كثير من بلادنا على تسميتها بـ «التقاوي»، فتلك الحبة ما كان لها أن تنبت فتصبحَ شجرة وارفة مثمرة، لولا أنها دُفِنَتْ في التربة، كما لو أنها ماتت في الظاهر، وقد أُشِيرَ إلى هذا النموذج في إنجيل يوحنا كمثل مضروب للتقوى، وأنها سر البقاء المستتر عن أعين الماديين، فجاء في يوحنا:

«اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ [تَأْتِي] بِثَمَرٍ كَثِيرٍ»(7)

 وموضوع التقوى، كأبرز عوامل البقاء، المادي والروحاني على السواء، هو موضوع يبلغ من الاتساع بحيث يصعب جمع أطرافه في مقال واحد، كما أننا طرقناه من بعض الجوانب في أعداد سابقة. ولأن التقوى مسألة بقاء، فغيابها مؤداه الفناء بالضرورةِ إذن، ونلمس هذا الأمر حتى على المستوى الفردي، ويمكن عدُّ التقوى حينئذ مسألةَ صحةٍ روحية، إذا تأثرت بالسلب فسرعان ما تؤدي بالمرء إلى يأس قاتل بالمعنى الحرفي للكلمة، حيث لا يجد غضاضة في وضع حد لحياته، في ظاهرة أخذت في الانتشار بصورة لافتة للنظر هذه الأيام، تعرف بالانتحار، فيكون مرتكبها بحق نفسه قد أنهى عمره بكبيرة شنعاء، حرَّمها الشارع الحكيم إذ يقول:

وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (8).

وفي عدد التقوى لهذا الشهر، نوفمبر 2022، يحرص فريق التقوى على تشخيص الداء ووصف الدواء، ليطالعَ القراء الأعزاء مقالاتٍ متنوعةً، تعرض لظاهرة الانتحار وأسبابها، وتُقدِّم ما يتصوره الكُتَّاب علاجا لها. وفي درَّة تاج هذا العدد، خطبة حضرة خليفة الوقت أيده الله تعالى بنصره العزيز، يجاوز حضرته أُفقَ الحلول الموضعية، واضعا الحل الجذري للمعضلة، إذ يسدي نصائح ثمانٍ ثمينةً تُعِينُنا عَلَى سُلُوكِ سَبِيلِ التَّقْوَى، فبسلوك هذا السبيل يُكتب لنا البقاء والحياة الكريمة، وتتبدد وساوس الانتحار السوداء.

والتقوى في أرقى مفاهيمها، عُدَّت نوعا من الموت! لأن المرء عندما يخالفُ هوى نفسه من جميع الجوانب فكأنما يُميتها، لذلك قيل: موتوا قبل أن تموتوا

نسأل الله تعالى تحقيق الفائدة المرجوة من هذا العدد وكل عدد، كما نسأله لسلوك سبيل التقوى المعونةَ والمدد، آمين.

الهوامش:

  1. (سُورَةُ غَافِرٍ: 22)
  2. عبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني الدمشقي، البلاغة العربية، ط1، ج2، ص530، دار القلم، دمشق، 1996م.
  3. (سُورَةُ مُحَمَّدٍ: 14)
  4. (سورة اﻷعراف 129)
  5. راجع: المقال الافتتاحي بعنوان «للأتقى لا للأقوى»، مجلة التقوى، عدد سبتمبر 2019
  6. انظر: مرزا مسرور أحمد، خطبة الجمعة بعنوان «رمضان واختبار التقوى»، بتاريخ 24 أبريل 2022
  7. (إنجيل يوحنا 12: 24)
  8. (النساء: 30-32)
Share via
تابعونا على الفايس بوك