الوقاية من الانتحار.. كيف يمكننا بعث الأمل

الوقاية من الانتحار.. كيف يمكننا بعث الأمل

ثمر حفيظ

دكتوراه في علم النفس
  • ماذا تقول لنا الإحصائيات تحديدا لنفزع كل هذا الفزع؟
  • ما الأمور التي يمكن اعتبارها نُذُر خطر ينبغي ألا ندعها تمر مرور الكرام فيما يتعلق بظاهرة الانتحار؟
  • كيف يمكننا الحيلولة دون إقدام من يهمنا أمرهم على هذا الفعل اليائس البائس؟

___

إحصائيات مفزعة، وما خفي أكثر إفزاعًا!

الانتحار ظاهرة اجتماعية ونفسية موجودة في كل ثقافة، ومؤداها أن يضع المرء حداً لحياته عن عمد وبملء إرادته. وهي ظاهرة معقدة ومتعددة الأوجه وعالمية. وفي بلد ضخم من حيث عدد السكان كالهند، لوحظ أن معدلات الانتحار أخذت ترتفع ارتفاعاً كبيراً، اعتباراً من عام 2016، وسُجِّلت الظاهرة كأبرز أسباب الموت بين الأشخاص من الفئة العمرية ما بين الخامسة عشر إلى التاسعة والثلاثين(1). لكن الجدير بالذكر أن فكرة الانتحار تطرق خواطر أشخاص من كافة الفئات العمرية دون استثناء لفئة ما. وتقول الإحصائيات أن عدد المنتحرين كل عام يبلغ حوالي ثمانمائة ألف شخص، وهذا العدد يُتوقع أن يتضاعف في المستقبل، بحيث يشكل خطورة لا بد من الإشارة التحذيرية إليها. ومع ذلك، يمكن الوقاية من الانتحار إذا ما أولينا هذه الإشارة الأهمية المرجوة واتبعنا النهج الصحيح في الوقت المناسب.

وإنقاذ مَن حولنَا من الوقوع ضحية فكرة الانتحار من أكثر القضايا تحدياً للعاملين في الصحة العقلية في عالمنا المعاصر،  حيث إن الوصمة والعار اللذَينِ يُلصقان بالمرض العقلي شائعان، مما يجعل من الصعب على المهنيين الوصول إلى جذر وعمق الأسباب التي تؤدي إلى الانتحار بوصفه فعلا منافيا للدين والأخلاق.

نُذُر الخطر alarm

في المصطلح الطبي هناك ما يُسمى بـ «عوامل الخطر» وهي الخصائص أو الحالات التي تجعل الشخص أكثر عرضة للانتحار دون سواها. ومن بين عوامل الخطر الرئيسة للانتحار:

الاضطرابات النفسية التي يُهمل علاجها لفترات طويلة، خاصة الاكتئاب الحاد، واضطرابات تعاطي المخدرات، واضطراب ثنائي القطب، واضطراب الشخصية الحدية. وفي الفترة الأخيرة، شكَّلت حالة ضغوطاً على من لديهم القابلية للتفكير في الانتحار، بحيث يصعب على مثل هؤلاء الأشخاص تحمل تلك الضغوط، ومنهم من يعانون أصلاً من أمراض عقلية. كما أنها تخلق مشاكل عقلية جديدة.

أيضا الإشارات اللفظية، والتي تصدر من الشخص المضطرب خلال الأحاديث المباشرة، ويصرح فيها عن الرغبة في الموت أو الانتحار، أو يتكلم عن اليأس وعن عدم وجود أي هدف أو غاية في الحياة، أو أن يعبر عن مشاعر العجز أو عدم وجود سبب كاف يستحق العيش، أو أن يتحدث عن كونه عالة أو عبئاً على الآخرين..

وهناك الإشارات السلوكية التي يبديها، لا إراديا طبعا، الشخص الراغب في الانتحار، والتي قد تشمل تغيرا مفاجئا في سلوكه مقارنة بسلوكه قبل ذلك. على سبيل المثال، البدء أو الإفراط في تعاطي الكحول أو المخدرات، والتغيرات المفاجئة في المظهر أو الشخصية، وسوء النظافة الذاتية، والانسحاب من الأسرة والأصدقاء ومن الأنشطة الاجتماعية الأخرى، وفرط النوم أو قلته، والتغيب عن الدراسة أو العمل، والسلوك المتهور، والانشغال بالموت في الرسائل، والرسومات أو الخربشات، والتقلبات الحادة في المزاج. كذلك هناك الإشارات الظرفية، كأن يتعرض الشخص في حياته لظروف عارضة سيئة كإخفاق في وظيفة أو فقدان أحد أقرب الأقرباء..

فحادث الانتحار قد يقع، لا سمح الله، إذا لم تلاحظ هذه الإشارات أو لا تؤخذ على محمل الجد. والتاريخ العائلي للانتحار(والسوابق العائلية للانتحار) مؤشر جيد أيضاً.

الاضطرابات النفسية التي يُهمل علاجها لفترات طويلة، خاصة الاكتئاب الحاد، واضطرابات تعاطي المخدرات، واضطراب ثنائي القطب، واضطراب الشخصية الحدية. وفي الفترة الأخيرة، شكَّلت حالة ضغوطاً على من لديهم القابلية للتفكير في الانتحار، بحيث يصعب على مثل هؤلاء الأشخاص تحمل تلك الضغوط، ومنهم من يعانون أصلاً من أمراض عقلية. كما أنها تخلق مشاكل عقلية جديدة.

النساء يحاولن، والرجال ينفذون!

وعلى الرغم من أن محاولات الانتحار أكثر تكرارا بالنسبة للنساء، غير أنها لا تكتمل في أحيان كثيرة، أما الرجال فهم أكثر عُرضة من النساء لإتمام الانتحار لأنهم يستخدمون عادةً أساليب أشد فتكًا، مثل الأسلحة النارية، والتي تكون متاحة لاستعمال الرجال أكثر من النساء في أغلب الأحوال. فالرجال إذن أكثر عرضة من النساء للموت انتحارا، وأحد الأسباب الرئيسة في ذلك هو نقص التواصل، إذ يميل الرجال إلى كتم أفكارهم وكبت مشاعرهم أكثر من النساء، واللاتي يملن أكثر إلى إظهار تلك المشاعر والتنفيس عنها في صورة صراخ أو بكاء، على عكس الرجال الذين يُتَوقَّع منهم في العديد من الثقافات أن يكونوا «أقوياء مهما كان» وألا يُفصحوا عن معاناتهم.

الواجب الاجتماعي نحو من يفكر في الانتحار

تلعب المشكلات الاجتماعية دورا مشبوها في حالات الانتحار، الأزمات الكبرى في الحياة مثل الطلاق، ووفاة أحد الأحباء، والانفصال، والعنف المنزلي، والبطالة، بالإضافة إلى فقر العلاقات الاجتماعية أو فقر الدعم الروحي، والمعاملة الجائرة، والتمييز، والابتزاز والتنمر (عبر الإنترنت أو شخصياً)، والفشل بأنواعه سواء الدراسي أو العاطفي، والضغوط العارمة من المحيط والمجتمع، والألم النفسي أو الجسدي المزمن وما إلى ذلك..

فالوقاية من الانتحار ممكنة إذا ما اتُّبِع النهج الصحيح في الوقت المناسب. إذا كان شخص ما يفكر في الانتحار، فعلى من حوله أن يأخذه على محمل الجد. وفيما يلي بعض التدابير الهامة والسريعة التي يمكن أن نتخذها لمنع تنفيذ محاولة الانتحار. من أهم الخطوات المتخذة بهذا الصدد الاستماع المتعاطف للشخص المعني، فإذا كان شخص تعرفه يعاني اضطرابا نفسيا يتحدث ولو حديثا عابرا عن قتل نفسه، فاستمع لشكواه بتعاطف، كن داعماً ومتفهماً، ولا تحكم أو تقدم نصائح غير ضرورية، بل حثه بدلاً من ذلك أن يطلب على الفور الاتصال بطبيبه النفسي.

التشخيص والتدخل العلاجي مبكراً يمكن أن يساعدا في الرصد المبكر للاضطرابات النفسية  كالاكتئاب أو الاضطرابات العقلية كتلك الناشئة من تعاطي المخدرات. هذا الرصد المبكر لمثل هذه الأمور يُسهم في إحراز تقدم كبير في التعامل مع هذه التحديات.

وكصورة من صور قطع اليد، بمعنى الحيلولة بين الشخص المضطرب وأدوات تنفيذه فكرته، يجب إخلاء المحيط من المواد القاتلة أو الحد من وجودها، وكذلك كل ما من شأنه أن يستخدمه الشخص المضطرب لإنهاء حياته، يعد خطوة واجب اتخاذها، فليس من الحكمة أن نتصور امتناع الشخص المتضور جوعا عن تناول طعام متاح أمامه، بنفس الكيفية لا ينبغي إتاحة أداة قتل مهما كانت تافهة لشخص نشعر أن لديه النية في استعمالها. إن فهم الطريقة التي يفكر بها الشخص الانتحاري لإنهاء حياته سيساعدنا على إزالة كل ما قد يكون خطيراً من المحيط. إزالة كل غرض يمكن أن يهدد حياة الفرد، وخاصة ما ارتبط  بمحاولات انتحار سابقة.

العزلة من أهم الأسباب التي تدفع المنتحر لإنهاء حياته، فالبقاء على اتصال معه يقلل من احتمال تفكيره في الانتحار، فزيارة هذا الشخص أو دعوته للتنزه مثلا أو استضافته، كلها أمور اجتماعية محببة تسهم في تلاشي الفكرة تدريجيا من عقل الشخص الذي تسيطر عليه. ومن المعروف أن المستوى الروحاني العالي ودعم المجتمع يقللان من الدوافع الانتحارية لدى الشخص، فلا بأس في دمجه في المؤسسات الدينية أو الروحية أو المجتمعية.

كيف نحمي أولادنا؟!

من بين الأمور التي تُنذر بالخطر فيما يتعلق بمحاولات الانتحار أنها أخذت تتسلل إلى الأطفال، والذين باتوا كذلك يتعرضون لنفس المشكلة  فيقدِمون على الانتحار شأنهم في ذلك مثل البالغين سواء بسواء، ولنا أن نتخيل حجم فداحة هذا الأمر، إذ كيف يُتَصوَّر أن تخطر مثل هذه الأفكار السوداء على قلب بريء لم يتدنس بعد بأمور الدنيا؟!! على أية حال، فإنها ظاهرة مرصودة ضمن الفئة العمرية من خمسة عشر عاما إلى التاسعة والثلاثين كما أسلفنا، وسن الخامسة عشر يقع ضمن حدود سني الطفولة في هذا العصر..

لقد لوحظ أن الأطفال في تلك السن يلجأون إلى الانتحار إذا تعرضوا بصورة مستمرة لمعاملة سيئة أو أُهملوا أو فَقدوا أحد والديهم. الانتحار لدى الأطفال والمراهقين يمكن أن يلي أحداثًا ضاغطة نفسيًّا في الحياة. ما يراه الصغير على أنه خطير ولا يمكن التغلب عليه قد يبدو أمرًا صغيرًا للبالغ مثل المشكلات في المدرسة أو فقدان الصداقة. قد يشعر الطفل أو المراهق بالرغبة في الانتحار، في بعض الأحوال، نتيجةً لظروف حياتية معينة قد لا يرغب هو أو هي في التحدث عنها.

وكصورة من صور قطع اليد، بمعنى الحيلولة بين الشخص المضطرب وأدوات تنفيذه فكرته، يجب إخلاء المحيط من المواد القاتلة أو الحد من وجودها، وكذلك كل ما من شأنه أن يستخدمه الشخص المضطرب لإنهاء حياته، يعد خطوة واجب اتخاذها، فليس من الحكمة أن نتصور امتناع الشخص المتضور جوعا عن تناول طعام متاح أمامه، بنفس الكيفية لا ينبغي إتاحة أداة قتل مهما كانت تافهة لشخص نشعر أن لديه النية في استعمالها

إن تثقيف الطلاب بشأن الصحة العقلية والعاطفية أمر ضروري للغاية. وللأسف، فإن عدداً قليلاً جداً من المؤسسات لديها هذه الإمكانات. ينطبق القول المأثور الشهير «درهم وقاية خير من قنطار علاج» على الصحة العقلية أيضاً. فالتثقيف المبكر للتعرف على أعراض الأمراض العقلية الشائعة، وأساليب التنظيم العاطفي، ومهارات تقبُّل الفشل، ومهارات حل المشاكل والصراعات، وتقنيات إدارة التوتر والقلق، وما إلى ذلك، سوف يساعد في بناء شخصية قادرة على التحمل.

وفي كثير من الأحيان، يلجأ المصابون بالأمراض العقلية أولاً إلى طبيب الأسرة العام للحصول على المساعدة. لكن العديد من هؤلاء الأطباء غير متخصصين في معالجة قضايا الصحة العقلية. فمن الأفضل دائماً، بعد التأكد من عدم وجود أي مرض عضوي، أن يحال المريض الواقع تحت تأثير وساوس الانتحار إلى ممارس أو وكالة متخصصة مثل طبيب نفسي أو اختصاصي في علم النفس أو إلى مركز مختص في الوقاية من الانتحار.

إن بعث الأمل في شخص انتحاري معجزة في حد ذاتها. فلنساعده حتى يرى أن المشاكل الحالية أو الضيق الذي يعاني منه له نهاية، ونمنحه الأمل بأنه ليس وحده، ونطمئنه بوجود علاج ناجع، فهذا يمكن أن يعطيه القوة رغم السيناريوهات المحبطة والمثبطة المحيطة به.

ولنتذكر دوما أن الانتحار ظاهرة اجتماعية ونفسية موجودة في كل ثقافة. وينبغي إيلاء أولوية كبرى للزيادة المثيرة للقلق في معدلات الانتحار. نحن كمسلمين نتربى من أجل خير الإنسانية، لذا، فإن من مسؤوليتنا بذل الجهود في هذه القضية والتعاون لنشر الوعي بأهمية الصحة العقلية، والوقاية من الانتحار قبل فوات الأوان.

الهوامش:

  1. دراسة عن عبء المرض العالمي 1990-2016، مجلة لانسيت للصحة العامة
Share via
تابعونا على الفايس بوك