الصحة الروحية ماهيتها وأهميتها

الصحة الروحية ماهيتها وأهميتها

ثمر حفيظ

دكتوراه في علم النفس
  • هل يمكن تعلم الروحانية وتعليمها؟!
  • كيف للروحانية أن تقينا إكلينيكيا؟!

_____

في الآونة الأخيرة بدأ الباحثون «الإكلينيكيون» في الإقرار بالأثر الإيجابي للروحانية على الصحة العقلية في عدة مجالات. وقد حظي بالكثير من الاهتمام في الأدبيات النفسية كاستراتيجية وقائية وعلاجية. والروحانية في أبسط تعريف لها هي إحساسنا الداخلي بالارتباط بشيء أكبر من أنفسنا. وهذا بحد ذاته يشكل دافعًا للإنسان إلى التفكير في سبب وجوده والبحث عن المعنى والهدف من حياته. ويصف الكثيرون التجربة الروحية بأنها سامية أو إحساس عميق بالارتباط بالله. وفكرة الروحانية استغرقت سائر الأديان والثقافات، ومع ذلك، فإن التجربة الروحانية تجربة فريدة من نوعها بالنسبة لكل شخص على حدة، فدرجتها وأهميتها وقوتها تختلف من شخص لآخر. فيمكن للروحانية والدين (التي تتكون من مجموعة منظمة من المعتقدات والممارسات) أن يقترن أحدهما بالآخر فيشملا الممارسات الصحية للعقل والجسد، مما يؤدي إلى الصحة العقلية والعاطفية.

وجهة نظر إيمانية.. ماذا بإمكان الروحانية أن تفعل؟!

لدى أغلب المؤمنين، إن لم نقل كلهم، قناعة بأن العواطف والروحانية بينهما علاقة تكاملية وطيدة، ولعل السر وراء هذه القناعة هو أن جميع المشاعر الإيجابية لدى البشر تنبع من شعور روحاني قوي. وتساعد الروحانية على زيادة حدوث العواطف والسلوكيات الإيجابية، كالحب والأمل والرحمة والسعادة والسلام والرضا والامتنان والغفران والتعاطف والقبول في حياتنا. وظهور هذه العواطف يصب في مصلحة الصحة العقلية وازدهارها، ذلك لأن التكامل بين الروح والجسد صار من قبيل البدهيات الصحية في هذا لعصر، وهذه النقطة طالما أثرناها في مقال أو مقالات سابقة على صفحات مجلة التقوى.

وبعيدًا عن الصورة النمطية التي رسمتها السينما العالمية للأشخاص المتدينين بأنهم يغلب عليهم التعصب والتطرف، أثبتت نتائج دراسة أمريكية حديثة عكس ذلك. الدراسة التي أعدها باحثون بجامعة «إلينوي» الأمريكية، ونشرتها دورية Journal of Religion and Health، ذكرت أن الأشخاص المتدينين لديهم قدرة أكبر من غيرهم على مواجهة الضغوط النفسية وأزمات الحياة، وأنهم غالبًا ما يستخدمون طرقًا إيجابيةً في التفكير حينما يتعرضون للأزمات، وأن الإيجابية التي يتعاملون بها في المواقف الصعبة تشبه إستراتيجيةً يستخدمها علماء النفس تسمى «إعادة التقييم المعرفي»، وتعني أن يعيد الفرد تقييمه المعرفي للموقف بغية استخلاص الانفعال المحتمل حدوثه من ذلك الموقف وخفض أثره. يُذكر أن نتائج هذه الدراسة تتفق مع نتائج دراسة سبق أن أجراها باحثون في معهد “ماساتشوستس” بجامعة “هارفارد”، مؤكدةً أن «ممارسة الشعائر الدينية والروحية قد يكون لها آثار إيجابية على الصحة النفسية، وأن الأشخاص الذين يحرصون على أداء الصلوات اليومية أو الأسبوعية أو مارسوا التأمل في شبابهم كانوا أقل عرضةً للاكتئاب والقلق، وكانوا أقل عرضةً لإدمان المخدرات والتدخين، وأن الأطفال الذين يتم تربيتهم تربية دينية يؤثر ذلك بصورة إيجابية على صحتهم النفسية والعقلية والجسدية وعلى مستوى السعادة والرفاهية لديهم». كما أفادت دراسة أخرى بأن «الاحتماء بالمعتقدات الدينية من شأنه أن يزيد من معدلات الرفاهية النفسية، وأن التأقلم الديني مع الأزمات، ومن ضمنها الأزمات الصحية، يحقق مزيدًا من السلامة النفسية»(1).

عواطفنا.. بين الرحمن والشيطان

الروحانية لا تستخدم المشاعر الإيجابية فحسب، بل إن من شأنها أيضًا أن تخفف المشاعر السلبية كالغضب والخوف والكراهية والقلق والحزن وعدم الأمان والغيرة وما إلى ذلك. ومن البديهي أن ندرك أننا حيثما رعينا مشاعرنا الإيجابية، فإن هذا يأتي على حساب المشاعر السلبية، والعكس بالعكس، ولعل في الآية الكريمة من سورة الزخرف إشارة إلى هذه الحقيقة، حيث يقول جل في علاه:

وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (2)،

فكما أن «الرحمن» اسم جامع لكل المشاعر والعواطف الإيجابية، فالشيطان في هذا المقام في المقابل لفظ جامع يشمل كافة المشاعر السلبية. فالمشاعر الإيجابية إذن عامل فعَّال في تخفيف حدة آثار الأحداث المسببة للتوتر. وعلاوة على ذلك، فإنها تساعد أيضاً في التخفيف من ردود الأفعال تجاه الضغط النفسي والتعافي منه، مما يؤدي إلى تحسين الصحة النفسية والجسدية، وهنا يحضرنا قول الله تعالى عن المحسنين:

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (3)،

والمحسنون هنا هم أولئك الذين تحكموا في مشاعرهم، ولم يسمحوا سوى للإيجابية منها بالصدور، فكانوا ينفقون بحكمة في السراء والضراء، ويكظمون مشاعر غضبهم وحدة انفعالهم، ويعفون عمن أساء إليهم، من قدرة، لا من ضعف واضطرار.. كذلك يحضرنا في هذا المقام قول النبي :

«إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا»(4).

علموا أولادكم الروحانية، تقوهم “كلينيكيًّا”

كأية عادة سلوكية، الروحانية أيضًا شيء يمكن تعلمه، ويفضل هذا التعلم في الصغر، فكل ما من شأنه أن يُتَعَلَّم في الصغر، يسهل تذكره وتمثله، ومن ثم تظهر آثاره واضحة في الكبر. والسنوات التي يمكن أن تزرع فيها بذور التعصب والكراهية هي سنوات الطفولة والمراهقة فيصبح من الصعوبة بمكانٍ القضاء عليها بالسنوات اللاحقة.

ومن المعروف أن المشاعر السلبية تثير الجهاز العصبي اللاإرادي، مما يسبب استجابة الكر والفر التي تزيد من هرمونات التوتر المعروفة بـ «الكورتيزول» و «الأدرينالين». وتساهم المستويات المرتفعة من هذه الهرمونات في الحالات العقلية والجسدية مثل القلق والاكتئاب واكتساب الدهون والأرق والأكل العاطفي والأرق وضعف وظائف المناعة وارتفاع ضغط الدم وزيادة خطر الإصابة بالسكتات الدماغية ومشاكل القلب والأوعية الدموية. ووفقاً لبحوث حديثة فإن استراتيجيات التكيف الديني الإيجابية مثل الانفتاح الديني، ومواجهة المسائل الوجودية والمشاركة الدينية ترتبط بتخفيف أعراض الاكتئاب وتحسين التعافي بعد الصدمة.

«ممارسة الشعائر الدينية والروحية قد يكون لها آثار إيجابية على الصحة النفسية، وأن الأشخاص الذين يحرصون على أداء الصلوات اليومية أو الأسبوعية أو مارسوا التأمل في شبابهم كانوا أقل عرضةً للاكتئاب والقلق، وكانوا أقل عرضةً لإدمان المخدرات والتدخين، وأن الأطفال الذين يتم تربيتهم تربية دينية يؤثر ذلك بصورة إيجابية على صحتهم النفسية والعقلية والجسدية وعلى مستوى السعادة والرفاهية لديهم». كما أفادت دراسة أخرى بأن «الاحتماء بالمعتقدات الدينية من شأنه أن يزيد من معدلات الرفاهية النفسية، وأن التأقلم الديني مع الأزمات، ومن ضمنها الأزمات الصحية، يحقق مزيدًا من السلامة النفسية»

أفكار لشحذ روحانيتنا

إننا جميعاً نرغب في شحذ الحس الروحاني في حياتنا، لكننا لا نعرف من أين نبدأ. وفيما يلي بعض الاقتراحات التي ستساعد على بناء الروحانية والصحة العقلية الجيدة:

* تأمَّل وفكر ذاتيا: فقد كان النبي الكريم كثير الاعتكاف والتأمل، حتى إن قصة اعتكافه في جبل حراء ليقضي وقته في التفّكر والتأمل. وفي إحدى هذه الاعتكافات، وجد خالقه. والصلاة كذلك هي نوع من التأمل في حد ذاتها، فهي تساعدنا على ترويض الأفكار المتسارعة والمشاعر الغاضبة، مما يُمكننا من كسر حلقة الضغط النفسي المفرغة خلال اليوم. فتقدم الصلاة شعوراً بالنعيم والراحة العاطفية مما يقلل أعراض القلق والاكتئاب. إن الشعور بالقوة والأمان بعد كل صلاة يساعدنا على التعامل بفعالية مع ضغوط الحياة اليومية. قال المسيح الموعود ذات مرة أن صلاة الجماعة تشجع على الاتحاد وتقلل من الاختلاف والأنانية. إن إدراك معاني الصلاة التي تقيمها والأدعية التي تتلوها وتفسيراتها الأعمق يسمح بتطبيقها لتحسين الصحة العقلية. إن دمج عادة قراءة النصوص الدينية مثل القرآن الكريم باللغة التي نفهمها يساعدنا بشكل أفضل في مراجعة إيماننا والمعنى والهدف من الحياة كل يوم. إن الطمأنينة الإدراكية والوجدانية التي تحصل عليها من كلمة الله لا مثيل لها ومفيدة للغاية للصحة العقلية.

* أيقظ ذهنك: واليقظة الذهنية عبارة عن تمرين على التنبه والحضور الكامل في اللحظة الحالية. إنها أداة قوية تسهل علينا أن نكون أكثر وعياً بحالاتنا الجسدية والعاطفية والعقلية وتجنبنا النقد الذاتي والتهكم والتشاؤم. في كثير من الأحيان، يخيم على عقلنا الإدراكي عدم الثقة بالنفس، ويمنعنا من ملاحظة الأشياء المبهجة في الحياة. وهذا نوع من التأمل الذي يوفر الاسترخاء العميق والإدراك. ويمنع الصراع المستمر بين الأفكار والعواطف. فهو يساعد على تطوير القدرة التي ستحررنا من إطار الأنا. تحسّن اليقظة الذهنية «الذهن» (القدرة على التفكير في الحالة الذهنية لدى المرء؛ للحصول على نظرة ثاقبة لما يشعر به المرء ولماذا). وتتضمن الممارسات الأولية التركيز على الأحاسيس الجسدية والأصوات والمشاعر. حيث يمارس العديد من علماء النفس اليقظة الذهنية العلاجية التي تشمل العلاج المعرفي القائم على اليقظة الذهنية(MBCT) ، والحد من الضغط النفسي القائم على اليقظة الذهنية (MBSR)  لأنها تدابير وقائية كبيرة للصحة العقلية.

* صُمْ تصح: فالصوم طريقة رائعة للتخلص من سموم الجسد والروح ويقوي البر بالله والتقوى. وهذا يثير علاقة أكثر عمقاً بفضله. فحرمان أنفسنا من الطعام والشراب لفترة محددة من الزمن يسمح لنا بممارسة ضبط النفس والتعبير عن شكرنا للنعم التي منَّ بها الله علينا. إنه يُطفئ نار الأنانية والقسوة، مما يسمح لنا بإظهار مواساتنا تجاه الأقل حظاً والفقراء، وبالتالي بناء وعي مشترك. فيشعر المرء بعد كل صوم بالتجدد الروحي والحيوية.

* اخدم الخلق وواسِهِم: فالمجتمع الروحي بما بين أعضائه من مواساة وتكاتف تعاون على البر يخلق إحساساً بالانتماء وبالتالي يحمي الناس من العزلة والوحدة التي تُنذر بالاكتئاب والأفكار الانتحارية. تظهر الأبحاث أن الحضور في الخدمات الدينية يرتبط بسلوكيات صحية مثل الانخراط في الأنشطة البدنية، والرغبة في رعاية الصحة العقلية الوقائية، وتجنب السلوكيات الخطرة مثل التدخين وشرب الكحول والإفراط في تناول الطعام. بالإضافة إلى ذلك، يعمل أيضاً كعامل وقائي ضد القلق والاكتئاب والاضطرابات المرتبطة بتعاطي المخدرات. ألا تذكرنا كل تلك المزايا بقول النبي :

«مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمــَّى»(5) ؟!

* سجِّل يومياتك الروحية: فبتسجيل تطورك وتقدمك الروحي والاحتفاظ بمذكرة امتنان تدون فيها ما أنت ممتن لله به يومياً هو أمر كفيل بأن يجعلك تتخذ أفضل موقف من كل أمور حياتك. حتى إن تقدير أصغر شيء جيد نصادفه في طريقنا سيبقينا راضين وسعداء طوال اليوم، وكل يوم، وهذه علامة على صحة نفسية ممتازة، إنه إكسير الشكر على النعم، وفيه يقول عز وجل:

  وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (6)،

فلك الآن عزيزي القارئ أن تختار بين الشكر أو الجحود.

* تنقَّل وسافر: فلم يعد التنقل والسفر في هذا العصر مجرد رفاهية فارغة، بل هو من الوسائل العلاجية الموصى بها بإلحاح، حتى إن الأطباء يوصون بهما كلا من أصحاب المرض العضوي والنفسي على السواء، فكما يوصى مريض السمنة والقلب بالسير على قدميه بشكل يومي، كذلك فإن مريض الاكتئاب ينصح بالسفر في كثير من الأحيان، تحت مسمى «تغيير الأجواء». وقد وجد أن فكرة تغيير الأجواء هذه لها جذور قديمة، حيث يوصي الله تعالى عباده بالسفر والسير في الأرض، فهذا التنقل من شأنه أن يُذكي قوة التفكر في الخلق، يقول تعالى: قُلْ سِيرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ ٱلْخَلْقَ (7).. وكما قال محمد بن إدريس الشافعي (رحمه الله):

تَغَرَّبْ عَن الأَوْطَانِ في طَلَبِ الْعُلى

وَسَافِرْ فَفِي الأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِدِ

.

تَفَرُّجُ هَمٍّ، وَاكْتِسابُ مَعِيشَةٍ

وَعِلْمٌ، وآدَابٌ، وَصُحْبَةُ مَاجِد(8)

وأخيرًا.. إن لكل من الروحانية والدين القدرة على رفع معنوياتك وإضفاء البهجة. والأهم من ذلك، أنهم يعطونا الأمل للمضي قدماً دون تقبل الهزيمة. إن دمج الروحانية في الصحة العقلية يعطي نتائج واعدة وهو بمثابة قوتين عظيمتين، الحكمة والعلم، حيث يجتمعان لاستحضار الشفاء. وإن مَثَلَ الروحانية كمرساة تبقيك ثابتًا مهما كان تيار تلقلبات الحياة جارفا، كما أنها بمثابة بوصلة توجهك إلى الاتجاه الصحيح. ويشير سلوكنا المتوازن في السراء والضرّاء إلى تمتعنا بعقلية روحية مثالية. فيجب على المرء أن يحافظ على معاييره الروحية ويجعلها تحت السيطرة وأن يسعى جاهداً للتفوق والكمال، حتى وإن لم يبلغه، فعلى المرء أن يسعى، وليس عليه إدراك النجاح.

الهوامش:

  1. محمد أبو زيد، «دراسة تثير الجدل حول قدرة «المتدينين» على التعامل مع الأزمات»، مجلة ساينتفك أمريكان (النسخة العربية)، مارس 2021
  2. (الزخرف: 37)
  3. (آل عمران: 135)
  4. (صحيح البخاري, كتاب الأدب)
  5. (صحيح مسلم, كتاب البر والصلة والآداب)
  6. (إِبراهيم: 8)
  7. (العنكبوت: 29)
  8. ديوان الإمام الشافعي
Share via
تابعونا على الفايس بوك