هل يمكن أن تكون ممسوسا؟!

هل يمكن أن تكون ممسوسا؟!

ضياء شاه

  • هل يمكن فهم موضوع الجن وتفسيره تفسيرا منطقيا بعيدا عن الخرافة؟
  • هل ثمة شواهد واقعية وأحداث تثبت حقيقته المنطقية؟
  • هل يمكن أن يكون أحدنا متلبسا بالجن وهو لا يشعر؟

_________

الحديث عن الجن وتلبسه الإنسان حديث طال طرحه وقتله دفعا وجذبا، وإلى لحظة كتابة هذا المقال ينقسم الناس على تفاوت ثقافاتهم إزاء موضوع الجن ما بين مصدق كلية، ومكذب كلية، وطائفة ثالثة تستوعب موضوع الجن غير أنها ترفض الفكرة السائدة عنه.

الجن في الشرق والغرب

وفقًا لمسح Pew Research أجري في عام 2007، تبين أن ثلث الأمريكيين تقريبا، أي ما نسبته 68% يؤمنون بأن الشياطين نشطة في العالم. كما تتزايد طقوس طرد الأرواح الشريرة في أجزاء كثيرة من العالم خاصة منذ أن تولى البابا فرنسيس منصبه. إن 88% من المورمون ونسبة 87% من الإنجيليكان وأعضاء الكنائس الإفريقية البروتستانيية 87%  هم الأكثر اتفاقاً من بين الجماعات الدينية على أن الشياطين نشطة في العالم، هذا ما أكدته النتائج الإحصائية لـ Pew Research في أمريكا، أما على الجانب الآخر من المحيط، فنسبة المؤمنين بتلبس الشياطين حدث عنها ولا حرج، لذا، في هذا السياق لا نتردد في طرح سؤال واقعي وهو: أيمكن أن يكون أي منا متلبسا بالشياطين؟! سواء أنا أو أنت أو هو أو هي أو نحن أو هم؟! وعلى أي أساس يمكننا الجزم بالنفي؟! إن الغالبية تؤيد وجود الجن والشياطين، ما يهم الآن أنهم أغلبية!! فما الذي يضمن عدم تلبسنا بهذه المخلوقات الغريبة؟!  فما الذي يجعلنا أكثر عرضة للشياطين والأشباح على فرض وجودها؟ هل هناك أي عوامل خطر؟ هل يجب أن نتجنب بعض الأماكن أو الأشخاص للبقاء في أمان؟ ما مدى خطورة ذلك؟ ما مقدار الضرر الذي يمكن أن تسببه لنا الشياطين؟ كيف لنا أن نعرف أننا مسكونون أو ممسوسون وما الذي يمكننا فعله لنتخلص من هذا المس؟

إذا كان ثلثا الأمريكيين يؤمنون بوجود الشياطين فإن هذه المخاوف، بالنسبة لهم، واقعية للغاية، بل أكثر واقعية من تهديدات الإرهاب والتهديدات الطبيعية كالفيضانات والأعاصير، بل وحتى أكثر من تهديدات حوادث السير والسطو المسلح!!

 

رقاة معوذون في كل مكان

وبالنظر إلى ضخامة نسبة من يعتقدون في وجود ذلك العالم الغامض وتأثيره “الميتافيزيقي” على الإنسان، أصبحت سوق الرقى والتعاويذ سوقا رائجة في شتى بلدان العالم، بل أصبحت تضاهي في رواجها سوق المخدرات أو السوق المالية السوداء، غير أنها لا تواجه التجريم الذي تواجهه السوقان الأخريان.

في عام 2014، أثنى البابا «فرنسيس» على من دعاهم بالكهنة المعوذين لمحاربتهم «أعمال الشيطان»، قائلاً: إن على الكنيسة مساعدة «أولئك الذين يتلبّسهم الشر».

قال كاهن تعويذي بريطاني من برمنغهام: «حتى بضع سنوات مضت، الكثير من الناس في الكنيسة لم يكونوا يؤمنون بالشيطان، لكن الناس يعودون الآن إلى الكتاب المقدس»، واستطرد قائلا: «لقد لاقى الأمر من البابا فرنسيس تشجيعاً غير مسبوق، فقبل بضع سنوات على أكثر تقدير لم يكن لنصف أبرشيات إنجلترا وويلز ولا حتى كاهن معوذ واحد. الآن، الوضع صار مختلفا». كما شهدت إيطاليا ارتفاعًا كبيراً في نسبة قبول الناس فكرة الأرواح الشريرة والاستعانة بمن يضطلع بطردها، فقامت أبرشية ميلان مؤخرًا بزيادة عدد الكهنة المعوذين من 5 إلى  12 كاهنا معوذا،  وضاعفت أبرشية روما فريقها إلى 10 من الكهنة المعوذين المقيمين. الأب تروكي البالغ من العمر 47 سنة وهو كبير الرقاة في أبرشية شور الكائنة بشرق سويسرا، أكد مشاركته في حوالي 100 عملية رقية وتعويذ. (1)

 

واقع ما قبل الطب النفسي في الغرب

يعالج الرقاة العديد من الأمراض النفسية والعصبية. ويرجع آخر نشاط فعلي لهم قبل عصر التقدم الطبي إلى  150 سنة خلت. لقد نشب صراع طويل بين الكنيسة الكاثوليكية والطب التجريبي قبل أن يستطيع الأخير فرض السمة العقلانية على مجال الصحة النفسية والعقلية، في القرنين التاسع عشر والعشرين. ففي عام 1858، أعلنت فتاة ريفية بسيطة، تبلغ من العمر 14 عامًا، تُدعى «برناديت سوبيروس»، وتعيش في قرية لورد الصغيرة في جنوب غرب فرنسا، أنها عاينت تجليا مهيبا للسيدة مريم العذراء مرتدية ملابس بيضاء، وأخبرتها أنها تريد إيصال رسائل روحية مهمة إلى المجتمع. عوقبت في البداية على ما قصته، ثم فحصها طبيب باحث عن علامات هلوسة أو «هستيريا»، ثم توالت البلاغات من السكان المحليين عن حالات شفاء متكررة بعد ملامسة الماء. وفي عام 1862 م، أعلن البابا بيوس التاسع أن الفتاة محقة فيما ادعته من رؤية تجلي السيدة العذراء. وفي عام 1876 اعترفت البابوية رسميًا بلورد كمكان مقدس للشفاء والحج. لقد أعلن أن النبع الذي كُشف لبرناديت في الكهف معجزة، وأصبحت لورد منذ ذلك الحين مركزًا مهماً للحج. وتوالت المعجزات في الحدوث. يزور الموقع سنوياً أكثر من 5 ملايين شخص، كثير منهم مرضى أو معاقون. كان الطب الفرنسي بحاجة إلى دحض قوي لآراء الكنيسة حول لورد، وكان «جان مارتن شاركوت» (Charcot) في وضع حرج بصفته طبيبا، لتقديم تبرير مقبول لما يحدث فكتب «»The Faith Cure (علاج الإيمان) ورتب لنشره باللغتين الإنجليزية والفرنسية معاً في عام 1892، قبل وفاته بعام واحد.

فرويد، وولادة فكرة العقل الباطن

كانت جميع عمليات الشفاء في لورد استثنائية، مما شكل دليلاً على أن قوى الشفاء الطبيعية الخفية كانت أكثر اتساعًا مما توصلت إليه مهنة الطب في السابق. لماذا احتجنا إلى لورد للكشف عن هذا؟ ركز Charcot على الميزات الرائعة للورد كموقع. يعني بحكم بعد الموقع، خضع جميع الحجاج لرحلة طويلة وشاقة للوصول إليه (رحلة القطار من باريس في ذلك الوقت كانت تستغرق اثنتين وعشرين ساعة). عندما وصلوا أخيرًا، كانوا مرهقين وتضاءلت مشاكلهم الحرجة. عند الوصول إلى الكهف نفسه، تم غمرهم على الفور بالعديد من الطقوس المقدسة طلبا للشفاء.

وبانضمامهم إلى حشود المؤمنين الآخرين أصيبوا بالعدوى العاطفية للأمل الجماعي. كل هذا يضاف إلى مجموعة مثالية من العوامل المضمونة لفتح العقل على جميع التأثيرات. على حد تعبير آن هارينغتون وهي تصف تاريخ طب العقل والجسم في كتابها الأخير (العلاج من الداخل) The Cure Within: «نقلاً عن حالة مريضة شاهدها «شاركوت» بنفسه وشفيت من أورامها على ما يبدو بمجرد زيارة كهف لورد، جادل شاركوت بأن الاستنتاج كان واضحًا: إما أن الهستيريا، المعروفة باستجابتها للمشاعر، سببت خللاً أوسع مما كان يعتقد سابقاً، أو أن العقل يمد نفوذه إلى العمل الفيزيولوجي بطرق لم تفهم جيدًا بعد.

صاغ شاركوت مصطلح «العقل الثاني» ونما وصفه إلى مفهوم «العقل الباطن» فيما بعد على يد «سيغموند فرويد» الذي كان واحدا من طلاب «شاركوت». مهدت النقاشات حول لورد و«جان مارتن شاركوت» لوصف العقل «الباطن» من قبل «فرويد»، والباقي معروف.

وصف أحد أطباء فيينا في القرن الثامن عشر، ويدعى «إريك مينينجر فون ليركنثال»، كيف أقدم بعض طلاب الطب في كليته على مزحة أودت بحياة شخص، قاموا بتقييده وعصب عينيه وأوهموه أنهم عازمون على قطع رأسه، وإمعانا في إيهامه وضعوا رقبته على لوح خشبي، ومرروا خرقة مبللة على رقبته موهمين إياه بأنها شفرة فولاذية، والنتيجة أن مات الرجل المسكين من فوره.

تأثيرا نوسيبو وبلاسيبو

البعض عندما يقرأون عن مرض ما، يبدأون في تخيل الأعراض وبعضهم تحدث له الأعراض فعلًا ويبدأ يتشكك في إصابته بهذا المرض الخطير فيما يُعرف بتأثير «نوسيبو». بينما تأثير «بلاسيبو» أو الغفل هو العكس تمامًا، فبعض الأطباء يكتبون أدوية لا تحتوي على أية مواد فعالة على الإطلاق وهذه الأدوية قد تُشعر المريض بالتحسن فعلًا خصوصًا في الحالات النفسية فقد يصف الطبيب دواء بلاسيبو لمريض يشعر بالانطواء فيبدأ يشعر أنه تحول لشخص اجتماعي. تُستخدم أيضًا أدوية بلاسيبو في الدراسات النفسية، الطبية والتجريبية للأدوية. تأثير بلاسيبو أيضًا يمكن أن يستخدم في الترويج للخرافات وطرق العلاج غير العلمية. فعندما يقتنع المريض بجدوى العلاج غير المُجرب قد يشعر بتحسن وهمي. قد يكون هذا هو السبب في أن بعض المنازل محكوم عليها بالمرض، وأن الناس الذين يعيشون بالقرب من طواحين الهواء يشتكون من دوار وأرق وقيء محير. إذا كنت قد شعرت بأعراض الزكام بعد التطعيم، أو اعتقدت أن هاتفك الخلوي يسبب لك صداعًا، أو عانيت من حساسية غذائية لا يمكن تفسيرها، فقد تكون قد وقعت أيضًا ضحية نوسيبو. يقول ديموس ميتسيكوستاس، من مستشفى أثينا البحري في اليونان: «إن تأثير النوسيبو يُظهر قوة الدماغ، ولا يمكننا شرح ذلك بالكامل.» (2) نتفق مع من يعتقدون بوجود الجن الشبحي على أننا نعيش في عالم مخيف محاط بالمخاطر، ونحن معرضون فيه إلى إمكانية أن نكون ضحية للجراثيم أو الفيروسات الدقيقة أو الإدمان أو الأمراض المنقولة جنسيًا أو الفيضانات أو الأعاصير أو الإرهاب، على سبيل المثال لا الحصر. ولكن، هناك شيء واحد مؤكد، إنه عدم وجود عالم الأشباح والشياطين الميتافيزيقي المزعوم، وحتى أكابر من يؤمنون به لم يتمكنوا من تقديم ولا دليل واحد على وجوده.

الجن في الشرق والغرب شيطان كورونا

إن مادة (ج ن ن) في اللغة العربية تتضمن معنى الستر والاستتار. تقول المعاجم اللغوية: جنَّ الشيءَ يجُنُّه جَنًّا: ستره، وكل شيء سُتر عنك فقد جُنَّ عنك. جنَّ الليلُ: أظلم فستر المرئيات. جنَّه الليل جنًّا وجنونا. وجَنَّ عليه يجُنُّ وأجنَنَّه: ستره. جنَّ الجنين في الرحمِ، استتر. جِنُّ الليلِ وجُنونه وجنانه: شدة ظلمته، وقيل اختلاط ظلامه لأن كل ذلك ساتر. والجَنَن: القبر والكفن لأنه يستر جثة الميِّت. والجَنان: القلب لاستتاره في الصدر، أو الروح لأنها مستورة في الجسم. والمجن: الترس والوشاح والحياء.. لأنها تستر من يستخدمها. والجُنَّة: ما واراك من السلاح؛ السترة والوقاية. وجِنُّ الناس معظمهم.. لأن الداخل فيهم يستتر بهم. وجَنان الناس جماعتهم وسوادهم، وقيل دهماؤهم. وقيل – الجِن: ولد الجان.. وهم الجِنة. والجن خلاف الإنس. والجِنَّة الجنون، وظائف الجِن. والجِنَّة: طائفة من الجن. والجَان هو الجن أو أبو الجن، اسم جمع. والجن هم الملائكة.. قال الأعشى يذكر سليمان عليه السلام: وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الملائِكَةِ تِسْعَةً قِيَامًا لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلا أَجْر. وقوله جن الملائكة أي الملائكة الجن يعني المستترة.

فكل ما استَتَر أو خَفِي أو نأى فهو جِنّ.. وأيضا كل ما أخْفَى أو سَبَرَ أو غطَّى أو غَلَبَ على غيره فهو جن. فمثلا: جِنُّ الشباب أوَّله، وجدَّته ونشاطه.. لأنها الصفات الغالبة عليه. وجِنُّ كل شيء أول شداته. وجِنُّ المرح كذلك. يقال: خذ الأمر بجنِّه أي حدثانه. وجِنّ النبت: زهره ونوْره.. لأنه يجذب الأنظار اليه فيكون المظهر الغالب على النبات،  فكأنه يستره. وجُنَّ النبتُ جنونا غُلظ واكتهل. وجُنَّت الأرض جاءت بشيء معجب، وإذا أعتم نبتها. وجُنَّ الذباب: كثر صوته وترنمه.الفقرة السابقة تقدم قاعدة أساسية نفهم بها موضوع الجن فهما عقلانيا، فمن معاني الجن والشياطين في السياقات القرآنية ما لا نشاهده بأعيننا المجردة من مؤثرات نفسية أو جسدية الجن والشياطين: منظور إسلامي عقلاني. (3) جميعنا مثلا نصاب بنزلات البرد والانفلونزا وغيرها من الالتهابات. يحصل الكثير منا على لقاح الانفلونزا كل عام كوقاية، فالبكتيريا والفيروسات في كل مكان من حولنا، فنحن إذن لسنا بمعزل عن ذلك العالم الذي لا تدركه أعيننا المجردة. فتلك إذن الشياطين التي قد تمسنا، وقطعا إن فيروس كورونا أحد تلك الشياطين، فنعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

1. Pope Francis effect leads to exorcism boom، “تأثير البابا فرانسيس” يؤدي إلى ازدهار طرد الأرواح

2. The contagious thought that could kill you، الفكر المعدي الذي يمكن أن يقتلك

3. Junns and Demons a Rational Islamc Perspective، الجن والشياطين: منظور إسلامي عقلاني

Share via
تابعونا على الفايس بوك