الجن و الإنس تسميتان للبشر
  • المراد بالجن البشر أيضًا (دلالات قرآنية)
  • معان مصطلح الجن في القرآن الكريم
  • رأي بعض السلف في الجن الخرافي

__

تتمة:

وسادسها: الجن الذين زاروا النبي وآمنوا به، وهم وفد من اليهود كما هو ثابت من القرآن الكريم، لأنهم يؤكدون إيمانهم بكتاب موسى (الأحقاف: 30 و31). لقد سماهم الله الجنَّ لأنهم جاءوا من بلد أجنبي، ولأنهم قابلوا النبي في الخفاء؛ إذ يتضح من بعض الأحاديث أن وطنهم نصيبين، وأنهم زاروا النبي تحت ستر الليل (البخاري: المناقب). يبدو أنهم قابلوه في الخفاء خوفًا من كفار العرب، ولما استمعوا منه القرآن شهدت قلوبهم بصدقه، فلما رجعوا إلى قومهم بدؤوا في تبليغ الإسلام. هذه الأمور كلها مسجلة في القرآن الكريم. وإليكم البراهين الدالة على كون هؤلاء الجن من البشر:

الدليل الأول: لقاؤهم بالنبي سرًّا. لو كان هؤلاء جنًّا في الحقيقة فما الداعي أن يقابلوه في ظلمة الليل؛ لأنهم لو زاروه علنًا في وضح النهار لما كان باستطاعة أحد أن يضرهم شيئًا، بل ما كان لأحد أن يراهم، وذلك وفق ما يُعزى إلى الجن من غرائب الصفات.

ولكن القرآن الكريم توسّع في هذا الاستخدام فاخترع اصطلاحًا جديدًا، حيث أطلق كلمة «الإنسان» على من يميل إلى الطاعة والانقياد من البشر، وكلمةَ «الجن» على البشر الذين طبعائهم نارية ثائرة، فلا يخضعون للنظام والقانون.

والدليل الثاني: هو قول الله تعالى في القرآن الكريم

إِنا أَرسَلْناكَ شاهدًا ومبشِّرًا ونذيرًا * لِتُؤمِنوا بالله ورسولِه وتُعزِّروه وتُوقِّرُوه (الفتح: 9 و10).

فإذا كان الجن قد آمنوا بالرسول الكريم فكيف ومتى قاموا بنصرته وتوقيره؟ يقال أن الجن يركبون عقول أعدائهم ويستحوذون عليهم، وأنهم بنوا لسليمان الحصون والقلاع وعملوا لـه كل عمل بسيط مع أنهم لم يؤمنوا به؛ ولكن ما بال هؤلاء الجن المؤمنين بالرسول الكريم الذين قد رأوه هدفًا لصنوف الأذى والعذاب على أيدي أشقياء الكفار، فلم يحرّكوا لنصرته ساكنًا، ولم يعاقبوا أبا جهل وغيره من أهل العدوان؟ ثم يقال أن الجن يَجلبون لمن يحبّون أنواعَ الفواكه والثمرات في غير موسمها وأوانها، ولكن هؤلاء الجن المؤمنين لم يعملوا قط أي صنيع من هذا القبيل مع رسولهم الكريم . أين كان هؤلاء عندما بلغ الجوع والفاقة بالنبي وبأصحابه الكرام أثناء حفر الخندق مبلغًا جعلهم يشدّون الأحجار على بطونهم اتقاء قرصات الجوع؟ (البخاري: كتاب المغازي باب غزوة الخندق). ليتهم أحضروا لـه ولأصحابه خبز الشعير على الأقل. هل هذا الإهمال من الإيمان في شيء؟ كلا، بل هو منتهى الشقاوة. ولكن الجن الذين آمنوا بالرسول نجد القرآن الكريم يصفهم أنهم كانوا جدَّ مخلصين في إيمانهم.

فثبت مما أسلفنا أن الجن المذكورين في سورة الجن لا يقدرون على الاستحواذ على أحد ولا على مضايقته، كما لا يملكون لأحد نفعًا؛ بل الحق أن مثل هؤلاء الجن لا يوجدون إلا في عقول هؤلاء المتوهمين. إن القرآن الكريم لا يقول بوجود الجن بهذه الصفات، وإنما يقول بوجود أولئك الجنّ الذين يملكون تلك الصفات التي ذكرتُها أنا. إذًا فالجن الذين آمنوا بالرسول الكريم هم وفد من اليهود الذين كان وطنهم بعيدًا عن النبي آلاف الأميال، ولا نعرف ما إذا كانت أخباره وصلتهم بعد عودتهم إلى بلادهم أم لا، ولذلك لا نجد أي ذكر لخوضهم عمليًا في الحروب الإسلامية.

والدليل الثالث: على كون هؤلاء الجن بشرًا هو أن الله تعالى يعلن في القرآن أنه إذا أراد بعث رسول إلى قوم فإنه يختاره منهم أي من بينهم ومن أنفُسهم. يقول

ويومَ نبعَثُ في كلِّ أُمّة شهيدًا عليهم من أَنفُسهم وجِئْنا بك شهيدًا على هؤلاء (النحل: 90).

فلو كان الجـن أمـةً من دون الناس مؤمنةً بالرسل ومكلَّفة بالشرع كالناس.. فمَن مِن الرسل سوف يشهد على إيمان هؤلاء الجن؟ إذ لم يكن موسى من الجن حتى يُسأل عن الجن الذين آمنوا به ويكون شهيدًا على إيمانهم؛ كما لم يكن النبي من الجن حتى يشهد على إيمانهم؛ بل ليس هناك من نبي كان من الجن حتى يشهد على إيمانهم، وبالتالي هل سيبقى الجن محرومين من الثواب والعقاب يا تُرى؟

الدليل الرابع: يقول الله في القرآن الكريم

يا مَعشَرَ الجنِّ والإنسِ ألم يأْتِكم رُسُلٌ منكم يقُصُّون عليكم آياتي ويُنذِرونكم لقاءَ يومِكم هذا (الأنعام:131).

توضح هذه الآية جليًّا أن رسل الجن كانوا من الجن، وأن رسل الإنس كانوا من الإنس. فإذا كان الجن كائنات أخرى فلا يمكن – وفق هذه الآية – أن يكون موسى أو رسولنا الكريم- عليهما السلام – نبيًّا للجن، لأن أنبياءهم كانوا أيضًا جنًّا مثلهم. نعم إذا كان المراد من الجن فئةً من البشر أنفسِهم فكان بإمكانهم حتمًا أن يؤمنوا بموسى أو بمحمد – عليهما السلام – نبيًّا لهم.

الدليل الخامس: يصف الله الجحيم قائلاً:

فاتقُوا النارَ التي وَقودُها الناسُ والحجارة أُعِدّتْ للكافرين (البقرة: 25).

مما يؤكد أنه سيكون في النار الناس أو الأحجار وما شاكلها مما يمكن أن ينفع كحطبٍ لجهنم. فلو كان الجن كائنًا مكلَّفًا كالإنسان للزم أن يقول الله تعالى “فاتّقُوا النارَ التي وَقودها الناسُ والجن والحجارة”. فثبت أن القرآن حينما قال إن الجن سوف يدخلون النار فإنما قصد به الجن من البشر، لا أي كائن آخر.

الدليل السادس: ورد في الحديث الشريف أن رسول الله قام من الليل يصلي، فقال لرجال يحرسونه: “لقد أُعطيتُ الليلةَ خمسًا ما أُعطِيَهن أحد قبلي…… أما أنا فأُرسلتُ إلى الناس كلهم عامةً، وكان مَن قبلي إنما يرسَل إلى قومه.” (مسند أحمد ج 2، أول مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما)

علمًا أن هذه الرواية تذكر بعد ذلك أربع خصوصيات أخرى، والحق أن الرسول قد أُخبر بهذه الخصوصيات الخمس مجموعةً في تلك الليلة، وإن كان قد خُص بها منذ بداية البعثة، وكانت الخصوصية المذكورة أعلاه أيضًا مما أُعطيَه من أول يوم من البعثة الشريفة.

فكيف يمكن لأحد أن يقول بعد قراءة هذا الحديث بأن الجن الذين آمنوا بالرسول كانوا كائنات غير البشر؟ فإن القرآن الكريم ينص على كون هؤلاء الجن مؤمنين بموسى، فكيف جاز لهم أن يؤمنوا به إذا لم يكونوا من الأمة الإسرائيلية التي بُعث موسى إليها فقط دون غيرها.

وقد يعترض هنا أحد محتجًّا بقوله تعالى:

إنّا أَرسَلْنا إليكم رسولا شاهِدًا عليكم كما أرسَلْنا إلى فرعونَ رسولا (المزّمِّل: 16)

فيقول: كيف يصح قولك هذا مع أننا نجد موسى، الذي كان بُعث إلى بني إسرائيل فقط، يدعو فرعونَ أيضًا إلى الإيمان، مع أن فرعون ما كان من الإسرائيليين؟والجواب أن كلمة الأمة تعني قبيلة معينة حينًا، وأهلَ بلد حينًا آخر. فمثلاً كان يعيش في الهند قبائل عديدة، وكان النبي المبعوث فيهم يرسَل إلى كل الشعب الهندي، وليس إلى قبيلة معينة منه فقط مثل البراهمة أو الراجبوت وغيرهما. ذلك أن القبائل القاطنة في منطقة واحدة تُعتبر قومًا واحدًا دونما حرج. ولما كان سيدنا موسى مرتبطًا بفرعون وقومه بحكم السلطة والسياسة والقانون والمدَنية، فلذلك اعتُبر المصريون والإسرائيليون كلهم أمةً واحدة فيما يتعلق بالرسالة الموسوية. ولكن ما كان موسى مرتبطًا بالجن حكمًا أو سياسة أو قانونًا أو مدَنيةً، حتى يؤمَر الجنُّ بالإيمان به.

قد يقال هنا: لا شك أن موسى قد أُرسل إلى بني إسرائيل والمصريين العائشين معهم، ولكن الجن آمنوا بموسى برغبتهم الذاتية. ولكن هذا القول أيضًا غير سليم، ذلك أن الإنجيل قد سجل حادثًا للمسيح يكشف لنا أنه لم يسمح للأمم الأخرى حتى بالانضمام إلى جماعته، بل لما طلب منه شخص من قوم آخر أن ينشر دعوته في قومه رفض المسيح طلبه قائلا: “ليس حسنًا أن يؤخَذ خبز البنين ويُطرَح للكلاب.” (متى 15: 26)

فقد ثبت أنه ما كان لهؤلاء الجن أن يؤمنوا بموسى برغبتهم الذاتية، إذ لو كانوا مكلَّفين بالشرع أصلاً لكان من واجبهم – وفق نصوص القرآن – أن يؤمنوا فقط بمن يُبعث من أنفسهم، لا أن يؤمنوا بموسى الذي لم يكن من الجن.وبالاختصار فإن الآيات والأحاديث المذكورة أعلاه تؤكد أنه لو كان الجن مكلَّفين بالشرع لكان لزامًا – ولو قبل النبي على الأقل – أن يُبعَث لهم رسولٌ من أنفسهم، بل أكثر من رسول مستقل لكل قبيلة من قبائلهم المختلفة.

الدليل السابع: يأمر الله تعالى رسوله أن يعلن للعالم:

يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا (الأعراف: 159).

فلم يذكر الله هنا الجنَّ ضمن مَن كانت الرسالة المحمدية موجَّهةً إليهم. فلو كان الجن كائنات أخرى من واجبها أو مِن حقها أن تصدق الرسالة المحمدية لكانت العبارة كالآتي: (يا أيها الناس والجن إني رسول الله إليكم جميعًا)، ولكن القرآن الكريم لم يسجل إعلانًا إلهيًّا كهذا في أي مكان. فثبت أن الجن الذين آمنوا بالرسول إنما كانوا – بحسب تصريح القرآن – من البشر، ولأجل ذلك كُلّفوا بتصديقه .

الدليل الثامن: هناك آية أكثر وضوحًا هي

وما أرسَلْناكَ إلا كافّةً لِلناسِ (سبأ: 29).

علمًا أن كلمة “كافّة” مشتقةٌ من الكفّ الذي معناه الجمعُ والمنع، وهكذا تعني هذه الآية: إنما بعثناك لكي تجمع الناس ولا تترك أيًّا من البشر خارجًا عن نطاق دعوتك. فالآية صريحة في إعلانها أن محمدًا إنما بُعث لجمع البشر فقط، فكيف إذنْ يصحّ زعم البعض أن هناك كائنات أخرى مكلَّفة بتصديقه . الحق أن لا أحد من البشر خارج عن دائرة دعوته ، كما ليس هناك سوى البشر كائن هو مكلّف بالإيمان به . مما يؤكد أن الجن المؤمنين المذكورين في القرآن الكريم ما كانوا إلا من البشر.

وأعود لأوجز الحديث هنا مرة أخرى فأقول: إن كلمة “الجن” قد وردت في القرآن الكريم في عدة معانٍ منها:

1- كل كائن خفي غير مرئي لأعيننا من قبيل الشيطان. هذه الكائنات الخفية تحض البشر على الشر كما تحث الملائكةُ على الخير، ولكن تأثير الملائكة يكون واسعًا، بينما يكون تأثير هذه الكائنات ضيق النطاق.. بمعنى أنها إنما تتغلب فقط على أولئك البشر الذين يميلون برغبتهم إلى الأفكار الشريرة. وقد تسمَّى هذه الكائنات شياطين أيضًا.

2- سكان الكهوف..أي أولئك البشر الذين عاشوا ما قبل صلاحية الإنسان لتلقي الوحي، والذين كانوا يقيمون تحت الأرض في المغارات والكهوف، وما كانوا ملتزمين بأي نظام أو قانون. ولكن القرآن الكريم توسّع في هذا الاستخدام فاخترع اصطلاحًا جديدًا، حيث أطلق كلمة “الإنسان” على من يميل إلى الطاعة والانقياد من البشر، وكلمةَ “الجن” على البشر الذين طبعائهم نارية ثائرة، فلا يخضعون للنظام والقانون.

3- سكان المناطق الشمالية الغربية مثل أوروبا وغيرها الذين كانوا شبه منعزلين عن أهل الجنوب من آسيا وغيرها، وكان من المقدر لهم أن يحققوا ازدهارًا ماديًّا مدهشًا، وأن يتمردوا على الدين بشكل محير. وقد ذكرتهم سورةُ “الرحمن”.

4- أجانب من أهل الشعوب والأديان الأخرى الذين اعتبرهم البعض- مثل الهندوس واليهود – كائنات غريبة. وبحسب هذا الاعتقاد السائد لدى هؤلاء قد أطلق عليهم القرآنُ هذه التسمية، كمثل الجن الذين عملوا لسليمان ، أو الذين آمنوا بالنبي .

وعندي أن الجن الذين ورد عنهم أنهم يدخلون النار فإنهم أصحاب الطبائع النارية من البشر أنفسهم الذين لا يخضعون للنظام والقانون، ولا يقبلون أي شرع أو دين. وأما الناس الذين ورد عنهم أنهم يدخلون النار فإنهم أولئك الكفار الذين يكونون منتمين إلى دين من الأديان. أو المراد من “الجن” هنا سكانُ المناطق الشمالية الغربية، وأما “الإنس” فهم أهل الجنوب والشرق، مثلما كان هؤلاء معروفين بهذه الأسماء.

وأما قولـه تعالى في الآية التي نحن بصدد تفسيرها

والجانَّ خلقناه مِن قبلُ مِن نارِ السَّمومِ

فيعني أن أولئك البشر – الذين نسمّيهم هنا الجن – كانوا ذوي طبائع نارية.. بمعنى أنهم كانوا يستشيطون غضبًا بسرعة، ولا يطيعون النظام بسهولة. وبالفعل هكذا كانت حالة البشر قبل آدم . لقد كان آدم أولَّ إنسان حقق الكمال في الأخلاق والمدَنية، ولذلك صار أولَّ إنسان تلقى الوحي الذي هو ذو صلة وثيقة بالأخلاق والحضارة. فالذين تبعوا هذا الداعي إلى النظام والمدَنية بحيث قضوا على أهوائهم النفسانية، ورسموا نقوشَ طاعة الله على ألواح قلوبهم، فسُمّوا أصحاب الطبائع الطينية، لأن الطين يقبل التشكل والنقش. وأما الذين آثروا الحرية الفردية على طاعة النظام والقانون فسُمّوا أصحاب الطبائع النارية.. بمعنى أنهم تمردوا مثل شعلة النار التي تأبى أن يسيطر عليها أحد. وبما أنهم كانوا يبيتون مختفين تحت سطح الأرض فلذلك سُمّوا بالجن أيضًا.

ولو قيل: كيف تقول إن الجن هنا يعني أصحاب الطبائع النارية من البشر مع أن الله يعلن هنا صراحة:

والجانَّ خلقناه مِن قبلُ مِن نارِ السَّمومِ ..

أي أن الجن قد خُلقوا من النار؟ فالجواب أن الله يعلن أيضًا في موضع آخر:

خُلق الإنسان من عَجَلٍ (الأنبياء: 38)،

ومعناه حرفيًّا: أنه خُلِقَ مِن العجلة. وقد قال أصحاب البصيرة النافذة من المفسرين: معناه أن الإنسان مطبوع على العجلة، أي يتعجل في طلب كثير من الأشياء التي تضره، كما قال الله تعالى:

وكان الإنسان عَجولا .

وتقول العرب للذي يكثُر مِنه الشيءُ: خُلِقْتَ منه، وكما تقول: خُلِقتَ مِن تَعَبٍ، وخُلِقْتَ مِن غَضَبٍ، تريد المبالغة في وصفه بذلك. (فتح البيان، والبغوي) وكذلك يقول الله تعالى في موضع آخر:

اللهُ الذي خلَقكم مِن ضعفٍ (الروم: 55)..

أي أن الإنسان عند ولادته يكون ضعيفًا ويحتاج إلى مساعدة الآخرين. ولا أحد يفسر كلمة “الضعف” هنا بأنها مادة كالتراب أو الخشب يُخلق منها الإنسان!

وقبل إنهاء تعليقي هذا أود أن أضيف أن كثيرًا من الأسلاف يتفقون معي – على الأقل – في أنه لا وجود للجن الذين يمكن أن يقابلوا الناس ويركبوهم ويعطّلوا عقولهم ويسخّروهم في بعض الأعمال، كما تزعم العامة. فقد كتب العلامة أبو حيان: “قال الجبائي: هذه الآية تدل على بطلان قول من زعم أن الشيطان والجن يمكنهم صرع الناس وإزالة عقولهم، كما تقول العامة، وربما نسبوا ذلك إلى السحرة. قال: وذلك خلاف ما نص الله تعالى عليه.” (البحر المحيط، سورة الحِجر، قوله تعالى: إلا عبادَك منهم المخلَصين).

ولو قيل: إن بعضا من الأسلاف قد ذكروا رؤية الجن، فالجواب أن ما رأوه كان من قبيل الكشوف التي تعني رؤية بعض المشاهد في عالم المجاز والتمثيل، وهذا ليس بأمر مستبعَد. ولكن لما حكى هؤلاء كشوفَهم للناس اعتبر العامة منهم هذه الكائنات التمثيلية كائنات حقيقية، مغترّين بما كان شائعًا بينهم من عقائد خاطئة عن الجن، وكذلك بسبب ورود هذه الكلمة في القرآن الكريم.

وأما عن خبرتي الشخصية فقد تلقيت في مختلف الأوقات كثيرًا من الرسائل التي قال لي أصحابها إن الجن يقتحمون بيوتهم ويعيثون فيها الفساد. وفي كل مرة اقترحتُ على صاحب الرسالة أنني مستعد أن آتي إليك لتحري الأحوال بنفسى وعلى مسئوليتي ونفقتي، ولكنني استلمتُ في كل مرة جوابًا واحدًا بأن الجن قد توقفوا الآن عن مداهمة البيت، أو أنهم قد هربوا من البيت ببركة رسالتِك أو رسولِك الذي أتى بها.

وعندي أن ما رأوه كان من قبيل أعراض بعض الأمراض العصبية التي كانوا مصابين بها، وبما أنهم اطمأنوا بمجيء رسالتي أو رسولي فلذلك زالت عنهم الحالة العصبية الطارئة.

وبعد قولي هذا لو مر أحد باختبار مع هذا الكائن فليخبرني فإني لا أزال جاهزًا لتحري الحقيقة على نفقتي الخاصة.

لقد كان آدم أولَّ إنسان حقق الكمال في الأخلاق والمدَنية، ولذلك صار أولَّ إنسان تلقى الوحي الذي هو ذو صلة وثيقة بالأخلاق والحضارة.

غير أن ما فهمتُ بناء على كثير من الأدلة القرآنية هو أن عقيدة عامة الناس عن الجن التي تقول بأنهم يتصلون بالبشر ويعملون لهم المستحيل فهي ليست إلا ضربًا من الوهم، أو من قبيل شعوذة بعض السحرة، التي لا يستطيع العامة أن يعرفوا مصدرها، فيعزونها إلى الجن. إنني ملمٌّ بهذا العلم وأعرف الكثير من الحيل التي يلجأ إليها هؤلاء المشعوذون.

غير أنني لا أنكر أن الإنسان ربما كان في البداية كائنًا ناريًّا، ثم بتأثير التقلبات الجوية والزمنية تطوَّرَ إلى كائن طيني، بمعنى أنه بعد هذا التحول كان أساس خَلقه على ما تُنتجه الأرض؛ وكان آدم سيدًا لأوائل هذه الكائنات. وهذا ليس بأمر مستبعَد، بل إن علم الجيولوجيا أيضًا يؤكد أن الأرض في بدايتها كانت كرة نارية ملتهبة، وأن قشرتها الترابية خُلقت فيما بعد. فلا يُستبعد أن تكون بداية خلق الإنسان من النار قبل المرحلة الترابية من خلقه. ولكن كل هذه الأمور لا تخرج عن حد التخمين، ويستحيل الجزم بها، لذلك لا أكتب عنها أكثر. وهناك جزء من هذا الموضوع ذُكر في قصة آدم مع إبليس في تفسير سورة البقرة، فليرجع إليه من أراد.

Share via
تابعونا على الفايس بوك