{عسى الله أن يأْتيني بِهِم جميعا} (يوسف: 83)
  • لم يكتفي إخوة يوسف بقلته ماديا بل ارادو قتله أخلاقيا واتهموه بالسرقة هو وبنيامين اخوه.
  • لا نتردد في الجماعة على الاستشهاد ن ببعض ماورد في التوراة من أحداث شريطة أن تكون منسجمة مع العقل وموافقة للتاريخ المتعارف عليه ومنسجمة مع  القرآن الكريم.
  • لقد وثِق سيدنا يعقوب بابنه يهوذا وعهد له ببنيامين وصبر على فراقه وثقا من أن الله سيرجعه ويوسف.
__
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَالله أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (يوسف: 78)

شرح الكلمات:

شرٌّ مكانًا: المكان: الموضع. ويقال: كان من العلم والعقل بمكان، أي رتبة ومنزلة (الأقرب).

التفسـير:

إن الجريمة تشجع حتمًا على المزيد من الجرائم. لقد همَّ إخوة يوسف في البداية بقتله قتلاًمادياً، أما الآن فيريدون قتله أخلاقيًا. فانظروا كيف يقولون بكل جسارة: إن سرق بنيامين فلا غرابةَ في ذلك فقد سبق أن ارتكب أخوه يوسف نفس الجريمة. ويتضح من قولهم هذا أنهم لم يكونوا قد تابوا توبة صادقة إلى ذلك الحين.

فإن طعنهم في القرآن -بناءً على مثل هذا الكتاب المحرّف- مَثار للعجب حقّاً. مما لا شك فيه أننا نستشهد ببعض ما ورد في التوراة من أحداث ولكن شريطة أن تكون منسجمة مع العقل وموافقة للتواريخ الأخرى أو القرآن الكريم…

إنه لمما يثير الحيرة والدهشة أن المفسرين شرعوا يبحثون عن سرقةٍ ليوسف مصدقين قول إخوته هذا، بدلاً من رفضه وتكذيبه، حتى كتب بعضهم أنه كان يسرق الأشياء من بيت عمته (الدُر المنثور). سبحانك اللهم، إنْ هذا إلا بهتان عظيم!

يصعب على المرء تقدير الآلام والمعاناة التي عالجها سيدنا يوسف من قولهم هذا، ولكنه-رغم قدرته عليهم- لزم الصمت، كاظماً غيظه ومتأسفًا على حالهم.

ما أعظم شأنه وأرفع مكانته. فكم من امرئ يصرعه الغضب مع أنه لا يملك قدرة ولا غلبة على غيره، ولكننا نجد سيدنا يوسف رغم مقدرته على عقاب إخوته صبَرَ على ما وجّهوه إليه من تهمة منكرة. هذه هي الأخلاق التي يصل المؤمن المتحلّي بها إلى الدرجات العلى.

قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْـخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَـدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسـِنِينَ   (يوسف: 79)

شرح الكلمات:

مكانَه: يقال هذا مكان هذا أي بدله (الأقرب).

 التفسـير:

يا لقسوة قلوبهم المتحجرة! لقد اتهموا أخاهم من قبل بالسرقة، والآن يحتقرون أخاهم الآخر حيث ينفون صلتهم به، وكأنه ليس أخاهم، ولم يحاولوا أن يتوسلوا له عند العزيز قائلين: أيها العزيز، اغفرْ لأخينا هذا فإن لنا أباً شيخًا كبيرًا، بل قالوا إن له أبًا شيخًا كبيرًا ، وكأنهم بسبب حماسهم وحميتهم رأوا من العار أن ينتسبوا إلى يعقوب الذي أنجب السارقين كيوسف وبنيامين!

قَالَ مَعَاذَ الله أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعـَنَا عِنْـدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُـونَ   (يوسف: 80)

شرح الكلمات:

معاذَ الله: معاذَ الله ومعاذَ وجهِ الله أي أعوذ بالله أو بوجه الله معاذًا (الأقرب).

التفسـير:

إن هذه الآية تمثل دحضًا لعقيدة الكفَّارة المسيحية، حيث يقول سيدنا يوسف إنه لظلم أن نُلقي في غياهب السجن شخصًا بريئاً -وإن رضي بذلك- بدلاً من المجرم. ولكن النصارى يقولون بأن المسيح صُلب عن رضىً ورغبة منه، فصار كفارة لخطايانا. (تفسير جروم للتوراة ج2 ص167). ولكن التوراة نفسها ترفض حتى مثل هذه الكفارة، حيث جاء فيها أن إخوة يوسف حينما عرضوا على العزيز أن يأخذ أحدهم مكان بنيامين ردّ عليهم قائلاً: “حاشا لي أن أفعل هذا. الرجل الذي وُجد الطّاس في يده هو يكون لي عبدًا” (التكوين 44: 17).

فثبت أن التوراة أيضًا لا تجيز معاقبة البريء مكان المجرم- وإن رضي بذلك الأول- وتعتبره ظلمًا صارخًا.

فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ الله وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ الله لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ   (يوسف: 81)

 شرح الكلمات:

إستيأسوا: يئِسَ: قنَطَ، واستيأس بمعنى يأس (الأقرب).

خلصوا: خلصَ إليه وبه الشيء: وصل (الأقرب).

نجيّاً: النجيُّ: السِرُّ؛ من تُسارُّه. وقد يكون للجمع أيضاً مثل الصديق. ومنه خلصوا نجيّا أي متناجين. وقال الفراء: قد يكون النجيُّ والنجوى اسماً ومصدراً.والنجيُّ: المحدِّث؛ السريعُ (الأقرب) وقال صاحـب المفـردات: خلصوا نجيًّا أي انفـردوا خالصين عن غيرهـم.

كبيرهم: يقال فلان كبيرٌ أي مسن. وقوله تعالى إنه لكبيركم الذي علّمكم السحر أي رئيسكم (المفردات).

موثقًا: الميثاق: عقد مؤكد بيمين وعهد، والموثق الاسم منه (المفردات).

فرَّطتم: فرّط الشيءَ وفيه: ضيّعه وقدّم العَجَزَ فيه. فرّط في الشيء: قصّر فيه (الأقرب).

لن أبـرحَ: ما برحَ فـلانٌ كريماً: أي بقـي على كـرمه (الأقـرب).

 التفسـير:

هؤلاء الذين اتهموا يوسف بالسرقة اعترفوا صراحة بجريمتهم المشتركة ضد يوسف على انفراد. سبحان الله، ما أعظم قدرته. فإنه كتب ليوسف رفعةً فاقت تصوراتهم، ففشلوا في معرفته، إذ لو عرفوه لما تجاسروا على هذا الاتهام.

أما (كبيرهم) الذي ذكّرهم بجرائمهم فيبدو أنه كان في قلبه شيء من خشية الله تعالى، إذ يخوّفهم من الغدر بأبيهم، كما يعبّر عن عزيمته على الوفاء بالعهد الذي قطعه مع أبيه حيث قال: فلن أبرح الأرضَ حتى يأذن لي أبي أو يحكمَ الله لي . ربمّا قصد بقوله أو يحكم الله لي أن يطلق سراح بنيامين بتدبير من الغيب فيرجع به إلى الوطن.

كان رأوبين أكبرَ إخوة يوسف ، وأما الذي رفض العودة إلى البيت فهو يهوذا الذي كان الرابع بين إخوته سِنًّا بحسب ما ورد في التوراة (التكوين 29و44). وقد طعن بعض الكتاب المسيحيين في القرآن بأنه قد أخطأ في قوله وقال كبيرهم حيث نسب هذا الرفض إلى رأوبين بدلاً من يهوذا الذي قال هذا الكلام في الواقع! مما يدل أن مؤلف القرآن كان جاهلاً بالتاريخ (تفسير وهيري).

إنني لأتعجب دائمًا على مثل هذه المطاعن من قبل المسيحيين، حيث يعرضون التوراة وكأنها أكثر الكتب السماوية ثقةً وسندًا في بيان القضايا التاريخية. والحق أن الكتب المسيحية نفسها زاخرةٌ بأدلة تدحض هذا الزعم وتسقط ثقة التوراة في مجال التاريخ إلى حدٍّ كبير. دعوا التاريخ القديم جانباً، فإن ما ورد فيها عن رحلات موسى من أحداث لا يثق بها حتى الباحثون المسيحيون أنفسهم، وقد برهنوا على زيفها وبطلانها بأدلة مستقاة من الأحوال الجغرافية والتواريخ الأخرى لتلك العصور بل ومن الشهادات الداخلية من التوراة نفسها. فإن طعنهم في القرآن -بناءً على مثل هذا الكتاب المحرّف- مَثار للعجب حقًّا. مما لا شك فيه أننا نستشهد ببعض ما ورد في التوراة من أحداث ولكن شريطة أن تكون منسجمة مع العقل وموافقة للتواريخ الأخرى أو القرآن الكريم، لأن التوراة قد عبثت بها أيدي المحرفين بحيث لا يمكن اعتبار التاريخ المذكور فيها تاريخاً محفوظاً مصونًا. فلا يجوز إذن لأحد – بناء على بيان التوراة- الطعنُ في القرآن الكريم، خاصة وأن البحوث الحديثة قد أكدت على ما ذكره القرآن من أحداث التاريخ اليهودي، كعبادة العجل وصيانة جثة فرعون بعد الغرق، بينما أثبتت هذه البحوث بطلان بيان التوراة في هذه الأمور.

هذا وإذا سلمنا جدلاً بصحة بيان التوراة في هذه القضية فهذا أيضا لا يقدح في القرآن لأنه قال كبيرهم ولم يقل “أكبرهم”، ولا مانع من اعتبار الابن الرابع من الإثني عشر من أبناء يعقوب “كبيرهم” وإن لم يكن أكبرهم. إذ نستطيع التوفيق بين بيان المصدرين بكل سهولة، ذلك أن نأخذ كلمة كبيرهم   بمعنى الكبير درجةً لا الكبير سناً، وسبق أن أثبت في تفسير قوله تعالى قال لن أرسله معكم حتى تؤتونِ موثقاً من الله أن سيدنا يعقوب كان يثق بيهوذا -الابن الرابع سناً- أكثر من رأوبين -الابن الأكبر سناً، إذ لم يرسل بنيامين معهم إلاّ بضمان من يهوذا، ولذلك كله يجب اعتباره “كبيرهم”.

ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (يوسف: 82)

  التفسـير:

لقد قال بعض المفسرين بأن هذا قول يوسف ، ولكنني لم  أفهم كيف نسبوا هذا القول إليه، لأن السياق لا يؤيد رأيهم. أرى أن الآية تتمة لقول “كبيرهم”.

وأما قوله وما كنا للغيب حافظين فيمكن تفسيره بمعنيين؛ الأول: لا نعرف بالضبط حقيقة الأمر، بل نحكي لك ما رأيناه. والثاني: أن يكون كلامهم هذا في شأن موثقهم الذي آتوه، والمعنى: عندما آتيناك الموثق لم نأخذ في الحسبان أنه يمكن أن نأتيك بمثل هذا الخبر، وإنما عاهدناك حينئذ بنية طيبة.

وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ   (يوسف: 83)

شرح الكلمات:

القرية: اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس، وللناس جميعاً، ويستعمل في كل واحد منهما. قال تعالى واسْأل القرية قال كثير من المفسرين: معناه أهل القرية. وقال بعضهم: بل القرية ههنا القوم أنفسهم (المفردات).

التفسـير:

انظروا كيف أن الصدق يشحن صاحبه قوة ويغير نبرة حديثه تماماً. فإنهم عندما جاءوا أباهم بحديث كذبٍ عن موت يوسف كانوا مترددين في التأكيد على قولهم، أما الآن فكيف يقصون على أبيهم خبر بنيامين بكل ثقة وشجاعة ليؤكدوا له صدقهم حتى إنهم يقدّمون شهادة الآخرين.

قالوا: اسأل القرية (أي مصر)، والعير (أي الحمير)، بدلاً من أن يقولوا أهل القرية وأهل القافلة وأصحاب العير، وذلك تأكيدًا وتنبيهًا كعادة العرب، والمراد: اسألْ أيَّ فرد من القرية والقافلة، فكل صغير وكبير منهم يعرف الحكاية، وسوف يصدقنا فيما نقول.

قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى الله أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (يوسف: 84)

شرح الكلمات:

سوّلت: سوّلت له نفسه كذا: زيّنته له وسهّلته له وهوّنته (الأقرب). التسويل: تزيين النفس لما تحرص عليه وتصوير القبيح منه بصورة الحسن منه (المفردات).

التفسـير:

لقد حذف القرآن هنا-كعادته- الأمور الهامشية من أن إخوته رجعوا إلى أبيهم وقصّوا عليه الحادث، واكتفى بذكر جواب يعقوب رأساً. ذلك أن القرآن ليس كتاباً تاريخيا، ولذلك يترك الزوائد، مركّزاً على المعنى المُراد تنبيهاً للقارئ إلى الدرس الذي يريد تلقينه إياه.

لقد أجابهم يعقوب أن أهواءكم النفسانية قد زينت لكم السيئة. ولم يرد بقوله هذا تكذيبهم في ادعائهم بأن بنيامين قد حُبس، بل يعني أن عداءَكم لبنيامين دفعكم لتصدّقوا ما اتُّهم به من السرقة، كان من واجبكم أن لا تسيئوا به الظن، وتقولوا: إنه لم يسرق شيئاً بل كل ما جرى له كان سببه سوء الفهم.

اعتقاده بحياة يوسف وأنه ليس بعزيز على الله تعالى أن يأتي به وبأَخَويه بنيامين ويهوذا جميعًا. ويتبين من قوله هذا أنه كان متأثراً بوفاء يهوذا، لما آتاه من قول وعهد، ولذلك نجد أن قلبه بدأ يلتاع على فراقه ويتألم.

وأشار سيدنا يعقوب بقوله عسى الله أن يأتيني بهم جميعًا إلى اعتقاده بحياة يوسف وأنه ليس بعزيز على الله تعالى أن يأتي به وبأَخَويه بنيامين ويهوذا جميعًا. ويتبين من قوله هذا أنه كان متأثراً بوفاء يهوذا، لما آتاه من قول وعهد، ولذلك نجد أن قلبه بدأ يلتاع على فراقه ويتألم.

كما وضّح بقوله إنه هو العليم الحكيم أن الله العليم قد كشف لي الحقيقة، وأرى الآن أن كل ما فعل الله بنا كان لمصلحتنا، وأن ما قاسيناه من معاناة ومحنة كان في الواقع فاتحة خير وازدهار لأسرتنا جميعًا.

وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (يوسف: 85)

شرح الكلمات:

تولّى: تولّى عنه: أعرض وتركه (الأقرب).

إبيضّت عيناه: يُقال للمهموم: أظلمت عليه الدنيا وابيضت عيناه من الحزن (مجمع البحار). وبيّض السقاء: ملأه باللبن؛ أفرغ ما فيه وأراقه. والأبيضان: اللبن والماء. (التاج)

الحزن: خشونة في النفس لما يحصل فيها من الغم، ويضادّه: الفرح (المفردات).

كظيم: الكُظوم: احتباس النفس، ويُعبَّر به عن السكوت. كَظَمَ الغيظ: حبسه. كظم السقاء: شدّه بعد ملئه مانعاً لنفسه (المفردات). فالكظيم: من يملك غضبه.

التفسـير:

لقد اختلف المفسرون كثيراً في تفسير قوله تعالى وابيضت عيناه من الحزن ، حتى قال البعض بأن يعقوب أُصيب بالعمى، إذ غطى البياض عينيه. ثم اختلفوا في سبب بياضهما، فأرجعه بعضهم إلى البكاء طوال أربعين بل واحدة وثمانين سنة. بينما أرجعه الآخرون إلى تفاقم صدمته بفراق ابنه الثاني (فتح البيان).

والواقع أن كلمة (ابيضت) لا يُعبَّر بها أبداً عن عمى العينين، وإنما الحق أنهم حمّلوا الكلمة ما لا تحتمله أبداً. وحجتهم أنه ورد في القواميس معنى مجازيّ للبياض أيضًا حيث يقولون: بيّض السقاية: أفرغه، ومطاوعه ابيضَّ، فالمعنى عندهم أن عينيه جرتا بالدموع الغزيرة حتى فرغتا من البصارة.

ولكننا نقول: ما دامت كلمة (ابيضت) لا تعني العمى، فلماذا لا نأخذ بالمعنى المجازي الآخر وهو قولهم “بيّض السقاء” ملأه بالماء أو اللبن، خاصة وأنهم يطلقون عليهما أي على الماء واللبن كلمة “الأبيضان”، فالمراد من ابيضّت عيناه نظرًا إلى هذا المعنى: امتلأت عيناه من الماء أي الدمع. أو نأخذها بمعنى مجازيّ سامٍ آخر للبياض ألا وهو البريق واللمعان. والمراد أنه برقت عيناه من الغم، وحصول البريق فيهما عند الغم أمر طبيعي شريطةَ أن لا تطول فترة الهم. والأدباء يعبّرون عن هذا المعنى باستخدام كلمات كهذه، حيث يقولون لاحت في عينيه بارقة أمل. فالمعنى أن عينيه لمعتا عندما حلت به الفاجعة الجديدة، أو عندما أحسّ بأن الهم قد بلغ منتهاه وأن الفرج موشك وأن رحمة الله قريبة.

الحق أن كلمة ابيضت عيناه من الحزن تعبير عن شدة الغم والحزن كما ذُكر في شرح الكلمات. فمن فسّرها بما يخالف هذا المعنى الصريح فقد أبعد النجعة، الأمر الذي لا حاجة له بالقرآن الكريم. خاصة وأن الله تعالى يقول بعد ذلك مباشرة وهو كظيم أي أن يعقوب نجح في ضبط نفسه ولم يستطع الهم أن يصرعه. فكيف نسلم إذن بأن حضرته ضيّع بصره من شدة البكاء. وكيف يكون كظيمًا من يضيع عينيه بالبكاء هكذا. فالواقع أننا ولو سلّمنا جدلاً أن كلمة (ابيضت عيناه) تعني لغةً فقدان البصر من شدة البكاء فلا ينسجم هذا المعنى هنا لوجود كلمة (كظيم).

ومن المحال أن يحزن أحد من أنبياء الله الكرام على مكروه حزناً يُشرف به على الهلاك. وإذا كان يعقوب يبكي هكذا بكاءً مستمرًا على الدوام فكيف أدى واجب تبليغ الرسالة. فيجب ألاّ نأخذ حتى من المعاني المجازية للكلمة إلاّ ما يتفق مع المكانة الرفيعة التي كان يحتلها سيدنا يعقوب ..

وبالإضافة إلى ذلك، فقد نقل القرآن قول يعقوب (فصبرٌ جميل).. أي سوف أضرب في الصبر مثالاً جميلاً يحتذى به. فلو كان قد أضاع بصره بالبكاء فكيف جاز له الادعاء بالصبر الجميل؟

وقد وضّح الحديث الشريف معنى “الصبر” بكل وضوح، حيث رُوي أن النبي مرَّ بامرأة وهي تبكي عند قبر ابنها. فقال لها: اتقِّي الله واصبري. فقالت: إليك عني، فإنك لا تعرف مصيبتي. فقال: لقد مات لي أحد عشر، ثم مضى النبي في سبيله. فقال لها رجلٌ: هذا رسول الله . فقالت متأسفة: لم أعرفه. وجاءت النبي تعتذر إليه وتقول: يا رسول الله ما عرفتك، سأصبر من الآن. فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى (البخاري،الأحكام). أي أن الصبر الحقيقي إنما هو ما يكون في بداية الصدمة، أما بعد مرور فترة فتهدأ العواطف وتسكن المشاعر وكل واحد يترك البكاء ويصمت. فالذي يبدي فزعاً وهلعًا ويولول عند الصدمة ولو لبضع ساعات ثم يسكت فلن يعدَّ من ذوي  الصبر الجميل. فكيف يمكن أن يدعي يعقوب الذي لم يزل باكياً لحوالي أربعين سنة بأنه صَبر صبراً جميلاً. الواقع أنه إذا بالغ المرء في الهم والحزن عند حلول الفجيعة، فسواء أبدى حزنه للناس أو لا فقد جزع وفزع، وهذا هو الأمر المنكر المنهي عنه.

ومن المحال أن يحزن أحد من أنبياء الله الكرام على مكروه حزناً يُشرف به على الهلاك. وإذا كان يعقوب يبكي هكذا بكاءً مستمرًا على الدوام فكيف أدى واجب تبليغ الرسالة. فيجب ألاّ نأخذ حتى من المعاني المجازية للكلمة إلاّ ما يتفق مع المكانة الرفيعة التي كان يحتلها سيدنا يعقوب ، ونرفض ما من شأنه أن يحطّ حتى من درجة المؤمن العادي.

Share via
تابعونا على الفايس بوك