خلفية تولي سيدنا يوسف منصب وزير الاقتصاد والخزانة
  • استخلاص الملك لسيدنا يوسف عليه السلام لنفسه لمعرفته أنه من الصادقين
  • ارتفاع شأن يوسف عليه السلام برحمة من الله تعالى تحقيقا للنبوءة التي تلقاها في الرؤيا.
__
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ الله لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (يوسف: 53)

  شرح الكلمات:

لم أخُنْه: خانه في كذا يخونه خونًا وخيانةً: اؤتُمن فلم ينصح. خان العهدَ: نقضه، يقال: خانه العهدَ والأمانة أي في العهد والأمانة، فهو خائن (الأقرب).

لا يهدي: الضلال فقدُ ما يوصِل إلى المطلوب، وتضادُّه الهداية (التاج). فالهداية معناها أن تتيسر للإنسان الأسباب إلى الغاية، ثم أن يصل بها إلى الهدف.

وقوله تعالى وإن الله لا يهدي كيد الخائنين أي لا ينفّذه ولا يصلحه (التاج).

التفسـير:

لقد اختلف المفسرون في تعيين صاحب هذا القول فَنَسَبَهُ البعض إلى امرأة العزيز، حيث قالت: لم أخن يوسف في غيابه. ولكن هذه الكلمة لا يمكن أن تتفوه بها تلك المرأة، لأنها كانت قد خانت بالفعل، ولذلك أؤيد من قال إن هذا من كلام يوسف، والمعنى: لم أخدعه ولم أخفِ عنه شيئًا، إذ كان من المحتم أن تُرفع القضية إلى الملك في يوم من الأيام، فيظن أني خدعته، بإخفاء حقيقة أمري عنه لأتبوأ هذا المنصب.

وقد يكون الضمير في(ليعلم) عائدًا على الملك، والضمير في (لم أخنهُ) عائدًا على العزيز، والمراد: ليعلم الملك أني لم أغدر بالعزيز الذى أحسن إليّ، لكي لا يظن أن هذا الذي قد غدر بمن أحسن إليه ربما يغدر بي أيضًا. ويبدو أن الله تعالى أخبر يوسف بالوحي أنه سوف يتقلد منصبًا عند الملك، فلذلك قام بتبرئة ساحته من الخيانة لكي لا يتهمه أحد بها أثناء وزارته للملك.

ولأبين للناس أن من يتولّى الله عصمتهم وحمايتهم لا يقدر أحد على إلقائهم في المعصية. أما فيما يتعلق بنفسي فإنني معترف بأن النفس البشرية لا تقدر على شيء دون رحمة الله، أي دون شرعه وهديه وفضله

وأما قوله تعالى وأن الله لا يهدي كيدَ الخائنين فليس المراد منه أن جميع الخائنين لا ينجحون، لأن الخائنين وردت هنا معرَّفةً  بـ “ال” التي هي للمعهود بالذكر، أي الخائنين الذين مرّ ذكرهم، ممن يعارضون عباد الله المصطفين. والمراد أن هؤلاء الخونة الذين  أساءوا إلى يوسف الذي اختاره الله لمهمة خاصة لا يمكن أن يفلحوا. فكم من خائن يقوم بأعمال الخيانة وينجح فيها، ولكن الذين يرتكبون الخيانة ضد من يصطفيهم الله لمهام عظيمة، لا يَدَعُ الله خيانتهم خفيةً، بل يهتك سترها ويفشلهم فيها.

وقد تكون (يهدي) بمعنى (ينصر) وتعني الجملة أن الله لا ينصر الخائنين. ذلك أن الله تعالى أيد يوسف ونصره بشكل خاص، إذ أَرَى الفتيين ثم المَلِكَ رؤىً كانت سببًا في رقيه، فيوسف يقدم هذا التأييد الإلهي ضد خصومه كدليل على براءة ساحته ويقول: إنه تعالى لم ينصرني بدون سبب، بل كنت على حق، فلذلك أيدني ونصرني.

وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (يوسف: 54)

 شرح الكلمات:

أمّارةٌ: الأمّار: الكثيرُ الأمر ومؤنثه أمّارة (الأقرب).

السوء: كل ما يغُمُّ الإنسان من الأمور الدنيوية والأُخروية ومن الأحوال النفسية والبدنية والخارجة من فوات مالٍ وجاهٍ وفقد حميم (المفردات).

 التفسـير:

ما أشدَّ ما تكون فطرة الأنبياء نقاءً وصفاءً. فسيدنا يوسف يصرّح هنا بأني لم أقصد بذلك التظاهرَ أمام الناس بصلاتي وطهارتي، وإنما فعلت ذلك لأكشف لهم  أن الله وحده هو المنـزه من كل نقص وعيب، وأنه لا يَدَع الخائنين الذين يناصبون رُسُلَهُ العداء لينجحوا في مكائدهم. فلم أفعل ما فعلته تعاليًا وتباهيًا، وإنما لإظهار عظمته وجلاله سبحانه وتعالى، ولأبين للناس أن من يتولّى الله عصمتهم وحمايتهم لا يقدر أحد على إلقائهم في المعصية. أما فيما يتعلق بنفسي فإنني معترف بأن النفس البشرية لا تقدر على شيء دون رحمة الله، أي دون شرعه وهديه وفضله ، بل إنها لا تنفك تأمر صاحبها بالسوء مرة بعد أخرى، وإنما هو نور الإلهام والوحي الذي يأخذه إلى الصراط المستقيم.

لقد صرّح القرآن في موضع آخر: الرحمن علّم القرآن أي أن كلام الله تعالى إنما ينـزل بسبب صفة الله الرحمن. فقوله إلاّ ما رحم ربي إشارة إلى الرحمة الإلهية. والمعنى أن الفطرة الإنسانية إذا لم يصحبها الوحي الإلهي تصبح كمن يمشي على قمة جبلٍ في ليلة حالكة السواد، فتبقى الفطرة محاصرةً بأنواع الأخطار وترتكب خطأً تلو الخطأ. أما إذا طلعت عليها شمس الوحي فعندئذٍ فقط تنفعها عيونها الباطنية.

ولقد ذكر القرآن الكريم حالتين أُخريين للنفس البشرية؛ الأولى النفس اللوّامة حيث قال ولا أُقسم بالنفس اللوامة (القيامة 3). والثانية النفس المطمئنة المذكورة في قوله تعالى: يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضيةً مرضيةً (الفجر 28و29). فالمراد من “النفس الأمارة بالسوء” الحالة البدائية للنفس البشرية عندما لا تكون قد ذاقت طعم الوحي الإلهي، ولا تكون وارثة لفضله .

واعلم أن الآية لا تعني أبداً أن النفس البشرية تعلّم صاحبها السوء والشر دوماً، لأن القرآن قد دحض هذا الزعم في نفس هذه الآية بقوله: إلا ما رحم ربي ، كما وليس المراد منها أن الإنسان يولد آثماً، إذ ليس الحديث عن ولادته، وإنما عن حالته بعد الولادة عندما تعلق به شوائب الدنيا الدنية. أما حالته عند الولادة فقد وصفها الله قائلاً: ونفسٍ وما سوّاها .. أي أننا نُقسم بالنفس وبما خلقناها عليه من جمالٍ وكمالٍ. فالواقع أن الله تعالى قد خلق نفس الإنسان بفطرةٍ بريئةٍ من أي عيب وإثم، ولكنه عندما يأتي إلى الدنيا يُلوّثها بتأثير الآخرين، أما إذا لم يعرّضها للتَلَوُّث تبقى بريئة سليمة من العيوب والنقائص. وبالاختصار فإن الآية لا تذكر حالة نفس الإنسان عند ولادته، وإنما تتحدث عمّا تكون عليه بعد أن تشوبها شوائب الدنيا.

أما قوله إلاّ ما رحم ربي فتقديره: إلاّ النفس التي رحمها ربي فإنها لا تأمر بالسوء.. أي النفس المطمئنة التي لا تأمر بالسوء أبداً. أو تكون (ما) بمعنى (من) والمراد إلاّ الذي يرحمه الله؛ أي أن الذين يرحمهم ربُّهم لا ينصاعون لنفوسهم الأمارة، أما غيرهم فيقعون فريسة لهجماتها.  أو أن تكون (إلاّ) استثناء منقطعاً، و(ما) مصدرية، والمراد أن الله ينقذ برحمته من يشاء. فكأن هذه المعاني الثلاثة تشير إلى ثلاث درجات يحوز عليها الناس:

أولاً: مَنْ تتطهر نفوسهم كلية فلا تأمرهم بالسوء أبدًا، وهم أصحاب الدرجة العليا.

وثانيًا: من ليسوا كمثلهم، وإنما تأمرهم نفوسهم بالسوء، لكنها لا تتغلب عليهم، وهم الحائزون على الدرجة الوسطى.

وثالثًا: من كانوا أدناهم درجةً، وهم الذين تأمرهم نفوسهم بالسوء كثيراً، فيخضعون لها، إلا أن رحمة الله الواسعة تتداركهم وتأخذ بأيديهم إلى التوبة والخلاص.

أما قوله إن ربي غفور رحيم فصرّح به يوسف إنما أنا عبدٌ لرب غفور رحيم، ومن واجبي أن أستر ذنوب الناس وأغفر لهم، ولكن القضية هنا كانت تمسُّ بعظمة الله وجلاله ولذلك لم أستطع السكوت.

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (يوسف: 55)

شرح الكلمـات:

أستخلِصْه: استخلصَ الرجل: اختصه بدُخْلُلِه (أي بسريرته). واستخلص الشيء: اختاره. (الأقرب)

مكين: مكُن فلانٌ عند السلطان مكانة: عظُم عنده وارتفع وصار ذا منـزلة. (الأقرب)

التفسـير:

لقد وجّه الملك بقوله هذا تأنيبًا لطيفًا للعزيز الذي كان يوسف في بيته، وكأنه يقول له: لِمَ لَم تُقدِّر هذا الشخص العظيم حق التقدير، فالآن سوف أقربه مني لينال حقه من التقدير والتكريم.

وكان هذا التقدير من الملك قبل اللقاء بيوسف، ولكنه عندما اجتمع به أُعجب به أكثر من ذي قبل، فقال له: ستحظى بمنزلة خاصة في بلاطي.

كما طمأنه بقوله: أمين أي أنني لم أشُّك قط في أمانتك، كما سنثق بك كل الثقة في المستقبل أيضًا.

لقد ورد في التوراة أن الملك قال ليوسف: أنه سَيَهَب له كل شيء إلاّ كرسيه وتاجه، وأعطاه  المركب التالي لمركبه، وأعلن في البلاد: أنه الحاكم الثاني عليها. (التكوين41: 40).

قَالَ اجْعَـلْنِي عَلَى خَـزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيـظٌ عَلِيمٌ (يوسف: 56)

التفسـير:

فكّر سيدنا يوسف أنه إذا صار رئيس وزراء الملك فسوف يقع في المشاكل كلّ يوم، وكذلك إذا توّلى غيرُه منصب وزارة المالية فقد يحسده هذا ويفسد الأمور الاقتصادية للبلاد عمدًا ليلقي باللائمة على يوسف ويقول: كان تعبير يوسف لرؤيا الملك باطلاً، ولذلك كلِّه أعرب يوسف للملك عن رغبته في أن يباشر بنفسه الإشراف على اقتصاد البلاد وخزينتها.

وهنا درسٌ يمكن أن نتلقنه من قول يوسف هذا، ألا وهو أنه إذا قام أحد بدراسة وتخطيط مشروع من المشاريع وكان أهلاً لتنفيذه فهو الأحق والأفضل للإشراف عليه ويجب أن يُعهدَ تنفيذُه إليه.

لقد اعترض البعض قائلاً: ليس من المستحب أن يطلب الإنسان منصباً من المناصب، فلماذا طلب سيدنا يوسف هذا المنصب؟ والجواب أنه لم يسأل منصباً في الواقع، وإنما تنازل عمّا استحقه لأن الملك كان يريد أن يقلّدَه منصب الوزارة العظمى، ولكنه اعتذر قائلاً: أوَدُّ أن تسمح لي بالإشراف على ما يتعلق بالمجاعة التي تهددنا.

وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ   (يوسف: 57)

شرح الكلمات:

يَتبوّأُ: تبوأَ المكان: اتخذه محلةً وأقام به (الأقرب).

أجر: الأجر: الثواب (الأقرب). الأجر والأُجرة ما يعود من ثواب العمل دنيويًا كان أو أخرويًا نحو قوله تعالى: إنْ أجري إلا على الله وقوله تعالى آتيناه أجره في الدنيا (المفردات).

التفسـير:

لقد ذكر الله تعالى هنا تمكينَ يوسف في الأرض وكذلك في الآية رقم (22)، ولكنه أردفه هنالك بقوله: لنعلّمه من تأويل الأحاديث إشارةً إلى أنه كان عليه عندئذٍ أن يمر بالمحن والاختبارات ليُسبَر غورُه، أما هنا فقد قال بعد ذكر التمكين نُصيب برحمتنا من نشاء ليبين أن زمن اختباره قد مضى وانتهى، فقد وهبنا له العزة ولن يتعرض بعدها لأي محنة، بل سوف يعيش دائمًا في ظل رحمتنا ونعمتنا.

ثم قال: ولا نضيع أجر المحسنين أي أن من كان محسنًا إلى الخلق لا يضاع أجره، وذلك كقوله تعالى وأما ما ينفع الناس فيمكثُ في الأرض (الرعد : 18).

لقد اعترض البعض قائلاً: ليس من المستحب أن يطلب الإنسان منصباً من المناصب، فلماذا طلب سيدنا يوسف هذا المنصب؟

ولكن كلمة (المحسنين) هنا قد تكون بمعنى خاص، أي المقرَّبون إلى الله الذين لهم صلة خاصة بربهم . فقد ورد في الحديث الشريف عن عائشة رضي الله عنها أن النبي سُئل: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد ربك كما ينبغي. وفي رواية أن شخصًا سأل النبي عن الإحسان فقال: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”. (البخاري،الإيمان).

   المماثلة الرابعة عشرة

كما أن إخوة يوسف بدأوا يحسدونه على ما كان يرى من مستقبل باهر عظيم، فطردوه من البيت ليُذل ويُخزى، ولكنّ الله أكرمه إكرامًا عظيمًا، كذلك قام الأعداء بطرد النبي من وطنه ليرى الخزيَ والهوان، ولكن الله تعالى زاده في المدينة عزًا وشرفًا.

إلا أنَّ هناك فارقًا، وهو أن العزة التي نالها سيدنا يوسف لم تكن بطريق مباشر بل بواسطة الملك، أما النبي فكرّمه الله تكريمًا مباشرًا، إذ آتاه حكومة مستقلة وجعله ملكًا على العرب. وهذا الفرق نفسه يوجد بين النبيين الكريمَين- عليهما السلام- مكانةً ومقامًا.

وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ    (يوسف: 58)

 التفسـير:

أي أننا نتفضل عليهم بنعم الدنيا أيضًا لكي يعرفوا أن الله لا يَدَع أنبياءه وأولياءه يذلّون ويخزون، ولكن الأجر الحقيقي هو ما يكون في الآخرة، لأنه أفضل من نعم الدنيا كلها.

وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ   (يوسف: 59)

شرح الكلمات:

دخلوا عليه: دخل البيت: ضدُّ خرج، ودخل على فلان: زاره (الأقرب).

منكرون: أنـكـره: جهِلـه (الأقرب).

 التفسـير:

قال المفسرون في قوله تعالى فعرفهم وهم له مُنكرون أنهم لم يعرفوا يوسف لأنهم طردوه عندما كان صغيرًا، أما الآن فكانت لحيته قد نبتت وهيئته قد تغيرت (تفسير الرازي).

ولكني أرى أن هذا ليس مما يستحق الذكر في القرآن الكريم، بل هو إشارة إلى ما قال إخوته عند التآمر عليه: يخلُ لكم وجهُ أبيكم وتكونوا من بعده قومًا صالحين . فكانوا يظنون أنهم إذا طردوا يوسف من بينهم فسوف يزدادون عزةً. ولكن ما حدث هو العكس، إذ ارتقى يوسف في سلم المجد والشرف سريعًا خلال فترة الغياب هذه، بينما لم يُكتب لهم أي رقي ولا أي ازدهار، فما استطاعوا أن يعرفوه.

المماثلة الخامسة عشرة

فكما أن إخوة يوسف لم يصدّقوا ما ناله من عز وشرف، كذلك انبهر قوم النبي مما حقّقه من رقي وازدهار. فعندما بَعث النبي الرسائل إلى الملوك وصلت رسالته إلى هرقل الإمبراطور الرومي بالشام، فتحيّر من قراءتها وسأل حاشيته: من هذا الذي يخاطبني بهذه الشجاعة؟  قالوا: هذا رجل من العرب يزعم أنه نبي. فأمرهم بالتحري عن أحوال النبي . وتزامن ذلك وجود أبي سفيان بالشام في ركب من تجار قريش، فأُحضر هو وأصحابه إلى مجلس الملك. وعندما عرف هرقل أن أبا سفيان زعيمهم قرّبه إليه وقال مخاطبًا أصحابه: إني سائل هذا عن ذلك الرجل، فإن كَذَبَني فكذِّبوه على الفور. ثم سأله عن النبي عدة أسئلة هامة، ولا يزال حوارهما يمثّل آية عظيمة خالدة على صدقه . ومما سأله: هل كان أحدٌ من آبائه ملِكًا حتى يقال: رجل يطلب مُلك أبيه؟ قال أبو سفيان: لا. قال: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال:لا. قال: فهل يغدر عهداً؟ قال: لا، ولكننا في مدة (أي فترةِ هدنة وصلح) لا ندري ما هو فاعل فيها- ويقول أبو سفيان: هذا كل ما استطعت أن أدسّه ضد النبي في حديثي مخافة أن يكذّبني أصحابي- فقال: أأشرافُ الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم. فقال هرقل: فإن كان ما تقوله حقاً فسيملك موضعَ قدميَّ هاتين. ذلك أنه كانت في الكتب السماوية أنباء بأن خاتم النبيين سوف يفتح بلاد الشام. فحينما قال هذا: ارتفعت الأصوات عنده وكثر الصخب.

فخرجَ أبو سفيان من عنده وقال لأصحابه متعجبًا: لقد أَمِرَ أَمرُ ابنِ أبي كبشةَ! إنه يخافه ملِكُ بني الأصفر (البخاري،الوحي). أي لم نعرف عظمة محمد  إلا الآن، فهو أعز وأكرم مما كنا نتصوره.

وأبوكبشة كان رجلاً من خزاعة خالف قريشًا في عبادة الأوثان، وبدأ في عبادة النجوم، وكانوا ينسبون النبي إلى أبي كبشة احتقارًا وازدراءً، حيث ترك دين آبائه، وكأنه  كان ابنًا روحانيًا لأبي كبشة.

وبالاختـصار لم يصحُ هؤلاء القرشيون من سباتهم إلا بعدما رأوا ما رأوه في الشام، وبدونه ما كانوا ليفطنوا -وهم في مكة- للمكانة السامية التي كان النبي حائزًا عليها. أما هو فكان يعرف قدرهم وحقيقتهم.

وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ* فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (يوسف: 60و61)

شرح الكلمات:

جهّزهم: جهّز القوم تجهيزًا إذا تكلّف بجهازهم للسفر. وتجهيز الغازي: تحميله وإعداد ما يحتاج إليه في غزوه. وجِهاز الميت والعروس والمسافر: ما يحتاجون إليه (التاج).

الكيلُ: كال الطعامَ كيلاً واكتاله بمعنىً واحد. واكتالوا على الناس أي اكتالوا منهم لأنفسهم. قال ثعلب: معناه: من الناس، وقال غيره: اكتلت عليه: أخذت منه. يقال: كال المعطي واكتال الآخذ وكَالَه طعامًا وكَاله له. والكيل والمِكْيَل: ما كيل به حديدًا كان أو خشبًا. وكال الدراهم: وزنَها. كل ما وُزِنَ فقد كِيْلَ (التاج).

التفسـير:

تقول التوراة بأن يوسف ظن أن إخوته جواسيس وهدّدهم قائلا: “أحضِروا أخاكم الصغير إليّ فأعرف أنكم لستم جواسيس بل أنتم أمناء” (التكوين 42: 34). ولكن القرآن يخبرنا أنه عاملهم معاملةً طيبةً وشجعهم على الحضور بأخيهم في المرة القادمة.

من الممكن أن يوسف عندما وجّه إليهم أسئلة كثيرة عن أبيه وأفراد العائلة الآخرين ليطمئن عليهم، ظنّ إخوته أنه يشك فيهم ويعتبرهم جواسيس، وإلاّ فلا يليق بنبي أن يتّهمهم بالجاسوسية وقد عرف أنهم إخوته، لأن هذا نوعٌ من الكذب. فالرأي عندي أن التوراة قد نقلت الظن الناشئ في نفوس إخوته، وليس الأمر الواقع. ثم إنه من غير المعقول أن يعتبرهم يوسف جواسيس إذا لم يُحضروا أخاهم الصغير.

قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (يوسف: 62)

شرح الكلمات:

سنراود: (انظر شرح الكلمات للآية رقم 24).

 التفسـير:

إن السيئة الواحدة تولِّد سيئاتٍ أخرى. فعندما اتبع إخوة يوسف سبيل الإثم فَسُدَت أفكارهم وقبُح حديثهم. انظروا إلى جسارتهم الوقحة إذ قالوا: سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون ، وكأنَّ يعقوب لم يكن  أباً لهم، فعقدوا العزم على خداعه وتسفيهه حتى يرسل معهم ابنه الصغير.

وَقَـالَ لِفِـتْيَانِـهِ اجْعَـلُوا بِضَـاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُـمْ يَعْرِفُـونَهَـا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّـهُمْ يَرْجِعُـونَ   (يوسف: 63)

 شرح الكلمات:

رحالهم: الرِحال جمع رَحْل، والرحلُ مركبٌ للبعير أصغر من القتب. والرحل ما تستصحبه من الأثـاث، وقـد يُطلـق على الوِعـاء كالعِدل والجراب (الأقرب).

 التفسـير:

تمسك يوسف بأهداب الصبر امتثالاً لأمر الله، مقاومًا الرقة الشديدة التي أخذت بمجامع قلبه برؤية إخوته بطبيعة الحال، إلاّ أن حبه الفطري دفعه ليُسدي إليهم معروفًا عند مغـادرتهم، فردّ إليـهم الثمـن الذي دفعـوه للصفقة.

وهذا لا يعني أنه خان في أموال الخزينة الملكية. كلاّ، فقد كان سيدنا يوسف يتقلد منصب الوزارة، ولا يصعب على الوزير أن يردّ إليهم مالهم ويدفع الثمن من جيبه نيابةً عنهم.

فقال هرقل: فإن كان ما تقوله حقاً فسيملك موضعَ قدميَّ هاتين.

هذا الحادث يكشف لنا أمرًا هامًا هو أن إصلاح الناس إنما يتأتّى بمعاملةٍ تكون ما بين الخوف والرجـاء. فإنه خوَّفهـم أولاً، والآن حبّبهـم إليه بهذه الهدية لكي يرجعوا إليه في كل حال.

أما قوله تعالى لعلهم يعرفونها فليس المراد منه أن يعرفوا بضاعتهم إذ البضاعة كانت لهم وكان لا بدّ أن يعرفوها، بل ضمير (ها) راجع إلى معاملته الطيبة لَهُم وإلى معروفه الذي صنعه بهم.

 المماثلة السادسة عشرة

لقد كان يوسف تواقًا للقاء إخوته مرة أخرى رغم كونهم أعداءً له، كذلك كان النبي حيث خاطبه الله تعالى وقال: لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين (الشعراء:4). فعلى الرغم من عِلمه بما يكنّ له أهل مكة من عداءٍ شديد فإنه لم يُرد هلاكهم، بل كان يتمنى دائمًا وبكل شدة وقوة أن ينضموا إليه مؤمنين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك