تحقق مرتين فقط في تاريخ الإنسانية
الآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (يونس: 92).

التفسـير:

إن الإيمان إنما ينفع في حالات معينة، أما إذا تبين الحق وحصحص فلا قيمة للإيمان عندئذ، لأن الثواب إنما يترتب على ما يبذله الإنسان من جهد وتضحية لأمر ما، أما الأمر الذي لا يكلّف فهمه جهدًا ولا عناء فلا يثاب عليه بشيء.

فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (يونس: 93)

 التفسـير:

إن الله تعالى يجزي الإنسان جزاءً حكيمًا. لقد آمن فرعون إيمانًا كان بمثابة قالبٍ بدون روح، فجزاه الله  بحسب هذا، حيث نجّى بدنه دون الروح، ليصير عبرةً لمن بعده.

أما قوله تعالى ننجّيك ببدَنك .. فاعلم أن القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الوحيد الذي يذكر نجاة جثة فرعون من الغرق، بينما التوراة لا تذكر شيئًا عن ذلك، ومِثلُها كتب التاريخ. ومَن أصدق من الله قِيلاً. فاليوم، وبعد مرور ثلاثة آلافٍ من السنين، قد عُثر على جثة فرعون “مِنِفَتاح” صاحب موسى، وهي محفوظة الآن في المتحف المصري بالقاهرة. وقد رأيته بأم عيني. إنها جثة شخص قصير القامة نحيف الجسم، تعلو وجهه ملامحُ الحَنَقِ والغضب والحمق. ما أبعد الشُقَّة الزَّمَنيّة بيننا وبينه، ومع ذلك فإن الله – جلّ شأنه – لم ينقذ جسمه من الفناء فحسب، بل أبقاه جثةً محفوظة إلى الآن، لتكون عبرة لمن بعده.

ما أقوى هذه الآية برهانًا على فضل القرآن الكريم. إذ يدّعي أهل التوراة أنها تسرد تاريخ العصر الموسوي وأن تدوينها قد تمّ في ذلك العصر (سفر الخروج: 11:1)، ولكن القرآن يأتي بعدها بحوالي ألفي سنة، ويكشف الستار عن أحداث من عصر التوراة بينما هي غافلة عنها. وليس هذا فحسب، بل إن الواقع يصدّق موقف القرآن مؤكدًا فضله وكماله على ما جاءت به التوراة.

لقد ذكر بعض المفسرين أن اسم فرعون موسى هو رعمسيس وليس منفتاح. ولكن هذا ليس بصحيح، لأن رعمسيس هو الذي تربّى موسى في بيته، أما الذي بُعث موسى نبيًا في زمن حكمه فهو ابنه الثاني مِنِفَتاح. والتوراة أيضًا تشير إلى ذلك، إذ وَرَدَ فيها أنه عند ولادة سيدنا موسى كان بنو إسرائيل مسخَّرين في بناء مدينة اسمها رعمسيس (الخروج 1). ويبدو من هذا أن اسم الملك الحاكم عندئذٍ هو رعمسيس الذي كان يبني مدينته باسمه. كما ورد في التوراة أيضًا أنه بعد وفاة هذا الملك بُعث سيدنا موسى نبيًا (الخروج 2). فالملك الذي أُرسل إليه موسى والذي تعرض للغرق هو مِنِفَتاح بن رعمسيس، وهذا ما تؤكده الموسوعة اليهودية أيضًا (انظر مجلد 8، كلمة Menephatah).

كما تعلّمنا الآية عدة دروس منها أنه يجب على الإنسان أن يبادر إلى فعل الخيرات، وكلما دُعي إلى حسنة عليه أن يسارع إليها.

والدرس الآخر هو أن الله تعالى لا يضيع شيئًا من عمل الإنسان مهما كان قليلاً أو ضئيلاً. انظروا إلى فرعون كيف يعلن إيمانه لحظة الموت فينال به من الله تعالى أمانًا لجثته على الأقل، وسينفعه إيمانه – ولو نفعًا قليلاً – طالما تمثل جثته عبرةً للآخرين ودافعًا لإيمانهم. ومن أجل ذلك كان حضرة الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي – رحمه الله – يرى أن الله تعالى سوف يُنجّي فرعون من عذاب الآخرة.(شرح القاشاني على فصوص الحِكم، ص322).

لقد كان بنو إسرائيل كلهم متفقين على أن نبيًا عظيمًا سوف يُبعث لهم، فلما جاءهم اختلفوا في أمره وكفروا به. وذلك كما يفعل المسلمون اليوم، إذ إنهم كانوا جميعاً يؤمنون بمجيء المسيح الموعود …. فلما جاءهم هذا الموعود كفروا به، بل قالوا بأن الأنباء التي تذكر ظهوره زائفة وبأنها روايات موضوعة.

وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (يونس: 94).

 شرح الكلمات:

مبوَّأ: اسم ظرف من بوّأه وبوّأ له منزلاً: هيّأه ومكّن له فيه (الأقرب).

صِدق: يعبَّر عن كل فعلٍ فاضل ظاهرًا وباطنًا بالصدق، فيضاف إليه ذلك الفعل الذي يوصف به نحو قوله (في مقعد صدقٍ) وقوله (أن لهم قَدَمَ صدقٍ) (المفردات).

التفسير:

قوله تعالى: ورزقناهم من الطيّبات .. اعلم أن الوحي الإلهي يأتي في المحل الأول بين كل ما رزقنا الله من طيبات، لأنه ينـزل من الله أطيبَ وأحلى ما يكون. وتعني الكلمة أيضًا الطيبات المادية، لأن بني إسرائيل كانوا مسخَّرين من قِبَل فرعون في مصر في صناعة اللَّبنِ وغيرها من الأعمال الطينية دون أن يعطيهم أجرة عليها، فكان من الصعب عليهم – والحال هذه – أن يتمتعوا هناك بهذه الطيبات، وربما كانوا يحصلون عليها بالسرقات، ولكنهم بعد خروجهم من مصر وجدوا الرزق الحلال الوفير.

أما قوله تعالى فما اختلفوا حتى جاءهم العلم فالمراد من العلم هنا القرآن وليس التوراة، إذ لم يكن هناك بين نزول التوراة وتشكيل أمة بني إسرائيل فاصل زمني يمكن أن يختلفوا فيه.

ولا تعني الآية بلوم اليهود على الاختلاف أن تفسير الوحي الإلهي بأكثر من معنى أمرٌ محظور، لأن هذا الزعم يتنافى مع ما ورد في القرآن نفسه في مواضع أخرى، وإنما المراد من الاختلاف هنا اختلافهم في شأن النبي . لقد كان بنو إسرائيل كلهم متفقين على أن نبيًا عظيمًا سوف يُبعث لهم، فلما جاءهم اختلفوا في أمره وكفروا به. وذلك كما يفعل المسلمون اليوم، إذ إنهم كانوا جميعاً يؤمنون بمجيء المسيح الموعود لإصلاح الأمة الإسلامية، وكانوا يصدّقون كل الأنباء المتعلقة بظهوره الواردة في القرآن الكريم والحديث الشريف، فلما جاءهم هذا الموعود كفروا به، بل قالوا بأن الأنباء التي تذكر ظهوره زائفة وبأنها روايات موضوعة.

وبالاختصار فإن المراد من اختلاف بني إسرائيل هنا هو اختلافهم حول تحقق الأنباء الخاصة بالنبي الموعود لهم. فما زالوا يؤمنون بها إلى أن ظهر النبي المصدِّق لما معهم من أنباء، فمنهم من اختلف في تلك الأنباء ومنهم من كفر بها نهائيًا.

ومما يدلّ على أن الاختلاف هنا يعني اختلافهم في القرآن الكريم لا في التوراة قول الله في الآية التالية فإنْ كنتَ في شك مما أنزلنا إليك.. أي: أيها المخاطَب بالقرآن، إذا كنت تشك في أمره فاسألْ هؤلاء القوم. وفعلاً كان اليهود ينتظرون بعثة نبي مثيل لموسى في العرب بفارغ الصبر، حتى إنّ كتب التاريخ لتشهد على أن بعضهم جاءوا واستوطنوا المدينة، ليكونوا أول المؤمنين به. فلما جاءهم صاروا له ألدّ الأعداء. (السيرة لابن هشام ج 1 بدءُ إسلام الأنصار).

فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّـكَ فَلَا تَكـُونَنَّ مِنَ الْمُـمْتَرِينَ (يونس: 95)

 التفسـير:

لا تعني الآية أن القرآن الكريم يولّد الشكوك في القلوب، وإنما المقصود ما يردده الكفار من اعتراض، إذ زعموا بأن القرآن يوقعهم في الشُبُهات. فردّ الله عليهم قائلاً: أيها المعترض، إذا كان هذا الكلام يسبّب الشكوك في قلبك – كما تزعم – فاسأل الذين قرأوه وانتفعوا به، لتعرف أنه يطهر القلوب وينير الباطن ويهب اليقين.

كما تبين الآية بكل وضوح وجلاء أن الكتاب السماوي وحده لا يكفي لهداية الناس، بل لا بد من معلّم يعلّمهم إياه، لأن معرفة العلوم الروحانية تتطلب تجربة روحانية ولو قليلة. فإذا درس الإنسان كتابًا سماويًا يجب أن لا يبتّ بنفسه في الأمور التي يساوره الشك فيها، بل عليه أن يستشير فيها أولي العلم بهذا الكتاب، لأنه إذا كان هذا كلامًا إلهيًا في الحقيقة فلا بد أن تنكشف مفاهيمه وفق ما يتمتع به القارئ من روحانية وقربٍ لدى الله سبحانه وتعالى.

لقد ظنّ البعض خطأً أن ضمير الخطاب هنا يرجع إلى الرسول وأصحابه، وأنهم هم الذين شكوا في الوحي القرآني، فأمرهم الله أن يسألوا في شأنه اليهود والنصارى.   ولكنه من المستحيل أن يكون هذا الكلام موجَّهًا إلى الرسول ، لأن الذي يتلقى وحي الله تعالى لا يمكن أن يَشُكّ في صحته. فلا جرم أن الخطاب هنا أيضًا موجه إلى الذين اختلفوا فيه. وقد سبق أن أَثبتُّ خطأ هذا الزعم بالبراهين، لأن الله تعالى قد أكّد إيمانهم القوي بصدق القرآن في موضع آخر بقوله قُل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتّبعني   (يوسف: 109). وبديهي أن المقتنع بالشيء على وجه البصيرة والخبرة لا يمكن أن يساوره الشك فيه.

كما أن الآية التالية أيضًا تدحض هذا الزعم الفاسد كليةً.

وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (يونس: 96 – 97)

 شرح الكلمات:

كلمات: الكَلِمة والكِلْمة: اللفظةُ؛ وكلُّ ما ينطق به الإنسان مفردًا كان أو مركبًا. وتُطلقَ الكلمة على الخطبة والقصيدة. والعشرُ كلماتٍ: وصايا الله العشر. (الأقرب).

التفسـير:

الكلمة هنا تعني الوعيد بالعذاب، والمراد من الآية أن الذين استوجبوا الإنذار بالعذاب ثم لم يسعوا للنجاة منه فإنهم لن يؤمنوا أبدًا. والآية تؤكد أنه كلما يخبر القرآن الكريم أن الكفار لن يؤمنوا فإنما يريد به فقط الكفار الذين لا ينتفعون من الإنذار، وليس جميع الكفار.

وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (يونس: 98)

التفسـير:

تصرح الآية أن الذين لا يريدون الانتفاع بالحق الذي ينـزل على رسل الله سبحانه وتعالى لا تنفعهم الآيات النازلة من عند الله شيئًا، بل إنّ كبرى المعجزات تصبح في نظرهم  خدعةً وشعوذة. إذن، فلا عبرة ولا قيمة لما يردّده أعداء أي نبي من أنه لم يُرهم آية ولا معجزة، وإلا لكانوا قد آمنوا به، وإن كان هؤلاء المعارضون جهابذة ونوابغ في العلوم. بل يجب على كل إنسان أن يتخذ بنفسـه القرار في أمر النبي بعد التدبر الكافي في أمره، وبعد قياسه على سنة الأنـبياء الآخـرين وأحـوالهم، حتى لا يُحـرَم من قـبول الحـق.

فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِين (يونس: 99)

 شرح الكلمات:

قرية: القرية: المِصْـرُ الجامع؛ وقيل: كل مكانٍ اتصلت به الأبنية واتُّخذ قرارًا؛ جمعُ الناس (الأقرب).

الخزي: الهوانُ؛ العقابُ؛ البعدُ؛ الندامةُ: وأصلُ الخزي ذُلٌّ  يُستحيا منه (الأقرب).

حين: الحين: وقتٌ مبهم يصلح لجميع الأزمان طال أو قصر. وقيل: الدهرُ؛ المدةُ (الأقرب).

التفسـير:

إن الآية تحتوي على الكثير مما يساعد الإنسانَ المتدبر المتفكر على إدراك عظمة رحمة الله الواسعة. ما أشدَّ كلماتِها دلالةً على الرغبة الإلهية الملحّة في أن تؤمن الدنيا كلها، وكم تنمّ ألفاظها عن الأسف البالغ لعدم وجود أمم أخرى كقوم يونس ، الذين عندما جاءهم العذاب تابوا كلهم توبةً صادقة نصوحًا لدرجة أن الله تفضَّلَ بقبولها ونجّاهم من العذاب المحقّق.

وقد حدث هذا أيضًا مع النبي الكريم ، حيث دخل قومه جميعا في طاعته يوم فتح مكة، فنجوا من العذاب، ثم آمنوا به حقًا، فأصبحوا ورثةً لأفضال الله ونعمه، وهكذا تمت مماثلة النبي الكريم بسيدنا يونس عليهما السلام.

كان سيدنا يونس نبيًا من أنبياء الله العظام عليهم السلام، وقد أكد القرآن الكريم في خمسة أماكن فيه بأن سيدنا يونس نبيٌ مرسل من عند الله تعالى، وهي: سور النساء (الآية: 164) والأنعام (الآية: 87) والصافات (الآية: 140) والأنبياء (الآية: 88) والقلم (الآية:49)، وقد ذُكر في السورتين الأخيرتين باسم (صاحب الحوت) و(ذا النون) لحادثته مع الحوت.

كما تذكر ذلك الأحاديثُ النبوية الشريفة، فقال النبي : “ما ينبغي لأحد أن يقول إني خير من يونس بن متى” (البخاري، الأنبياء). ولا يظنّن أحد بذلك أنه لم يكن بأفضل من يونس ، وإنما سبب قوله هذا- كما ذكر الشارحون أيضًا- أن النبي لم يكن قد أُخبر عندئذ بفضله على سائر الأنبياء عليهم السلام، وبعد أن أخبره الله بذلك أعلن: “أنا سيد وُلْدِ آدم ولا فخر” (ابن ماجه، الزهد).

وأرى أن ما قاله النبي في الحديث الأول يرجع إلى سبب آخر أيضًا ذي صلة بموضوع هذه الآية بالذات، فإنه لا يتحدث هنا عن أفضلية كلية ليونس وإنما يشير إلى أفضيلته الجزئية المذكورة في الآية، حيث كان سيدنا يونس الوحيد بين سائر الأنبياء الذي آمن به قومه جميعًا عند رؤية آثار العذاب، بينما لم يتيسّر ذلك لأي نبي آخر إلى ذلك الوقت، ولذلك لم يرَ النبي من المناسب أن يفضّل نفسه على سيدنا يونس، وإنْ كانت الأحداث قد أكدت فيما بعد تشابُهًا بينهما في هذه الخصوصية، حيث تاب قومه على يده لدى فتح مكة وآمنوا به جميعًا، فنجوا من العذاب كما حدث بقوم يونس عليهما السلام.

لقد وُلد سيدنا يونس في غاث هابر (Gath Happer) بمحافظة زيبون في زمن الملك يربعام الذي كان حكمه ما بين 781 إلى 741 قبل الميلاد (الموسوعة التوراتية لِوستمنستر، كلمة Jonah). وقد جاء ذكر هذا الملك في التوراة (سفر الملوك الثاني: 14).

هناك كتاب باسم يونان في التوراة. ولكن الباحثين مختلفون فيما إذا كان يونان الذي بشّر في نبوءته بتحرر بني إسرائيل من رِبقة الأُورميين، هو نفس صاحب هذا الكتاب أم هو شخص آخر؟

لقد سردت التوراة أحداث النبي يونان كالآتي: أمر الرب يونان قائلاً: قُم، اذهبْ إلى نينوى المدينة العظيمة، ونادِ عليها، لأنه قد عظم شرها. فخاف يونان أن يتوب أهلها وينجوا من العذاب الذي أنذرهم به، فبدلاً من أن يتجه إلى نينوى هرب إلى يافا، وركب من هناك سفينة ذاهبة إلى ترشيش. ولكن حاصرت رياح شديدة السفينةَ فجأةً. فخاف الملاّحون وصرخوا أمام آلهتم بدون جدوى. وأخيرًا ألقوا القرعة ليعرفوا من هو السبب في هذه البلبلة. فوقعت القرعة على يونان. فسألوه عن حاله، فقال: لقد فررتُ من طاعة أوامر ربي، فَاطْرَحوني في البحر، فيسكن البحر عنكم. فطرحوه فيه، فتوقف عن هيجانه. وأمر الرب حوتًا عظيمًا ليبتلعه، فكان في جوفه ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ. وأمر الرب الحوت فقذفه إلى البر. ولما استرد صحته قام وذهب إلى نينوى، وأنذر أهلها بأنهم سيصيبهم الدمار بعد أربعين يومًا. فتاب أهلها عن المعاصي وآمنوا، فرفع الله عنهم العذاب. فشق ذلك على يونان فخرج إلى البرية. فأنبت الله هناك يقطينةً فارتاح إليها يونان. ثم أرسل الله دودةً، فأكلت الشجرة فيبست. فتأذى يونان من حرارة الشمس وتضايق. فأوحى الله إليه: أنت أشفقتَ على اليقطينة التي لم تتعب في إنباتها، أفلا أشفق أنا على عبادي الذين يبلغون عشرات الآلاف وقد خلقتُهم. (ملخص من سِفر يونان).

بل يجب على كل إنسان أن يتخذ بنفسه القرار في أمر النبي بعد التدبر الكافي في أمره، وبعد قياسه على سنة الأنبياء الآخرين وأحوالهم، حتى لا يُحرَم من قبول الحق.

يبدو من دراسة القرآن الكريم أن بيان التوراة هذا ليس بصحيح مائة بالمائة، وأن القرآن يرفضه لعدة وجوه منها:

أولاً: إن القرآن ينفي بكل شدة وصرامة أن يخالف نبي من أنبياء الله تعالى صريحَ الوحي، وإلا لرُفع الأمان كليةً. والله تعالى يعلن في القرآن الكريم صراحةً: وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله (النساء: 65)، ويأمر نبيه باتباع الرسل قائلاً فبهداهم اقتَدِه (الأنعام: 91).. أي على الإنسان أن يقتدي بهدي الرسل كافة، وأن يسعى لتكون أعماله مصطبغة بنفس الصبغة والروح المتجلية في أعمالهم. فلو كان الأنبياء أنفسهم مصابين – والعياذ بالله – بهذه الأمراض الخطيرة ويعصون أوامر الله فكيف يأمرنا باتباعهم؟

ثانياً: يبدو من بيان القرآن أن سيدنا يونس أُرسل إلى قومه، ولكن يبدو من الروايات اليهودية أنه كان يهودي الأصل، ولكنه بُعث إلى أمة غير يهودية، هم الأشوريون أهل نينوى التي كانت حينئذٍ عاصمة المملكة الأشورية. مع العلم أن أشور هذه ليست بسورية إنما هي دولة أخرى كانت حدودها الجنوبية تبدأ من شمال مدينة بابل حتى تخوم أرمينيا شمالاً، وتصل إلى الكردستان شرقًا وإلى الشاطىء الغربي لدجلة غربًا. وكأنها كانت منطقة واقعة في جزء غربي من العراق الحالي. لقد كانت للأشوريين في وقت من الأوقات مملكة قوية كانت عاصمتها أشور التي كانت تقع على بعد ستين ميلاً من الموصل والتي تسمّى اليوم قلعات شرجِت، ولكنهم نقلوا العاصمة فيما بعد من أشور إلى نينوى بحوالي ثلاثة عشر قرناً قبل الميلاد (الموسوعة اليهودية، كلمة Nineveh).

وباختصار فإنه وفق بيان القرآن لم يكن سيدنا يونس من بني إسرائيل، أو إذ كان منهم فإنه لم يبعث إلى نينوى، بل إلى قبيلة من القبائل الإسرائيلية. ولقد تضاربت آراء المستشرقين أيضًا فيما إذا كان حضرته إسرائيليًا أم لا؟

ويستـطيـع كل عـاقل أن يـدرك بأدنى تـدبر أن موقف القرآن الكـريم في الأمـرين كلـيهما أقرب إلى العـقل والمنـطق، على عكس ما تذكره التوراة.

Share via
تابعونا على الفايس بوك