وسيلة ضبط النفس
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (184)

شرح الكلمات:

تتقون –التقوى هي جعل النفس في وقاية مما يُخاف؛ وفي الاصطلاح الشرعي حفظ النفس عما يُؤثِم(المفردات) [لمزيد من الشرح راجع المجلد الأول تحت (هدى للمتقين) الآية 3].

التفسير:

هناك من شدائد الدنيا ما هو فردي يرد على بعض الأفراد، فيضيق بها ويشكو من عدم قدرته على تحملها، ولكن هناك شدائد أخرى يشترك فيها الجميع، فإذا ضاق منها أحد واشتكى يطمئنه الناس قائلين: يا صاح، هذه الأيام تأتي على كل إنسان، ولا يتوقع أحد أنه بمنجاة منها. فمثلا الموت سيأتي على كل إنسان، ولا نجد أحدا من البسطاء أيضا يقول إنني أسعى للنجاة من الموت، بل إن الموت آت لا محالة عاجلا أو آجلا. فبقوله تعالى (كما كُتب على الذين من قبلكم) نبّه المسلمين أن الصيام عملُ خيرٍ وثوابٍ وتضحيةٍ مشتركٌ بين جميع الأديان، ولقد قام أتباعها بهذه العمل طاعة لله تعالى. ومن المؤسف جدا أن تفرُّوا من عمل خير وتقوى حاولت كل الأمم الحصول عليه. لو كان أمرا جديدا وفرضا عليكم وحدكم لم تُسبقوا إليه لجاز لكم أن تقولوا للناس: لا تدرون مدى المشقة في الصيام إذ لم تجربوه، ولكن ماذا يكون جوابكم للذين قد مرُّوا من هذا الباب وتحملوا هذا العبء؟ ولا شك إنما تكون الحجة للأمم السابقة على المسلمين فقط فيما أمرتْ به من الله تعالى وأطاعته فيه. فيقول الله: أيها المسلمون، احذروا. لقد فرضنا عليكم الصيام، ونخبركم أيضا أنه كان مفروضا على الأمم السابقة، وأنهم قد أدُّوا هذه الفريضة قدر المستطاع. ولو أنكم قصَّرتم في أدائها لاعتراض عليكم أهل الأمم السابقة وقالوا: لقد فرض الله علينا الصيام، وعملنا بالأمر الإلهي. ولما فرض عليكم لم تستجيبوا لأمر الله كما ينبغي. كأن الله قد استثار بهذه الطريقة غيرة المسلمين ورفع همتهم.

لا شك أن صورة الصيام كانت مختلفة من أمة إلى أخرى، ولا يزال هذا الاختلاف باديا إلى اليوم. فمنها صوم الوصال، حيث كانوا لا يأكلون السحور، وإنما يفطرون وقت الليل فقط، ويصومون لأربع وعشرين ساعة. وكان البعض لا يفطرون ليلا أيضا وإنما يصومون لثلاثة أو أربعة أو خمسة أيام متوالية بدون إفطار. وعند بعض الأمم كان مسموحا لهم بطعام خفيف. أما تناول الطعام الصلب فكان ممنوعا.. كما هو الحال في صيام الهندوس والمسيحيين. فالمشهور عن صيام الهندوس أنهم لا يأكلون ما طبخ على النار، ولكن مسموح لهم أن يأكلوا مثلا ما شاءوا من المانجو أو الموز أو الكمثري.. وهذا لا يضر صومهم، ولهم أن يأكلوا أي شيء في صومهم باستثناء رغيف الخبز والطبيخ.

وصيام المسيحيين الكاثوليك أخف من هذا أيضا. ولا شك أنهم بدءوا بهذا الصوم بناء على رواية دينية، أو بلغهم هذا الأمر عن طريق أحد الحواريين. وفي صيامهم يمتنعون عن أكل اللحم (الموسوعة البريطانية، كلمة الصوم) ولكن لهم أن يأكلوا البطاطس مع الخبز أو الخضار ولا بأس في ذلك، أما إذا دخلت قطعة من اللحم إلى المعدة فسد الصيام عندهم.

إذن هناك اختلاف في صورة الصيام بين أمة وأخرى. ولا شك أن الله قد أودع حِكمًا في هذه الأوامر الصادرة في مختلف الأزمان. فمثلا الأمم التي تعتاد القتال والحروب، وتعيش على القنص والصيد، وتُكثر من أكل اللحم لمدة طويلة فإنها تتعرّى من أخلاق محمودة تتحلى بها أمم تأكل الخضار والنباتات. فلو قال لهم الله –إصلاحا لأخلاقهم –إن الخضروات أيضا غذاء طيب وضروري وأمرهم بالإمساك عن أكل اللحم مرة في الأسبوع.. فهذا أيضا صوم مليء بالحِكم. أما نحن المسلمين فقد أمرنا الله أمرا عامًا بأكل اللحم والخضراوات وما طبخ على النار وما لم تمسه النار، وهكذا جمع الله في طعامنا كل نوع من الاحتياط والحكمة. وربما كان مثل هذا الاحتياط بمثابة قيود شاقة على الأمم السابقة، ومن أجل إصلاح أخلاقهم فرض الله عليهم صيامًا كهذا.

ولكن ماذا يكون جوابكم للذين قد مرُّوا من هذا الباب وتحملوا هذا العبء؟ ولا شك إنما تكون الحجة للأمم السابقة على المسلمين فقط فيما أمرتْ به من الله تعالى وأطاعته فيه. فيقول الله: أيها المسلمون، احذروا. لقد فرضنا عليكم الصيام، ونخبركم أيضا أنه كان مفروضا على الأمم السابقة، وأنهم قد أدُّوا هذه الفريضة قدر المستطاع.

وقوله تعالى (كما كتب) يعني مماثلة في الفرضية، وليس في الكمية والكيفية والتفاصيل. وليس المراد أن صيامهم كصيام المسلمين في الكيفية والعدد، وإنما المراد أن الصيام في حد ذاته قد فُرض على المسلمين. فقد جاء في الموسوعة البريطانية، تحت كلمة الصوم:

It would be difficult to name any religion system of any description in which it is wholly unrecognized

…. أي يصعب أن نجد ملة ليس فيها حكم الصوم بصورة ما.. بل في كل دين هناك أمر بالصوم. وعندما ننظر إلى الدين اليهودي نجد أنه ورد في التوراة أن موسى –عليه السلام –عندما ذهب إلى الطور صام أربعين يوما وليلة، ولم يأكل أو يشرب فيها، قيل: (وكان هناك عند الرب أربعين نهارًا وأربعين ليلة ولم يأكل خبزًا ولم يشرب ماء) (خروج 28: 34). كذلك جاء في التوراة أنه فرض على اليهود صوم اليوم العاشر من الشهر السابع (لاويين29: 16). وكان بنو إسرائيل يصومون هذا اليوم دائما، وكان أنبيائهم يصومون بذلك. فقد جاء عن داود عليه السلام: (أما أنا ففي مرضهم كان لباسي مِسْحا. أذللت بالصوم نفسي) (مزامير 13: 35).

وقال النبي إشعياء (ها إنكم للخصومة والنزاع تصومون ولتضربوا بلكمة الشر. لستم تصومون كما اليوم لتسميع صوتكم في العلاء (إشعياء 4: 58).

وقال دانيال: (فوجهت وجهي إلى الله السيد طالبا بالصلاة والتضرعات بالصوم والمسح والرّماد) (دانيال 3: 9).

ويقول النبي يوئيل: (لأن يوم الرب عظيم ومخوف فمن يطيقه. ولكن الآن يقول الرب: ارجعوا إليّ بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والنوح: ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم، وارجعوا إلى الرب إلهكم، لأنه رؤوف رحيم بطيء الغضب وكثير الرأفة ويندم على الشر (يوئيل 11: 2-13)

وإذا نظرنا إلى المسيحية وجدنا فيها أيضا ذكر الصيام. يقول الإنجيل عن المسيح عليه السلام إنه صام أربعين يوما وليلة (متى 2: 4).

وكذلك نصح المسيح الحواريين قائلا: (ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين، فإنهم يُغيِّرون وجوهم لكي يظهروا للناس صائمين. الحق أقول لكم إنهم قد استوفوا أجرهم. وأما أنت فمتى صمتَ فادهن رأسك واغسل وجهك، لكي لا تظهر للناس صائمًا، بل لأبيك الذي في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية) (متى 16: 6-18).

كذلك يذكر الإنجيل أنه عندما لم يستطع الحواريون إخراج روح شريرة ذهبوا إلى المسيح وسألوه عن السبب فقال لهم: (هذا الجنس لا يمكن أن يخرج بشيء إلا بالصلاة والصوم) (مرقس9: 29) [1]. والروح الشريرة أو الجن اصطلاح كان يطلقه الحواريون على أمراض مختلفة، وكانوا يلتمسون من المسيح إخراج هذا الجن. يريدون بذلك شفاء هذه الأمراض العقلية. وقد عالج المسيح هؤلاء المرضى فشفوا على يده. وعندما لم يستطع الحواريون مرة إخراج روح شريرة كهذه قال المسيح إن هذا الجن لن يخرج إلا بالصوم والدعاء.. وكان يقصد أن الحصول على الكمالات الروحانية لا يتم إلا بالصوم والدعوات.

ولكن العجيب أن المسيح الذي قال بأن الأمراض الشديدة لا تُشفى إلا بالصيام والدعوات.. تغفل أمته اليوم عن الصيام لدرجة أنهم ربما يأكلون في اليوم الواحد ما يأكله الآسيويون في أسبوع.. فأنّى لهم أن يصوموا؟ إنهم لا يقتربون من الصوم. يصومون ثلاثة أيام في العام، ولكن بأسلوب الهندوس الذين يمسكون عن أكل ما طُبخ على النار، ومع ذلك يشرب أحدهم لترين من الحليب! وكذلك يمسك المسيحيون عن أكل بعض أنواع الطعام، ويأكلون ما سواها في صومهم كيفما يشاءون، ويظنون أنهم صاموا. ومع أن المسيح كان من اليهود الذين كانوا يصومون صوما كاملا، ومع أنه نفسه يُخبر بأن العديد من الجن –أي الأمراض الروحانية والبدنية –لا تُطرد ولا تُشفى إلا بالدعاء والصيام.

وإذا نظرنا إلى دين الهندوس وجدنا أيضا أنواعا من الصيام، ولكل نوع من شروط وقيود تفصيلية مذكورة في كتاب”دهرم سندو”. وقد ورد ذكر الصيام عند الهندوس والجينيّين في الموسوعة البريطانية. وذكر فيه أيضا عن ديانة الزردشتيين أن كونفشيوس أمر أتباعه بالصوم؟ (الموسوعة البريطانية، تحت كلمة صوم).

بل قد ظهر في هذه الأيام نوع جديد من الصوم. فعندما يتخاصم بعض الناس فإنهم يضربون عن الطعام احتجاجا. وقد قام “الباندت غاندي” بالإضراب عن الطعام مرارًا احتجاجًا ضد الإنجليز.

فالصوم إذن وسيلة من وسائل الرقي الروحاني ونيل رضوان الله في كل الأديان، وكل الأمم قد نالت بركات الصيام.

وندرك بإلقاء نظرة على تاريخ طويل للأديان أن عالم الدين كله سلَّم واعترف بأهميته دوما. ولكن مما لا شك فيه أن الصورة التي قدم الإسلام بها الصوم صورة مميزة بين جميع الأديان. يأمر الإسلام كل عاقل بالغ بالصوم المستمر شهرا كاملا.. إلا أن يكون مريضا أو على يقين بأن المرض يصيبه إذا صام، أو كان على سفر، أو كان شيخا هرما فانيا، ويأمر المرضى والمسافرين أن يصوموا ما فاتهم في وقت آخر. أما الذين يعجزون عن المرض بسبب ضعفهم فلا صوم عليهم.

والصوم هو الإمساك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس عن تناول أي شيء من مأكل ومشرب.. بقدر قليل أو كثير، والكف عن المباشرة الجنسية. يتناول الصائم طعام السحور قبل طلوع الفجر حتى لا يتعرض جسمه لمشقة زائدة، ويبادر إلى الإفطار عند غروب الشمس. ولا تحبذ شريعتنا صوم الوصال.. أي مواصلة الصوم بعد الإفطار بدون تناول السحور.

وهناك تساؤل حول قوله تعالى (كما كتب على الذين من قبلكم): هل وجود عادة في أمة سابقة يحتِّم على الأجيال اللاحقة العمل بحسب هذه العادة؟ هناك عشرات العادات الخاطئة في الأجيال السابقة، وهناك عشرات من العادات الخاطئة في الأجيال الحالية أيضا. فليس صحيحا أن يكون لأمة عبادة معينة ثم يكون لزاما على من بعدهم أن يقوموا بها أيضا!

لقد أقام القرآن الكريم لهذا الاعتراض وزنا. فإنه لا يعتبر وجود الصيام في الأمم السابقة دليلا على فضائله، وإنما يقول هنا إن الصوم ليس ثقلا زائدا يلقى على كواهلكم، بل كان واجبا على الأوّلين أيضا، فوجود الصوم في الأمم السابقة ليس دليلا على فضيلته وإنما على أهميته، أما فضائل الصوم ومنافعه فقد ذُكرت في قوله تعالى (لعلكم تتقون).. أي لقد فرضنا عليكم الصيام كي تنجوا وتحتموا.

ويمكن فهم قوله تعالى (لعلكم تتقون) بعدة طرق، منها مثلا: لقد فرضنا عليكم الصيام حتى تتقوا لوم الأمم الأخرى التي كانت تصوم وتحملت مشقة الجوع والعطش وشدة الطقس إرضاء لله تعالى. فإن لم تصوموا تعرضتم لنقد الآخرين بحق، وصرتم محط تحقير في أعينهم، وقيل لكم: تدّعون أنكم أكثر الأمم روحانية، ولكن ليس فيكم التقوى التي كانت في الأمم السابقة؟ فلولا الصيام في الإسلام لتعرض المسلمون لسهام اللوم من الأمم الأخرى جميعا. ولقال المسيحيون مثلا: كيف يمكن أن يكون دينا ليس فيه الصيام الذي تصفو به القلوب وترتقي الروحانية، ويحتمي الإنسان من السيئات؟ وكذلك لقال اليهود: لقد صُمنا لمئات السنين، ولكن المسلمين لا صوم عندهم. ولقال الهندوس والزردشتيون وكثير غيرهم من الأمم: كيف يمكن أن يكون الإسلام دينا صحيحا ولا صوم عندهم، بينما نحن نصوم ونرضي الله؟

وثانيا –يشير قوله تعالى (لعلكم تتقون) إلى أن الصائم يحتمي بالله تعالى، لأن الاتقاء هو اتخاذ الوقاية واتخاذ الشيء ذريعة للنجاة. إننا فرضنا عليكم الصيام حتى تتخذوا الله جُنّةً تقيكم من الشرور، وتحميكم من فوات الخير. فالضعف على نوعين: الأول-أن يصاب الإنسان بشرّ، والثاني –أن يضيع منه الخير. فإذا ضربه أحد فقد أصابه بشر، ولكن من الشر أيضا أن يجلب المرء على نفسه سخط الوالدين، مع أنه ليس في سخط الوالدين وتركهما بيت ابنهما ضرر ظاهري عليه، بل سوف يتمكن من توفير بعض النفقات، ولكن رضا الوالدين خير وبركة، وإذا سخطا عليه حُرم من هذا الخير. فالاتقاء يدل على جانبين من الشر.. أي أن يميل المتقي إلى فعل الخير، وأن يُحفظ من الشر والذلة.

ودائرة الخير والشر تختلف باختلاف المجالات. فمثلا إذا كان أحد مسافرا في السيارة فاتقاؤه من الشر يعني أن لا يتعرض لحادث مكروه، بل يصل إلى البيت سالما. أما الصوم فلا شك أنه أمر ديني روحاني، ولكن نظرا لما له من تأثير على صحة الإنسان فيمكن أن يُعد أمرا دنيويا أيضا. واتقاء الصائمين يعني أن يتّقوا من الشرور الدينية والدنيوية، فلا تضيع منهم الخيرات والبركات الدينية، ولا يصابوا بضرر صحي. فالصوم أحيانا يحمي من العديد من الأمراض. فإن الفحوص العصرية تبين أن الكِبَر والضعف يصيب الإنسان بسبب ما يتجمع في الجسم من مواد زائدة تحدث المرض والموت. بل قال بعض الحمقى من هؤلاء العلماء الماديين بأننا عندما نتمكن من القضاء على هذه المواد الزائدة نتمكن أيضًا من القضاء على الموت! هذه الفكرة وإن كانت تدل على الحمق، إلا أنه مما لا شك فيه أن الجسم يصاب بالإرهاق والضعف بسبب هذه المواد الزائدة فيه، والصوم عظيم الفائدة في هذا الصدد. لقد رأيت بنفسي أننا لو صمنا بصحة في رمضان فلا شك أننا نشعر بشيء من التعب والمشقة من الصيام، ولكننا بعد انقضائه نشعر بتجدد قوتنا مع نشاط وانتعاش. هذه فائدة مادية في الصيام تتعلق بصحة الجسم.

وثالثا –ولكن هناك منفعة روحانية. فالذين يصومون ويتحملون لوجه الله فإنهم يحظون بحماية الله من عقوبة ذنوبهم. لذلك ذكر الله بعد الصيام موضوع استجابة الدعاء وقال: إنني قريب من عبادي وأجيب دعواتهم. فالصوم يجذب فضل الله، والصائم يجعل وقاية له تحميه من كل الأذى والشرور.

ورابعا-ثم إن الإنسان عندما يحس بالجوع ويشعر بقرصاته وآلامه فإنه يهتم بإخوانه الفقراء. وفي نجاتهم من الهلاك نجاة له أيضا من الهلاك، لأن نجاة بعض الأفراد من القوم تنفع القوم جميعا. ولذلك كان الرسول يكثر من الصدقة في أيام رمضان. فقد ورد في الحديث أنه (كان في رمضان أجود بالخير والعطاء من الريح المرسلة) (البخاري، كتاب الصوم). الحق أنه من أكبر أسرار الرقي القومي أن ينفع الإنسان الآخرين بما يملك. وإنما تحل كل أنواع الدمار والهلاك بالأمة إذا ظن أفرادها أنه لا حق لأحد فيما يملكونه، ولا يمكن أن ينتفع بالشيء إلا مالكه. مع أن أساس نظام ومدنية العالم مبني على مبدأ أن ينتفع غيري بما عندي، وهذا ما يعوِّد عليه رمضان. فالمال مالنا. ومواد الطعام والشراب مِلكنا.. ولكننا مأمورون بأن ننفع بها الآخرين ونطعمهم إياها، لأن هذا هو الأساس لحضارة العالم.

وخامسا –إن الصيام أيضا نجاة للإنسان من الهلاك، بمعنى أنه يعوده على تحمل المشاق. والذين يتعودون المشاق والشدائد بألوانها لا تنهار همتهم عند حلولها، وإنما يتصدون لها بشجاعة ويفلحون وينجون. وكما أن الحكومات الدنيوية تحتفظ باحتياطي من الجنود الذين يتدربون شهرا أو شهرين في السنة، وعند نشوب الحرب يُستدعون على الفور، كذلك أُمر المسلمون أن يتدربوا في شهر رمضان على الصيام.. لأنهم لا يصومون ولا يتهجدون كل أشهر السنة. وكما أن الجنود الذين يواظبون على التدريب لا ينهزمون.. كذلك الأمة التي يكون أفرادها أبرارا أتقياء، ومعتادين على ترك كل شيء لوجه الله تعالى.. لا يمكن أن يُلحق الشيطان بها أي هزيمة. ولهذا السبب نجد في تاريخ المسلمين أنهم ما داموا كجنود روحانيين ما قدر الشيطان على الهجوم عليهم، ولكن عندما قلَّ هؤلاء الجنود بين المسلمين إلى حد الندرة هاجمهم الشيطان وأهلكهم بأنواع الوساوس.

فالصيام يعوّد الإنسان على التضحية. يخرج المؤمنون عموما من بيوتهم لخدمة الدين، كما يتعرضون لمشقة الجوع والعطش في جهادهم للدعوة إلى الله. الفقراء يكونون متعودين على هذه الشدائد، لكن الأثرياء ليسوا كذلك. فالصيام يدربهم هم أيضا على تحمل مشقة الجوع والعطش حتى إذا سمعوا نداء الله أن يا أيها المسلمون، تعالوا وجاهدوا في سبيل الله، هَبّوا جميعا دون تردد أو شعور بثقل على قلوبهم.

فمن أكبر منافع الصوم أنه يدرب الإنسان على تحمل المشقة والشدة في سبيل الخير. إن الإنسان يقوم في الدنيا بأعمال شتى. يجتهد ويكابد، وأحيانا يضيع وقته سدى بدون عمل مُجْدٍ، ويتكلم عبثا.. لأن جسم الإنسان وعقله لا يبقيان فارغين بدون عمل، بل إن الإنسان يعمل في كل حين عملا ما. ولكن بعض أعماله لغو وضار، وبعضها مفيد وخير. ولكن رمضان يدربه على ما يعَوّده على تحمل المشاق والشدائد في أعمال الخير. ما هي الأمور التي يجد فيها الإنسان متعة وراحة؟ إنما هي الأكل والشرب والنوم والعلاقات الجنسية. وهذه الأخيرة هي أعلى نموذج للتمدن، ويندرج تحتها أيضا مقابلة الأصدقاء والارتباط بالأعزة والأقارب.. إلا أن علاقة الزوجين أقوى هذه العلاقات. إذن تتوقف راحة الإنسان على الأكل والشرب والنوم والعلاقات الجنسية. قال أحد الصوفية أن روح التصوف هي قلة الكلام وقلة الأكل وقلة النوم، ورمضان يتضمن هذه الخلاصة الصوفية.. ففيه قلة النوم؛ لأن المسلم يستيقظ لصلاة التهجد. وفيه قلة الطعام، وهو ظاهر لأنه يجوع طول النهار. وفيه قلة العلاقات الجنسية، وفيه أيضا قلة الكلام.. فقد قال النبي : ليس الصوم أن يمسك الإنسان عن الأكل والشرب، ولكن الصوم أن يترك لغو الكلام. فلا بد للصائم أن يكف عن لغو الحديث والخصومة وغيرهما مما يدخل في اللغو. وهذه الأمور الأربعة من الأهمية بمكان، ولها علاقة عميقة بالحياة الإنسانية. وعندما يقلل الصائم من هذه الأمور الأربعة التي تتمثل فيها راحته ومتعته، فإنه يعّود نفسه على تحمل المشاق، وبالتالي يتصدى لكل شدة في الحياة بشجاعة ويكون من الناجين.

وسادسا –من معاني قوله تعالى (لعلكم تتقون) أن الإنسان الصائم يتقي بصومه من السيئات والذنوب. فبانقطاعه عن الدنيا تزداد نظرته الروحانية حِدّة، ويطلع على عيوب لم يكن يبصرها من قبل.

وكذلك يتقي الصائم من الذنوب بإمساك لسانه كما قال المصطفى : (من لم يَدَع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) (البخاري، كتاب الصوم).. أي لا يعني الصوم أن يمتنع الإنسان عن الطعام والشراب طول نهاره، بل عليه أن يحمي فمه من كل ما يضر روحانيته، فلا يكذب ولا يسب ولا يغتاب ولا يختصم. الأمر بحفظ اللسان عام، ويجب العمل به دوما، ولكن الصائم يحفظ لسانه بصفة خاصة وإلا فسد صومه. وإذا تعوّد الإنسان على حفظ اللسان لشهر كامل تمكّن من حفظ نفسه سائر الشهور أيضا. وهكذا فإن الصوم يحميه من الذنوب على الدوام.

وسابعا –وقوله تعالى (لعلكم تتقون) يذكر منفعة أخرى للصيام.. وهي أنه يثبِّت قدم الإنسان على التقوى، ويتيح له نوال المدارج الروحانية العليا. فليس الأثرياء وحدهم الذين يتقربون إلى الله بالصيام، بل إن الفقراء أيضا يشعرون في الصيام بانقلاب روحاني في نفوسهم، ويحظون بمتعة الوصال بالله تعالى. إن الفقراء الذين يعيشون طول السنة في ضيق، وأحيانا يذوقون الجوع مرة بعد أخرى.. نبههم الله برمضان أن بوسعهم استغلال هذا الجوع لكسب الثواب. والثواب على الجوع من أجل الله عظيم.. حتى ورد في الحديث أن الله يقول: (الصوم لي وأنا أجزي به). أي أن لكل حسنة أجرًا مختلفًا، أما الصوم فأنا الجزاءُ للصائم. وإذا فاز الإنسان بالله.. فماذا يريد بعد ذلك؟ فبالصيام يعلّم الله الفقراء أنهم إذا صبروا على هذه الشدة والضيق ولم يشكوا الله –كما يفعل بعض الجهلاء ويقولون: ماذا أعطانا الله حتى نصوم ونصلي؟ –كُتب هذا الجوع في صحيفة أعمالهم حسنةً، فلا حاجة أن ييأسوا ويقولوا: ما جدوى هذه الحياة مع الفقر والجوع؟ لو عاشوا بالفقر والجوع ابتغاء وجه الله فإن هذا الجوع نفسه يشرّفهم بلقاء الله.

الواقع أن الفقراء أكثر عددا من الأثرياء في العالم، وكانت بداية كل الجماعات الدينية بالفقراء، وانتهاؤها أيضا بالفقراء الغرباء. بل كان جميع الأنبياء تقريبا من الفقراء: لم يكن عيسى ولا موسى ولم يكن الإمام المهدي من الأثرياء. لقد ارتفع ثمن عقاراته بازدهار قاديان.. وإلا فإنه بنفسه قّدر ثمنها بمبلغ 10,000من الروبيات. والممتلكات بهذا الثمن لا تُدِر عائدا كبيرا. ولم يكن إبراهيم ولا نوح من أثرياء القوم. نعم، يجعل الله أنبياءه عظماء كبارا، ولكن هذا يتم فيما بعد وبفضله هو عز وجل. لم يكن مؤسسو الديانات من كبار القوم.. أي من الأثرياء والملوك. صحيح أن بعض أنبياء الله كانوا من الطبقة الوسطى، ولكن ليس من الملوك إلا قلة نادرة مثل داود وسليمان، ولكن لم يكن أحد منهما مؤسسا لديانة. إن 80 %من سكان العالم فقراء. وبرمضان واسى الله هذه الأكثرية الفقيرة التي ضاعت أعمارها في الفقر، وقال لهم لا تظنوا أن الفقير لا يستطيع لقاء الله.. وإلا فكيف حظِيَ الصائمون في رمضان بلقاء الله؟ يمكنكم نوال بركات عظيمة من الله رغم فقركم.. ولكن بشرط ألا تنسوه في فقركم، ولا ينطق لسانكم بكلمة شكوى من الله تبارك وتعالى.

وكما أن الجنود الذين يواظبون على التدريب لا ينهزمون.. كذلك الأمة التي يكون أفرادها أبرارا أتقياء، ومعتادين على ترك كل شيء لوجه الله تعالى.. لا يمكن أن يُلحق الشيطان بها أي هزيمة. ولهذا السبب نجد في تاريخ المسلمين أنهم ما داموا كجنود روحانيين ما قدر الشيطان على الهجوم عليهم

ومن جانب آخر فإن الصيام يحقق التقوى للأثرياء أيضا، وذلك أن الصائم منهم يجوع من أجل الله، ولا يأكل إرضاء له، ولا يستخدم ما أباحه الله له من الحلال، رغم توافر ما لذّ من طعام وشراب في بيته وتحت يده. عندما يفعل ذلك يفكر في نفسه تلقائيا أنه ما دام قد ترك الحلال إرضاء لله.. فلماذا يرغب فيما حرّمه الله؟ وهنا تتولد فيه القدرة على ضبط النفس ويزيده الله تقدمًا في مجال الخيرات.

وثامنا –من المنافع الروحانية للصوم أن الإنسان بالصوم يتشبه بالله نوعا ما. فمن صفات الله أنه أسمى من أن ينام. والصائم لا يستطيع أن يستغني عن النوم كلية، ولكنه يستطيع أن يضحي بجزء من نومه أثناء شهر الصيام إرضاء الله تعالى: فيستيقظ لتناول السحور والصلاة والتهجد. أما النسوة اللاتي لا يستطعن الصوم فهن يشتغلن في إعداد طعام السحور. ثم يقضي الإنسان بعض ليله في الدعاء وبعضه في الصلاة. وهكذا لا يبقى من الليل إلا القليل للنوم. أما الذين يشتغلون بأعمال وقت النهار فلا يبقى لهم للنوم في أيام الصيام إلا سُوَيعات. وهكذا يتشبه الإنسان بالله إلى حدّ ما.

ثم إن الله منزه عن الأكل والشرب، أما الصائم فلا يستطيع ترك طعامه وشرابه تماما، ولكنه بالإمساك عن الطعام وقت النهار في أيام رمضان يتشبه بالله في هذه الصفة إلى حدّ ما.

ثم كما أن الله خيرٌ كله، كذلك الصائم مأمور في رمضان على وجه الخصوص بفعل الخيرات. ولقد قال النبي لا صوم لمن يقع في الغيبة والنميمة وسوء القول وما إلى ذلك. فكأن المؤمن أيضا يسعى ليصبح خيرا كله، ويتجنب الغيبة والشجار والخصام. وهكذا يتشبه قدر المستطاع بالله تعالى.

والظاهر أن كل شيء منجذب إلى مثله، وهناك مثل يقول: الطيور على أشكالها تقع. فمن المنافع الروحانية للصيام.. أن الإنسان يحظى بوصال الله تعالى، ويصبح الله محافظا عليه.

(يتبع)

[1] حُذفت هذه الفقرة الآن من بعض الطبعات!

Share via
تابعونا على الفايس بوك