من وضع السقاية وصواع الملك في رحل بنيامين؟
  • اعتماد يعقوب عليه السلام على العناية والحكم الالهي وتوكله عليه سبحانه
  • التقاء الأخوة ضمن ظروف مقدرة حسب المشيئة الالهية
__
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (يوسف: 64)

 التفسـير:

سبحان الله! كان إخوته إلى ذلك الوقت مغرورين بقوتهم وأنانيتهم وما كانوا يتجهون إلى الله تعالى رغم ما ظهر لهم من ضعف أنفسهم. هكذا يصبح مَن يضعف فيه الإحساس بعظمة الدين، فإنه إما يبقى فريسة لوحش الكبرياء والغرور أو يركن إلى اليأس كليةً، ولا يسلك الطريق الوسط الذي لا كِبْر فيه ولا قنوط. كان إخوة يوسف إلى ذلك الوقت مصابين بهذا المرض، إذ يدل قولهم (مُنع منا الكيل) على يأسهم البالغ، بينما يكشف قولهم وإنا له لحافظون عن غرورهم بقـوّتهم.

قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَالله خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ    (يوسف: 65)

شرح الكلمات:

آمنكم: أمن يأمن أمنًا وأمانًا: اطمأن (الأقرب).

 التفسـير:

هنا ينبههم سيدنا يعقوب أن يوقنوا الآن على الأقل بأن حماية الله هي الحماية الحقيقيّة، فهو الذي يطهر باطن الإنسان من الأفكار النجسة وظاهرَه من الأعمال السيئة، وهو الذي يغفر له ما تقدم من ذنبه.

مَن يضعف فيه الإحساس بعظمة الدين، فإنه إما يبقى فريسة لوحش الكبرياء والغرور أو يركن إلى اليأس كليةً، ولا يسلك الطريق الوسط الذي لا كِبْر فيه ولا قنوط.

كما يوضّح لهم يعقوب أنه لم يرسل يوسف معهم من قبل عن ثقةٍ بهم، ولن يبعث الآن أخاه معهم معتمدًا عليهم، وإنما أرسله بأمر من الله ومتوكلاً عليه، وإن رأيه فيهم لم يتغير شيئاً. وها هو الآن أيضًا  سيرسل أخاه إيمانًا منه أن هذه هي المشيئة الإلهية وهو المستعان وعليه التكلان.

وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (يوسف: 66)

شرح الكلمات:

نميرُ: مار فلانٌ عياله: أتاهم بميرة (أي طعام) (الأقرب).

التفسـير:

يبدو أن يوسف منح إخوته بعض المال كهدية منه زادًا لسفرهم علاوة على ما اشتروه.

ويمكن أن نستنتج من قولهم ونزداد كيل بعير أنهم سافروا على ظهور الجمال. كما ذكر القرآن في موضع آخر أيضًا كلمة (بعير) حين نادى المنادي نفقد صُواعَ الملك ولمن جاء به حملُ بعيرٍ (الآية 73). لكن التوراة تقول بأنهم جاءوا على الحمير حيث ورد فيها: “وأدخل الرجلُ الرجالَ إلى بيت يوسف، وأعطاهم ماءً، ليغسلوا أرجلهم، وأعطى عليقًا لحميرهم” (التكوين43 : 24).

إنه لمن واجبنا لدى تفسير القرآن أن نلقي الضوء على هذه الاختلافات قدر الإمكان. لا شك أننا نحن المسلمين نفضّل ما ورد في القرآن على ما جاء في التوراة، ولكن يجب أن تكون في أيدينا أدلة أخرى لإقناع أهل الكتاب. وأرى أن أفضل سبيل لحسم هذه القضية أن ننظر إلى نوع المطايا التي كان سيدنا يعقوب وعائلته يستخدمونها في رحلاتهم عمومًا. وعندما نرجع إلى التوراة نجد فيها الحديث عن سفر يعقوب عندما أخذ أهله من عند صهره حيث ورد فيها: “فقام يعقوب وحمل أولاده ونساءه على الجمال” (التكوين 31: 17). مما يؤكد أن يعقوب وعائلته كانوا يسافرون عادةً على الجمال. ونظراً إلى هذه الشهادة من التوراة نفسها وإلى نوعية سفر إخوته إلى مصر حيث كان السفر على ظهور الجمال أكثر راحة وسهولة منه على  الحمير.. يتحتم علينا عقليًا أن نقول بأنهم سافروا على الجمال.

إذ كيف يُتوقع من يوسف الذي يبدي هذه المحبة الشديدة نحو أخيه، أن يلجأ إلى الأسلوب المشين استبقاءً لأخيه عنده لبعض الوقت، فيضع الإناء في رحله عمداً، ثم يتهمه بالسرقة ليترك في جبينه وصمة عار للأبد. فلا شك أن هذا ظلم وبهتان ونسبته إلى يوسف كفرٌ. إذ لا يُتوقع هذا حتى من أي إنسان شريف، دعك من أن يرتكبه نبي من أنبياء الله العظام عليهم السلام.

ولكن هذا الشرح يرجع إلى افتراضنا بأن القرآن يقول بسفرهم على الجمال. أما الذي لا يرى استدلالنا هذا قوياً بالقدر الكافي، فيمكن أن يحل هذا الإشكال بطريق آخر، فيقول: إن القرآن لم يصرّح بأنهم سافروا على الجمال، وإنما يعني قوله كيل بعير و حملُ بعير أن هذا المال الإضافي كان يزن ما يحمله البعير، سواء وضعوه على ظهر جمل أو على متن حمار. وبهذه الصورة لا يبقى اختلاف بين بيان القرآن وما ذكرت التوراة.

قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ الله لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ الله عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ   (يوسف: 67)

شرح الكلمات:

يُحاطُ: أُحيط به: دنا هلاكه، وفي القرآن: إلا أن يحاط بكم أي: تؤخذوا من جوانبكم (الأقرب).

موثقهم: الموثق والميثاق: العهد (الأقرب).

التفسـير:

نجد هنا تشابهًا بين بنيامين والنبي ، فكما أن يعقوب أخذ من أبنائه موثقًا لحماية أخيهم بنيامين، كذلك فعل سيدنا العباس عندما جاء أهل المدينة يريدون اصطحاب النبي إلى ديارهم، فأخذ منهم عهداً أن يحموه بأموالهم ونفوسهم. وعندما آتوه العهد هاجر إليهم النبي الكريم . (السيرة لابن هشام، أمر العقبة الثانية).

ورد في التوراة أن سيدنا يعقوب حينما طالب أبناءه بإيتاء الموثق ردّ عليه أكبرهم وهو رأُوبين قائلاً: خذ اثنين من  أبنائي واقتلهما إن لم أجئ ببنيامين. ولكنّ أباه رفض عرضه ولم يرسله معهم. (التكوين 42: 37) فآتاه يهوذا ما طلبه من حلف وموثق فرضي بإرساله معهم (التكوين 43: 8). ويتبين من ذلك أن يهوذا كان يُعتبر أكبرهم درجةً في الدين.

هذه العبارة من التوراة سوف تساعدنا أيضاً على فهم الآية رقم 78.

وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ للهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَـلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمـُتَوَكِّلُونَ   (يوسف: 68)

شرح الكلمات:

الحكمُ: حكم بالأمر حكمًا  وحكومةً: قضى. والحكم: القضاء (الأقرب). حَكَمَ: أصله مَنَعَ منعًا لإصلاحٍ، ومنه سُميّت اللجام حَكَمَةَ الدّابةِ. الحكمُ بالشيء أن تقضي بأنه كذا أو ليس بكذا، سواء ألزمتَ ذلك غيرك أو لم تلزمهُ (المفردات).

توكلتُ: توكل على الله: استسلمَ إليه واعتمد عليه ووثق به (الأقرب).

التفسـير:

حين أخبر إخوة يوسف أباهم عن أحوال مصر ممّا يبعث على الخوف وقالوا إن القوم اعتبرونا جواسيس، نصحهم أبوهم أن يدخلوا مصر واحدًا واحدًا لا مجتمعين، كيلا يعتبرهم القوم أجانب ولا يشتبهوا في أمرهم. ولكنه أضاف أنني لا أملك لكم شيئاً إذا كان الله تعالى قد كتب عليكم محنة وابتلاء.

وقد يعني بقوله هذا: لا تدخلوا على يوسف إلا من أبواب متفرقة. ومعنى ذلك أن الله تعالى كان قد كشف لسيدنا يعقوب حقيقة الحال، فلجأ حضرته إلى هذه الحيلة لكي يتمكن سيدنا يوسف من مقابلة أخيه بنيامين على انفراد حتى يحكي له أحوال الأسرة في الوطن.

ونبّه بقوله عليه توكلت أن ثقتي الحقيقية هي بالله لا بمكيدتي هذه ولا حيلتي. ذلك لكي يلقّن أبناءه- الذين اعتمدوا دائمًا على مكائدهم- درسًا، أن أنبياء الله يعتمدون على النصرة الإلهية فقط، مع أنهم يكونون أكثَرَ أهلِ الدنيا فِطنةً وأوفَرَهم ذكاءً. فما أحوَجَ غيرَهم لأن يتأسّوا بأسوة هؤلاء القوم الكرام.

واعلموا أن التوكل لا يعني امتناع الإنسان عن أخذ الأسباب المادية وإنما المراد منه أن يعتمد على الله تعالى رغم اتخاذ الوسائل والتدابير،موقنًا أنها لن تجدي نفعًا دون نصرته ورحمته .

   وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ الله مِنْ شَيْءٍ إِلاّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (يوسف: 69)

  شرح الكلمات:

حاجة: الحاجةُ: السُؤْلُ؛ ما يُحتاج له (الأقرب).

 التفسـير:

بالرغم من أن يعقوب كان على علم- بناءً على الوحي- بأن ابنه يوسف لا يزال حيًا يرزق، ولكنه لم يكن يعرف معرفة يَقينيّة أن الوزير المصري المشرف على توزيع الطعام هو يوسف نفسه، ويبدو أنه عندما سمع من أبنائه أن المصريين يظنون أنهم جواسيس لأن هذا الوزير وجّه إليهم أسئلة كثيرة.. اقترح عليهم- دفعًا لمخاوفهم- أن يدخلوا من أبواب متفرقة.

وقد قال البعض بأنّ يعقوب اقترح عليهم الدخول من أبواب متفرقة لأنه خشي أن تصيبهم عينُ الناس، إذ كانوا ذوي جمال وبهاء (ابن كثير)، لكني لا أراه رأيًا صائبًا. إذ ليس من المعقول أن يشكل انضمام ابن واحد إلى العشرة الآخرين خطرًا عليهم. لماذا لم يتخذ هذا التدبير عندما ذهب العشرة معًا؟ فالرأي عندي هو ما ذكرته من قبل بأنه أَمَرَهم باللجوء إلى هذه الحيلة إما دفعًا لمخاوفهم عن الجاسوسية، أو تمكينًا ليوسف من مقابلة بنيامين على انفراد.

وأما قوله تعالى (وإنه لذو علمٍ لما علّمناه) فالمراد من هذا العلم الذي تلقاه من الله تعالى هو إدراكه لأهمية التوكل على الله تعالى، فإنه اتخذ التدابير اللازمة، ولكن ثقته الحقيقية كانت بالله تعالى، كما ذكر في الآية السالفة.

وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (يوسف:70 )

شرح الكلمات:

آوى: أويته وآويته: أنزلته (في منـزلي)، ومنه: اللهم آوِني إلى ظل كرمكَ وعفوك. (الأقرب)

لا تبتئسْ: ابتأس به: اكتأب واستكان. ومنه (لا تبتئس بما كانوا يعملون) أي لا تحزن ولا تشتكِ (الأقرب).

التفسـير:

وقوله (إني أنا أخوك فلا تبتئس) معناه كنتَ تظن  أن أخاك قد مات، ولكن الأمر ليس كذلك، فها أنا أخوك حي يرزق، فلا داعي للقلق والحزن الآن. وذلك باعتبار أن بنيامين كان جاهلا بالواقع، أما إذا كان سيدنا يعقوب أخبره بالواقع فالمعنى: لا تحزن على إيذائهم إياك، لأن الله تعالى سوف ينجيك الآن منهم.

فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا العِيـرُ إِنَّكُمْ لَسَـارِقُونَ   (يوسف: 71)

شرح الكلمات:

جهّز: (انظر شرح كلمات الآية رقم 60)

السقاية: الإناء يُسقى به (الأقرب).

العِير: قافلة الحمير، ثم كثُرت حتى سميّت بها كل قافلة (الأقرب) العير: القوم الذين معهم أحمال المِيْرة (أي الطعام) ( المفردات).

رحل: (انظر شرح الكلمات للآية 63)

التفسير:

يمكن تفسير قوله تعالى (جعل السقايةَ في رحل أخيه) بطريقين، الأول: أن يكون يوسف هو الذي قد وضعها في متاع أخيه عمداً لفرط محبته له، لكي يستقي بها في سفره. والثاني: أنه وضعها خطأً، كأنْ يكون قد طَلَبَ الماء أثناء حديثه مع أخيه، فلمّا فرغ من شربه وضع الإناء في وعائه ناسيًا.

قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ* قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (يوسف: 72و73).

شرح الكلمات:

أقبلوا: أقبل عليه: نقيضُ أدبر (الأقرب). الإقبال: التوجه نحو القُبُل (أي الأمام) (المفردات).

صُواع: الصواع: المكيالُ الذي يكال به؛ الجامُ الذي يُشرب فيه (الأقرب).

زعيم: الكفيل (الأقرب).

التفسـير:

من الذي وضع؟ وماذا وضع؟ وبأية نية وضع؟ ثم كيف اتُّهموا بالسرقة؟ هذه كلها أمور كانت ولا تزال موضع اختلاف بين المفسرين، فقال بعضهم بأن يوسف هو الذي وضع الإناء في وعاء أخيه عمداً، ثم عاد ورمى إخوته بالسرقة (تفسير الطبري). والحق أن هذا افتراء خطير على سيدنا يوسف إذ كيف يُتوقع من يوسف الذي يبدي هذه المحبة الشديدة نحو أخيه، أن يلجأ إلى الأسلوب المشين استبقاءً لأخيه عنده لبعض الوقت، فيضع الإناء في رحله عمداً، ثم يتهمه بالسرقة ليترك في جبينه وصمة عار للأبد. فلا شك أن هذا ظلم وبهتان ونسبته إلى يوسف كفرٌ. إذ لا يُتوقع هذا حتى من أي إنسان شريف، دعك من أن يرتكبه نبي من أنبياء الله العظام عليهم السلام.

الواقع أن هذه أفكار يهودية مصدرها التوراة التي جاءت فيها القصة على هذا المنوال، فتقبلها المفسّرون السذّج دون أي تمحيص وتدقيق.

ربما كان الصُواع ليوسف، فقالوا: صُواع الملك   تملقا ليوسف، كما يفعل المتسولون عندنا، حيث ينادون علية القوم: أيها السيد، أيها الملك؛ أو كان الموظفون يستخدمون الأواني الملكية في هذه الأعمال. فجاز لهم أن يقولوا: نقصد صواع الملك.

ويبدو أن الإناء كان ثميناً، ولذلك قال المنادي: ولمن جاء به حمل بعير ، لأن مثل هذه الجائزة لا تكون إلاّ على الأواني الذهبية والفضية.

ولا داعي لأن يقول أحد: كيف كان يستخدم يوسف أواني ذهبية أو فضية، وهو أمر منهيّ عنه. ذلك أن النهي عن استعمال الأواني الذهبية والفضية خاص بالشرع الإسلامي، ولكن اليهود لم ينهوا عنه، كما لم يكن الفراعنة يكرهون استخدامه.

الحق أن المشكلة تنحل تلقائيًا بالتدبر في القرآن الكريم نفسه، حيث يتضح من القرآن أن يوسف وضع بنفسه السقاية أي إناء شرب الماء في متاع أخيه. كما يتضح منه أيضاً أنهم فقدوا صُواعًا- أي إناء تكال به الأشياء- ثم عثروا عليه في متاع أخيه أيضًا. وما كان وضع الإناء في متاع أخيه بحادث يستحق الذكر في القرآن لو لم يكن وراءه هدف وغاية. الرأي عندي أن يوسف وضعَ السقاية في وعاء أخيه عن عمد تعبيرًا عن حبه الشديد له. ويبدو أن الصُواع أي “الإناء الملكي” أيضًا كان في يده وقتئذٍ، فوضعه في وعاء أخيه ناسيًا. وعندما فقد العمّالُ الصواع ظنوا أن أحدًا رقه، فبدأوا يبحثون عنه في أمتعة القافلة كلها بما فيها إخوة يوسف. ولكن الذي قام بالتفتيش فتح وعاء أخيه بنيامين في آخر الأمر، نظرًا لما يبديه يوسف نحوه من حب وحفاوة، فعثروا على السقاية في متاعه. فأدرك يوسف على الفور أين وقع الخطأ. ولكنه لزم الصمت إلى حين مغادرة إخوته، موقناً بأن كلَّ ما حدث كان من تدبير الله تعالى، وهكذا بقي أخوه بنيامين عنده.

قَالُوا تالله لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ* قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ   (الآيات 74-76).

التفسـير:

لقد تمثل هذا الكيد الإلهي في قول إخوته في حماس ودون رويّة: (جزاؤه من وُجد في رحله فهو جزاؤه).. أي عقاب هذه الجريمة أن تحبسوا عندكم من تجدون الصُواع في رحله، ولو أنهم قالوا بدلاً من ذلك أن تأخذوا من سرقه فلربما ما استطاع يوسف استبقاء أخيه عنده، لأنه لو أبقاه عنده بعد قولهم هذا لعرّضه حتمًا لتهمة السرقة. ولكنهم قد أتاحوا بقولهم هذا ليوسف فرصة ليُبقي أخاه عنده دون تعريضه لأية تهمة.

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ الله نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ   (يوسف: 77)

 شرح الكلمات:

بدأ: بدأت بالشيء: ابتدأته، وبدأ بفلان: قدّمه (الأقرب).

وعاء: الوعاء: الظرفُ يُوعى فيه الشيء، جمعُه أوعية (الأقرب).

كِدنا: كاد له: احتال له (الأقرب).

ليأخذَ: أخذه: حبسه (الأقرب).

دين: دان يدين دينًا: أطاع. ودان فلانًا: خَدَمَه؛ حَكَمَ عليه. والدينُ: الطاعةُ؛ القضاءُ (الأقرب). واستعير(الدين) للشريعة (المفردات).

التفسـير:

يبدو أن الذي نادى هو نفسه الذي قام بالتفتيش عن الصُواع لا يوسف . والمراد من كلمة قبل وعاء أخيه أي قبل وعاء بنيامين الذي هو أخ ليوسف. ولم يؤخر التفتيش عن الصواع في وعاء بنيامين لأنه كان على علم بأن الصواع في متاعه وسوف يعثر عليه في نهاية المطاف، وإنما بدأ بالآخرين قبله أدباً واحتراماً له، لما كان يوسف يخصه بحب وحفاوة غير عاديين، ولم يتوهم أن يكون الصواع في وعائه.

ولكن الذي قام بالتفتيش فتح وعاء أخيه بنيامين في آخر الأمر، نظرًا لما يبديه يوسف نحوه من حب وحفاوة، فعثروا على السقاية في متاعه. فأدرك يوسف على الفور أين وقع الخطأ. ولكنه لزم الصمت إلى حين مغادرة إخوته، موقناً بأن كلَّ ما حدث كان من تدبير الله تعالى، وهكذا بقي أخوه بنيامين عنده.

إن قوله تعالى كذلك كِدنا ليوسف يؤكد أن هذا كان تدبيراً خاصاً من الله تعالى، ومع ذلك نجد بعض المفسرين مصرّين على اتهام يوسف بالكذب والخداع. والحق أن كل هذا كان تخطيطاً إلهيًا خاصًا، حيث جعل يوسفَ يترك “الصواع” في وعاء أخيه ناسيًا، ثم جعل إخوته يقولون متحمسين دونما رويّة: جزاؤه من وُجد في رحله فهو جزاؤه ، وهكذا اضطرهم ليتركوا بنيامين وراءهم عند يوسف. وبعد ما غادر إخوته يكون سيدنا يوسف قد أخبر عماله بالحقيقة، وهكذا ظهرت براءة بنيامين أمام القوم، فبقي عند يوسف دون أن يجد إخوته فرصة للاعتراض على استبقائه عنده.

وأما قوله تعالى: ما كان ليأخذ أخاه في دين الملِك فاعلم أن (في) هنا سببية، ونظيره الحديث الشريف الذى يقول: “دخلت امرأة النارَ في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعْها تأكل من خشاش الأرض”. (البخارى، بدء الخلق).. أي دخلت هذه المرأة النار بسبب قطة، فمعنى الآية ما كان يوسف ليأخذ منهم أخاه بموجب القانون الملكي، ولكن الله تعالى مكّنه من ذلك دون أن يخالف يوسف قانون الملك.

هنا درس وهو أن الإنسان إذا عاش في بلد ما فعليه أن يطيع قوانين ملِكه أو حاكمه. فكان يوسف عليه السلام نبيًا، ولكنه عاش مطيعا قوانين فرعون، بل هناك أكثر من ذلك إذ يقول الله تعالى:  إنه ما كان يليق بيوسف أن يأخذ أخاه منهم بالقوة مخالفا بذلك قانون البلد. مما يعنى أن عيش النبي مطيعا لقانـون حكومـة أو ملِك لا يتنـافى مع مكـانته الروحانـية، وإنما العكس هو الصحيح.

ولكن للأسف أن المسلمين عامة مصابون في هذه الأيام بتفكير مريض حيث يعتقدون أن طاعة ملك أو حاكم غير مسلم حرامٌ. والحقيقة أن نزعة الغدر هذه  والتفكير الخائن كهذا قد ألحقت بالمسلمين أضرارا فادحة وقضت على عنصر الأمانة فيهم. لا شك أن من حق المسلمين أن يسعوا للتقدم والازدهار، ولكن لا بخداع وغدر بل بصدق وأمانة. حينما يقيم أحد في بلد ما فإنه بعمله هذا يعاهد على العيش مطيعا لحاكمه، ومن فكّر بعد ذلك في الغدر بالحاكم فقد انحرف بعيدا عن جادة الحق والعدل، وسوف يدمر هذا التفكير أخلاقه وأعماله، لأنه يعرف في قرارة نفسه أنه منافق. وأرى أن الجبن السائد لدى مسلمي اليوم ناشئ إلى حد كبير من هذا النـزعة الفاسدة.

وبيّن بقوله تعالى نرفع درجات من نشاء أن مثل هذه الطاعة لا تحرم من الوصول إلى سدة الحكم والسلطان بل إن الله يهيئ من عنده لعباده الصالحين أسبابَ الغلبة والازدهار، لأنه منبع كل علمٍ ومالك كل سبب.

Share via
تابعونا على الفايس بوك