سر الخلافة (11)
  • إن نزول عيسى من السماء وبعثة الإمام في آخر الزمان ما هي إلا كلمات انخدع بها أصحاب التفكير السطحي
  • يعلم الله تعالى منذ الأزل أن المسلمين سينساقون خلف القشور ويتركون اللب فبعث مهديا ليهديهم

__

فكيف تعجب من قول: لم يمت عيسى، وقد جاء مثل هذا القول لقوم لحقوا بالموتى وماتوا بالاتفاق، وقُتلوا بالإهرياق، ودُفنوا باليقين. أما يكفي لك حياة الشهداء بنص كتاب حضرة الكبرياء مع صحة واقعة الموت بغير التماري والامتراء، فأيّ فضل وخصوصية لحياة عيسى مع أن القرآن يسمّيه المتوفَّى، فتدبَّرْ فإنك تُسأل عن كلّ خيانة ونفاق في يوم الدين. يومئذ يتندّم المبطِل على ما أصرّ، وعلى ما أعرض عنه وفرّ، ولكن لا ينفع الندم إذ الوقت مضى ومرّ، وكذلك تطلع نار الله على أفئدة الكاذبين. فويل للمزورين الذين لا ينتهون عن تَزيُّدِهم بل يزيدون كل يوم وكل حين. وكفى لخيانتك أن تتبع بغير تحقيق كل قول رقيق بلغ آذانك، وما تطهِّر من الجهلات جنانك، وتسقط على كل خضراء الدِمَن، كأهل الأهواء ومُحبّي الفتن، ولا تفتّش الطيب كالطيبين.

وقد علمت أن إطلاق لفظ الأحياء على الأموات وإطلاق لفظ الحياة على الممات ثابت من النصوص القرآنية والمحكمات الفرقانية، كما لا يخفى على المستطلعين الذين يتلون القرآن متدبّرين، ويصكّون أبوابه مستفتحين. فينير عليك مِن هذه الحقيقة الغرّاء الليلُ الذي اكفهرَّ على بعض العلماء حتى انثنوا مُحْقَوقفين بعدما كانوا مستقيمين.

ولعلّك تقول بعد هذا البيان إني فهمتُ حقيقة الحياة كأهل العرفان، ولكن ما معنى النـزول على وجه المعقول وعلى نهجٍ يُطَمْئِنُ قلوبَ الطالبين. فاعلم أنه لفظ قد كثر استعماله في القرآن، وأشار الله الحميد في مقامات شتى من الفرقان أن كل حِبْرٍ وسِبْرٍ ينـزل من السماء، وما من شيء إلا ينال كمالَه من العُلَى بإذن حضرة الكبرياء، وتلتقط الأرض ما تنفض السماوات، ويصبّغ القرائح بتصبيغٍ من الفوق، فتُجعَل نفسٌ سعيدًا أو من الأشقياء والمبعدين. فالذين سُعدوا أو شقوا يُشابه بعضهم بعضا، فيزيدون تشابهًا يومًا فيومًا، حتى يُظَنّ أنهم شيء واحد، كذلك جرت سُنة أحسن الخالقين. وإليه يشير بقوله: تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ (1)، فليتفكر من أُعطى قوى المتفكرين.

وقد يزيد على هذا التشابه شيء آخر بإذن الله الذي هو أكبر وأقدر، وهو أنه قد يفسُد أُمّة نبيٍّ غاية الفساد، ويفتحون على أنفسهم أبواب الارتداد، وتقتضي مصالح الله وحِكمه أن لا يعذّبهم ولا يُهلكهم بل يدعو إلى الحق ويرحم وهو أرحم الرّاحمين. فيفتح الله عينَ نبيٍّ متوفّى كان أُرسِلَ إلى تلك القوم، فيصرف نظره إليهم كأنه استيقظ من النوم، ويجد فيهم ظلما وفسادا كبيرًا، وغُلوّا وضلالا مُبيرًا، ويرى قلوبهم قد مُلِئَت ظلما وزورًا وفتنا وشرورًا، فيضجَر قلبه، وتقلق مهجته، وتضطرّ روحه وقريحته، ويعشو أن ينـزل ويُصلح قومه ويُفحمهم دليلا، فلا يجد إليه سبيلا، فيُدركه تدبير الحق ويجعله من الفائزين. ويخلق الله مثيلا له يشابه قلبُه قلبَه، وجوهرُه جوهرَه، ويُنـزِل إراداتِ الممثَّل به على المثيل، فيفرح الممثل به بتيسُّر هذا السبيل، ويحسب نفسه من النازلين، ويتيقن بتيقن تام قطعي أنه نزل بقومه، وفاز برَوْمه، فلا يبقى له همٌّ بعده ويكون من المستبشرين.

فهذا هو سرُّ نزول عيسى الذي هم فيه يختلفون. وختم الله على قلوبهم فلا يعرفون الأسرار ولا يسألون. ومن تجرّدَ عن وسخ التعصبات وصُبِّغَ بأنوار التحقيقات، فلا يبقى له شك في هذه النكات، ولا يكون من المرتابين. تلك قوم قد خلوا وذهبوا ورحلوا، فلا يرجعون إلى الدنيا ولا يذوقون موتَين إلا موتتهم الأولى، وتجد السُنة والكتاب شاهدَين على هذا البيان، ولكن بشرط التحقيق والإمعان وإمحاض النظر كالمنصفين.

وقد جاء في بعض الآثار من نبي الله المختار أنه قال: “لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلا مني أو مِن أهل بيتي، يواطئ اسمُه اسمي واسمُ أبيه اسمَ أبي”. أخرجه أبو داود الذي كان من أئمة المحدثين. فقوله “مني” و “يواطئ اسمه اسمي” إشارة لطيفة إلى بياننا المذكور، ففكِّرْ كطالب النور، إن كنتَ تريد أن تنكشف عليك حقيقة السر المستور، فلا تمرّ غاضَّ البصر كالظالمين.

واعلم أن المراد من مواطأة الاسمين مواطأة روحانية لا جسمانية فانية، فإن لكل رجل اسم في حضرة الكبرياء، ولا يموت حتى ينكشف سرّ اسمه سعيدًا كان أو من الأشقياء والضالين. وقد يتفق توارُدُ أسماء الظاهر كما في “أحمد” و”أحمد”، ولكن الأمر الذي وجَدْنا أحقّ وأنشد، فهو أن الاتحاد اتحاد روحاني في حقيقة الاسمين، كما لا يخفى على عارفٍ ذي العينين. وقد كان مِن هذا القبيل ما أُلهمتُ من الرب الجليل وكتبتُه في كتابي “البراهين”، وهو أن ربي كلّمني وخاطبني وقال: “يَا أَحْمَدُ يَتِمُّ اسمُكَ، وَلا يَتِمُّ اسْمِي.” فهذا هو الاسم الذي يُعطَى للروحانيين، وإليه إشارة في قوله تعالى: وَعَلّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا (2).. أي علّمه حقائق الأشياء كلها، وجعله عالما مجملاً مثيل العالمين.

وأمّا توارد اسم الأبوين كما جاء في حديث نبيّ الثقلَين، فاعلم أنه إشارة لطيفة إلى تطابُق السرَّين من خاتم النبيين. فإن أبا نبينا كان مستعدّا للأنوار فما اتفق حتى مضى من هذه الدار، وكان نورُ نبيّنا موّاجًا في فطرته، ولكن ما ظهر في صورته، والله أعلم بسرّ حقيقته، وقد مضى كالمستورين. وكذلك تشابهَ أبُ المهدي أبَ الرسول المقبول، ففكِّرْ كذوي العقول، ولا تمش معرضا كالمستعجلين.

وأظن أن بعض الأئمة من أهل بيت النبوة، قد أُلهمَ من حضرة العزة، أن الإمام محمدًا قد اختفى في الغار، وسوف يخرج في آخر الزمان لقتل الكفار، وإعلاءِ كلمة الملة والدين. فهذا الخيال يُشابه خيال صعود المسيح إلى السماء ونزوله عند تموُّج الفتن الصمّاء. والسرّ الذي يكشف الحقيقة ويبين الطريقة، هو أن هذه الكلمات ومثلها قد جرت على ألسنة الملهَمين بطريق الاستعارات، فهي مملوّة من لطائف الإشارات، فكأنّ القبر الذي هو بيت الأخيار بعد النقل من هذا الدار، عُبِّرَ منه بالغار وعُبِّرَ خروج المثيل المتحد طبعًا وجوهرًا بخروج الإمام من المغارة، وهذا كله على سبيل الاستعارة. وهذه المحاورات شائعة متعارفة في كلام رب العالمين، ولا يخفى على العارفين. ألا تعرف كيف أنّب الله يهود زمان خاتم النبيين، وخاطبهم وقال بقول صريح مبين: وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ….. وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نؤْمِنَ لَكَ حتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُم بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ .(3)

هذا ما جاء في القرآن وتقرأونه في كتاب الله الفرقان، مع أن ظاهر صورة هذا البيان يُخالف أصل الواقعة، وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان. فإن الله ما فَرَقَ بيهودِ زمانِ نبيِّنا بحرًا من البحار، وما أغرق آل فرعون أمام أعين تلك الأشرار، وما كانوا موجودين عند تلك الأخطار، وما اتخذوا العجل وما كانوا في ذلك الوقت حاضرين، وما قالوا يا موسى لن نؤمن حتى نرى الله جهرة بل ما كان لهم في زمان موسى أثرًا(4) وتذكرة، وكانوا معدومين. فكيف أخذتهم الصاعقة، وكيف بُعِثوا من بعد الموت وفارقوا الحِمام؟ وكيف ظلل الله عليهم الغمام؟ وكيف أكلوا المن والسلوى، ونجّاهم الله من البلوى، وما كانوا موجودين، بل وُلدُوا بعد قرون متطاولة وأزمنة بعيدة مبعدة، ولا تزر وازرة وزر أخرى، والله لا يأخذ رجلا مكان رجل وهو أعدل العادلين. فالسرّ فيه أن الله أقامهم مقام آبائهم لمناسبةٍ كانت في آرائهم، وسماهم بتسمية أسلافهم وجعلهم وُرثاء أوصافهم، وكذلك استمرت سُنة رب العالمين.

وإن كنت تزعم كالجهلة أن المراد من نزول عيسى نزولُ عيسى في الحقيقة فيعسُر عليك الأمر وتخطئ خطأً كبيرا في الطريقة، فإن تَوفِّي عيسى ثابت بنص القرآن، ومعنى التوفّي قد انكشف من تفسير نبي الإنس ونبي الجانّ، ولا مجال للتأويل في هذا البيان، فالنـزول الذي ما فسّره خاتم النبيين بمعنى يفيد القطع واليقين بل جاء إطلاقه على معان مختلفة في القرآن وفي آثار فخر المرسلين، كيف يعارض لفظَ التوفّي الذي قد حصحص معناه وظهر بقول النبي وابن العباس أنه الإماتة وليس ما سواه؟ وما بقي في معناه شك ولا ريب للمؤمنين. وهل يستوي المتشابهات والبينات والمحكمات؟ كلا.. لا تستوي أبدا، ولا يتبع المتشابهات إلا الذي في قلبه مرض وليس من المطهّرين. فالتوفّي لفظ محكم قد صرح معناه وظهر أنه الإماتة لا سواه، والنـزول لفظ متشابه ما توجّهَ إلى تفسيره خاتم الأنبياء، بل استعمله في المسافرين.

ومع ذلك إن كنتَ يصعب عليك ذكرُ مجدد آخر الزمان باسم عيسى في أحاديث نبي الإنس ونبي الجان ويغلب عليك الوهم عند تعميم المعنى، فاعلم أن اسم عيسى جاء في بعض الآثار بمعانٍ وسيعة عند العلماء الكبار، وكفاك حديث ذكَره البخاري في صحيحه مع تشريحه من العلامة الزمخشري وكمال تصريحه، وهو أن كل بني آدم يمسّه الشيطان يوم ولدتْه أُمُّه إلا مريم وابنها عيسى. وهذا يُخالف نصَّ القرآن: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ (5)، وآيات أُخرى، فقال الزمخشري: إن المراد من عيسى وأُمِّه كلُّ رجل تقيّ كان على صفتهما وكان من المتقين المتورعين. فانظر كيف سمّى كلَّ تقي عيسى، ثم انظر إلى إعراض المنكرين.

وإن قُلتَ أنّ الشهادة واحدة ولا بدّ أن تزيد عليه شاهدًا أو شاهدةً، فاسمعْ وما أخال أن تكون من السامعين. اقرأ كتاب “التيسير بشرح الجامع الصغير” للشيخ الإمام العامل والمحدث الفقيه الكامل عبد الرؤوف المناوي رحمه الله تعالى وغفر له المساوي وجعله من المرحومين. إنه ذكر هذا الحديث في الكتاب المذكور وقال: ما جاء في الحديث المزبور من ذكر عيسى وأُمّه “فالمراد: هما ومَن في معناهما”. فانظر بإمعان العينين كيف صرح بتعميم هذين الاسمين، فما لك لا تقبل قول المحققين.

وقد سمعتَ أن الإمام مالكًا وابن قيم وابن تيمية والإمام البخاري وكثيرًا من أكابر الأئمة وفضلاء الأُمّة، كانوا مُقرّين بموت عيسى ومع ذلك كانوا يؤمنون بنـزول عيسى الذي أخبر عنه رسول الله ، وما أنكر أحدٌ هذين الأمرين وما تكلم، وكانوا يُفوّضون التفاصيل إلى الله ربّ العالمين، وما كانوا في هذا مجادلين. ثم خلف من بعدهم خلفٌ وسوادٌ أقلَفُ وفيجٌ أعوجُ وأجوفُ، يجادلون بغير علم ويفرّقون، ولا يركنون إلى سِلم ويكفرون عباد الله المؤمنين.

فحاصل الكلام في هذا المقام أن الله كان يعلم بعلمه القديم أن في آخر الزمان يُعادي قوم النصارى صراط الدين القويم، ويصدّون عن سبل الرب الكريم، ويخرجون بإفك مبين. ومع ذلك كان يعلم أن في هذا الزمان يترك المسلمون نفائس تعليم الفرقان، ويتبعون زخارف بدعات ما ثبتت من الفرقان، وينبذون أمورًا تُعين الدين وتحبّر حلل المؤمنين. وتسقطون(6) في هوة محدثات الأمور وأنواع الأهواء والشرور، ولا يبقى لهم صدق ولا ديانة ولا دين، فقدر فضلا ورحمة أن يرسِل في هذا الزمان رجلاً يُصلح نوعَي أهل الطغيان، ويتم حجة الله على المبطلين. فاقتضى تدبيره الحق أن يجعل المرسَلَ سَمِيَّ عيسى لإصلاح المتنصرين، ويجعله سَمِيَّ أحمدَ لتربية المسلمين، ويجعله حاذيًا حذوَهما وقافيًا خطوَهما، فسماه بالاسمين المذكورين، وسقاه من الراحَين، وجعله دافِعَ همِّ المؤمنين ورافِعَ فتن المسيحيين. فهو عند الله عيسى من جهة، وأحمدُ من جهة، فاترُكِ السبل الأخياف وتجنَّبِ الخلاف والاعتساف، واقبل الحق ولا تكن كالضنين. والنبي كما وصفه بصفات المسيح حتى سماه عيسى، كذلك وصفه بصفات ذاته الشريف حتى سماه أحمد ومشابهًا بالمصطفى، فاعلم أن هذين الاسمين قد حصلا له باعتبار توجه(7) التام إلى الفرقتين، فسماه أهل السماء عيسى باعتبار توجُّهه وتألمه كمُواسي الأسارى إلى إصلاح فرق النصارى، وسمَّوه بأحمد باعتبار توجّهه إلى أُمّة النبي توجّهًا أشد وأزيد، وتألّمِه من سوء اختلافهم وعيشهم أنكد. فاعلم أن عيسى الموعود أحمد، وأن أحمد الموعود عيسى، فلا تنبذ وراء ظهرك هذا السرّ الأجلى. ألا تنظر إلى المفاسد الداخلية وما نالنا من الأقوام النصرانية؟ ألست ترى أن قومنا قد أفسدوا طرق الصلاح والدين، واتبعوا أكثرهم سبل الشياطين، حتى صار علمهم كنار الحُباحِب، وحِبرهم كسراب السُباسِب، وصار تطبُّعُ الشرِّ طِباعًا، والتكلّفُ له هوًى طباعًا، وأكبّوا على الدنيا متشاجرين؟

يأبر بعضهم بعضا كالعقارب ولو كان المظلوم من الأقارب، وما بقي فيهم صدق الحديث وإمحاض المصافات، وبدلّوا الحسنات بالسيئات. اشتغلوا في تطلُّب مثالب الإخوان ونسوا إصلاح ذات البين وحقوق أهل الإيمان، وصالوا على الإخوة كصول أهل العدوان. أدحضوا المودّات وأزالوا خلوص النيات، وأشاعوا فيهم الفسق والعدوان، واتبعوا العثرات والبهتان. زالت نفحات المحبة كل الزوال، وهبّت رياح النفاق والجدال. ما بقي سعة الصدر وصفاء الجنان، ودخلت كدوراتٌ في الإيمان، وتجاوزوا حدود التورع والتقاة، وتناسوا حقوق الإخوان والمؤمنين والمؤمنات. لا يتحامَون العقوق ولا يؤدّون الحقوق، وأكثرهم لا يعلمون إلا الفسق والنهات، وتغيَّرَ الزمان فلا ورع ولا تقوى ولا صوم ولا صلاة. قدّموا الدنيا على الآخرة، وقدّموا شهوات النفس على حضرة العزة، وأراهم لدنياهم كالمصاب، ولا يبالون طرق الآخرة ولا يقصدون طريق الصواب. ذهب الوفاء، وفُقد الحياء، ولا يعلمون ما الاتقاء. أرى وجوهًا تلمع فيهم أسرّة الغَدر، يحبّون الليلة الليلاء ويبزُقون على البدر. يقرأون القرآن، ويتركون الرحمان. لا يرى منهم جارُهم إلا الجَور، ولا شريكُ حدبهم إلا الغَور، يأكلون الضعفاء ويطلبون الكَور. كثُر الكاذبون والنمّامون، والواشون والمغتابون، والظالمون المغتالون، والزانون الفاجرون، والشاربون المذنبون، والخائنون الغدّارون، والمايلون المرتشون. قست القلوب والسجايا، لا يخافون الله ولا يذكرون المنايا. يأكلون كما يأكل الأنعام، ولا يعلمون ما الإسلام. وغمرتهم شهوات الدنيا، فلها يتحركون ولها يسكنون، وفيها ينامون وفيها يستيقظون. وأهل الثراء منهم غريقون في النعم ويأكلون كالنَّعم، وأهل البلاء يبكون لفقد النعيم أو من ضغطة الغريم، فنشكو إلى الله الكريم، ولا حول ولا قوة إلا بالله النصير المعين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك