أخلاق المسيح الموعود عليه السلام قبل بعثته

أخلاق المسيح الموعود عليه السلام قبل بعثته

هاني طاهر

  • نشأة المسيح الموعود في جو من الاعتكاف على الدين والزهد.
  • شهادة الأصدقاء والأعداء بحسن سيرة المسيح الموعود بعد إعلانه أنه المجدد

__

كـان المسيـح الموعـود منذ بداية نشأته معروفا بالصدق والتقوى وحب الخلوة وعدم الميل إلى الشهرة، وفيما يلي أهم أدلة على ذلك:

أولا: شهادته الشخصية. والشهادة الشخصية التي تُعلَن وسط أهل البلد ولا تجد معارضًا لا شك في صحتها؛ ذلك أنها لو كانت مغايرة للواقع لأعلن كثير من السامعين أنها محض كذب، ولأتوا بوقائع تفنّدها. لذا فإن مجرد الجرأة على مثل هذه الشهادة الشخصية هو دليل على صحتها. خصوصا إن كان مَن أعلنها رجلٌ له وزنه الديني أو السياسي، أو ادعى دعوى كبيرة جدا، مثل أنه المسيح أو المهدي أو المجدد.

وقد يقال هنا: هل يجوز لأحد أن يشهد لنفسه؟

والجواب: ذلك يجوز في هذه الحالة، لأن واجب النبي أن يسعى لإقناع الناس بصدقه، وهذا المعيار هام جدًّا، بل لا بد منه لإثبات صدق النبيّ. وقد أمر الله تعالى رسوله باستعمال هذا المعيار في قوله

  فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ .

ثم إن الرسول استعمله حين جمع الناس وقال لهم: لو أخبرتكم أن خيلا وراء هذا الوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقيّ؟… ثم إن المسيح عيسى ابن مريم قد استخدمه حين قال:

“مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟ فَإِنْ كُنْتُ أَقُولُ الْحَقَّ، فَلِمَاذَا لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي؟” (يوحنّا 8 : 46).

ثانيًا: تحدي المكذبين بالإتيان بنقيض هذه الشهادة. فإذا تحدى القائل نفسُه الآخرين، فهذا دليل ثانٍ هام جدًّا، إذ لا يتحدى أحدٌ خصومه في مسائل شخصية إلا فيما هو واثق فيه، ولا يُعقل أن يتحدى في مسألة يجد الخصوم وقائع تنقضها.

أما التحدي الذي أطلقه المسيح الموعود فهذا أحد نصوصه:

“إنكم لا تستطيعون أن تجدوا عليّ ذنبا ولا كذبا ولا افتراءً ولا خداعا في سابق حياتي، فيُقال إن شخصا كان قد تعَوّد على الكذب والافتراء وقد أضاف الآن إلى كذبه كذبة أخرى. أيّكم يستطيع أن يجد عيبًا في أي أمر من أمور حياتي السابقة؟ لقد شملني فضل الله تعالى منذ نعومة أظفاري، فأقام حياتي على التقوى، وإن في ذلك لآية للمتفكرين”.(تذكـرة الشهـادتين، الخزائن الروحانية مجلد 20 ص 64)

ثالثا: سكوت الخصوم عن الردّ، مع الحاجة الماسّة للرد على هذا التحدي، حيث لم نجد خصما واحدا قال مثلا: لقد خدعني ميرزا غلام أحمد مرةً، أو لقد كذب عليّ مرة. ومن هؤلاء الخصوم من كان يعرف حضرته منذ سنّ المراهقة. ولا بدّ أن الخصوم البعيدين قد جاءوا إلى قاديان وحاولوا أن يحصلوا على تصريح يسيء إلى ميرزا غلام أحمد ممن يعرفونه منذ طفولته، فلو كان قد سرق شيئا أو خدع صديقا أو كذب كذبة لنشروها في الآفاق.

رابعًا: شهادات الخصوم. وما أكثرها!

ورغم أنه قد قال بعقائد وأحكام كثيرة جدا تخالف الفكر السائد، إلا أن ذلك لم يمنع علماء كبار من أن يثنوا عليه بعد وفاته، ويتحدثوا عن مراحل حياته التي عرفوها.. وهذا يزيد من قيمة شهادتهم هذه.

يقول السيد منشي سراج الدين، والدُ المولوي ظفر علي خان، أحدِ أعداء الأحمدية الألداء:

“نستطيع أن نقول بناءً على شهادة عيان بأنه كان رجلاً صالحًا وتقيًّا جدًّا في سنّ المراهقة أيضًا. وبعد مشاغل الوظيفة اليومية (في سيالكوت)كان يقضي كلَّ وقته في دراسة دينية، وقليلاً ما كان يخالط الناسَ”.(جريدة ‎”زميندار” مايو 1908م نقلاً عن جريدة “بدر” 25/6/1908م، ص13)

يقول المولوي محمد حسين البطالوي:

“إن المؤلف (ميرزا غلام أحمد) قد أثبت أنه رجل مثابر في خدمة الإسلام، بالقلم واللسان، والحال والمال، وغير ذلك.. حتى أنه من النادر أن تجد له مثيلا بين المسلمين….. “إن مؤلف البراهين الأحمدية.. بحسب شهادة أصدقائه وأعدائه على السواء.. قد أقام حياته على شريعة الإسلام، وإنه تقي ورع”. (المجلد السابع من جريدة إشاعة السُنّة).

علما أن البطالوي كان من أصدقاء المسيح الموعود    منذ كان في السابعة عشرة من عمره، وإلى ذلك أشار البطالوي نفسه بقوله: “لا يوجد بين معاصرينا أحد هو أعلم منا بأحوال وأفكارِ مؤلِّفِ “البراهين الأحمدية”. فوطننا واحد، بل كنا زميلَين في الدراسة منذ مقتبل العمر حين كنا ندرس معًا “القطبي” و”شرح الملا”. ومنذ ذلك الحين لا تزال المراسلات واللقاءات مستمرّة بيننا إلى اليوم دون انقطاع.” (إشاعة السنة مجلد 7 ص 169، نقلا عن مقدمة التبليغ).

والظاهر أن المسيح الموعود أشار إلى الفترة ذاتها حين خاطبَ الشيخَ البطالوي قائلاً:

قطَعتَ وَدادًا قد غرَسناه في الصباوليس فؤادي في الوداد يقصِّرُ

وكتب عالم آخر من مشاهير العلماء وهو المولوي محمد شريف الذي كان يصدر صحيفة إسلامية اسمها “منشور محمدي” يصف كتاب البراهين الأحمدية ومؤلفه فقال: “… وقد كنا نتطلع منذ أمد بعيد إلى أن يظهر من بين المسلمين أحد رجالاتهم، الذي يكون مؤيدا من الله تعالى، فيتصدى للدفاع عن الإسلام، ويكتب كتابا يسد احتياجات العصر ومقتضيات هذا الزمان، ويُضمّنه الأدلة العقلية والمنطقية المستوحاة من الكتاب والسُنّة، ليبرهن ويُثبت أن القرآن هو كلام الله حقًّا  ووحيه إلى رسول الله ، وأن ذلك الرسول كان بحق الصادق الأمين، الذي اختاره الله رسولا للعالمين. وإننا لنشكر الله تعالى على فضله العظيم لأن آمالنا قد تحققت.. فها هو ذا الكتاب الذي كنّا نأمل ونتطلع إلى تأليفه ونشره منذ زمن طويل، واسمه “البراهين الأحمدية”. وقد ضمّنه المؤلف ثلاثمائة دليل على صدق القرآن الكريم، وعلى صدق نبوة محمد . إن مؤلف هذا الكتاب هو أجلّ العلماء وأقوَمهم، وهو بحر من العلم عميق الأغوار، وهو فخر مسلمي الهند جميعا”.

وقال مولانا أبو الكلام آزاد لدى وفاة سيدنا أحمد :

“…إن كتابات السيد الميرزا التي ألفها ضد المسيحيين والآريا الهندوس قد نالت قبولاً عامًّا، وهي غنيٌّة عن التعريف فيما يتعلق بهذه الميزة. وهذه الكتابات – وقد أنجزت مهمتها – لا بد لنا أن نقدِّرها ونعترف بعظمتها من الأعماق ، ذلك لأنه لا يمكن أن تُمحى من صفحة القلب ذكرياتُ ذلك الوقت العصيب حين كان الإسلام عرضة لهجمات الأعداء من كل حدب وصوب….. كانت أسباب الدفاع (عن الإسلام والمسلمين) ضعيفة لدرجة أنه لم تتوفر لهم حتى السهامُ إزاءَ المَدَافع، ولم يكن هناك أية آثار للهجوم ولا الدفاع. ولكن هذا الدفاع (الذي قام به حضرته) مزّق كليةً تأثيرَ المسيحيين السابق الذي كان في الحقيقة روحَ هجمة المسيحية لكونهاِ في كنف الحكومة، وليس ذلك فحسب، بل نجَّى أيضًا ملايينَ المسلمين من هجوم المسيحية الأكثر خطورة والموشك على النجاح، بل قد تبخَّر سحرُ المسيحية نفسها كالدخان. لقد غيّر حضرته أسلوب الدفاع وجعَل المغلوبَ غالبًا…”.

ونشر مقالاً لدى وفاة المسيح الموعود جاء فيه:

“وجدناه، وهو يناهز من العمر 35 أو 36 عامًا، مندفعًا بحماس ديني شديد. يعيش كمسلم صادق تقي ورع. قلبه غير متأثر بمغريات الدنيا. …. كان الإسلام قد أخذ منه كل مأخذ. مرةً يناقش الآريا، وأُخرى يؤلف في تأييد الإسلام وإثبات صدقه كتبا طويلة. ما زالت بالقلوب إلى الآن لذةُ المناظرات التي قام بها في مدينة هوشيار بور عام 1886، كذلك لم تَزَل بالنفوس إلى الآن تلك النشوة التي وجدناها بمطالعة الكتب الفريدة التي ألفه ردًّا على الأديان الأخرى وتأييدًا للإسلام”. (جريدة “الوكيل” 30/5/1908)

خامسًا: شهادات الأتباع المعاصرين..

لا خلاف في أنه آمن بالمسيح الموعود عدد من الذين عرفوه منذ طفولته، وهؤلاء لم يكونوا لِيؤمنوا به لو عرفوا عليه أي نوع من الكذب في بدء حياته، ثم لم يكونوا ليستمروا على الإيمان بعد أن شهد المسيح الموعود لنفسه أنه كان صادقا طوال حياته، ولو استمروا جدلا، فما كان لهم أن يستمروا أكثر من ذلك وقد أخذ يتحدى الخصوم أن يثبتوا أنه كذب مرة في حياته، أو خدع أو افترى أو أي عيب آخر. فلو كان قد عُرف عنه شيء من هذا لتخلى عنه أتباعه الذين آمنوا به بعد أن ثبت لهم أنه ينفي وقائع عرفوها منذ صغره. خصوصا أنه لا يُرجى من الإيمان به مال ولا جاه، بل إنّ على مَن يبايعه أن يتبرع بجزء كبير من ماله، ثم إنه يتعرض للاستهزاء والنقد اللاذع من محيطه، وتنهار مكانته الاجتماعية التي كان يحتلها في قومه، بل إن قتله يصبح محتملا.

ويكفي في هذا السياق أن أضرب مثلا بأحد كبار أطباء الهند الذي تعرف على المسيح الموعود في عام 1885، إنه المولوي نور الدين البهيروي الذي كتب للمسيح الموعود في عام 1888، “مولانا، مرشدنا، إمامنا! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يا عاليَ الجناب، أدعو الله تعالى أن أبقى في حضرتك طول الوقت، وأحقق الأهداف التي بُعثتَ من أجلها كإمام هذا الزمان ومجدد. لو سمحتَ لي فإني أستقيل من وظيفتي وأبقى في حضرتك ليل نهار، وإذا أمرتني فأترك كل شيءٍ وأتجول في العالم كله لدعوة الناس إلى الدين الحق، حتى أموت في هذا السبيل. أنا وكل ما عندي ليس لي بل هو لك. يا سيدي ومرشدي، أقول لك بكل صدقٍ لو أُنفقَ كل مالي وثروتي في سبيل نشر الدين فقد فزتُ بمرادي…… أنا مستعدٌّ لبذل كل ما عندي في هذا السبيل. فادْعُ لي أن أموت موت الصدّيقين.” (فتح الإسلام، الخزائن الروحانية ج 3 ص 36)

وإذا قيل إن هناك من كذّبه أيضا، فنقول: التكذيب بعد إعلان البعثة ليس إلا دليلا على قسوة قلب المكذِّب وليس دليلا على أن المبعوث السماوي كان قد كذب، وإلا فإن الأنبياء جميعا كذبهم قومهم رغم علمهم بصدقهم السابق.

وبعد هذه الأدلة الدامغة ماذا يمكن للخصوم أن يقولوا؟

إنه لا بد لهم من قول كي يبرروا كفرهم. وهذا دأب أعداء الأنبياء، ولو لم يجدوا ما يقولون لوُضعوا في موقف حرج جدًّا. لذا فإن أمامهم أحد رأيين؛ فإما أن يقولوا: يمكن للصادق أن يقرر الكذب فجأة، وإما أن ينفوا أنه كان صادقًا. فإن قالوا القول الأول هدموا دليلا من أهم أدلة صدق الأنبياء، والذي استخدمه سيدنا محمد وعيسى بن مريم وغيرهما. لذا لن يبقى لهم إلا أن يلجأوا إلى القول الثاني، وهو أنه لم يكن معروفا بالصدق، وحيث إنهم لن يجدوا رواية تفيد ذلك، فعليهم أن يلجأوا إلى حيلة أن المسيح الموعود لم يكن معروفا أصلا، أي لم يكن معروفا لا بصدق ولا بكذب، لأنه مجهول وغير مهم.

ويمكنهم أن يأتوا على ذلك بنصوص مبتورة للمسيح الموعود يصف نفسه فيها أنه لم يكن مشهورا وأنه لا يحب الشهرة، ويعبر فيها عن تواضعه وعن عدم سعيه لحيازة مناصب دنيوية. فيستنتج المعترض منها أنه لم يكن معروفا لأحد. وبالتالي تسقط كل الشهادات بحقه.

وقوله هذا مثل قول بعض الشيعة الذين تحدثوا عن عثورهم على دليل كفر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من خلال ما يروى أن أبا بكر الصديق كان يقول: “لو كانت رجلي اليمنى في الجنة لخشيت أن لا تكون اليسرى كذلك”، ويروى كذلك عن عمر بن الخطاب : “لو نادى المنادي يوم القيامة أيها الناس ادخلوا الجنة إلا رجلا واحد لظننته أنا”. مع أن هذه العبارات إن صحّت فتُحمل على تواضعهما.

وقد اقتبس المعترض هذه العبارة للمسيح الموعود : “وكان (هذا العبد) في أوّل زمنه مستورًا في زاوية الخمول، لا يُعرف ولا يُذكر، ولا يُرجى منه ولا يحذر، ويُنْكر عليه ولا يوقَّر، ولا يُعَدّ في أشياءٍ يُحدَّث بها بين العوام والكُبراءِ، بل يُظَنّ أنه ليس بشيءٍ، ويُعرَض عن ذكره في مجالس العقلاء”. (الاستفتاء)..

وانظر إلى العبارات اللاحقة التي لم ينقلها المعترض: “وبشّره ربّه في ذلك الزمن بأنّه معه وأنه اختاره، وأنه أدخله في الأحبّاء. وأنّه سيرفع ذكره، ويُعْلي شأنه، ويعظّم سُلطانه، فيُعرَف بين الناس، ويُذكَر في مشارق الأرض ومغاربها بالذكر الجميل والثناء. وتُشاع عظمته في الأرض بأمر ربّ السماء، ويُعان من حضرة الكبرياء. وتأتيه من كلّ فجٍّ عميق أَفواجٌ بعد أفواجٍ، كبحرٍ موّاجٍ، حتى يكاد أن يسأم من كثرتهم، ويضيق صدره من رؤيتهم، ويروعه ما يروع العايلَ المعيّل….”

ثم اقتطع ما تحته خط من هذه الفقرة: “وما جئتكم من هوى النفس، وما كنت مشتاق الظهور، بل كنت أحبّ أن أعيش مكتومًا كأهل القبور، فأخرجني ربي على كراهتي من الخروج، وأضاء اسمي في العالم مع هربي من الشهرة والعروج، ولبثتُ عمرًا كالسرّ المستور، أو القُنْفُذ المذعور، أو كرميم في التراب، أو كفتيل خارج من الحساب. ثم أعطاني ربي ما يُحفِظ العدا، ومنَّ عليّ بوحي أجلى. فاشتعل السُّفهاء وظلموا، وكان بعضهم من البعض أطْغى.. (الاستفتاء).

وسياق هذه كسابقتها.. وهكذا العبارة اللاحقة. إنه الحديث عن تحقق نبوءات، فبعد أن كان في هذا الوضع “بشّره ربّه في ذلك الزمن بأنّه معه وأنه اختاره، وأنه أدخله في الأحبّاء”.. وما دام ذلك قد تحقق فعليكم أن تؤمنوا به من خلال هذا الدليل على الأقل.

ثم يتحدث المعترض أن قاديان ليست بمشهورة.. وأن شهادة أهلها مجروحة، لأن المسيح الموعود “وصفهم بالبهائم”. وقد نقل ما تحته خط من هذه الفقرة:

“هذه آيات الله لا تنظرون إلى نورها، وتنكرون بعد ظهورها. ألا تفكّرون في أمري؟ أسمعتم اسمي قبل ما أنبأ به ربّي؟ فإنّي كنت مستورًا كأحدٍ من الأنام، غير مذكور في الخواصّ ولا العوامّ. ومضى عليّ دهرٌ ما كنت شيئا مذكورًا، وكنت أعيش كرجل اتّخذه الناس مهجورًا؛ وكانت قريتي أبْعَدَ من قصدِ السيّارة، وأحقَرَ في عيون النظّارة، درستْ طلولها وكُرِهَ حلولها، وقلّت بركاتها وكثرت مضرّاتها ومعرّاتها؛ والذين يسكنون فيها كانوا كبهائم، وبذِلَّتِهم الظاهرة يدعون اللائم؛ لا يعلمون ما الإسلام، وما القرآن وما الأحكام. فهذا من عجائب قضاء الله وغرائب القدرة، أنه بعثني من مثل هذه الخربة، لأكون على أعداء الدين كالحَرْبة. وبشّرني في زمن خمولي وأيّام قبولي بأني سَأكُون مرجع الخلائق، ولِصَولِ الكفرة كالسدّ العائق، وأُجلَسُ على الصدر، وأُجعل للقلوب كالصدر. يأتونني من كلّ فجّ عميق، بالهدايا وبكلّ ما يليق. هذا وحي من السماء، من حضرة الكبرياء، ما كان حديثًا يُفترى، ولا كلامًا ينسج من الهوى، بل وعد من ربّي الأعلى. وكُتب وطُبع وأُشيع قبل ظهوره في الورى، وأُرسل في المدائن والقُرى، ثم ظهر كشمس الضحى. (الاستفتاء).

ثم يعلق المعترض بقوله: “ومعلوم أن شهادة البهائم الذين لا يعرفون ما التقوى هي شهادة مجروحة خصوصاً إن كانت الشهادة متعلقة بالتقوى”.

فانظر إلى تحريف الكلم عن موضعه، مع أن الشهادات التي نستشهد بها ليست لأهل قاديان. فالبطالوي مثلا من بلدة بطالة، والمسيح الموعود ذهب إليها للدراسة، وهناك التقى بالبطالوي..

وحديث المسيح الموعود عن قاديان جاء في سياق تحدثه عن آيات صدقه، فهو من قرية بسيطة نائية لا يكاد يعرفها أحد، وأهلها بعيدون عن الدين كل البعد، فهم كالأنعام والبهائم بل أضل سبيلا.. فيا لها من آية أن يخرج من بينهم رجل يصلّي عليه صلحاء العرب وأبدال الشام، وتتحقق نبوءاته في هذه الظروف!

إن المسيح الموعود كان يحب زاوية الخمول، ولم يكن يسعى للشهرة، ولكن الله تعالى أمره بالخروج من هذه الزاوية والعزلة، وصار حضرته مناظرا ومعروفا ومشهورا قبل أن يعلن أنه المسيح بأكثر من عشرين سنة.. وهناك أدلة كثيرة على ذلك، وأكتفي بذكر بعضها:

الأول: ذهاب حضرته للدراسة في مدينة (بطالة) منذ كان في السابعة عشرة من عمره، ولا بد أن يكون كثير من الناس عرفوه عن قرب وعرفوا أخلاقه هناك .

الثاني: في سنة 1864 عمل في سيالكوت، وظل هناك أربع سنوات، ولا بد أنه كان معروفا في محيط العمل على الأقل.

الثالث: في سنة 1868 أو 1869 طُلب منه أن يناظر محمد حسين البطالوي ونذير حسين الدهلوي في مسألة مكانة الحديث من القرآن الكريم. فكيف يُطلب منه أن يذهب إلى بلد آخر وهو مجهول لا يُعرف؟

الرابع: يقول المسيح الموعود “… رأيت في رؤيا صادقة.. كانت من نوع الكشف الواضح.. أن الرجل المسمّى “شمرداس هندوسي ختري” الذي ما زال يعيش في قاديان، لم تحكم المحكمة ببراءته في القضية العسكرية التي كانت ضده، ولكنها خُفِّفت نصف عقوبته. أما زميله في السجن المسمّى “خوشحـال” فيُعـاقب بعقوبته كاملة. ولكن حينما رجع ملف قضيتهما من المحكمة العليا إلى المحكمة الأخرى، تصوّر أقاربهما أن المحكمة قد حكمت ببراءتهما. وذاع ذلك الخبر في البلدة قبيل صلاة العشاء وكنت على أهبة أداء صلاة العشاء حين أخبرني أحد المصلين أن الخبر يدور في البلد بأنهما رجعا إلى البلدة بعد حكم البراءة. وكنت قد أعلنت بين الناس (طبق الرؤيا) وقبل أن يُعلن قرار المحكمة أن المحكمة لن تحكم بالبراءة، (فلما سمعت خبرا مناقضا) شعرتُ في نفسي حزنا وقلقا وكربا لا أستطيع أن أُعرب عنه، وسرعان ما بشّرني ربي الذي هو دائما معي وحاميا لي، قبيل الصلاة أو أثناء الصلاة، فقال: “لا تخف إنك أنت الأعلى”.

وفي صبيحة اليوم التالي تبين أن ذلك الخبر عن براءتهما لم يكن إلاّ كذبا وافتراءً، وقد حُكِم عليهما كما أُخبِرتُ وكما كنت قد أخبَرتُ الناس قبل قرار المحكمة، وكان من بينهم شَرَمْبَتْ آرية الهندوسي” (الخزائن الروحانية:ج4 – كتاب البراهين الأحمدية الجزء الأول ص657)..

وهذه الحادثة كانت في عام 1870، أي أنه في تلك السنة كان معروفا أنه يعلن نبوءات بين الناس ويتحدث الناس بهذه النبوءات ويهتمون بها، مما يعني أنه كان معروفا ومشهورا، لأن مَن يعلن مثل ذلك، فلا بد أن يكون مشهورا، ولأن من يهتم الناس بنبوءاته ويتحدثون بها أنه قد مضى زمن طويل على قيامه بهذا العمل.

الخامس: “ومنذ حوالي عام 1872 بدأ ميرزا غلام أحمد يُعرف بين الناس بأنه البطل الذي يدافع عن الإسلام ضد هجوم المبشرين المسيحيين وفئات الهندوس من آرياسماج وبراهموسماج وغيرهم. فكان يبيِّن عظمة الإسلام وتعاليمه السامية في كل مجال بكتابة المقالات في بعض الجرائد والمجلات. وكانت إحدى أوائل مقالاته قد نشرت في مجلة “منشور محمدي” التي كانت تطبع كل عشرة أيام من بنجلور في “ميسور” بجنوب الهند. وبالإضافة إلى ذلك، كان يشترك بانتظام في مجلة “الوكيل” و “سفير الهند” و “فيديا باركاش” و “رياض الهند” وكلها تُنشر في أمرتسر، ومجلة “أخو الهند” و “آفتاب الهند” وكلتاهما تطبع في لاهور، ومجلة “وزير الهند” التي تصدر في سيالكوت، ومجلة “نور أفشان” وتصدر من لدهيانه، ومجلة “إشاعة السُّنَّة” التي كان يحررها زميل دراسته المولوي محمد حسين البطالوي من مدينة بَطاله، وفي فترة متأخرة اشترك أيضا في مجلة “أخبار عام” التي تصدر من لاهور”. فكيف يكون الرجلُ الذي يكتب في هذه الجرائد كلِّها مجهولا؟ وهو لا يكتب في مواضيع عابرة، بل أكثر المواضيع حساسية مما هو مَثارُ جدلٍ بين مختلف الأديان.

السادس: كان المسيح الموعود يعلن عن تلقي الوحي من الله تعالى منذ وقت مبكر، ومثل هذا الأمر يعتبر في غاية الغرابة، خصوصا أن الغالبية العظمى من المسلمين تنكر استمرار الوحي.. وهذا يؤدي إلى شهرة عظيمة. ويتحدث خصوم جماعتنا كثيرا عن ذلك حين يذكرون ما يسمونه المرحلة الأولى من مراحل دعاوى ميرزا غلام أحمد.

إمام الدين هذا هو أبو لهب بالنسبة إلى رسول الله ، وفيه وفي أمثاله من الأشرار أوحى الله إلى المسيح الموعود : ينقطع آباؤك ويُبدأ منك. وهذا ما حدث بكل جلال.. فقد انقطع نسل الأشرار من أقارب المسيح الموعود عليه السلام. ولم ينجب منهم إلا مَن آمن.

أما الشبهة الثانية التي أتى بها المعترض فلا تقل خبثًا عن الأول، فقد أتى برواية حرّف في ترجمتها، أو نقل ترجمة الأشرار المحرّفة، ثم زاد في تحريف المقصود منها. والرواية ببساطة يرويها ابن المسيح الموعود عن والدته حسب ما أخبرها زوجها المسيح الموعود ، حيث قالت: عندما كان حضرة المسيح الموعود شاباً ذهب لاستلام الراتب التقاعدي لجدك (والد المسيح الموعود ). وذهب خلفه ميرزا إمام الدين. وعندما استلم الراتبَ أخذه إمامُ الدين بخداعه والتحايل عليه في مشوار خارج قاديان بدل أن يأتي به إلى قاديان، وظلّ يتنقّل به من مكان إلى مكان حتى بدّد (إمامُ الدين) كل النقود، ثم تركه وذهب إلى مكان آخر. فشعر حضرة المسيح الموعود بالخجل ولم يرجع إلى البيت. وحيث إن والده كان يرغب في توظيفه فإن حضرته توجه إلى بلدة سيالكوت وعمل موظفاً في مكتب نائب المفوض براتب ضئيل”.

القصة ببساطة تقول:

إن الشرير الميرزا إمام الدين قد خدع المسيح الموعود ، حيث أنفذ هذا الشرير الراتبَ كله. ولكن الرواية لا تبين كيف تمّ هذا الخداع والتحايل، فلعل إمامَ الدين ادعى أن هناك مَن أدانه وأن عليه أن يسدّ جزءا من الديْن، أو أنه اشترى أشياء كثيرة له أو لغيره أو للفقراء، أو غير ذلك من احتمالات كثيرة.. لأن الرواية لم تركز على طريقة خداع هذا الرجل، بل ركّزت على بداية عمل المسيح الموعود في سيالكوت، والذي بدأ في عام 1864… وهذه هي الغاية من الرواية، لأنها تبين كذلك متى انتهى عمل المسيح الموعود في سيالكوت وسبب ذلك، حيث تبيّن ذلك في آخرها. والمعترض لم يذكر الرواية كلها، حيث إن حضرة أم المؤمنين تروي عن المسيح الموعود قوله: “عندما تركني ميرزا إمام الدين صار يتجول هنا وهناك، وأخيرا هاجم قافلةً مُحمّلةً بالشاي لينهبها، وقُبض عليه، ثم أُطلق سراحه في المحكمة”. وتروي تعليق المسيح الموعود على إطلاق سراحه بقوله: “يبدو أن الله تعالى قد أنقذه من السجن من أجلنا (لأنه لو بقي في السجن)، فبغضّ النظر عن أخلاق هذا الشخص (الشريرة) لقال عنّي الناس إن ابن عمّه كان سجينا”.

والآن لننظر إلى تحريفات ترجمة المعترض، حيث قال إن إمام الدين قد “رافق ميرزا غلام أحمد في مشواره”، بدل “مشى خلفه”.. ليوحي أنهما متفقان على تبذير راتب الوالد. والتحريف الثاني قوله: “حتى نفذت كلُّ النقود”، مع أن النص: حتى بدّد (إمام الدين) كل النقود. أي أن الفاعل هو إمام الدين وليس كليهما. والتحريف الثالث قوله: “قام إمام الدين بإغوائه”، مع أن النص: “قام إمام الدين بخداعه والتحايل عليه”. وقد أراد من هذا التحريف القول أنهما أنفقا المال في الغواية والضلال والسينما والملاهي وما شابه -مع أن هذه الأشياء لم تكن موجودة في تلك المنطقة- لذا رأينا هذا المعترض يقول بعد هذه التحريفات: “هذا هو الميرزا الذي تريدون منا تصديقه، رجل مضيع للأمانة منذ كان في شبابه! لقد أمّنه والده على راتبه التقاعدي فأضاعه ليتمتع مع رفاق السوء”.

القصة كلها تفيد بَساطة المسيح الموعود ، فهو يصدّق الناس ولا يسيء بهم الظن، حتى لو كانوا أشرارا مثل ابن عمه هذا (أبو لهب) الذي بعد 37 سنة من هذه الحادثة بنى جدارا بين بيت المسيح الموعود وبين المسجد، مما أضرّ بالجماعة كثيرا، وصار المسيح الموعود يدور مسافة طويلة ليصل المسجد، وهكذا ضيوفه. إن إمام الدين هذا هو أبو لهب بالنسبة إلى رسول الله ، وفيه وفي أمثاله من الأشرار أوحى الله إلى المسيح الموعود : ينقطع آباؤك ويُبدأ منك. وهذا ما حدث بكل جلال.. فقد انقطع نسل الأشرار من أقارب المسيح الموعود . ولم ينجب منهم إلا مَن آمن.

Share via
تابعونا على الفايس بوك