حالات ليست من الكذب

حالات ليست من الكذب

هاني طاهر

  • الكذب والحالات التي يُقصد فيها ولا تُعتبر كذباً.

__

الكذب هو تعمّد الإخبار بما ينافي الحقيقة بهدف الخداع، سواء كان تصريحا أو تلميحا، وسواء كان بكلمات واضحة أم بكلمات تحتمل أكثر من معنى، والذي يسمى تورية.. أي استعمال كلمات تحتمل معنيين بقصد أن يفهم السامع المعنى المخالف للحقيقة.

والكذب كله حرام، وهو قول الزور الذي يجب تجنبه مثلما يجب اجتناب الأوثان، قال الله تعالى:

  فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (الحج 31)..

ولكن هناك حالات ليست من الكذب، مع أنها كلام أو فعل لا يعبّر عن الحقيقة بدقة، بل أحيانا يكون بخلاف الحقيقة، ولكنه في كل الحالات ليس بقصد الخداع، بل بقصد آخر، وفيما يلي أهم هذه الحالات:

  1. تنمية الأقوال الحسنة وعدم ذكر الأقوال السيئة التي يقولها فلان بحق فلان بهدف الإصلاح بينهم، ففي هذه الحالة لم يُنقل الكلام بدقة، ولكن الذي نُقل صحيح في جوهره، وإنْ كان قد تمّت تنميته وإخراجه بثوب أجمل. يقول الرسول :
“لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَقُولُ خَيْرًا وَينْمِي خَيْرًا”..

فهذا ليس كذبا بحال.. فالتركيز على ما هو إيجابي في كلام فلان عند نَقْله ليس كذبا، بل هو تنمية للخير؛ ذلك أننا لم نغيّر الحقيقة، وإن لم ننقلها بدقة، ثم إننا لا نقصد أن نخدع أحدا؛ فإذا ذكر المرءُ أمورا صحيحة وأخرجها في سياق يساعد على الإصلاح بين الناس وتغافل عن أمور سيئة من أجل أن يصلح بينهم فهذا ليس كذبا؛ ذلك أن ذِكر الأمور السيئة لا يجوز أصلا، بل هو نميمة، فلم يبق إلا أن نذكر القول الحسن، وأن ننمّيه.

  1. المجاملات ليست من الكذب، فأنْ تلاطف زوجتك وتبالغ في وصف جمالها أو حسن طعامها ليس من الكذب، مع أنه ليس دقيقا؛ ذلك أنّ الدقة ليست مطلوبة في مثل هذه الأمور، وهذا ما تعارف عليه الناس، ثم إنه ليس فيها أي خداع، بل إن الناس قد تعارفوا على أن يبالغوا في المجاملات ولا ينقلوا وجهة النظر بدقة متناهية. وهذه الأقوال لا تؤخذ شهادةً، بل يُعرف أنها من باب المجاملة. ولكن ينبغي أن تكون المجاملة في حدود المعقول والمتعارف عليه، لا أن تتحول إلى نفاق ومدح زائف.
  2. تحديث الناس على قدر عقولهم ليس من الكذب، حتى لو كان الكلام بعيدا عن الدقة، المهم ألا يكون بقصد الخداع، ذلك أنّ السبب في عدم دقته هو عدم القدرة على جعله دقيقا.. ومثاله أن يسألك طفلٌ عن أمر لا يقدر على فهمه بحال، فأنت تسعى أن تقرب له الصورة قدر وسعك، والتي يمكن أن تكون بعيدة عن الحقيقة؛ فلو سألك ابنك الذي في الثانية من عمره: كيف دخلتُ بطنَ أمي، فماذا عساك أن تجيبه بصدق تام؟
  3. التدريج في الإخبار بالأمور الصادمة ليس من الكذب، مهما بعُدت عن الدقة، ذلك أن الدقّة والوضوح قد تصيب المتلقّي بسكتة قلبية، لذا يجب استخدام أساليب غير مباشرة وتدريجية وتلميحية وتعريضية في إيصال المعلومة، وقد قيل: “إن في الْمَعَارِيض مَنْدُوحَةً عَن الْكَذِبِ”.. أي أنّه لا بأس باستخدام التلميح لإيصال الفكرة بشكل تدريجي.. من دون أي نية بالكذب أو الخداع أو التزوير، بل من باب تخفيف وقْع الخبر على السامع حين يكون صادمًا، مثل وفاة عزيز عليه، أو من باب تهدئته وامتصاص الصدام معه وتجنّب حدوث مشاكل معه، أو ما شابه ذلك.

وقد فهم السلف الصالح هذا القول على هذا النحو، وليس على نحو ما يفهمه البعض من إباحة للتورية الخادعة؛ فقد قال البخاري في صحيحه في بَاب الْمَعَارِيضُ مَنْدُوحَةٌ عَن الْكَذِبِ:

وَقَالَ إِسْحَاقُ: سَمِعْتُ أَنَسًا: مَاتَ ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ فَقَالَ كَيْفَ الْغُلَامُ؟ قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: هَدَأَ نَفَسُهُ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَرَاحَ. وَظَنَّ أَنَّهَا صَادِقَةٌ. (البخاري، كتاب الأدب، باب في المعاريض مندوحة عن الكذب)

واضح أن المثال الذي أتى به البخاري لا يتعلق بتعمّد الكذب والتزوير، بل بتخفيف الصدمة والتدرج في إيصال الخبر المفجع. علما أنّ قول الحقيقة مباشرة وصراحةً قد يؤدي إلى صدمة قاتلة للسامع، فلا بد من التعريض والتلميح في مثل هذه الحالة. ثم ذكر البخاري الحديـث التالي مباشـرة:

 “كَانَ النَّبِيُّ فِي مَسِيرٍ لَهُ فَحَدَا الْحَادِي فَقَالَ النَّبِيُّ ارْفُقْ يَا أَنْجَشَةُ وَيْحَكَ بِالْقَوَارِيرِ” (البخاري)..

فهنا وصف الرسول النساء بالقوارير، وقد اعتبر البخاري ذلك من باب المعاريض. وقد أفرد أبو داود في سننه بابا بعنوان: “باب في المعاريض” نَقَضَ فيه المفهوم السائد لعبارة: “إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب”، فقد أخرج في سننه، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَسِيدٍ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ كَبُرَتْ خِيَانَةً أَنْ تُحَدِّثَ أَخَاكَ حَدِيثًا هُوَ لَكَ بِهِ مُصَدِّقٌ وَأَنْتَ لَهُ بِهِ كَاذِبٌ (سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في المعاريض).. ولم يروِ غير هذا الحديث في هذا الباب، مما يعني أنه يرفض جدا أن يتضمن التعريض أي كذب وتزوير وخداع، فالعبرة بمضمون الكلام وليس بشكله وحرفه.

فقولُ الحقيقة إن كان يؤدي إلى فتنة أو صدمة لا يجوز؛ فالنميمة مثلا هي قولٌ للحقيقة، ولكنها محرمة، والغيبة هي قولٌ لما هو حاصل، ولكنها حرام، وإخبار فلان بمقتل ابنه هو إخبار بالصدق، لكن قد يكون فيه حتفه، وتحديث المرء بكل ما سمع هو بحدّ ذاته نقلٌ لخبرٍ سَمِعَه، ولكن هذا النقل لا يجوز، بل يعتبر كذبا.

  1. حالات متفّق عليها مسبقًا أنّها قائمة على فنّ متفق عليه في إخفاء الحقيقة، فالمتحدث والسامع أو الفاعل والمشاهد قد اتفقا على ذلك مسبقا، سواء اتفاقا صريحا أم ضمنيا، ومثاله الألعاب المختلفة؛ فأنْ تهيئ لحارس المرمى أنك سترمي الكرة يمينا، ثم ترميها يسارا ليس كذبا، لأن هذه طبيعة اللعبة المتفق عليها مسبقا، فهذا ليس من الكذب ولا من الخداع، بل هو لعب.

والخطط العسكرية وإخفاؤها عن العدو وإشعاره بقوة جيشنا ليس من الكذب، بل هذه طبيعة المعركة، فمثلا حين انسحب خالد بن الوليد من مؤتة جعل يغيّر ميسرة الجيش مكان ميمنته بحيث يبدو للعدو أن جيشه كبير فيفزع أو يؤجل الهجوم، فهذا تكتيك وليس خداعا ولا كذبا ولا تزويرا، بل هذه خطة حربية متفق على جوازها في الحروب.. وهي مثل اللعبة المتفق على قواعدها.

وعدم إعطاء الأشرار فرصتهم لإدانة المظلوم في المحكمة ليس كذبا، حتى لو قال المظلوم عبارات غامضة؛ ذلك أن السائل يعلم الحقيقة ولكنه يريد شهادةً تدين المظلوم، ومثاله: أن تُسأل في المحكمة: هل تؤمن بالميرزا غلام أحمد نبيا؟ فالجواب: “إن نبيّنا هو محمد “. فجوابك صحيح، وقد يفهم منه القاضي أمورا خاطئة، لكنك لم تقصد ذلك، ولم تقصد أن تخدعه.. وقد يعيد السؤال، وأنت تعيد الجواب، فإن قال لك أجبني بنعم أو لا، فتقول: النبوة بحاجة إلى شرح، أما الواضح عندي فهو أن محمدا هو نبيّي لا غيره.

فالقاضي يريد أن يحكم بكفرك وقتلك، وهو يريد كلمة واضحة لإصدار هذا الحكم، لأنه لا يستطيع أن يحكم من دون هذه الكلمة الواضحة، لذا لا يجدر أن تشبع رغبته العدوانية، ولا داعي للكلام الدقيق في مثل هذه الحالة، فأنت معروف أنك أحمدي، ولن تنكر ذلك، ولكنك تتجنب الكلمات التي تؤدي إلى الحكم بكفرك عند الجهلة، فهذا المشهد أشبه بلعبة متفق على قوانينها.

  1. عبارات يعرف عامة الناس أنها ليست مقصودة، بل من ورائها نكتة وعبرة وفكرة نافعة، ولكنها قد تكون غامضة نوعا ما عند البعض وواضحة عند الأذكياء. وعموم السامعين يعلمون أن ظاهر الكلام ليس مقصودا، ولكن البلهاء أو المتسرِّعين أو المتورطين في جريمة قد يظنون أنه مقصود لذاته. وهذا لا يُعتبر كذبا بسبب هؤلاء القلة، بل يُعتبر كلاما يراد به التأثير الذي لا يقدر عليه الكلام المباشر، أو يراد به كشف حقيقة لا تُكشف بالكلام المباشر.. وهذا كله ليس من الكذب، وفيما يلي أمثلة:

أ: قول إبراهيم بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا (الأنبياء 64).. أي أن الذي حطَّم الأصنام هو هذا الصنم الكبير، فظاهر الكلام مخالف للحقيقة، فالذي فعله إبراهيم وليس كبيرهم، ولكن عموم السامعين يعلمون أن المقصود من هذا الكلام هو: أيها المغفلون، كيف تأبهون بتحطيم حجارة صمّاء؟ هل هي آلهة وهي لا تدافع عن نفسها؟ فهذا ليس كذبا مع أنه خلاف الحقيقة، لأنه ليس بقصد الخداع، بل بقصد التأثير والحضّ على التفكير.

ب: حكم سليمان بتقطيع الطفل -الذي ادّعت امرأتان أنه ابن كلّ منهما- نصفين.. فظاهر الحكم مخالف للحقيقة، ولكن عموم السامعين يعلمون أنّ هذا الحكم ليس مقصودا، وإنما يريد سليمان أن يوصل فكرة، وهم ينتظرون معرفة هذه الفكرة، ولكن المرأة المعتدية الحاسدة تصدِّق هذا الحكم وتفرح له وتقبل به، أما أم الطفل فتصرخ أنها لا تريد ابنها، بل تتنازل عنه للمرأة الحاسدة.. فسليمان لم يقصد أن يخدع أحدا، بل أراد كشف حقيقة، فأصدر حكمًا يعلم سامعوه أنه ليس مقصودا لذاته، اللهم إلا مَن هو مستهدَف، بنية كشف الحقيقة.

ج: قول الرسول لعجوز أنه لا يدخل الجنة عجوز، وهو يعلم أنها ستفهم خطأً، وقد يفهم آخرون أيضا العبارة خطأً، ولكن لم يقصد الخداعَ، بل قصد إيصال فكرة وترسيخها، كما أنّ فترة إساءة الفهم لحظيّة، ويعلم  أنها لحظيّة، فالموضوع هنا أسلوب تأثيري لا أكثر.

وأحيانا نقول قولا بغاية أن يكون مقدمة لإيصال فكرة، ولكن الآخرين يفهمونه خطأً، ولا يكون هناك وقت لإيضاح المقصود، فهذا ليس كذبا، بل هو اختصار للكلام في وقت لا يجد فيه المتحدث فرصة للتوضيح، فمثلا لو سألك متطفِّل: من هذا الذي معك؟ وأنت لا تعرف مدى جدّيّته من السؤال، وليس لديك وقت للتفصيل، فيمكن أن تجيب إجابة غامضة تستكشف منها أحواله، فإجابتك هذه ليست بِنِيّة خداعه، بل بِنِيّة استكشافه، فلو ظهر أنه جادّ في السؤال أكملتَ معه، وإن ظهر أنه شخص عابر يريد أن يلقي هذا السؤال ويذهب فتتركه يذهب غير آسف. ويمكن فهم الرواية المنسوبة إلى أبي بكر الصديق   عنه حين سأله شخص عن هذا الذي يرافقه، وكان ذلك خلال الهجرة من مكة إلى المدينة فقال: هذا هادٍ يهديني السبيل”، فأبو بكر يريد من هذه العبارة أن تكون مقدمة لحديث طويل لو كان السائل جادا، ولكن السائل لم يعلق على إجابته.

وإذا سمّينا بعض هذه الحالات توريةً فهذه التورية لا بأس بها، وهي بخلاف التورية التي في ذهن المشايخ… والتي هي كذب في حقيقتها.

  1. المبالغات

المبالغة أن لا تتقيد في وصف الشيء بما هو عليه، بل تزيد ذلك أضعافا مضاعفة بغرض التأثير في السامع وليس خداعه؛ فالسامع يعرف أنك تبالغ، ولكنه يتأثر بوصفك. وهو ليس بكذب لأنه لا يُقصد به الخداع ولا تغيير الحقيقة ولا التزوير، بل يقصد به التأثير في السامع، مع أنه غير دقيق، بل مخالف للحقيقة حسب ظاهره. وقد استخدم القرآن الكريم أسلوب المبالغة، فقال الله تعالى:

  فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ (يوسف 32)..

فلا يمكن أن تكون هذه النساء قد قطعن أيديهن حرفيا، بل يمكن أن يكون المقصود أنّ بعضهن جرحن أيديهن بالسكاكين. أو بمعنى عضضنَ أناملهن ندمًا. وفي الحالتين هذه مبالغة، فالأيدي لم يتم تقطيعها.

  1. الكنايات

الكناية “لفظ أُريدَ به غير معناه الذي وضع له، مع جواز إرادة المعنى الأصلي”، كأن تقول: فلان كثير الرماد، وتقصد أنه كريم ولا تقصد أن الرماد في بيته كثير حتى لو كان هو كذلك. ولكن السامع يفهم قصدك، وأنت لم تقصد الخداع أو التزوير.

  1. المجاز

المجاز هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة بينهما، وله ضوابط وأصول، وهو أنواع. ومثاله:

وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا (يوسف 83)،

مع أن المقصود: وَاسْأَلِ أهل الْقَرْيَةَ واسأل أصحاب الْعِيرَ. فذكر المكان وأراد أهله.  وهذا ليس من الكذب في شيء، لأن السامع يعرف المقصود.

Share via
تابعونا على الفايس بوك