حماية منقطعة النظير للقرآن الكريم
  • شهادة ألد الأعداء بعدم تحريف القرآن
  • لا يمكن مقارنة التوراة بالقرآن
  • أوحى الله كتابة القرآن لمحمد المصطفى
  • حفظ “الذكر” عهد من الله

__

(تتمة تفسير الآية المنشورة في العدد السابق)

يقول السير وليم ميور :

“What we have, though possibly created by himself, is still his own.”

أي من الممكن جدًّا أن يكون القرآن من اختراع محمد ( )، وربما أحدث فيه تغييرا وتعديلا، إلا أنه مما لا شك فيه أن هذا القرآن الذي بين أيدينا هو نفسه الذي أتانا به محمد. (حياة محمد ص 562)

ويضيف قائلا:

“We may upon the strongest presumption affirm that every verse in the Qur’an is genuine and unaltered composition of Muhammad himself.”

أي أننا نستطيع الجزم – بناءً على قياسات قوية – بأن كل آية في القرآن الذي بين أيدينا هي آية أصلية غير محرفة، بل إنها هي هي كما أوردها محمد ( ). (المرجع السابق)

وبعد قوله بأن ترتيب القرآن أمر غير مفهوم يستطرد قائلا:

“There is otherwise every security internal and external that we possess the text which Muhammad himself gave

forth and used.”

أي غير أن لدينا جميع أنواع البراهين القاطعة – سواء كان من قبيل الشهادة الداخلية أو الخارجية – أن هذا الكتاب الذي هو بين أيدينا هو نفس الكتاب الذي عرضه محمد على العالم واتخذه دستورًا لحياته. (المرجع السابق ص 561)

ثم يقول:

 “And conclude with at least a close approximation to the verdict of Van Hammer that we hold the Qur’an to be as surely Muhammad’s words

 as the Muhammadans

 held it to be the word of God.”

أي أننا، وإن لم نتفق مع السيد وان هامر تمامًا، إلا أننا نتوصل إلى نتيجة مماثلة لما توصل إليه، فنؤكد أن القرآن المتداول اليوم هو بكل يقين نفسُ ما اخترعه محمد مثلما يؤكد المسلمون أنه كلام الله يقينًا، لم يتعرض لتحريف ولا تبديل.

وأما نولدكه فيقول:

“Slight clerical errors there may have been, but the Qur’an of Othman contains none but genuine elements, though sometimes in every strange order. Efforts of European scholars to prove the existence of later interpolations in the Qur’an have failed.”

أي من الممكن أن يتضمن القرآن أخطاء إملائية بسيطة، ولكن فحوى القرآن الذي قدّمه عثمان ( ) للعالم هو نفس ما عرضه محمد ( )، وإن كان ترتيبه يبدو غريبًا جدًّا في بعض الأحيان. لقد فشلت تمامًا محاولات العلماء الأوروبيين في إثبات أي تحريف في القرآن فيما بعد. (الموسوعة البريطانية، القرآن)

هذه شهادات من ألد أعداء الإسلام، والفضل ما شهدتْ به الأعداء.

أو ليس من أعظم الشهادات على كون هذا الكتاب من عند الله أن نزل بين قوم أُمّيين، ومع ذلك ظل محفوظًا تمامًا. بينما نزلت التوراة والإنجيل بين قوم كانوا يُعتبرون مثقفين، ورغم هذا لم تُكتب لأي منهما السلامة من أيدي المحرّفين! يقول السير وليم بهذا الصدد بكل حسرة ومرارة: إن المقارنة بين كتاب المسلمين النـزيه تمامًا من أي تحريف وبين أسفارنا ذات النصوص المتباينة المتناقضة هو كالمقارنة بين شيئين لا شَبَهَ بينهما على الإطلاق. (حياة محمد ص 558)

الحق أنه لو أُحرقت نسخ التوراة كلها اليوم لن يستطيع أصحابها أن يجمعوا حتى خمس ما ورد فيها، ولكن لو فُقدت – لا سمح الله – جميع المصاحف من العالم لاستطاع المسلمون جمع القرآن بصورته الكاملة خلال أيام، بل إننا نستطيع كتابته كاملا حتى في قريتنا الصغيرة هذه قاديان، ناهيك عن المدن الكبيرة.

والسؤال الذي يفرض نفسه هو: هل المحافظة التامة على القرآن حتى اليوم كانت عن طريق الصدفة فحسب؟ إن تاريخ الإسلام يبين لنا أن هذا الأمر لم يكن صدفة، بل إن حمايته الظاهرة تمّت بطريقين ذُكرا في مستهل هذه السورة وهما: (الكتاب) أي الكتابة و(القرآن) أي القراءة؛ فإن الله تعالى قد تولى المحافظة عليه مع نزول الآية الأولى منه حيث كانت آياته تُكتَب وتدوَّن أولاً بأول. ثم هيأ الله    لهذا القرآن حفّاظًا مشغوفين به يحفظون كل حرف منه عن ظهر قلب؛ يرددونه ليل نهار، ويقرؤونه على أسماع الآخرين. كما فرض الله على المسلمين أن يقرءوا في صلواتهم ما تيسَّر من القرآن عن ظهر قلب.

ولو قيل: إنما حُفظ القرآن لأن محمدًا فكّر بحفظه بهذا الطريق، لقلنا: حسنًا، فلماذا لم تخطر هذه الفكرة على بال زرادشت وموسى وصاحب “الفيدا” وغيرهم؟ مما يدل أن الله تعالى هو الذي ألقى هذه الفكرة في قلب محمد r. عندما عاد كولومبس من اكتشاف أمريكا قال له بعض الحساد: أي مفخرة لك في ذلك؟ لو أننا خرجنا لاكتشفناها نحن أيضًا. فانبرى كولومبس للرد عليهم بأن أخذ بيضة وناولهم إياها قائلا: حسنًا، تعالوا ثبِّتوا لي هذه البيضة على الطاولة التي أمامكم؟ فحاول الجميع ولكن بدون جدوى. فقام كولومبس وأتى بإبرة ثَقَبَ بها البيضة، واستخرج شيئًا من مائها اللاصق ووضعه على الطاولة، ثم ثبَّت به البيضة. فقالوا: نحن أيضًا نستطيع فعلَ ذلك. فقال لهم: لقد احتججتم عن تقصيركم في اكتشاف أمريكا بأن الفرصة لم تتهيأ لكم، ولكني كنت منحتُ لكم الفرصة لتثبيت البيضة، فلماذا لم تستعينوا بعقولكم كما فعلتُ أنا.

(Admiral of The Ocean Sea,

  1. 1 P. 349)

كذلك نقول للمعترضين: لماذا لم يلجأ أهل الديانات الأخرى إلى التدابير التي اتخذها صاحب القرآن للحفاظ عليه؟ ولماذا لم تخطر هذه التدابير إلا على بال محمد ؟

ويجب أن لا يغيب عن البال أنه لم يكن بوسع محمد ، بدون عون الله تعالى، أن يُلقي العزيمة في قلوب أولئك الذين انبروا يحفظون القرآن عن ظهر قلب ويقرؤونه في صلواتهم، ولذلك أخبر الله تعالى إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون .. أي نحن الذين سنأتي بالذين سيقومون بحفظ القرآن. ولقد مضى على هذا العهد الإلهي أكثر من 13 قرنًا ظهر فيها على الدوام ملايين الحفاظ.

هناك من الأوروبيين الذين يجهلون هذه الحقيقة فيقولون: من الذي يستطيع حفظ هذا الكتاب الضخم عن ظهر قلب؟ فليعلم هؤلاء أنه يوجد حتى في قريتنا الصغيرة هذه قاديان العديد مِن حفَظة القرآن الكريم، منهم ابني ناصر أحمد – سلّمه الله تعالى – الذي كان فرغ من حفظه وهو لا يزال في الحادية عشرة من عمره. الحق أن القدرة الإلهية الخاصة قد أنزلت القرآن بكلمات وترتيب خاص بحيث يتم حفظه بكل سهولة. إنه ليس بشعر، ولكنه أسهل حفظًا من الشعر. فإن حفظه لا يستغرق حتى نصف ما يُستغرق في حفظ العبارات الإنجليزية أو الأردية. يقول أحد الكتّاب الإنجليز: إن القرآن كلام عجيب بحيث يضطر الإنسان لقراءته بالترتيل. فالواقع أن لغة القرآن وأسلوبه هو أيضًا من الأسباب التي خلقها الله تعالى لحفظه من الضياع أو التحريف.

بالإجمال فهذه هي الوسائل الأربع التي خلقها الله تعالى لحفظ القرآن الكريم: (أولاً): لقد هيأ الله منذ البداية أناسا يحفظون القرآن من أوله إلى آخره؛ و(ثانيًا): جعله كتابًا سهل اللغة جميل العبارة بحيث يسهل حفظه،؛ و(ثالثًا): فرض قراءة ما تيسر منه في الصلوات عن ظهر قلب؛ و(رابعًا): ألقى في قلوب الناس شوقًا وشغفًا غير عاديينِ لتلاوته. يعترض النصارى دومًا على المسلمين بأنهم يعكفون على قراءة القرآن بلا تدبّر دون أن يفهموا ما يقولون؟ ولكن أحدًا لو تدبر في هذه العادة حقًّا لتبين له أن هذا الأمر أيضًا تصديق للوعد الذي قطعه الله في هذه الآية. ذلك أن الله قد ألقى في قلوب المسلمين حبًّا جمًّا للقرآن الكريم بحيث إنهم لا يبرحون يتلونه سواء فهموا كلماته أم لم يفهموها. لا شك أن على كل مسلم ومسلمة أن يقرأ القرآن ويتدبر معانيه، لأن التهاون في هذا الأمر قد سبّب دمارًا كبيرًا للمسلمين، غير أن ما أريد تأكيده هو أن استمرارهم في تلاوته وحفظه لبرهان ساطع على تحقق الوعد الذي قطعه الله في هذه الآية.

الحق أنه لو أُحرقت نسخ التوراة كلها اليوم لن يستطيع أصحابها أن يجمعوا حتى خمس ما ورد فيها، ولكن لو فُقدت – لا سمح الله – جميع المصاحف من العالم لاستطاع المسلمون جمع القرآن بصورته الكاملة خلال أيام، بل إننا نستطيع كتابته كاملا حتى في قريتنا الصغيرة هذه قاديان، ناهيك عن المدن الكبيرة. ولكن ليس هناك أي كتاب سماوي آخر يمكن أن يبقى محفوظًا بشكل كامل، لو أُتلف مرة. إن هذه لميزة قد خصّ بها الله القرآن الكريم وحده.

ومن الوسائل التي اتخذها الله لحفظ كلامه الكريم أيضًا أنه أشاعه في مختلف أقطار العالم عقبَ اكتمال نزوله على الفور، فلم يبق هناك احتمال لتغييره وتحريفه. يقال إن الحكومة الروسية أرادت مرة طبع المصحف بعد حذف آيات الجهاد منه، فقيل لها إن القرآن قد أشيع في الدنيا كلها وأن هذه الآيات لموجودة في العالم أجمع.. فأقلعت عن خطتها الخبيثة.

وكان من وسائل حفظ هذا الوحي أيضًا أن العلوم الإسلامية تأسست على القرآن الكريم نفسه، وهكذا تم حفظ كل حركة وسكون فيه. فمثلاً اختُرع علم النحو لخدمة القرآن حيث يقال عن نشوء هذا العلم إن أبا الأسود الدؤلي جاء سيدنا عليًّا يشكو إليه مسلمًا حديثَ العهد بالإسلام كان يلحن في قول الله تعالى إن اللهَ بريءٌ من المشركين ورسولُه ، حيث يقرأ خطأً: (ورسولِه)، وهذا باعث على الخوف من أن المسلمين الجدد قد يجدون صعوبة في فهم القرآن الكريم. وكان سيدنا علي حينئذ على فرسه يريد الخروج، فأملى – وهو على هذه الحال – على أبي الأسود بعضَ القواعد كنموذج وقال: اُنْحُ نَحْوَه.. أي ضَعْ القواعد على ذلك المنوال. ومن هنا سُمّي هذا العلم “النحو”.

وهناك علم التاريخ الذي وضعه المسلمون أيضًا لخدمة القرآن الكريم لأنهم عندما أخذوا في تدوين أخبار الأمم الواردة في القرآن دوّنوا كذلك أحوال الأقوام الأخرى.

وهناك علم الحديث الذي بدأه المسلمون ليعرفوا كيف فسّر رسولهم الكريم ما أُنزل عليه من عند الله تعالى.

ثم إنهم قاموا بتجديد علم الفلسفة عند تصدّيهم لمطاعن الفلاسفة في القرآن الكريم. وشقّوا في مجال المنطق طريقا جديدا أكثر تطوّرًا. ثم أبدعوا في تأسيس علم الطب على مبادئ جديدة بتوجيه من القرآن الكريم. ثم إنهم حين أرادوا ذكر الأمثلة والنظائر في النحو استشهدوا بآيات الذكر الحكيم، إذ اعتبروها أروعَ نموذج للأدب العربي، بل اقتبسوا آياته كنظائر في كل المجالات العلمية؛ وأرى أنه لو جُمعت آياته المقتبسة هنا وهناك في شتى المصادر والمواضيع لتمكنّا من جمع القرآن مرة أخرى دون اللجوء إلى أي مصدر آخر.

وهناك فائدة أخرى جناها الإسلام من اهتمام المسلمين بتحصيل العلوم المادية في سبيل خدمة القرآن. ذلك أنه.. بينما أصبح العلماء الماديون من أتباع الأديان الأخرى كارهين لكتبهم الدينية كراهة شديدة.. لم يبرح أصحاب هذه العلوم من المسلمين متمسكين بالقرآن خادمين له دائمًا، لأنهم كانوا يدركون تمامًا أن القرآن لا يخالف العلوم الحقيقية بل يؤيدها ويدعمها.

ومما ساعد على حفظ القرآن الكريم أيضًا أنه بعد نزوله توقفت اللغة العربية الفصحى عن التغير والتبدل. لم تبق في الدنيا لغة من اللغات على ما كانت عليه قبل 13 قرنًا إلا العربية. خذوا الإنجليزية مثلاً.. فإن ما كتبه بها جاسر وشيكسبير قبل 3 قرون فقط غدا اليوم بحاجة إلى الشرح حتى يفهمه القارئ، لأنه قد طرأ على اللغة تغير كبير في هذه الفترة الوجيزة أيضًا. ولكن القارئ لا يحتاج إلى القواميس القديمة لفهم لغة القرآن ما دام يعرف العربية الفصحى.

علاوة على هذه الوسائل الظاهرة لحماية نص القرآن فإن هناك تدبيرًا آخر لا دخل للملائكة فيه، قد اتخذه الله للحفاظ على معاني القرآن، ألا وهو الإلهام. ذلك أن الملائكة ليست سببًا للإلهام الإلهي، بل الله تعالى هو الذي يكلّم عبادَه، وما الملائكة إلا وسيلة لإيصال ذلك الإلهام إلى البشر؛ ولذلك قال الله تعالى: إِنا نحن نزَّلْنا الذِّكْرَ وإنا له لحافِظون .. أي سوف نحافظ على هذا الوحي في المستقبل بإلهامنا المتجدد من حين لآخر.. وذلك ببعث المجددين والمأمورين الذين نوحي إليهم.

الواقع أن الكتاب الذي يكون محفوظًا في نصه فقط، من دون أن تكون معانيه محميةً من الدس والتزوير، لا يمكن اعتباره كتابًا محفوظًا حقًّا. فلو افترضنا أن “الفيدا” كتابَ الهندوس محفوظ بنصه، فلن يُعتبر مع ذلك محفوظًا بشكل تام، لأن اللغة التي نزل بها هذا الكتاب لم تعد محفوظةً، وبالتالي أصبحت معانيه مشتبهة كليةً. فما لم يبين أحدٌ المفهوم الصحيح لهذا الكتاب بإلهام إلهي فمن الذي يصدّق أنه يبيّن مفهومًا سليمًا، أو يعمل بهذا الكتاب كما أراد الله ذلك. ولا يمكن إزالة هذا العيب من هذه الكتب إلا أن يقيم الله من فترة إلى أخرى أناسًا يعودون بالقوم إلى المفهوم الصحيح للكتاب بتلقين منه . ومثل هذه الحماية لم تتيسر بشكل دائم لأي كتاب إلا القرآن الكريم. لا شك أنها كانت ميسرة للأسفار الأخرى أيضًا عندما كانت تتمتع بالحياة.. أي كانت صالحة للعمل، أما الآن فلا. واليوم لا يحظى بهذه الحماية إلا القرآن وحده. إنه الكتاب الوحيد الذي لم يزل بين أتباعه في كل عصر أناس أخبروا أنهم قد تلقَّوا الوحي من الله مباشرة، وأما هذا الزمن الذي بلغتْ فيه غفلة الناس عن الدين ذروتَها، فقد بعث الله فيه من قام بتطهير تفسير القرآن من الحشو والشوائب كلية، وعرَضه على العالم بصورته الأصيلة الغراء مرة أخرى.. بحيث إن القرآن الذي كان قد عاد في موقف النادم المعتذر أمام العلوم المعاصرة أصبح مرة أخرى في موقف المهاجم البطل.. فتفر منه الفلسفات والمذاهب كلها فرار الظباء من الأسد. فسبحان الله الملِك العزيز. وها إنني أتحدى- بفضل الله تعالى، ثم ببركة اتّباعي لهذا المبعوث الرباني- أنه إذا طعن أحد من أصحاب العلوم المادية بشتى أنواعها في أي حكم من أحكام القرآن، فإنني سوف أفحمه بأدلة دامغة معقولة ومقنعة، وإن لم يعترف هو بهزيمته على الملأ عنادًا جرّاء حماسه العابر للجدال. هذا ما جرّبته منذ أكثر من ربع قرن، إذ لم يحدث – بفضل الله وعونه – ولا مرة واحدة أنْ رأيتُ وجه الندامة ظاهرًا أو باطنًا مُذ دخلت هذا المضمار.

وبالاختصار فإن الله تعالى لم يجعل العقل وحده سببًا لحماية معاني القرآن الكريم، ولم يترك أمر تفسيره في يد البشر فقط، بل قرر بأن يباشر بنفسه كشف معاني كلامه عن طريق الإلهام. وهكذا فإن هذه الثمار التي تؤتَى من حين لآخر للعاملين بالقرآن تمثل برهانا ساطعًا على كونه محفوظًا من التلاعب والتحريف. ذلك أن الدواء إذا كان نافعًا اعتبرناه دواءً ناجعًا وإلا فهو فاسد لا جدوى منه. وإذًا فإن هذه الثمار القرآنية المتجددة تؤكد أنه لا يزال محفوظًا من الفساد ومتمتعًا بالحياة يقينًا. وهذه ميزة لم تتيسر لأي من الأسفار الأخرى سواه.

هذا، وكما سبق أن ذكرنا فإن كلمة (الذكر) تعني أيضًا الشرف والنصيحة. وقد سُمّي القرآن بالذكر لأنه سيحقق للمؤمنين شرفًا وتقوى. إذن فقوله تعالى

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ

إشارةٌ إلى أننا نحن الذين نضمن تحقيق هذه المزايا في القرآن، لأنها إذا لم تظهر في هذا الوحي فقد ضاع ما فيه من تعليم، ولكننا لن ندعه يضيع هكذا أبدًا.

كما أن الآية تتضمن نبأً عن هلاك الكفار وغلبة المسلمين. ذلك أن القرآن الكريم يحتوي على أحكام تتعلق بمجالات الحياة كلها بما فيها السياسة والاقتصاد والاجتماع، والوحيُ الذي يشتمل على تشريع جديد لا تتجلى محاسن أحكامه العملية ما لم يكن مصحوبًا بحكومة في أول أمره. ولذلك كانت هناك حاجة إلى أمة حاكمة تحافظ على هذا “الذكر”، ولم يكن بد من القضاء على الحكومة العربية لتوطيد حكومة جديدة.

يظن البعض أن قيام الحكومة الإسلامية كان إحدى المصادفات. وهذا خطأ، لأن النظر إلى الظروف السائدة عندئذ ينفي هذا الظن تمامًا، ثم بعد الاطلاع على هذا النبأ يستحيل على أي إنسان فيه مسكة من العقل أن يعتبر قيامها صدفة.

إن القرآن الكريم لم يعلن فقط أن الحكومة العربية ستزول لتحل محلها حكومة المسلمين، بل أعلن أن الحكم سينتقل إلى قوم صفتهم (أولاً) أنهم يتمتعون بتقوى الله وخشيته، و(ثانيًا) سينالون شرفًا عظيمًا حتى يعترف به العالم. لا شك أن ظاهرة زوال حكومة ومجيء غيرها ظاهرة مستمرة دومًا، ولكن السؤال: هل تتوافر الصفات المذكورة أعلاه في كل حكومة جديدة؟ ولكن انظروا كيف زالت الحكومة العربية، بحسب هذا النبأ، وحلت محلها حكومة توفرت فيها هذه الصفات تمامًا، حتى إن ألدَّ أعداء الإسلام الذين يطعنون فيه ويسبّون نبيه تراهم حين يذكرون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، يُحْنون أعناقهم إجلالاً لهما واعترافًا منهم بما تمتّعا به من ذكاء وفطنة، ونظام وانضباط، وصلاح وتقوى، وتضحية وإيثار.

فهل قيام حكومة كهذه يكون صدفةً ولا سيما بعد أن أنبأ القرآن عن قيامها؟ لقد صرّح الله للكفار قبل قيام مثل هذه الدولة بأمد بعيد:

لقد أنزلنا إليكم كتابًا فيه ذكرُكم أفلا تعقلون (الأنبياء: 11)..

أي فيه ما يحقق لكم الشرف الديني والعز المادي، فلِمَ تعارضونه إذن؟ ولإبراز هذه الصفة القرآنية نفسها سُمّي هذا الوحي بـ (الذكر) أحيانًا، وهنا في الآية التي نحن بصدد تفسيرها قد أشير أيضًا إلى الأمر نفسه حيث قيل: ما لكم أيها الكفار، تعيّرون رسولي بقولكم: إنك مجنون يا مَن نزَل عليه هذا الكلام العظيم الذي سيكون مدعاة شرف للمؤمنين به. فاعلموا أننا نحن الذين أنزلناه عليه، ولا بد أن نحقق له ولمن آمن به وعدَ الشرف والعزة هذا، لأن هذا الوحي شرعي.. أي أنه يتضمن من الشرائع والأحكام الجديدة ما لا يمكن العمل به في بداية الأمر إلا إذا تيسر الحكم للمؤمنين به ونالوا رقيًّا ماديا مع رقيهم الروحاني، وأما بدون ذلك فلن يتحقق هذا الكلام ولن يبقى محفوظًا؛ ولذلك لا بد من القضاء على النظام الحالي وتوطيد نظام آخر يستطيع فيه المسلمون العملَ بتعاليم القرآن وبالتالي يحققون المجد والتقوى اللذَين وُعدوا بهما. وهذا المعنى يصبح أكثر جلاءً إذا ما تدبرنا هذه الآية على ضوء قوله قبل بضع آيات

وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إلا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (الآية: 5).

  هناك مسألة لا بد من توضحيها هنا. لقد بينتُ قبل قليل أن وعد الله للمحافظة على الوحي عام يشمل وحي جميع الأنبياء والمرسلين، والآية التالية أيضًا تؤيد هذا. والسؤال الذي يفرض نفسه هو: إذا كان هذا صحيحًا فهل وحي الأنبياء السابقين أيضًا لا يزال محفوظًا حفظًا تامًّا؟ وإلا فكيف نصدّق أن وحي القرآن سوف يبقى محفوظًا إلى الأبد؟ لماذا لا نقول بأنه أيضًا سوف يصبح عرضةً للعبث والفساد في وقت من الأوقات كما حدث بوحي الأنبياء الذين خلوا من قبل؟

فالجواب على الجزء الأول من السؤال كامن في كلمات هذه الآية نفسها حيث لم يقل الله تعالى فيها بأنه سيقوم بحماية “القرآن” أو “الكتاب”، وإنما وعد بحماية الذكر . وهذه الكلمة ضيّقت دائرة الشيء الذي سيتم حفظه، إذ بينت أنه تعالى يتكفل بحماية الوحي ما دام “ذِكرًا”.. أي أنه (أولاً): يوطد الصلة بين العبد وربه ويأخذ العبدَ إلى مرتبة حيث يبقى نشوانَ بذكر الله تعالى؛ و(ثانيًا): ويُبوِّئ العبدَ مقامًا بحيث يذكره الله أيضًا.. أي يشرفه دائمًا بوحيه وتأييده ونصرته. فالوحي الذي يبقى حاملا لهذه المواصفات سوف يتولى الله حمايته، وإلا فيتخلى عن حفظه. والبديهي أن أي وحي سيبقى متصفًا بهذه الصفات طالما يراه الله صالحًا للعمل به، وحينما يعتبره الله قاصرًا عن سد حاجات العصر الجديدة سوف يتخلى عن حمايته، ليأتي مكانه بوحي جديد يكون ملائمًا وملبيًا لحاجات العصر التي لم يستطع الوحي السابق تلبيتَها. وحين يصبح أيُّ وحيٍ قاصرًا عن سد الحاجات التي أنزله الله لأجلها لا يبقى أي داع لحفظه، وعندما تُرفع عنه الحماية الإلهية يجد الأشرار الفرصة سانحة للتحريف والعبث به.

فإن الله تعالى لم يجعل العقل وحده سببًا لحماية معاني القرآن الكريم، ولم يترك أمر تفسيره في يد البشر فقط، بل قرر بأن يباشر بنفسه كشف معاني كلامه عن طريق الإلهام. وهكذا فإن هذه الثمار التي تؤتَى من حين لآخر للعاملين بالقرآن تمثل برهانا ساطعًا على كونه محفوظًا من التلاعب والتحريف…

فالخلاصة أنه لا وجه للاعتراض على تطرق الفساد إلى وحي الأنبياء السابقين، رغم الوعد الإلهي بحفظ وحي كل نبي، لأن القرآن الكريم وضّح بكلمة (الذكر) أن وحيهم تمتع بالحماية الإلهية ما دام (ذِكرًا)، وحين لم يعد (ذِكرًا) نُزع منه وعد الحماية. وكون وحيهم لم يعد (ذِكرًا) أمر لا غبار عليه، ويمكن لكل واحد منا أن يختبر ذلك في عصرنا هذا على الأقل، إذ ليس ثمة بين سائر الديانات أي ديانة سوى الإسلام تدعي بوجود شخص بين أتباعها يمكن اعتباره دليلا عمليًّا على كون كتابها (الذِّكرَ).. أعني أنه لا يوجد بينهم من يعلن أنه استطاع بالعمل بكتاب دينه أن ينال قرب الله تعالى بحيث إن الله يذكره.. أي يشرّفه بكلامه ويُري له الخوارق من قدرته. فما دامت تلك الكتب قد فقدت عمليًّا ميزةَ كونها (الذِّكر) فلم تعد ثمة حاجة لحمايتها، ولا داعي لعائق سماوي يحول دون وصول أيدي المحرفين إليها.

والجزء الثاني من السؤال يقول: كيف نصدّق إذًا أن وحي القرآن سوف يبقى محفوظًا إلى الأبد؟ لماذا لا نقول بأنه أيضًا سوف يصبح عرضةً للعبث والفساد في وقت من الأوقات، كما حدث بوحي الأنبياء الذين خلوا من قبل؟ وجوابه هو أن القرآن لا يزال يتمتع إلى يومنا هذا بميزة (الذكر)، إذ بوسع الإنسان اليوم أيضًا أن يصل إلى ربه عاملا بتعاليم القرآن. فبما أنه لا ينفك يلبي الحاجة التي نزل من أجلها لذلك لم يخرج عن الحماية الإلهية، فلا أحد يستطيع أن يتجاسر على العبث والتلاعب به.

أما السؤال: كيف نوقن أنه سيظل يتمتع بهذه الحماية في المستقبل كذلك، فجوابه الأول هو أنه لم يطرأ على القرآن أي تغيير ولا تبديل إلى يومنا هذا؛ وثانيًا هناك أنباء في القرآن تعلن بأنه كلما تغافل المسلمون عن العمل به سوف يبعث الله بينهم من يأخذهم مرة أخرى إلى القرآن. فهذا الوعد يجعلنا نوقن بأنه سيظل يسد حاجات كل عصر إلى الأبد، ولن يقبل النسخَ أبدًا، وبالتالي سيحظى دائمًا بالحماية الإلهية، إذ لا أحد من الحكماء يسمح بضياع ما ينفعه، والله أحكم الحكماء سبحانه وتعالى.

Share via
تابعونا على الفايس بوك