حقيقة خيانة بني قريظة وتحالفهم مع أحزاب قبائل العرب
  • قصة خيانة بني قريظة
  • شتات قوات الأحزاب
  • العقوبة المستحقة للخائنين
  • الحكم بشريعة التوراة

__

إن حياة نبي الإسلام كتاب مفتوح كلما بحثت في أي جزء منه تجد فيه تفاصيل تثير الاهتمام وتخلب اللب. ولم يحدث أن تم تسجيل وقائع حياة نبي أو حياة مَعلم آخر تسجيلاً دقيقًا ومتاحًا للدارسين، مثل حياة الرسول العظيم . وصحيح أن هذه الغزارة في الحقائق والمرويات المدوّنة، قد أعطت النقاد الماكرين فرصتهم المنتظرة، ولكن من الصحيح أيضًا أنه حين تتم دراسة الانتقادات بعناية، ويتم الرد الحاسم عليها، فإن ما تثيره فينا حياة الرسول من الإيمان والحب الغامر والتقوَى، لا يماثلها فيه حياة أي شخص آخر.

إن الحياة الغامضة التي لا يعرف الناس شيئًا عن تفاصيلها قد تسلم من النقد، ولكنها لا تفلح في بث الإقناع وزرع الثقة في قلوب من يتبع أصحابها. إذ تظل صعوبات الغموض، وظلمات الحيرة، وخيبة الأمل، قابعة في القلوب. ولكن الحياة الغنية بالتفاصيل المدوّنة، مثل حياة الرسول ، تثير فينا التأمل العميق ومن ثم تثبّت الاقتناع. وعندما يتم تصفية الحسابات الخاطئة للانتقادات والمفاهيم الزائفة، بكشف الحقائق وتسليط الأضواء عليها، فمن المحتم أن تجذب حياة الرسول منَّا كل حب وإعجاب وتقدير، وتثير فينا كل إعزاز وإكبار وتوقير، بشكل كامل ودائم وإلى الأبد.

وساورهم الشك في صدق نيّة اليهود، بينما شك اليهود في صدق نيّة الأحزاب. وكما يقال، إن الشك يقضي على الشجاعة، فتخاذل الفريقان، ودبّت الفُرقة بين صفوفهم، وخارت عزائمهم، وفقدت جيوش العرب حماسها وحميتها.

تلك هي عزيز القارئ أهم ملامح هذا الكتاب القيم الذى ستطالعه عبر حلقات في هذه الزاوية. والجدير بالذكر في هذا المقام أنه من الصعب تقديم ملخص كامل متوازن لحياة كحياة الرسول ، التي كانت واضحة كالكتاب المفتوح، وشديدة الثراء بما تحتويه من وقائع ومواقف وأحداث. وقد أعطى المؤلف لمحة، ولكن حتى هذه اللمحة لها وزن وثقل. حيث أنه كان يمارس ما يعظ به، وكان يعظ بما كان يمارسه؛ وإذا عرفته فقد عرفت القرآن المجيد، وإذا عرفت القرآن المجيد فيمكنك أن تتعرّف عليه.

لقد حصل شرف نقل هذا الكتاب إلى لغة الضاد للأستاذ الفاضل فتحي عبد السلام وراجعه ثلة من أبناء الجماعة المتضلعين في اللغة والدين.

خيانة بني قريظة

كان بنو قريظة كما أسلفنا في حلف مع المسلمين، وحتى إذا لم يكونوا قد ساهموا في الحرب مع المسلمين، فقد كان المتوقع منهم على الأقل أن يقوموا بحجز العدوّ من جانبهم وإعاقته، ولهذا السبب فقد ترك الرسول هذا الجانب في أوّل الأمر بلا حراسة على الإطلاق. وكان بنو قريظة يعلمون أن المسلمين يثقون بحسن نيتهم، ولهذا عندما قرروا الانضمام إلى أحزاب العرب، فقد اتفقوا ألا يكون هذا الانضمام جهارًا واضحًا، حتى لا يتنبّه المسلمون ويتّخذوا الخطوات اللازمة لحماية المدينة من جانب بني قريظة. لقد كانت الخطة شديدة الخطورة ومحبوكة الأطراف.

وعندما تم الاتفاق على مهاجمة المسلمين في المدينة من جانبين، راح جيش أحزاب العرب يحاول اقتحام الخندق، ولكن مرّت عدّة أيام دون تحقيق أيّة نتيجة. ثم طرأت لهم فكرة، أن يجمعوا رُماتهم على مرتفع، ويأمروهم أن يهاجموا المجموعات المدافعة عن الخندق من المسلمين، وأن يقف هؤلاء على حافة الخندق تفصلهم مسافات قصيرة، وعندما تلوح من المسلمين أيّة أمارات تتيح إحداث ثغرة ضعيفة، يعبر الكفار الخندق على الفور بمساعدة فرسانهم الأكفاء.

لقد تصوّروا أنهم إذا كرّروا الهجوم فسيمكّنهم هذا من الحصول على رأس جسر في الجانب المسلم، بحيث يستطيعون أن يعبروا وتتجمّع قوّاتهم عليه للقيام بهجوم كاسح على البلدة. وهكذا وقع هجوم بعد هجوم، واضطر المسلمون المدافعون إلى القتال دون انقطاع. وفي أحد أيام القتال هذه، ظلوا منخرطين في دفع هذا الهجوم المتكرّر حتى فاتتهم صلاة من صلواتهم اليومية عن موعدها المحدد. وقد حزن الرسول بشدة من أجل ذلك وقال:

“مَلأَ الله بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ”.

وتدل هذه الحادثة على عنف الهجوم المعادي، كما تدل كذلك على أن عناية الرسول واهتمامه أولاً وأخيرًا كان موجهًا إلى عبادة الله تعالى.

صارت المدينة محاصرة من كل الجوانب، كما صار أهلها رجالاً ونساءً وأطفالاً يواجهون موتًا محققًا، وأصاب البلدة كلها شعور بالجزع، ولكن ظل تفكير الرسول مرتبطًا بالحفاظ على أداء الصلوات في أوقاتها المحددة. إن المسلمين لا يعبدون الله مرّة واحدة كل أسبوع شأن المسيحيين والهندوس، بل هم ملتزمون بالصلاة خمس مرات كل يوم. وعندما تنشب المعارك يكون من الصعب أداء صلاة واحدة في الجماعة، ناهيك بالحديث عن خمس صلوات في اليوم في جماعة. ولكنّ الرسول كان يدعو إلى الصلاة الجامعة خمس مرات كل يوم حتى أثناء المعركة، ومع ذلك يصيبه الألم عندما يفوته أداء صلاة واحدة من هذه الصلوات بسبب هجوم العدوّ.

كان العدوّ يهاجم من الأمام، وخطّط بنو قريظة للهجوم من الخلف، ولكن بطريقة لا تؤدّي إلى تنبيه المسلمين إلى الخطر. لقد أرادوا دخول المدينة من ظهرها، وقتل كلّ النساء والأطفال المتحصّنين هناك. وأرسل بنو قريظة جاسوسًا ذات يوم ليرَى إن كان الحرّاس قد أرصدوا لحماية النساء والأطفال، وما هي قوّتهم. كان هناك حصن احتمت فيه بعض الأسر، وقد اعتبره العدو هدفًا خاصًا مهمًّا. وجاء الجاسوس، وأخذ يطوف بالحصن ويحوم حوله بريبة، وبينما هو كذلك إذا بصفية بنت عبد المطلب عمّة الرسول قد رمقته، ولم يكن هناك سوَى رجل واحد في نوبة حراسته الواجبة، وكان مع ذلك مريضًا. وأخبرته صفية بما رأت، واقترحت عليه أن يقبض على هذا الجاسوس حتى لا يخبر العدو عن خلوّ حصن الأطفال والنساء من الحماية في ذلك الجزء من البلدة. ولكن لم يستطع ذلك المسلم المريض أن يفعل شيئًا، فالتقطت صفية بنفسها عمودا وراحت تقاتل هذا الزائر الطفيلي، وبمساعدة نساء أخريات تمكنت من التغلب عليه وقتله. ولقد تبين بعد ذلك أن الرجل كان بالفعل عينًا لبني قريظة.

أصبح المسلمون متوَجّسين، فقد توَقعوا أن يشنّ عليهم العدوّ هجومًا بعد آخر من هذا الجانب الذي كانوا يظنونه آمنًا إلى حد بعيد، ولكن ثقل الهجوم من الأمام كان شديدًا لدرجة استغرقت كل القوّة المسلمة لمقاومته، ومع ذلك فقد قرر الرسول إرسال جزء من القوّة التي معه لحماية النساء والأطفال. وكما سبق ذكره عند مناقشة أعداد المسلمين التي ذكرها المؤرخون في هذه المعركة، فقد أرسل الرسول من الألف ومائتي رجل، خمسمائة رجل ليقوموا بحماية النساء، ولم يبق إذن للدفاع عن الخندق سوى سبعمائة رجل، يقاتلون عدوًّا يتراوح تعداده من ثمانية عشر إلى عشرين ألفًا. ومع ذلك لم يفقد الكثير من المسلمين رباطة جأشهم إزاء الحشود الهائلة التي كان عليهم أن يواجهوها. وذهبوا إلى الرسول وبيّنوا لـه كم كان الوضع حرجًا، وكيف أنه صار يبدو من المستحيل إنقاذ المدينة. وطلبوا منه أن يدعو الله تعالى، وطلبوا منه كذلك أن يعلمهم دعاء خاصًا بهذه المناسبة. وطمأنهم الرسول ألا يخافوا وأن يدعوا الله أن يقيهم من ضعفهم، وأن يثبّت قلوبهم ويؤمّن روعاتهم ويُذهب عنهم الريب. وتوجّه هو إلى الله عز وجل بالدعاء التالي:

“اللهم مُنْزل الكتاب سريع الحساب، اللهم اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم وانصرنا عليهم.” (البخاري، كتاب الجهاد والسير).

ودعا ثانية:

“اللهم يا سميع الدعاء من البائسين والمحزونين، يا مجيب الخائفين، أذهب عني حزني وغمّي وخوفي، أنت الأعلم بما حشدوا لي أنا وأصحابي” (الزرقاني)

أصبح المنافقون أكثر قلقًا وأشدّ توَترًا من المسلمين الآخرين في القوة المسلمة، وتلاشَى من قلوبهم كل احترام لاعتبارات الشرف والاحترام للجانب الذي كانوا فيه، أو لأمن مدينتهم ونسائهم وأطفالهم. ولما كانوا قد توَقعوا الخزي والهزيمة، أرادوا ألا يحدث هذا في وجودهم. لذلك بدأوا ينسلون الواحد بعد الآخر، تاركين المسلمين ومتعللين بأعذار هزيلة. وقد أشار القرآن المجيد إلى ذلك في الآية 14 من سورة الأحزاب حيث قال تعالى:

وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا .

وقد وصف القرآن المجيد في الآيات التالية حالة المعركة في تلك اللحظة، والظروف التي أحاطت بالمسلمين وأحوالهم إزاءها:

إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا (الأحزاب: 11-14)

وقد ذكّر الله تعالى المسلمين في هذه الآيات، كيف هوجموا من الأمام بواسطة الأحزاب المتّحدة من القبائل العربية، ومن الخلف بواسطة اليهود، وذكّرهم بمدى الكرب الذي كانوا يعانونه حينئذ؛ أبصارهم زاغت، وقلوبهم بلغت الحلقوم، بل بدأ الشك يخالجهم في وعْد الله تعالى. كان المؤمنون إذن في محنة، كانوا في هزّة عنيفة جميعًا، فبدأ المنافقون وضعاف الإيمان يقولون: لقد خُدعنا كلنا بوعود زائفة من الله ونبيه المرسل، وبدأ جزء منهم يوهنون من عزيمة المسلمين الآخرين قائلين لا سبيل أمامنا إلا العودة. كذلك فقد وصف القرآن المجيد سلوك المؤمنين الحقيقيين المخلصين، فقال تعالى في الآيتين 23 و 24 من نفس السورة:

وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً

لم يكن المؤمنون الصادقون كالمنافقين وضعفاء الإيمان ومرضَى النفوس. وعندما رأوا العدد الهائل للعدّو، تذكّروا أنّ الله ورسوله قد أخبرا بذلك بالفعل من قبل، وهذا الهجوم المنسّق من طرف قبائل العرب لم يكن إلا إثباتًا لصدق الله ونبيه. لذلك بقيَ المؤمنون المخلَصون غير مزعزعين، بل إنهم ازدادوا من روح الطاعة، وامتلأوا بحماسة الإيمان وحميته. لقد انحاز المؤمنون الصادقون ومالوا بجمعهم مع الله وأوْفوا بعهدهم معه. ونال بعضهم مبتغاهم بالفعل ولقوا مصرعهم، والآخرون منهم ينتظرون الموت في سبيل الله لتحقيق أمنيتهم.

هاجم العدوّ الخندق بشراسة ودون انقطاع، ونجح أحيانًا في عبوره، ونجح مرة أحد قادة العدوّ في المرور عبره، ولكنهم هوجموا بشجاعة بالغة من المسلمين فعادوا على أعقابهم. وفي هذه المعركة فقَدَ نوفل حياته، وهو من كبار قادة المشركين وزعمائهم، وكان من عظم مكانته لدى الكافرين أنهم لم يقبلوا ترك جثته عند المسلمين؛ لذا أرسلوا للرسول أنهم يقبلون دفع عشرة آلاف درهم إذا هو أعاد إليهم جثة زعيمهم هذا، وكان هذا ثمنًا باهظًا لجثة أحد الموتى. وقد قدّموا عرْضهم دون أيّ إحساس بالذنب، فقد مثّل الكافرون بجثث المسلمين في أحُد، وكانوا يخشون أن يفعل بهم المسلمون نفس الشيء، ولكن تعاليم الإسلام تختلف عن ذلك، فلقد حرّم الإسلام كلّ صور التمثيل بالجثث كافّة. وعندما تلقّى الرسول عرْض المشركين ورسالتهم، قال إن المسلمين ليسوا بحاجة إلى جثة كهذه، وأنهم لا يبتغون شيئًا مقابل إعادتها، وإذا كانوا يريدون الجثة فليأخذوها. (الزرقاني ج2، ص 114)

ولم يبدِ بنو قريظة ندمًا أو أسفًا، أو أيّ ميْل لطلب الصفح، بل إنهم بدلاً من ذلك قاموا بإهانة عليّ ورجال الوفد الذين كانوا معه. وبدأوا يسبّون الرسول ونساء بيته سبًّا قبيحًا فاحشًا، وقالوا إنهم لا يقيمون وزنًا للرسول، ولم يكن لهم يومًا عهد معه.

ولا مانع من نقل مقطع في هذا المقام من كتاب السير وليم موير: “حياة محمد” (لندن 1878 ص 322) يصف بوضوح عنف الهجوم على المسلمين، فيقول:

“في الصباح التالي، وجد محمد كلّ قوات العدوّ وقد اصطفت على طول الخندق في مواجهته، واقتضى ذلك من جانبه يقظة وحذرًا لا يفتران حتى يحبط مناورات العدوّ، فهم على ما يبدو يهدّدون بهجوم عام شامل. ثم انقسموا إلى مجموعات تهاجم المواقع المختلفة للنبيّ ورجاله في سرعة وتوال يبعث على الارتباك. وفي النهاية يحاولون انتهاز فرصة لهم، فربما استطاعوا حشد كل قواتهم تجاه النقطة الأقل حصانة، ومنها يحاولون عبور الخندق تحت غطاء وابل لا ينقطع من رمي السهام القاتلة. وبتكرار المحاولة، حدثت هجمات قويّة من بعضهم نحو المدينة، بل نحو خيْمة النبيّ، من قِبَل قادة مشهورين مثل خالد وعمرو، ولكنّ هذه الهجمات رُدّت على أعقابها بعد هجوم مضاد مستمر ورمي منهمر من السهام، وظل هذا دأبهم طول اليوم. ولأن جيش محمد كان بالكاد كافيًا لحراسة خط دفاعه الطويل، فإنه لم يكن يجد متنفسًا للراحة. وحتى في الليل، فقد ظل خالد مع قوة من فرسانه الأشداء يصعّد هجومه، ويهدّد خط الدفاع، ويهاجم مخافر المسلمين الأمامية والمرصودة على مسافات متكررة مهمة. ولكن كل هذه المحاولات المعادية كانت بلا أثر، ولم يتمّ عبور الخندق”.

واستمرت المعركة ليومين، ولم يكن هناك قتال متلاحم يدًا بيدٍ، ولم تُسفك الكثير من الدماء، إذ لم يسقط من جانب العدوّ خلال أربع وعشرين ساعة من القتال سوَى ثلاثة قتلى، وخمسة في جانب المسلمين، وجُرح سعد بن معاذ زعيم قبيلة الأوْس وأحد المؤمنين المخلصين المحبين لرسول الله. وقد أدّى تكرار الهجوم إلى إحداث بعض الخسائر، مما سهّل الهجوم المتوالي. وتجلت مواقف عظيمة للشجاعة والولاء، ففي ليلة كانت باردة، بل ربما كانت أبرد ليلة في الجزيرة العربية، تروي لنا السيدة عائشة زوج الرسول أنه كان يستيقظ من نومه مرارًا ليحرس الأجزاء التي ضعفت من الخندق، حتى إذا أصابه التعب عاد إلى فراشه لينال شيئًا من الدفء، ثم يذهب ثانية لحراسة الخندق. وفي أحد الأيام بلغ منه التعب مبلغًا حتى بدا تمامًا أنه لا يستطيع الحركة، فقال إنه يرغب أن يحل محله أحد المسلمين المخلصين ليريحه قليلاً من الجهد البدني في حراسة الخندق في برد الليل. ولفوره سمع صوتًا، وكان لسعد بن أبي وقاص ، ولما سأله عن سبب مجيئه قال إنه جاء لحراسته. فقال الرسول إنه ليس في حاجة لأن يحرسه أحد، والأوْلى بسعد أن يحرس ذلك الجزء من الخندق الذي أصابه الدمار حتى يكون المسلمون في أمان. فذهب سعد للمهمة، واستطاع الرسول أن يحصل على قسط من الراحة. ولعلها كانت من المصادفات أنه لما وصل الرسول إلى المدينة، وهدّدت سلامته بعض الأخطار، كان سعد بن أبي وقاص أيضًا هو الذي ذهب لحراسته.

وفي مناسبة أخرى في ذلك اليوم العصيب، سمع الرسول صوت سلاح، فسأل عمّن يكون، وجاءت الإجابة بأنه عَبَّاد بن بِشْر . فسأله الرسول عما إذا كان معه أحد، فقال عَبَّاد إنه معه بعض أصحاب رسول الله، وأنهم يحرسون خيْمته. فطلب منهم الرسول أن يدَعوا خيْمته، وأن يذهبوا بالحريّ لقتال المشركين الذين يريدون عبور الخندق. (السيرة الحلبية ج2)

وكما ذكرنا من قبل، حاول اليهود أن يدخلوا المدينة خفية، وفقد جاسوس يهودي حياته في المحاولة، وحين عرفوا أن كيدهم انكشف بدأوا في التعاون جهْرة مع الأحزاب. ولم تقع محاولة منسّقة للهجوم من الخلف، لأن هذا الجانب كان ضيّقًا، وبوجود الحرس المسلم المرصود هناك صار من المستحيل القيام بهجوم كاسح. ولكن بعد بضعة أيام، قرر اليهود والأحزاب الوثنيون القيام بهجوم متزامن ومفاجئ على المسلمين.

قوات الأحزاب تتشتت

ولقد أحبط الله هذه الخطة البالغة الخطورة بتدبير معجز. فإن نُعَيْم بن عبد الله من قبيلة غطفان مال إلى الإسلام، وكان قد جاء مع جيش الوثنيين يتحين الفرص لكي يُعين المسلمين. لم يكن يستطيع عمل الكثير بمفرده، ولكنه لما رأى اليهود قد ضمّوا جهودهم إلى جهود العرب ليناصروهم، وبدا أن المسلمين يواجهون موتًا محتّمًا وهلاكًا مؤكدًا، عقد نُعيْم العزم على أن يفعل ما في وسعه لإنقاذ المسلمين. لقد كان يكتم إسلامه، فذهب إلى بني قريظة وحادَث رؤساءهم، وسألهم عما هم صانعون إذا ذهبت جيوش العرب، وماذا يتوقعون أن يصنع بهم المسلمون. كان بعض اليهود يميل إلى البقاء على عهده مع المسلمين، ولم يكن هؤلاء على استعداد لتحمّل العقاب الشديد بسبب البعض الآخر الذين تبين أنه لا عهد لهم.

وقد بعثت هذه التساؤلات العقلانية الخوف في نفوس القادة اليهود، فسألوه عما يجب عليهم فعله. فنصحهم نُعيْم أن يطلبوا سبعين رهينة من المشركين. فإذا كان المشركون جادّين في القيام بهجوم منسّق معهم، فلن يرفضوا الطلب. وأوصاهم أن يقولوا للمشركين إن هؤلاء السبعين سوف يقومون بحراسة بعض الأماكن الهامة، بينما يقومون هم بأنفسهم بمهاجمة المسلمين من الخلف. وبعد هذا الحديث مع اليهود، ذهب نُعيم إلى قادة جيش المشركين وسألهم عما هم صانعون إذا عاد اليهود إلى حلفهم مع النبيّ، أو إذا حاولوا استرضاء المسلمين بطلب رهائن من المشركين ثم سلموهم للمسلمين. وقال لهم إنه من الأهمية بمكان أن يختبروا إخلاص اليهود، فيطلبوا منهم المساهمة في هجوم عام شامل على الفور الآن. وتأثر قادة المشركين بهذه النصيحة وعملوا بها، فأرسلوا رسالة إلى اليهود يطلبون منهم الهجوم فورًا على المسلمين من الخلف، لكي يتمكن جيش الأحزاب من الهجوم من المقدّمة. فأجاب اليهود بأن اليوم التالي هو يوم السبت، وأنهم لا يستطيعون أن يقاتلوا المسلمين في هذا اليوم. وقالوا أيضًا إنهم يعيشون في المدينة بينما يعيش الأحزاب خارجها، فإذا حدث أن انسحب العرب من المعركة، فماذا يكون مآلهم مع المسلمين. ولذلك طلبوا من الأحزاب أن يبعثوا إليهم بسبعين من رجالهم كرهينة حتى يمكنهم في تلك الحال أن يقوموا بدورهم في الهجوم. وبدأ الشك يعمل في القلوب. ورفض الأحزاب أن يجيبوا اليهود إلى طلبهم، وأدركوا أن لو كان اليهود مخلصين فعلاً في اتفاقهم، فليس هناك ما يستدعي تقديم مثل هذا الطلب. وساورهم الشك في صدق نيّة اليهود، بينما شك اليهود في صدق نيّة الأحزاب. وكما يقال، إن الشك يقضي على الشجاعة، فتخاذل الفريقان، ودبّت الفُرقة بين صفوفهم، وخارت عزائمهم، وفقدت جيوش العرب حماسها وحميتها. وعندما جاء المساء، ذهبوا إلى النوم مرهقين بمشاعر الشك والضيق وأشكال الحرج. فذهب الجند والقادة إلى خيامهم يملؤهم الإحباط وتسيطر عليهم الكآبة.

ثم حدثت المعجزة، وجاءت مساعدة السماء إلى المسلمين. بدأت الريح القاصفة تعصف، فقوّضت خيام المشركين، ولم تدع قِدرًا إلا أكفأتها، ولا نارًا إلا أطفأتها، واقتلعت حبال الخيام.

كان العرب يتفاءلون بالنار المشتعلة في المكان، ويتشاءمون من انطفائها. وعندما تصبح النار يوما مطفأة أمام خيمة، فإن سكانها يعتبرون ذلك نذير شُؤم، ويعزمون على التراجع في هذا اليوم، وأن يعودوا بعد ذلك للاشتراك في الهجوم. وكانت الشكوك قد عصفت بالقادة قبل أن تعصف بهم الريح. وعندما حزَم بعض المعسكرين متاعهم للانسحاب، ظن الآخرون أن المسلمين قاموا بهجوم كبير ليلاً. وانتشر هذا الظن بين جموع الأحزاب كما ينتشر الوباء المعدي، وبدأ الجميع يحزم متاعه وينصرف من الميدان. ويُروَى أن أبا سفيان كان نائمًا في خيمته فبلغت مسامعه أخبار الانسحـاب المفـاجئ لفرق المشركين، فنهض مرتجفًا، وسارع إلى ركوب جمله الذي كان موثقًا في عقاله، وهمز البعير، ولكن الجمل لم يتحرك. فأشار أصدقاؤه إلى أن الجمل مربوط، وتم حل عقال البعير، وأصبح بإمكانه هو وصحبه أن يخلوا الميدان.

عندما مضى ثلثا الليلة كان قد تم إخلاء المكان تمامًا، واختفى جيش مؤلف من عشرين إلى خمسة وعشرين ألف مقاتل ومرافق تابع، تاركين خلفهم الميدان خاويا. وفي نفس هذا الوقت تلقّى الرسول وحيًا يخبره أن العدوّ قد فر نتيجة لما فعله الله تعالى بهم. وأراد الرسول أن يستطلع ما حدث، ورغب أن يرسل أحد أتباعه ليمسح الميدان بعينيه ويعرف ما حدث ثم يقدم لـه تقريرًا بالأمر. كان الجوّ باردًا كالثلج، ولا عجب أن أطراف المسلمين قد تجمّدت من شدة البرد، حيث إنهم لم يكونوا يرتدون ما يكفي من الملابس لمقاومة البرد. وسمع بعضهم صـوت الرسـول ينادي، وأرادوا أن يجيبوه ولكنهم لم يستطيعوا؛ فقد منعهم البرد تمامًا من القدرة على النطق، ما عدا حُذيْفة الذي أجاب في صوت جهْوَريّ: “نعم يا رسول الله، ماذا تأمرنا أن نصنع”؟ فنادى مرة أخرى، ولم يجب أحد هذه المرة أيضًا إلا حُذيفة الذي أجاب ثانية. فأمر الرسول حُذيفة أن يذهب ويستطلع ميدان المعركة، لأن الله تعالى أخبره أن العدوّ قد ولى الأدبار. فذهب حذيفة قريبًا من الخندق، ومن هناك رأى أنّ العدوّ قد أخلى الميدان، فلم يكن هناك جنود ولا رجال. وعاد حُذيفة إلى الرسول فقرأ عليه كلمة الشهادة، وأخبره أنّ العدوّ قد انسحب. وفي الصباح، بدأ المسلمون يزيلون خيامهم أيضًا، وجمعوا متاعهم ليعودوا أدارجهم إلى المدينة. لقد انتهت محنة خطيرة دامت ما يقرب من عشرين يومًا.

بنو قريـظة ينـالون العقاب

تنفس المسلمون الصعداء في أمان مرة ثانية، ولكنهم كانوا يعيشون مع بني قريظة في بلدة واحدة، وقد خان بنو قريظة عهدهم مع المسلمين، وهذا ما لا يمكن السكوت عليه.

جمع الرسول قواته المنهكة وأخبرهم أنهم لا يجوز لهم الراحة الآن، وأمرهم ألا يُصلّوا العصر إلا في بني قريظة، وأن يهاجموا حصونها، ثم أرسل عليًّا ليسألهم لماذا نقضوا عهدهم مع المسلمين؟ ولم يبدِ بنو قريظة ندمًا أو أسفًا، أو أيّ ميْل لطلب الصفح، بل إنهم بدلاً من ذلك قاموا بإهانة عليّ ورجال الوفد الذين كانوا معه. وبدأوا يسبّون الرسول ونساء بيته سبًّا قبيحًا فاحشًا، وقالوا إنهم لا يقيمون وزنًا للرسول، ولم يكن لهم يومًا عهد معه.

وحين عاد عليّ ليطلع الرسول على ردّ اليهود، وجده هو والصحابة متجهين نحو حصونهم، ولدى وصوله عاود اليهود سبّ الرسول وأزواجه وبناته.

وحرصًا على عدم إصابة الرسول بالألم والأذى لسماعه سباب اليهود، فقد اقترح عليّ أن يضطلع الصحابة بمعالجة الأمر دون وجود الرسول . وفهم رسول الله المراد، وسأل عليًّا ما إذا كان يرغب به عن سماع سبّهم، فأجاب عليّ بالإيجاب. فذكر الرسول أن موسى كان من بني جلدتهم وأقرب الأقرباء إليهم، ومع ذلك فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر.

واستمر الرسول في تقدمه. ونصب اليهود دفاعاتهم وبدأوا يقاتلون، وانضمت إليهم نساؤهم. كان بعض المسلمين يقفون عند أسفل حائط الحصن، فألقت امرأة يهودية حجرًا ضخمًا عليهم عندما لمحتهم فقُتل أحدُهم ويسمى خلادا. وضُرب الحصار عليهم أيامًا، وفي نهايتها أحس اليهود بالعجز عن الاستمرار تحت الحصار، فأرسل زعماؤهم إلى الرسول رسالة يطلبون فيها أن يرسل إليهم أبا لبابة ؛ وهو زعيم من الأوس الذين كانوا في علاقة معهم قديمًا. لقد أرادوا استشارته حول التسوية الممكنة، فأرسل الرسول أبا لبابة إلى اليهود، فسألوه عما إذا كان الأصلح لهم هو النّزول والاستسلام وقبول حكم الرسول ، فقال أبو لبابة إن ذلك هو ما يجب فعله، لكنه في نفس الوقت قام بإمرار أصبعه على عنقه يعطيهم إشارة الموت، وكان ذلك من عند أبي لبابة لا من عند الرسول .

لم يكن الرسول قد قال شيئًا لأحد عن هذا الموضوع، ولكن أبا لبابة تصوّر في فكره أن الجريمة التي ارتكبها اليهود لا تستحق إلا عقوبة الموت، فأشار بهذه العلامة متسرعًا، حيث عبر بها عن مصير الموت الذي ينتظرهم. لذلك رفضوا نصيحته المنطوقة، ورفضوا قبول حكم الرسول فيهم، ولو كانوا قبلوه فإن أقصى عقاب كان ينتظرهم هو الطرد من المدينة، ولكن حظهم السيء دفعهم لرفض حكم الرسول ، وأرسلوا يقبلون حكم سعد بن معاذ ، زعيم حلفائهم من الأوس؛ راضين بأيّ عقاب يعرضه سعد عليهم. ودبّ خلاف بين اليهود، فبدأ بعضهم يقول إن اليهود هم الذين نقضوا الميثاق مع المسلمين، وإن المسلمين أثبتوا أنهم على العكس أمناء وصادقين، وأن دينهم أيضًا صادق. وهؤلاء الذين قالوا ذلك انضموا للمسلمين. كذلك قام زعيم من زعماء اليهود، هو عمرو بن سعدي، يلومهم ويُبكّتهم قائلاً: “لقد نكثتم العهد، ورجعتم في كلمتكم التي قطعتموها على أنفسكم، والطريق المتاح لكم الآن هو الإسلام أو دفع الجزية”.

فقالوا: “أبدًا لن نعتنق الإسلام، ولن نعطي الجزية، الموت أحب إلينا من دفع الجزية”. فأجاب عمرو، أنه بذلك يكون قد فعل ما عليه، وقد أعذر إليهم فلا لوم عليه، قال ذلك وغادر الحصن.

ورآه محمد بن مسلمة، قائد مفرزة للمسلمين، فسأله من يكون، وعرف هويته فتركه يمضى في سلام، ودعا محمد بن مسلمة الله قائلاً: “اللهم أعنّي أبدًا على ستر أخطاء الصالحين”.

وما كان يعنيه هو أن هذا اليهودي قد أبدى الندم والأسف، ولام قومه على سلوكهم، والواجب الخلقي يحتّم على المسلمين أن يعفوا عن رجال مثله، ويتركوهم يمضون في سلام. وأنه بتخلية سبيله يكون قد فعل عملاً صالحًا، ودعا الله أن يعينه على أعمال مماثلة مرارًا وتكرارًا. ولما علم الرسول بما فعل محمد بن مسلمة، لم يلمه على تركه لهذا القائد اليهودي، بل وافقه ورضي عما فعله.

كان بعض الأفراد فقط من اليهود هم الذين فضلوا قبول السلام والنّزول على حكم الرسول ، وأما الأغلبية من قبيلة بني قريظة ظلوا على رأيهم، فرفضوا حكم الرسول وطلبوا بدلاً من ذلك حكم سعد بن معاذ (البخاري، والطبري). وقبِل الرسول طلبهم، وأرسل إلى سعد، الذي كان يرقد جريحًا، أن يأتي ويصدر حكمه على اليهود الذين نكثوا الميثاق. وحالما أعلن الرسول قراره، أسرع أفراد من قبيلة الأوس الذين كانوا حلفاء لبني قريظة طويلاً إلى سعد، وضغطوا عليه ليصدر حكمًا في مصلحة بني قريظة، وقالوا له إن الخزرج طالما حاولوا إنقاذ حلفائهم من اليهود، وعلى سعد بدوره أن ينقذ حلفاء الأوس قبيلته. وذهب سعد راكبًا إلى بني قريظة يُحيط به رجال قبيلته من جانبيه يحثّونه ألا يعاقب بني قريظة. وكان كل ما رد به سعد عليهم هو أن الشخص الذي أُسند إليه إصدار حكم من الأحكام يحمل أمانة، وأن عليه أن يؤدّي أمانته بشرف وكرامة، وقال إنه سوف يصدر حكمه واضعًا في حسابه كل الاعتبارات، وأيضًا بلا رهب ولا رغب. وعندما بلغ حصن اليهود رأى بني قريظة مطلين عليه مصـطفين على أسـوار الحصن ينتظـرونه، وفي الجـانب الآخر وقـف المسلمون. واقترب سعـد من المسـلمين وسـألهم: “أتقبلون حكمي”؟ قالـوا: “نعم”.

… ورفضوا قبول حكم الرسول فيهم، ولو كانوا قبلوه فإن أقصى عقاب كان ينتظرهم هو الطرد من المدينة، ولكن حظهم السيء دفعهم لرفض حكم الرسول ، وأرسلوا يقبلون حكم سعد بن معاذ ، زعيم حلفائهم من الأوس؛ راضين بأيّ عقاب يعرضه سعد عليهم.

حكم سعد يتوافق مع التوراة

توجّه سعد بدوره إلى بني قريظة وسألهم نفس السؤال، فوافقوا كذلك. عند ذلك توجّه سعد على استحياء إلى الجانب الذي يقف فيه الرسول ، وسأل ما إذا كان الجمع في هذا الجانب يقبل حكمه، فلما سمع الرسول السؤال قال: “نعم”. (الطبرى وابن هشام)

عند ذلك أصدر سعد حكمه حسب تعاليم التوراة، التي تقول:

“حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربًا فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدًّا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا فلا تستبق منها نسمة ما بل تحرمها تحريم الحيثيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحيويين واليبوسيين كما أمرك الرب إلهك لكي لا يعلموكم أن تعملوا حسب جميع أرجاسهم التي عملوا لآلهتهم فتخطئوا إلى الرب إلهكم”. (سفر التثنية 20: 10 – 18)

فحسب تعليمات التوراة، لو انتصر اليهود وهُزم الرسول ، فكل المسلمين رجالاً ونساءً وأطفالاً سيلقون مصرعهم. ونعلم من التاريخ أن هذا كان قصد اليهود، وأقل ما كان سيصنعه هؤلاء هو قتل الرجال واستعباد النساء والأطفال، وإتلاف كل ممتلكات المسلمين أو نهبها، فهذه هي التعاليم المدوّنة بسفر التثنية في التعامل مع الأمم المعادية التي تسكن أقطارًا بعيدة.

كانت تربط سعد ببني قريظة علاقة طيبة، وكانت قبيلته في حلف معهم. وعندما رفض اليهود حكم الرسول ، ورفضوا بذلك الحكم الأخفّ الذي يقضي به الإسلام، قرر أن يُنْزل بهم الحكم البديل، وهو الحكم المكتوب في كتاب موسى .

إن مسئولية هذا الحكم لا يتحمّلها الرسول ولا المسلمون، بل يتحمّلها تعليـم موسى ، ويتحمّلها اليهود الذين عاملوا المسلمين بكل وحشية.

كانت لديهم الفرصة لقبول حكم رحيم، وهو حكم الإسلام الذي كان سيصدره رسول الله، وهو من بعثه الله تعالى رحمة للعالمين. وبدلاً من قبول حكم الإسلام أصرّوا على قبول حكم سعد، ولم يكن لسعد من خيار سوَى أن يُصدر حكمه حسبما ورد في كتاب موسى . وإلى الآن، يقوم المسيحيون دون انقطاع بتشويه سمعة الرسول قائلين إنه كان قاسيًا مع اليهود. والسؤال هو: لو كان الرسول قاسيًا مع اليهود، فلم لم يكن قاسيًا مع الشعوب الأخرى أو في المناسبات الأخرى؟

هناك مرات عديدة ألقت شعوب وقبائل بنفسها تحت رحمة حكم رسول الله، ولم يحدث أن ضاع طلبهم للعفو دون جدوَى.

وفي هذه المناسبة أصرّ العدوّ على حكم شخص غير الرسول ، واختاروه هم بأنفسهم، فقام بدوره كحَكَم بينهم و بين المسلمين، وسأل الرسول كما سأل اليهود في العلن أمام الجميع إذا كانوا يقبلون حكمه، أي أنه لم يصدر حكمه إلا بعد موافقة الأطراف عليه جهارًا. ثم ماذا كان حكمه؟ لم يكن سوى تطبيق لحكم شريعة موسى على المذنبين من اليهود، فلماذا لا يقبلونه؟ ألا يُعدّون أنفسهم أتباعًا لموسى ؟ فإذا كان هناك سبب للقسوة، فهو قسوة اليهود على اليهود. لقد رفض اليهود حكم الرسول فاستجلبوا بدلاً منه تطبيقًا لشريعتهم الدينية عقوبة لإثمهم.

لو كانت هناك قسوَة تم ارتكابها، فيُسأل عنها موسى إذن الذي سجّل هذه العقوبة للعدوّ المحاصر، وكتب في كتابه أن هذه العقوبة كانت بأمر الربّ، وليس من حق الكُتّاب المسيحيين أن يصبّوا جام غضبهم على نبيّ الإسلام ، بل عليهم أن يدينوا موسى الذي سجّل هذه العقوبة القاسية، أو لعلهم يدينون الكتاب المقدس الذي سُجّلت فيه هذه العقوبة.

كانت لديهم الفرصة لقبول حكم رحيم، وهو حكم الإسلام الذي كان سيصدره رسول الله، وهو من بعثه الله تعالى رحمة للعالمين. وبدلاً من قبول حكم الإسلام أصرّوا على قبول حكم سعد، ولم يكن لسعد من خيار سوَى أن يُصدر حكمه حسبما ورد في كتاب موسى .

انتهت معركة الخندق، وأعلن الرسول أن المشركين لا يغزون المسلمين بعد اليوم، بل يغزوهم المسلمون بدلاً من ذلك. كان المد في طريقه ليتحوّل إلى جزْر، وكان المسلمون في طريقهم إلى الهجوم على القبائل والأحزاب التي طالما هاجمتهم بلا مسوّغ وتحرّشت بهم دون مبرر. ولم يكن كلام الرسول تهديدًا أجوف، ففي معركة الخندق لم تخسَر الأحزاب شيئًا يُذكر، وكل ما فقدوه هو بضعة رجال. وفي أقل من عام كان من الممكن لهم أن يأتوا لمعاودة الهجوم على المدينة، مع استعداد أحسن وتجهيز أفضل. وبدلاً من جيش تعداده عشرون ألفًا، كان باستطاعتهم رفع العدد في الهجوم الجديد إلى أربعين أو حتى خمسين ألفًا. وهؤلاء لا يصعب عليهم هزيمة جيش من ألف وخمسمائة. ولكن ها هم المشركون، بعد مُضيّ واحد وعشرين عامًا، وبعد أن بذلوا أقصى ما في وسعهم للقضاء على الإسلام والمسلمين، يهتزّون بعد الفشل المستمر لخططهم. لقد بدأ الشك يساورهم أن يكون دين محمد صحيحًا، وأن تكون هذه الأصنام والأوثان القومية مجرد زيف، وأن يكون الله الخالق الذي لا يُرى، والذي يتكلم عنه محمد هو الحق.

بدأ الخوف يغزو قلوبهم خشية أن يكون محمد على حق، وأن يكونوا هم على باطل، ومع ذلك لم يتجلَّ هذا الخوف على تصرفاتهم. فمن الناحية المادية، أخذ الكافرون يسلكون نفس السلوك الذي عهدوه، وراحوا إلى أوثانهم يتوجّهون إليها بالدعاء كما هي عادتهم، ولكن روحهم الداخلية كانت قد انكسرت. في الظاهر عاشوا حياة المشركين والكافرين، وفي الداخل بدأت قلوبهم تردّد صدى شعار المسلمين أنه لا إله إلا الله.

وكما سبق أن ذكرنا، قال الرسول بعد موقعة الخندق: ‘‘الآنَ نَغْزُوهُمْ وَلا يَغْزُونَنَا نَحْنُ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ. لقد بلغت درجة تحمّل المسلمـين أقصاها، وحان الآن لموجة المد أن تنقلب.’’ (البخاري – كتاب المغازي).

Share via
تابعونا على الفايس بوك