وليس في جبتي إلا أنواره وأشعته
  • استفتاء الصادقين
  • الخاتمية منبع النبوة للتابعين
  • تأييدات الله لمسيحه الموعود عليه السلام

__

أيها الفتيان وفقهاء الزمان وعلماء الدهر وفضلاء البُلدان.. أفتوني في رجل قال إنه من الله، وظهرتْ له حماية الله كشمس الضُّحى، وتجلّتْ أنوار صدقه كبدر الدُّجى، وأرى الله له آياتٍ باهرات، وقام لنصرته في كلّ أمرٍ قضى، واستجاب دعواتِه في الأحباب وفي العِدا. ولا يقول هذا العبد إلا ما قال النبيّ ، ولا يُخرج قدمًا من الهُدى. ويقولُ إن الله سمّاني نبيًّا بوحيه، وكذلك سُمِّيتُ من قبلُ على لسان رسولنا المصطفىً*. وليس مُراده من النبوة إلا كثرة مكالمة الله وكثرة أنباءٍ من الله وكثرة ما يُوحى. ويقول: ما نعني من النبوة ما يُعنَى في الصحف الأولى، بل هي درجة لا تُعطَى إلا من اتّباع نبيّنا خير الورى. وكلّ من حصلتْ له هذه الدرجة.. يكلّم الله ذلك الرجل بكلام أكثر وأَجْلى، والشريعة تبقى بحالها.. لا ينقص منها حُكمٌ ولا تزيد هُدى.

ويقول إني أحد من الأمّة النبوية، ثم مع ذلك سمّاني الله نبيًّا تحت فيض النبوّة المحمّديّة، وأَوحَى إليّ ما أوحى. فليست نبوّتي إلا نبوّته، وليس في جُبّتي إلا أنواره وأشعّته، ولولاه لما كنت شيئًا يذكر أو يسمَّى. وإن النبيَّ يُعرَف بإفاضته، فكيف نبيّنا الذي هو أفضل الأنبياء وأزيدهم في الفيض، وأرفعهم في الدرجة وأعلى؟ وأيّ شيءٍ دينٌ لا يضيء قلبًا نورُه، ولا يُسَكِّنُ الغليلَ وُجُورُه، ولا يتغلغل في الصُّدور صدورُه، ولا يُثنَى عليه بوصْف يُتمّ الحجّة ظهورُه؟ وأيّ شيءٍ دينٌ لا يميّز المؤمن مِن الذي كفر وأبى، ومَن دخله يكون كمثل من خرج منه، والفرق بينهما لا يُرى؟ وأيّ شيءٍ دين لا يميت حيًّا مِن هواه، ولا يحيي بحياةٍ أخرى؟ ومن كان للهِ كان الله له.. كذلك خلتْ سُنّته في أُممٍ أُولى. والنبيّ الذي ليس فيه صفة الإفاضة.. لا يقوم دليلٌ على صدقه، ولا يعرفه من أتى، وليس مثله إلا كمثل راعٍ لا يهُشُّ على غنمه ولا يسقي ويبعدها عن الماء والمرعى.

وتعلمون أنّ ديننا دينٌ حيٌّ، ونبيّنا يُحيي الموتى، وأنه جاء كصيّب من السماء ببركات عُظمى، وليس لدينٍ أن ينافس معه بهذه الصفات العُليا. ولا يحطّ عن إنسان ثقلَ حجابه، ولا يوصل إلى قَصْر الله وبابه، إلا هذا الدين الأجلى، ومن شكّ في هذه فليس هو إلا أعمى.

وقد اخترط الناس سيوفهم على هذا العبد من غِمْدٍ واحد، فتَجالَدَهم ربُّ الورى. فقطَّ بعضَهم، وأخزى بعضهم، ومهّل بعضهم تحت وعيده إلى يومٍ قدّر وقضى. وإنّهم آلوا أن لا يعاملوا به إلا ظلمًا وزُورا، وتحامتْ زمرُهم عن طرق التقوى، وبعدوا عن منهج الحقّ، كأنّ أسدا يفترس فيه، أو يلدغ ثعبان، أو تَعِنُّ آفة أخرى…

وجعل الله داره حَرمًا آمِنًا من دخلها حُفظ من الطاعون وما مَسَّه شيءٌ من الأذى، ويُتخطّف الناس من حولها. إنّ في ذلك يرى يدَ القدرة مَن كان له عين ترى.

وأعطاه أعمالا صالحات مع ثمراتها لنفع الأبرار، كأنّها جنّات تجري من تحتها الأنهار. ووضع لـه قبولا في الأرض، فيسعى إليه الخلق في الليل والنهار. وجذب الله إليه كثيرًا من أولي الأبصار، الذين لهم نفوس مطهّرة وطبائع سعيدة، وقلوب صافية، وصدور منشرحةٌ كالبحار، وجعل بينهم مودّة ورحمة، وأخرج من صدورهم كلّ رعونة واستكبار. وأنبأه به في وقت لم يكن فيه هذا العبد شيئًا مذكورًا، وكانت هذه النصرة سرًّا مستورا. وأعطاه عصا صدقٍ يخزي بها العدا، فتلقّفتْ ما صنعوا من حَيَواتِ كيدٍ نحتوه بالنجوى. ووعد أنه يهين من أراد إهانته، فأدرك الهوان من أهان واستعلى. إنّهم كانوا يكذّبون من غير علم، وقلوبهم في غَمْرة من أهواء الدنيا، وكانوا ينظرون إلى سلسلة الله مغاضبًا، ويُؤذُون عباد الله بحديث يفترى، ولا يدخلون دار الحقّ، بل يمنعون من يريد أن يدخلها ولا يأبى. فغضب الله عليهم، وقطّع لهم ثيابًا من النار، وسعّر عليهم سعير الحسرات، فلم يملكوا صبرًا، ولم يدفعوا عنهم أُوار الاضطرار. وما كان لهم مَلْجأٌ مِن سخط الله، ولا مَن ينجّي من البوار. ولو نظروا ذات اليمين وذات اليَسار، فكان مآلهم الخسران والخسار، والذُّلّ والصَّغار. وطاشتْ سهامهم التي رموا إلى هذا العبدِ، وحفظه الله من شرِّهم، وأَدْخله في حِمى الأمن ودار القرار. وقد نفضوا الكنائن ليردّوا القدر الكائن، وأرادوا أن يُطفئوا بأفواههم ما نـزل من الأنوار، وسقطوا كصخرة عليه، وودُّوا لو تُسوّى به الأرض أو تخرّ عليه الجبال، لئلا يبقى من الآثار؛ فنصره الله نصرًا عزيزًا من عنده، ليجعل الله ذلك حسرةً عليهم، وإن الله لا يجعل على المؤمنين سبيلاً للكُفّار. وما ادرؤوا عن أنفسهم ما أنبأه الله فيهم من سُوء الأقدار. وبشّر الله هذا العبد المأمور بأنه يكون في أمانه وحِرْزه، ولا يضرّه من عاداه من الأشرار، ويعيش تحت فضل الله الغفّار، فكذلك عصمه الله تحت حمايته، ورحّبَ به في حضرته، وصار على عداه كالسَّيف البتّار. وأعانه في كلّ موطنٍ كالرفيق، ونقله إلى السَّعة من الضيق، وجعل له الأرض كوادٍ خُضْرٍ أو روضٍ مملوّةٍ من الثمار. ووضع البركة في أنفاسه، وطهّره من أدناسه، وأوصل إلى الأقطار ضوء نبراسه. فرجع إليه كثير من الأبرار، وهجروا أوطانهم في الله تعالى، وأوطنوا قريته طمعًا في رحمة الله الغفّار. فاشتعل العِدا حسدًا من عند أنفسهم، ومكروا كلَّ مكر، فما كان مكرهم إلا كالغبار. وأخرجوا من كلّ كنانةٍ سهْمًا، فما كان سهمهم من الله إلا التبار. وأجمعوا له ورمَوا من قوسٍ واحدٍ، فانقلب بفضل من الله، وزادتْ عِزّته في الديار. وكذلك نصر الله عَبْده، وصَدَقَ وعده، وهيّأ له من لدنه كثيرًا من الأنصار. وبشّره بأنّه يعصمه من أيدي العِدا، ويسطو بكل من سطا، وكذلك أنجز وعده وحفظه من كلّ نوع الضرار.

وجعله مصطفًى مبرَّأً من كلّ دنسٍ وزكَّى، وقرّبه نجيًّا وأوحى إليه ما أوحى، وعلّمه من لدنه طريق الرُّشد والهُدى. وجمع له كلّ آية من الأرض والسماوات العُلى، وكفّ عنه شرّ أعدائه، وأسّس كلّ أمره على التقوى، وأَصلح شؤونه بعد تشتُّت شملها، وأوصل سهْمَه إلى ما رمى. وجعل الدنيا كأَمَةٍ له تأتيه من غير شُحٍّ وهوى، وفتح عليه أبواب كلّ نعمةٍ وآوى وربَّى. وعلّمه من لدنه وأعثره على المعارف العُليا. وقد جاءكم على وقت مُسمّى.

* وإنْ قال قائل: كيف يكون نبيٌّ من هذه الأمة وقد ختم الله على النبوّة؟ فالجواب إنه عز وجل ما سمّى هذا الرجل نبيًّا إلا لإثبات كمال نبوّة سيدنا خير البريّة، فإنّ ثبوت كمال النبي لا يتحقق إلا بثبوت كمال الأُمّة، ومن دون ذلك ادّعاء محض لا دليل عليه عند أهل الفطنة. ولا معنى لختم النبوّة على فردٍ من غير أن تختتم كمالات النبوّة على ذلك الفرد، ومن الكمالات العظمى كمالُ النبي في الإفاضة، وهو لا يثبت من غير نموذجٍ يوجد في الأمّة. ثم مع ذلك ذكرتُ غير مرّةٍ أن الله ما أراد من نبوّتي إلا كثرة المكالمة والمخاطبة، وهو مسلَّم عند أكابر أهل السنّة. فالنـزاع ليس إلا نـزاعًا لفظيًّا. فلا تستعجلوا يا أهل العقل والفطنة. ولعنة الله على من ادّعى خلاف ذلك مثقال ذرّةٍ، ومعها لعنة الناس والملائكة.
Share via
تابعونا على الفايس بوك