مزايا خاصة بالكلام الإلهي فقط
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِه وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (الآية:39).

شرح الكلمات:

سورة: السورةُ: المنـزلةُ؛ الرفعةُ؛ الفضلُ؛ الشرفُ؛ ما طال من البناء إلى جهة السماء وحسن؛ العلامةُ (أي الدليل)؛ القطعةُ المستقلة (الأقرب)

التفسير:

يقول الله تبارك وتعالى: إن الكافرين – رغم تحلِّي القرآن بهذه الصفات والمزايا – تراهم يقولون: إن محمدًا قد افتراه من عنده. تُرى، إذا كان الناس قادرين على افتراء مثل هذا الكلام المتسم بهذه المزايا فليؤلّفوا مثله كدليل على صدق دعواهم.

لقد وجّه القرآن هنا تحديًا لم يقدر المفسرون على استيعاب حقيقته بشكل كامل واضح، حتّى ألقى سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود الضوءَ على هذا الأمر، حين صرّح أن تحدّي القرآن ليس قائمًا على الإعجاز اللغوي فحسب، بل يتعداه إلى الإتيان بكلام متسم بجميع المحاسن القرآنية المعجزة بما فيها اللغة الإعجازية (البراهين الأحمدية، الخزائن الروحانية ج1 ص270).

وقد ظن بعضهم أن هذا التحدي يعني أن كُل من ألّف كلامًا يبارز به القرآن فسوف يموت.

والواقع، كما أسلفتُ، أن المفسرين لم يدركوا حقيقة هذا التحدي على الوجه الأكمل. ولما كان هذا الموضوع مذكورًا في عدة أماكن من القرآن وبكلمات مختلفة فقد ظَنَّ بعضهم خطأً أن القرآن غير مستقر في التحدي، إذ ينقص من مطالبته هذه مع مرور الوقت. فمرةً طالبهم بأن يأتوا بكتاب مثل القرآن حجمًا وضخامة، ثم تحداهم بأن يأتوا بعشر سور من مثله، وأخيرًا دعاهم أن يأتوا بسورة واحدة فقط.

ولكني أرى أن هذا ليس بصحيح، وإنما الحقيقة أن القرآن قد ذكر في كلٍّ من هذه الأماكن المختلفة موضوعًا مختلفًا مستقلاً.

فمثلاً قال في هذه الآية : فَأْتوا بسورةٍ مثله ، وليس المراد من (مثله) كل القرآن، وإنما المراد منه مثل الآية السابقة الذكر، إذ ليست كلمة السورة هنا بمعناها العادي المشهور وإنما معناها هنا العلامة أي الدليل كما جاء هذا المعنى في شرح هذه الكلمة، والمراد: إذا كان ما ذكرناه في الآية السالفة من أدلة كلامَ بشر فأتوا بكلام من لدنكم يتضمن دليلاً واحدًا كالذي احتوته الآية، وليس خمسة أدلة.

هذا وإن كل عاقل يدرك جيدًا أنه يستحيل على بشر أن يأتي حتى ولو بدليل واحد كالذي ذُكر من قبل. ولذلك لم يقدر أحد على ردّ هذا التحدي القرآني ولن يقدر عليه إلى يوم القيامة. هذا ولا يزال التحدي قائما إلى اليوم. ولو أن أحدًا في هذا الزمن أتى بكلام يحمل ولو مَزِيَّةً واحدة من هذه المزايا الخمس لاعترفنا ببطلان التحدي القرآني. ولكن قد تزول السماوات والأرض، ولكن لا يمكن أن يقدر أحد على الإتيان بمثله أبدًا، لأن هذه المزايا إنما هي من خصوصية الكلام الإلهي فقط، ولا يستطيع البشر ذلك أبدًا.

أما إذا أخذنا كلمة (سورة) بمعناها المعروف فالمراد من الآية: فليأتونا بسورة من تأليف بشر تصل إلى مستوى كلامنا الذي ذكرناه آنفًا. ولكن هذا المعنى ليس بقوي كالمعنى الأول، لأن المراد في هذه الحالة هو: فليأتوا بسورة شاملة لكل هذه المزايا الخمس، بينما المعنى الأول هو: فليأتوا بكلام يشمل ولو واحدة من هذه المزايا.

أما الآيات الأخرى التي تذكر هذا التحدي بكلمات أخرى فسوف نتناولها بالشرح لدى تفسير سورة هود، إن شاء الله تعالى.

وقوله تعالى: وادعوا من استطعتم من دون الله زاد به التحدي قوة وشدة.. والمراد: لا تبذلوا أنتم وحدكم الجهود في مجاراة القرآن، بل ادْعُوا زعماءكم واستعينوا بآلهتكم، ثم انظروا كيف أنكم ستفشلون فشلاً ذريعًا، لينكشف للعالم كله أن الكتاب الذي عزوتموه إلى افتراءات محمد لم تقدروا على تأليف كتاب مثله، لا أنتم ولا زعماؤكم ولا آلهتكم الباطلة جميعًا.

بلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِـهِمْ فَانْظُـرْ كَيْـفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (الآية: 40)

شرح الكلمـات:

تأويل: التأويلُ؛ الظنُ بالمراد؛ بيانُ أحد محتملات اللفظ؛ العاقبةُ. أوَّلَ الشيءَ: رجّعه. أوّل الكلامَ: دبّره وقدّره وفسّره. أوّلَ الرؤيا: عبّرها. (الأقرب)

التفسـير:

تقول الآية: لا تتعجب من ترديد المعارضين تهمة الافتراء ضدك، لأن الإنسان حينما لا يقدر على استيعاب أمرٍ فإنه يظنه خطأ، وهؤلاء أيضًا حين استعصى عليهم فهم القرآن ووجدوا آياته مخالفة لما عندهم من علوم ومبادئ وعادات ما لبثوا أن رفضوها وأنكروها.

وقال العلامة الزمخشري في تفسير الآية: “بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن وفاجأوه في بديهة السماع قبل أن يفهموه ويعلموا كُنْهَ أمره”.

وقال ابن عطية في معنى قوله تعالى ولـمَّا يأتهم تأويله : هذا اللفظ يحتمل معنيين أحدهما: أنهم بدأوا يثيرون الضجة قبل أن يتحقق وعيده بالعذاب.

وإثارة الصّخَب والضجّة ليس بدعًا من هؤلاء، بل ما زال هذا دأب الكفار تجاه أنبيائهم، والحق أن هذا هو دَيْدَنُ أعداء الحق في كل زمان. لا ينتظرون انكشاف الحقيقة، وإنما يسارعون إلى رفضها فورًا.

ولو قيل: إذا كان لا بد من الانتظار حتى تنكشف حقيقة بعض ما يقوله الأنبياء فلا يصح إذنْ الإيمان بهم في بداية دعواهم؟ فالجواب: إن الآية لا تقول إنهم لا يأتون في بداية دعواهم بأدلة وبراهين تساعد الناس على تصديقهم عندئذ، وإنما تعني: أن الذين لا ينتفعون بما تيسر لهم من أدلة على صدقهم، وإنما يولون الأهمية لأمور معينة أخرى يجب عليهم ألاّ يسارعوا إلى التكذيب على الأقل. إذا كانوا لا يريدون قبول الحقائق الثابتة فلا يحق لهم أيضًا أن يبادروا إلى الطعن فورًا فيما يشكون فيه من أمور دون أن يتأنّوا وينتظروا حتى تتجلى حقيقتها.

وأما قوله تعالى كذلك كذّب الذين من قبلهم  فيعني أن هذا كان دأب الأولين تجاه أنبيائهم دائمًا، بأن يثيروا الضجيج عبثًا.

لقد نقل القسيس وهيري في تفسيره اعتراضًا عن المستشرق بروكلمان يقول فيه: ما دام مشركو مكة لم يدركوا تمامًا حقيقةَ دعوى محمد وأثاروا الضجة ضده، فأي ذنب في ذلك؟ (تفسير وهيري)

ولكن وهيري لم يفكّر بأن هناك بَوْنًا شاسعًا بين عدم الإدراك الكامل وبين عدم إمكانية ذلك الإدراك. إن القرآن لا يقول أبدًا بأنهم كانوا معدومي الإدراك، وإنما قال: إنهم لم يسعوا بخلوص النية لإدراك حقيقة أمره. فما داموا لم يتدبروا جيدًا فيما عُرض عليهم من أمور وبراهين، بل رفضوها متعجلين قائلين: لا يمكن أن يوحي الله لبشرٍ مثلنا، فكيف يُعتبرون بريئين من المسؤولية؟

وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِين (الآية: 41)

التفسـير:

يقول الله تبارك وتعالى: إن هؤلاء – رغم حالتهم المتردية – لن يُحرموا جميعًا من الهدى، بل سوف يُخرج الله من بينهم مَن سيهتمون بإصلاح حالتهم فيؤمنون، ولن يُحرم من الإيمان إلا أولئك الأشقياء الذين لا يبرحون مصرّين على الفتنة والفساد حتى النهاية. وكأنه تعالى يقول: هناك داعٍ واضح وقوي لما نُملي لهم ونعطيهم من مهلة. إذ من الممكن عقليًا أن يؤمن مشركو مكة هؤلاء منتهزين مهلتنا هذه، وليس هذا فحسب، بل نعرف – بناء على علم ويقين – أنه سوف يؤمن بعضهم يقينًا، ولذلك لا نعذبهم على الفور، بل نمهلهم إلى حين.

ما أعظَمَ هذه النبوءةَ القرآنية التي تحققت في موعدها تماما. ولو أن أهل مكة أُهلكوا فور معارضتهم للنبي لما خرج منهم خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص وعكرمة وغيرهم من أبطال الإسلام العظام، رضي الله عنهم أجمعين.

      ما أعظَمَ هذه النبوءةَ القرآنية التي تحققت في موعدها تماما. ولو أن أهل مكة أُهلكوا فور معارضتهم للنبي لما خرج منهم خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص وعكرمة وغيرهم من أبطال الإسلام العظام، رضي الله عنهم أجمعين.

وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيـئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (الآية:42)

شرح الكلمات:

بريءٌ: بَرِئَ منه بَرَاءةً: تخلَّصَ وسَلِمَ. بَرِئَ من المرض بُرءًا، وأهل الحجاز يقولون: برأت من المرض بَرءًا: نقهت وتعافيت وشفيت (الأقرب)

التفسـير:

يأمر الله تعالى رسوله أن قُلْ للذين يكذّبونك: إذا كنتم تريدون اللجاج في إنكاري وتكذيببي فهذا شأنكم، لأن بيني وبينكم اختلافًا كبيرًا، وشتان بين ما تعملون وما أعمل، ولكل واحد منا الحق في أن يفنِّد موقف خصمه، ولكن يجب ألا يتحوّل هذا الاختلاف إلى خلافٍ وعداء، ويبدأ كل فريق بفرض رأيه على الآخر جبرًا وإكراهًا. فما دمت لا أُكرهكم على موقفي فلماذا تسعون لإكراهي على موقفكم.

في هذه الآية شرحٌ لقول الله في ما سبق وربك أعلم بالمفسدين   حيث يقول: ما دامت جماعتكم غير جماعتي وأعمالكم غير أعمالنا، وكل العالم يدرك ذلك جيدًا، فما الداعي للّجوء إلى الفساد والإكراه. إن الإنسان إنما يلجأ إلى استخدام القوة ضد الآخر إذا كان هذا الآخر يسبب له ضررًا وحرجًا ، ولكن ما دامت أعمالنا لا تسبب لكم ضررًا ولا فضيحةً، كما أن نشاطاتكم لا تلحق بنا ضررًا أو خسارة فما الداعي إلى الفتنة والفساد.

ويمكن استنتاج مسألة دينية أخرى من ذلك، وهي أنه يحق للإنسان إلى حدود معينة أن يمارس الضغط والجبر على فرد من أفراد قومه وجماعته، إذا جلب هذا الأخير اللومَ والعار على الجميع. واستنادًا إلى هذه القاعدة نفسها نفرض أحيانا على أفراد من جماعتنا غرامة أو عقوبة على بعض أخطائهم، فيثير الجهال والحمقى ضجة ويقولون بأن هذا بمثابة عبادة الكبار والأولياء. مع أن الآية تؤكد على أنه يجوز للمرء الجبرُ والضغط على أفراد جماعته وعشيرته. فلوكان هناك مثلاً فردٌ من جماعتنا يقوم بقطع الطرق والسلب والنهب، أو يتهاون في أداء الصلاة، مما يسبب إساءة إلى الجماعة ككل، فمن حقنا الضغط عليه ليصلح حاله، اللهم إلا أن يكذِّب بالدعوة الأحمدية، أو ينشقّ عن جماعتنا ويكوّن له فرقة جديدة، عندئذ لا يحق لنا الضغط عليه أبدًا.

وهناك معنى آخر للآية وهو: أنَّ هناك تباينًا واضحًا بين أعمالنا وأعمالكم، ولا يوجد بيننا وبينكم أي وجه شبه، فانتظروا حتى تظهر نتائج الأعمال فنرى أيّ الفريقين أحسن عملاً وأحظى قبولاً عند الله تعالى. لو كانت أعمالنا وأعمالكم مماثلة متشابهة يمكن الجزم أيُّ الفريقين هو مصدر للخراب، وأيهما مصدر للخير؟ ولكن ما دام لا تشابه بيننا وبينكم فسوف يسهل الجزم: مَن مِن القوم كان سبباً لهذه المفاسد والأمراض.

Share via
تابعونا على الفايس بوك