العصبية والأنانية.. أعظمُ خطر على السلام العالمي

مقتبس من كتاب

كارثة الخليج والنظام العالمي الجديد

لحضرة مرزا طاهر أحمد

رحمه الله تعالى

نقله إلى العربية

الأستاذ المرحوم الحاج محمد حلمي الشافعي «رئيس تحرير التقوى السابق»

في صبيحة يوم الخميس، الثاني من آب عام 1990 اجتاحت القوات العراقية دولة الكويت. فكشفت تلك الحادثة الغطاء عن هشاشة النظام العربي، وفتحت الباب لبداية تطبيق ما سمي بالنظام العالمي الجديد، الذي تكشفت فيه أنياب الدجال وأصبح يصول ويجول في العالم بلا هوادة و دونما رادع.

وقد تسارعت بعد ذلك الأحداث وتصاعدت، وها هو العالم العربي والإسلامي يعاني من آثار تلك الفاجعة وعواقبها وما تمخض عنها من دمار كبير ألمَّ بالأمة العربية والإسلامية.

وفي اليوم التالي كانت خطبة الجمعة التي ألقاها إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله تعالى)، تناول فيها هذا الموضوع الخطير وأعلن من خلالها أن القتال بين طائفتين مسلمتين هو من الأمور التي تناولها القرآن الكريم بالعلاج والحل، وأن المسألة ليست مشكلة عربية أو إقليمية، وإنما هي مشكلة إسلامية، ينبغي أن يُتَّبع في علاجها الوصفة القرآنية بأن يحلهـا المسلمون بأنفسهم بدلَ دعوة الغير للتدخل في أمورهم، حتى تكون يد الله تعالى على المسلمين، وإلا تركهم لأنفسهم ولن يجدوا عندئذ علاجًا ناجعًا ولا حلاً صالحًا.

لقد نبَّه حضرته، أيده الله، أمةَ الإسلام وكذلك سكان دول العالم الثالث عن دموية حلم النظام العالمي الجديد. وقد أكّدت الأحداث المتلاحقة على صحة كثير من هذه المخاوف، وما تخفي صدورهم أكبر والعالم الآن بانتظار مزيد من الويلات التي تلوح في الأفق.

هذه السلسلة من الخطب قُدِّمت للقارئ العربي في صورة كتاب “كارثة الخليج والنظام العالمي الجديد” بعد تعديلات مناسبة وإضافات ضرورية من صاحبها. وها نحن نقدم مختارات من هذا الكتاب اجتهدنا في اقتطافها وفقا لما رأيناه مناسبا للوقت أو المرحلة، أو لما أردنا أن نذكر به القارئ المؤمن النجيب. فإن الذكرى تنفع المؤمنين. آملين من الله تعالى التوفيق.  وإليكم فيما يلي مقتبسًا من هذا الكتاب:

لقد جئت هنا لأحارب هذه الوسائلَ.. وسائلَ استثارة المشاعر المكبوتة باسم الدين وتحويلِ الشرر إلى لهيب مشتعل…

إن أعظم الأخطار التي يتعرض لها العالم اليوم ناجمة عن العصبية والأنانية اللتين تسيطران لسوء الحظ على عقول الغالبية من السياسيين. لقد اعتاد السياسيون، سواء أكانوا من الشرق أو من الغرب، من البيض أو السود، أن يربطوا أساليبهم الماكرة بالسياسة، بحيث يستحيل أن تتماشى السياسة مع القيم الأخلاقية. والإسلام وحده هو الذي تخلو سياسته من الحركات الخادعة، وهذا ما يسمى السياسة الإسلامية الحقة. فالقول بأن الإسلام عقيدتنا، ثم فصل السياسة عن القيم الإسلامية السياسية أمر خطأ.

وفي الوقت الحاضر لا نشهد أي نظام للسياسة الإسلامية في أي مكان من العالم، بل ولا في الحكومات الإسلامية. وكل السياسيين حيثما كانوا لهم نفس الأسلوب السياسي الذي تسيطر عليه الأنانية. إن العصبية، وليست المبادئ، هي التي تحكم السياسة. وهكذا فإن أشد المخاطر التي يواجها العالم تأتي من التعصب والأنانية.

…… في قضية العراق والكويت.. قد يبدو أن الذي خرج إلى النور ووضح تماما هو اتحاد العالم في مواجهة العدوان، وأن ذلك ثمرة السلام أو التقارب بين الكتلتين: الاتحاد السوفيتي وأمريكا، وأن العالم يقف الآن متنبّهًا إلى الأخطار، وأنه كلما تهدد سلام العالم فلسوف تتحد كل البلاد لمواجهة الخطر. كلا، هذا غير صحيح… ولكنهم يغمضون أعينهم عنها، ولقد أغمضوها منذ زمن طويل، ولسوف يستمرون في إغماضها في المستقبل أيضا.. إلى أن توجه مصالح بعض الأمم أنظارها إلى تلك الأخطار. هناك أنواع من هذه الأخطار كالتعصبات القومية والعنصرية والفوارق اللغوية والخلافات الدينية والمنازعات التاريخية وغيرها الكثير. ولو وضعنا هذه الأخطار أمامنا لأُصبنا بالدهشة بسبب ضخامة وخطورة تلك الموارد البركانية المتفجرة المدفونة في أماكن شتى من العالم، والتي يمكن أن تثار في أية لحظة.

أفريقيا ضحية مظالم الغرب

وفيما يتعلق بالتمييز العِرقي تعالوا نلقِ نظرة على أفريقيا. الواقع أن المنازعات والأخطار الموجودة فيها تعود كما قلت في خطبة سابقة.. إلى الحكم الغربي السابق في أفريقيا، حيث ارتكبوا ألوان المظالم، وفرقوا بين الأمم، بل وقطَّعوا الأُمم التي تتحدث لغة واحدة. قسَّموا القبائل كي يزيدوا الفُرقة بدلاً من إخمادها. وفي الوضع الحالي هناك مخاطر بين شعوب كانت في حماية السوفييت والأمريكان، وكانت بينهم نزاعات. والآن لن تستمر الحماية، ولسوف تطفو النـزاعات إلى السطح.. مثلما حدث في ليبيريا. كانت الدول الغربية تراقب الأحوال في ليبيريا ويسيطرون إلى حد ما على الخلافات القومية، ولكن عندما زال التوتر بين الدولتين العُظميين بدأت هذه المخاطر تبرز فجأة وتعود إلى العمل مرة أخرى.

والآن ترتفع أصوات في أفريقيا باسم الديمقراطية، وتحاول إدخال نظام الأحزاب المتعددة. ومن وجهة النظر السياسية تتعرض أفريقيا لمخاطر كثيرة. وأعني بوجهة النظر السياسية: أيّ نوع من النظام السياسي ينبغي أن يقوم هناك؟ فمن الناحية السياسية والقومية والدينية والخلافات على الحدود هم يواجهون أخطارا كثيرة. والمشكلة أنه حتى الآن لم يبدءوا في بذل مساعٍ جماعية لإزالة هذه الأخطار.

ألغام مدفونة

من كل هذا يمكنكم تقدير صدق قولهم بأنهم قد وحدوا العالم كله، وأطلعوه على خطر العراق، وأن ما فعلوه إنجاز رائع لحماية السلام العالمي (إن صّح التعبير). فكل هذه أقوال زائفة ودعاوي باطلة لا صدق فيها. وكل هذه الأخطار التي ذكرتها لكم ليست سوى أمثلة معدودة، وإلا فهي تفوق الحصر، وهي كالألغام المدفونة تحت الأرض في أماكن شتى؛ بعضها يصدر فحيحًا ويوشك على الانفجار، وبعضها ساكن وسوف ينفجر بعد وقت ما. أما الانقسامات القائمة على الفوارق القومية والدينية واللغوية فهي مستعدة للعمل جِهارًا نهارًا. وسأروي لكم أمثلة قليلة أخرى.

إن العداوات القديمة بين الشعبين التركي واليوناني قد تم كَبْتُها بسبب اشتراك البلدين في منظمة حلف شمال الأطلنطي. فاليونان دولة أوروبية، وتعتبر تركيا أيضًا بلدًا أوروبيًّا. ولأنهما عضوان في المنظمة فكان من صالحهما، في ظل التهديد الروسي، ألا يسمحوا بنشوب حرب بينهما. لم ينته هذا الخطر بعد، بل لا يزال موجودًا، ولكنهم تجاهلوه بسبب المصـالح الوقتية. كما هناك في سريلانكا نـزاعات خطيرة بسبب الفـوارق الـلغـوية والقومية.

الحُلم اليهودي لسيادة العالم

وبالنسبة لموضوع التمييز العنصري فالعالم كله لا يزال يخشى خطر اليهود كما كان يخشاه منذ آلاف السنين. والأمة اليهودية تتصدر فيما يبدو صفوفَ الداعين للقضاء على نعرة التفوق العنصري، ويقومون بدعاية كبرى في العالم للقضاء على التفرقة العنصرية وإزالة التعصب العرقي؛ وهم إنما يفعلون ذلك مخافة أن تقوم أمة ما وتسلط نقمتها على اليهود. ولكن الحقيقة أن عقيدة اليهود عن تفوق الأمة اليهودية على سائر أمم العالم لا تقل أبدًا عن المفهوم النازي عن التعصب العرقي. لقد درست آدابهم المعاصرة، بل وتراثهم التاريخي من عهد سيدنا داود عليه السلام، ووجدتُ في مادتهم الأدبية كما لو أن أمة اليهود خُلـقت للسيادة على العالم واستعـباد الخلق! ولا يمكن للسلام أن يستقرّ ما لم يدخل العالم كله تحت الحكم اليهودي. إنهم أيضًا يتحدثون عن السلام، ولكن السلام في عيـونهم هو ما يراه العـالم طغيانًا واستـبدادًا.

العنصرية في أمريكا  ثم لا تزال العنصرية تفعل فعلها في أمريكا. ومع أن القانون يقضي بمنح الحقوق للزنوج، ولكن هذا القانون لم يقض على التفرقة العنصرية. فالتمييز العنصري له قوانينه الفعالة والمسيطرة على سائر القوانين. والظن بأن السود في أمريكا اليوم متساوون مع البيض لهو الجنون بعينه. ليس لهم مساواة من أي وجه، وإنما دُفعوا بكل سبيل إلى الوراء، وكُبتوا حتى ترسخت فيهم مشاعر الكراهية. عندما زرت أمريكا قال لي بض الناس: إن جماعتك تنتشر هنا ببطء شديد.. في حين أن جماعات إسلامية أخرى تكسب انتشارًا أوسع بين السود.. فلماذا لا تنتهجون وسائل مشابهة لهم؟ قلت لهم: لقد جئت هنا لأحارب هذه الوسائلَ.. وسائلَ استثارة المشاعر المكبوتة باسم الدين وتحويلِ الشرر إلى لهيب مشتعل، لأن هذا يلائم مزاجَهم. ولو أن الجماعة الإسلامية الأحمدية شرعت تعلِّمهم البغضاءَ، وتعزف على وتر مركبات النقص فيهم، وسَعَتْ لتحويل الجمر إلى لهيب متأجج.. لتفوقتْ بحسن تنظيمها على جميع الفرق، ولفازت بسود أمريكا جميعا في خلال عقدين من الزمان. ولكننا لا نريد نصرًا عدديًّا، ولا يهمنا الفوز الكَمِّي.. الذي يجعل أمة تُبغض أمة أخرى، ويحوِّل السلام إلى نار الحرب. إن مفاهيم الأحمدية للانتصار مختلفة تمامًا عن هذا. إننا إذا لم نفز اليوم فسوف نفوز بعد قرنين أو أربعة قرون أو بعد ألف سنة.. ولكننا سنحصل على ذلك النصر الذي هو نصر محمد رسول الله ، نصرُ أخلاقياته، نصر تعاليمه، نصر القرآن المجيد. هذا هو النصر الذي له قيمة واحترام في قلوبنا. وكل نصر آخر هو نصر الظلم والقسوة، وهو نصر القوى الشيطانية.. فلا رغبة لنا فيه؛ بل الأحرى أننا خُلقنا للصِدام به والقضاء عليه.

مظالم الغرب على الهنود الحمر

فالتعصب الجنسي موجود في أمريكا، شمالِها وجنوبها. إن الهنود الحمر في الشمال قد أُبيدوا عمليًّا من فوق الأرض، ولكنهم لا يزالون موجودين بأعداد كبيرة في أمريكا الجنوبية، ويمثّلون في بلاد كثيرة أغلبيةً عددية مقارنة بالمواطنين اللاّتين. ولكنهم يُضطهَدون ويحرَمون من حقوقهم حتى صاروا يزدادون ميلاً إلى العنف كل يوم، وتنمو فيهم الحركات الرامية إلى الانتقام. لسوف تقع الانفجارات غدًا إن لم تقع اليوم جراء هذه الميول المتفجرة، وسوف تنفجر القنابل في أماكن شتى، وتقضي على أرواح المواطنين البريئة، وسوف يتعكر صفو الأمن. وما دمتَ تقف خارجًا مع المتفرجين، ولم تلتفت إلى الأسباب التي تنمي تلك الميول.. فمهما تدين الأفعالَ وتشجـبها بالكلام على نطاق واسـع، فلن يكون بوسـعك حل هذه المشـاكل.

قنابل مدفونة

إنها الأنانية التي تحكم عالم اليوم، وهي التي تخلق الأخطار. تميل الأمم الكبرى إلى كبت كثير من هذه المخاطر دون علاج كي تستخدمها من أجل مصالحها السياسية، وتستمتع بها سلاحًا في يدها. لو أساء الزعيم الفلاني تصرفه، أو لو غيرت الأمة الفلانية سلوكها معنا، فإننا في أثرنا الخطر الفلاني المكبوت عندهم، وأيقظنا البراكين المدفونة لتتفجر وتلقّنهم درسًا حول عواقب الاختلاف معنا.

لقد لاحظتم أنه عندما تعاملت إيران مع أمريكا بشدة، واحتلت السفارةَ الأمريكية لديها واحتجزت هيئة العاملين بها.. لم تؤيد الجماعةُ الإسلامية الأحمدية المؤسسة على العدل ذلك الموقف الإيراني ولا مرة واحدة أبدًا. ذلك أن الحرمة التي أقامها مولانا محمد المصطفى للسفراء، والتعاليم الرائعة التي قررها بالنسبة لهم.. لا يجوز لأي حكومة تجاهلها. لذلك لم نؤيدهم أبدًا. ولكن من الخطأ الظن بأنه كان عدوانًا من جانب واحد؛ فما برحت أمريكا عن طريق شاه إيران تطلق العنان للفظائع ضد شعب إيران، وجعلت منهم هدفًا للقسوة والمظالم حتى أثمرت هذه المعاملة القاسية نوعًا من الاضطراب في توازنهم الفكري. وعندما يستثار حماس الانتقام.. لا يمكن لأحد أن يمشي بفكر متّزن إلى الطريق الصحيح. إن الانتقام عندئذ لا يرى ما هو التصرف المتّزن، بل يثور كالطوفان؛ ولا يمكن للطوفان أن يبقى محصورًا بين ضفتي النهر. إن الطوفان يعني فيضان الماء فوق الضفاف. وهكذا تفيض عاطفة الانتقام فوق الحدود، ويقع نتيجة لها ما شهدتم من تجاوزات.

ثم جاء انتقام الغرب من إيران مستخدمين العراق. استخدموه بناء على وجود نـزاع تاريخي على الحدود بين البلدين، إذ لم يتفقا على أين تنتهي حدود إيران وأين تبدأ حدود العراق. كانت هذه الخلافات محفوظة في ذهن هذه البلاد المتقدمة الذكية، فاستغلّوها في هذه المناسبة، وشجّعوا العراق ووعدوه بالمساعدة. وعندما قلت في كتابي “القتل باسم الدين” إن الحكومة السعودية ساعدت العراق في ذلك، وأنها التي حرّضته.. تساءل بعض الناس: ما دليلك على هذا؟ لعلها تخمينات من لدنك؟ الآن أصبح الدليل واضحًا كالشمس. الآن تعلن السعودية على دقات الطبول أن العراق بلد ناكر للجميل.. لقد أعطيناهم القوة للقتال، ونحن الذين ساندناهم ضد عدونا، ولكنهم الآن يرموننا بنظرات العداء.

هذا هو النصر الذي له قيمة واحترام في قلوبنا. وكل نصر آخر هو نصر الظلم والقسوة، وهو نصر القوى الشيطانية.. فلا رغبة لنا فيه….

أقول: إن الأخطار مكبوتة في أماكن شتى بمختلف أنواعها، والنـزاع في كشمير واحد منها. هذه الأمم الكبرى تعرف وترى هذه الأخطار المكبوتة. وكما أنهم يرسمون الخرائط التي تبين مواضع المعادن في باطن الأرض.. كذلك يرسمون الخرائط السياسية. إن هذه الأمم المتقدمة الذكية.. لديهم خرائط رسمية لهذه الأخطار، ويعرفون متى يثيرون خطرًا كذا، وأي القنابل يفجّرون. وتبقى هذه الأهداف في أذهانهم محفوظة لمؤامرات الانتقام في المستقبل، وتظهر على السطح عندما تدفعهم بعض مصالحهم الأنانية لاستغلالها. ومن دون ذلك تبقى في أذهانهم جزءًا من الدبلوماسية الغربية.

والجانب المحزن أن البلاد الإسلامية قد تورطت في هذه السياسة نفسها. وأن البلاد الهندية أيضًا وقعت في نفس الفخ، وأن البلاد البوذية كذلك انغمست في السياسة عينها. وهكذا فإن السياسة الظالمة القائمة على الأنانية وعدم العدالة قد سيطرت على العالم بأجمعه اليوم. وما لم يُقضَ على تلك الميول لا يمكن للعالم أن يدخل في عصر السلام، ولن تبرح ظلال الحرب جاثمة على العالم. أو بالأحرى، بعد أن وصل الاتحاد السوفييتي إلى اتفاق مع الولايات المتحدة، فإن الأخطار الصغرى ستشبّ بقوة أعظم، وستكون كالبراكين النشطة التي لا يستطيع العالم أن يمنعها من قذف الحمم.. لأن مصالح بعض القوى الكبرى الأخرى تكمن في استمرار حدوث شيء من الاستفزاز في مكان أو آخر. وكما يقول غالب، شاعر الأردو ما تعريبه:

اِستـمِرَّ في استـثارة الجميـلات.. فـإن لم تَحـْظَ بلقاء..

فليـكن على الأقـل.. يا غـالب.. شـوق بلا إشباع.

فتلك الأمم الكبرى، التي لم تكنْ بينها محبة، لم تتوقف قط عن استفزاز بعضها بعضًا. والآن، بعد أن دخلوا في السلام فيما بينهم، أصبحت الأمم الصغرى بمثابة الجميلات بالنسبة لهم؛ إنهم لا يستطيعون لقاءهن، وإنما يبقى شوقهم للتطفل عليهن والتدخل في شؤونهن. ومـوضوع هذا البيت من الشعر لا ينطبق على الموقف تمام الانطباق.. لذلك لا بد من تعديله قليلاً كي يتفق والحال. فعندما تثار مشاعر الشوق بين المحب والمحبوب، تكون المعاناة دائمًا من نصيب المحب.. لأن المحبوب هو الأقوى والمحب هو الأضعف. المحبوب يملك دائمًا سلطانًا على المحب. وتخبرنا كلمات الشعر أن المحبوب ينبغي أن يسيطر على المحب المشبوب بالعاطفة. والموضوع هنا ليس من أثر المحبة الشديدة والمحب الولهان.. ولكنه موضوع السلطان والخضوع، موضوع القوة والضعف. لذلك فإذا كان هنا استثارة للجميلات.. فلسوف يكون الندم من نصيب الضعفاء. سوف يكون هناك ندم كثير من نصيب الأمم الصغيرة الفقيرة. وهؤلاء الناس لن يتوقفوا عن استفزازها.

فواجب الجماعة الإسلامية الأحمدية إذن أن تعرِّف ساسةَ العالم بتعاليم سيدنا محمد المصطفى . على المسلمين الأحمديين أن يبدأوا الجهاد في كل بلد يعيشون فيه لإخبار الجميع بأن تحليلاتنا النهائية تنبئ أن الظلم والأنانية هما أساس كل مخاوفكم. ادخلوا في أي اتفاقيات شئتم، وارسموا من الخرائط ما يحلو لكم.. ولكن ما دمتم لا تلتفتون إلى العدالة الإسلامية، ولا تعوذون بأخلاقيات المصطفى .. الذي بُعث رحمةً للعالمين.. لن تنالوا سلامًا. إن تعاليمه وحدها هي القادرة على منح السلام لبني البشر.. وكل ما عدا ذلك أوهام وأباطيل، وشرور سياسية، ومكائد دبلوماسية.. عارية عن الحقيقة.

هُبُّوا لمحاربة العنصرية

ولإرساء دعائم السلام العالمي.. إنما هي الجماعة الإسلامية الأحمدية وحدها التي عليها أن تضع أساس الجهاد العالمي في مساراته الصحيحة. ولذلك أود أن أذكّركم جميعًا بالشروع في الجهاد ضد التعصب في أنحاء العالم، ليزول الطغيان والظلم من الدنيا. يجب أن تشرعوا في الجهاد لدفع السياسة نحو العدالة. ولئن تم ذلك فسوف يحدث تغير ثوري في تفكير “الأمم المتحدة”، وسوف يؤلفون لجانًا كثيرة للتفكر في صنوف المخاطر التي ذكرتها لكم، ويبدأون العمل على إزالتها جميعًا. وسيجدون في أنحاء العالم قضاة شرفاء محايدين ممن تقاعدوا، لا يرتاب في حيادهم ونـزاهتهم أحد. هناك على سبيل المثال القاضي الكندي المعروف بعدالته “دوشين” (J. Dechene). وهناك في باكستان القاضي الزرادشتي “دراب بتيل” الذي استقال من منصبه لأنه رأى تصرفات منافية للعدالة بعد الانقلاب العسكري. وهو من وجهة نظر العدالة في مقام التقوى. وكلمة التقوى لها معنى واسع، وتنطبق فعلاً على القيم غير الدينية أيضًا؛ ذلك لأن القيم الأخلاقية الطيبة تنتمي في صورتها النهائية إلى الله تعالى. فالقاضي الذي يسمو على سائر المصالح والتأثيرات.. نستطيع أن نصفه بالتقوى من جهة عدالته. وإذن سوف يجدون قضاة ذوي تقوى في باكستان والهند وأسبانيا وغيرها. عندما كنت في زيارتي لأسبانيا والبرتغال قابلتُ قاضيًا متقاعدًا لم ينل نظرة التقدير والاحترام اللائقة به من الحكومة البرتغالية.. ذلك لأن الأمم المتحدة عيّنت الرجل مسئولاً عن النظر في الأمور الدولية والفصل في المظالم؛ وكان بعض أحكامه ضد البرتغال. عندما قابلته قال ضاحكًا: “أنت تروي لي الفظائع التي تُرتكب ضدكم في باكستان؟ حسنًا، سوف أرفع صوتي ضدها، ولكن أي الآذان تسمع؟! إن البلاد الذي أعيش فيها، والذي عملتُ فيه قاضيًا طول حياتي.. لا يعاملني الآن بإنصاف؛ بل وكل أمم العالم قائمة على الظلم. تحدثت معه طويلاً في جو ودي. إنه رجل متقدم في السن، ويحترمه الناس لقيمه الإنسانية، وإن كان مستبعَدًا من لعبة السياسة.

ولكن لا يمكن التوصل إلى هذا السلام إلا عن طريق اليد الودودة الحانية.. يد سيدنا محمد المصطفى   رسول الله تعالى، لأنه النبي الوحيد الذي أعلن الله تعالى أنه المبعوث رحمةً للعالمين . فالذي بعثه الله جل وعلا رحمةً للعالمين.. لكل أمم الأرض.. ولكل العوالم.. إذا لم تسألوه، وإذا لم تنتفعوا به.. فكيف يمكن أن تحققوا السلام للعالم؟

نعم، يمكنكم أن تجدوا أمثال هؤلاء القضاة المتقاعدين العادلين الشرفاء ذوي السمعة العالمية الطيبة؛ أو بعض السياسيين الذين قد يولدون بسمعة العدل، والذين ينبغي انتقاؤهم على هذا الأساس، وليس على أساس حزبي. يجب أن يُصطفى أناس من هؤلاء بناء على العدالة، وتُعرض عليهم الأخطار التي يتعرض لها العالم، وتُشكَّل منهم لجان متنوعة، ليفكروا في النـزاعات الأساسية لتفهم أسبابها الجوهرية ليقضي عليها قضاءً نهائيًّا. كما يجب بذل أقصى الجهود لتوجيه الأمم المتناحرة وتعليمها وجمعها على منصة واحدة، وتوضيح الأمر لها وللرأي العام العالمي. يجب أن يخبروهم أن هذه هي المنازعات وأسبابها، وهذا ما فعلته اللجنة بهذا الصدد، وهذه هي الصورة الحقيقية التي تبدو أمامنا. ليس باستطاعتكم التفكير في الحلول فجأة في هذه المرحلة، لأن بعض المنازعات متشابكة حتى الأعماق؛ ولكن لا بد من الشروع في محاولة إيجاد حل لها.

إن بوسعي أن أُري الأمم التي ترى الخطر من العراق اليوم ألفَ خطر منتشر في جوانب الدنيا. إذا كانوا حقًّا راغبين في سلام العالم، فكما سبق أن نصحت لهم، عليهم أن يستقوا على العدالة.. عدالةِ الإسلام التي لا تميز بين شرق وغرب، ولا تفرق بين شمال وجنوب؛ وإنما تضع مفهوم العدالة وربُّ العدالة جل وعلا نُصْبَ عينها. وبانتهاج هذه العدالة.. لو أنهم حاولوا حل نـزاعاتهم أو حل المنازعات العالمية.. فإني أؤكد لهم أن الدنيا عندئذ تفوز بالسلام. ولكن لا يمكن التوصل إلى هذا السلام إلا عن طريق اليد الودودة الحانية.. يد سيدنا محمد المصطفى رسول الله تعالى، لأنه النبي الوحيد الذي أعلن الله تعالى أنه المبعوث رحمةً للعالمين . فالذي بعثه الله جل وعلا رحمةً للعالمين.. لكل أمم الأرض.. ولكل العوالم.. إذا لم تسألوه، وإذا لم تنتفعوا به.. فكيف يمكن أن تحققوا السلام للعالم؟ يجب على الجماعة الإسلامية الأحمدية أن تشرع في الجهاد العالمي، عسى الله تعالى أن يكون معنا! آمين!

16 نوفمبر 1991

Share via
تابعونا على الفايس بوك