حقيقة الاستغفار

حقيقة الاستغفار

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

خطبة جمعة ألقاها حضرة مرزا طاهر أحمد ( أيدَّه الله)

الخليفة الرابع لحضرة الإمام المهدي والمسيح الموعود ( )

بمسجد الفضل، لندن بتاريخ 4 مارس 1997م.

تعريب: قسم الترجمة بالمجلة

بدأ حضرته خطبة الجمعة بالتشهد والتعوّذ وتلاوة سورة الفاتحة فقال:

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ (آمين)

قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (الحجر: 40-44)

لقد بيَّنتُ في خطبة سابقة معنى العبوديّة لله وبيَّنتُ أنّه ما لم ينضمّ المرء خلال الحياة الدنيا إلى زمرة عِباد الرحمان سيحرم روحه حظَّها من الرُّقي في الحياة الآخرة. ولكن لا يصحُّ القول أنّ الذين فشلوا في هذا المرام خلال حياتهم الدنيويّة فلا أمل لهم في إصلاح شأنهم والتَّنعم بوِصال الله.

هنالك من يعتقد أنه قد دخل في زمرة عباد الرحمان خلال حياته الدنيويّة، ولكن إذا تفحّص أعماله وقارنها بملامح وصفات عِباد الرحمن التي بيَّنتها لكم في خُطب سابقة سيجد بعض الشوائب وبعض مواضع الضعف في أخلاقه التي تشهد على أنّه ليس من عِباد الرحمان ولكنه قد أصبح عبدًا للشيطان. لأنّه عندما يستجيب لنداءات نفسه الشيطانيّة يصبح عبدًا لها ويستحيل أن يكون المرء عبدًا لله ولميوله الشيطانيّة في نفس الوقت. وقد اشتُرِط على عباد الرحمان أن يسيروا طوال حياتهم على الصراط المستقيم وأن لا ينحرفوا عنه مهما كانت الظروف. ولكن الذين ينجذبون إلى مشهدٍ فاتن أو يستمعون لصوتٍ مُغرٍ فتلك هي اللحظات التي يتخلَّون خلالها عن الصراط المستقيم ويستجيبون لميول نفسهم الشيطانيّة يكونون قد توقّفوا عن عبادة الله وبدءوا بعبادة الشيطان.

فالعبادة ليست تلك الطقوس التي نقوم بها خلال الصلاة فحسب ولكن كل عمل يقوم به المرء إرضاءً لله فهو عبادة. لقد كان في قصص وأساطير من الأزمنة السابقة دروس وعِبرٌ كثيرة وإن كانت تتحدَّث عن أحداث خياليّة للجنّ والأشباح وغيرهم. وفي معظمها تحمل الكثير من الجهالات، إلا أنّها، نتيجة حرص الناس في الماضي على المحافظة على القيم السامية، نجد أنّ الذين صاغوها أخذوا هذه النقطة بعين الاعتبار وراعوا معظم جوانبها. فالمتعمِّقُ في تلك القصص يستخلص منها الكثير.

والمحور الأساسي الذي تدور حوله معظم هذه القصص باختلاف أساليبها هو أن يُطلب من شخص أو أمير ما بأداء مهمة حافلة بالمغامرات شريطة ألا يلتفت إلى اليمين وإلى الشمال حتى لو سمع صوتًا يناديه من كلا الطرفين وألا ينحرف عن الطريق المستقيم. ويُحاطُ علمًا أنّه إذا التفت خلال رحلته هذه إلى اليسار أو إلى اليمين أو أثَّر في نفسه صوتٌ مُغرٍ أو مخيف فسوف ينقلب إلى حجر. وبطبيعة الحال مثل هذه الأمور مستحيلة الوقوع في عالمنا المادي إلا أنّها ممكنة في العالَم الروحاني وذلك حين يُلبّي المرء نداء الأصوات المغرية وهو سائرٌ على الصراط المستقيم يكون قد جعل نفسه عُرضةً لخطرٍ يؤدي به إلى الموت الروحاني وهذا ما تُشير إليه القصص. بطبيعة الحال إنّ المرء الذي يدخل في زمرة عباد الرحمان ولا يكون عبدًا لله بكل معنى الكلمة سيصبح دون أي شكّ عرضة لأن يكون عبدًا للشيطان.

فبالرغم من الإنذارات المتعددة يتحول كثير من سالكي طريق المغامرة في القصص المشهورة إلى حجارة وذلك لاستجابتهم لبعض الأصوات الشريرة. وتذكر القصص أنّ الأمير القوي الذي التزم بقواعد وقوانين الرحلة عندما يصل إلى بر الأمان يُحيي بأنفاسه الرجال والنساء الذين تحوّلوا إلى أحجار. ما أغرب هذه القصة وأعجبها لكنها تنطبق حرفيًّا على مهام النبيّ المـُرسل من الحضرة الأحدية. فالنبي يظهر في زمن ينساق فيه الناس وراء إغراءات وأهواء شتى ويسيرون قُدمًا نحو الطمع وتوهمهم أنفسهم الضالّة وأمانيهم الخادعة أنّ الجنّة تكمن في الاستمتاع بالدنيا وملذّاتها. وتنكشف للمرء حقيقة الأمر بعد أن يدخل في دوامة هذه الملذات الدنيويّة فيستنتج أنها شيء عابر وأن كل لذة مصحوبة بألم وحزن وذلك لأن كل لذة خارج إطار الملذات المسموح بها للمرء من الله تعالى لا تتحقّق إلا باستلاب حقوق الآخرين ونهب عقاراتهم وأراضيهم وممتلكاتهم. ولا تتحقَّق هذه الجنة لأحد إلا على حساب حقوق الآخرين، وحين يبسط المرء يده إلى هذه الجنان يدرك أنها ستولّد لغيره جحيمًا لا محالة. ولا مفرَّ له من هذه الحقيقة التي تواجهه في كل لحظة يعيشها في جنته الواهية. وبعد فترةً بسيطة تضمحلُّ هذه الجنة وتترك وراءها جحيمًا.

فكلُّ نبي من أنبياء الله هو أمير السلطنة الروحانيّة في زمنه لذلك لا يلتفت إلى الشمال أو اليمين ويسير على الصراط المستقيم بكل شجاعةٍ وصرامة. وترسم حياته صورةً حيةً لجملة “لا حول ولا قوّة إلا بالله”. وقد علّمنا النبي في هذا الدعاء طريق اتِّقاء هذه الأصوات الشيطانيّة وأثبت لنا أنه ليس في مقدرتنا تفادي هذه الأخطار بقوتنا ولكن يجب علينا أن نستمدَّ القوة الحقيقيّة من “لا حول ولا قوّة إلا بالله”. أي من دون الله لا يستطيع أحد أن يخوِّفنا أو يصلح شأننا أو يمنحنا شيئًا. فإذا واظبتم على هذا الورِد واستوعبتم جميع جوانبه ستكسبون ثقةً تامة في أنفسكم تمنحكم الدخول في عالم التوحيد. إنّ التوحيد يفيد بأنّ كل عطاء من قِبل غير الله عطاءٌ كاذب، إذ إنّ النِّعمة الحقيقيّة هي التي يرزقنا الله إياها. فلا ضير إذا كان أحدٌ من دون الله يهدِّدنا بعذابه وسخطه كما فعل فرعون في الماضي أو كما يفعل من يردِّدون نفس الشعارات الفرعونيّة من العِباد الضالين في عصرنا الحالي إذ يهدِّدون من هم على الصراط المستقيم قائلين: “إنّ الدعوة التي تنشرونها هي دعوة الشيطان” والله يشهد أنّهم هم فعلاً ممثلون للشيطان. وبهذه الصفة نجد أنّ الشيطان يظهر تارةً بزيّ الواعظ وأخرى بزي المهدد. وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم. فأنبياء الله يصلون إلى برِّ الأمان تحت حصن (لا حول ولا قوّة إلا بالله) ولا توثِّر فيهم نزعات الشيطان ولا يتحولون إلى حجارة كما في القصص. فَتُحيي أنفاسهم تلك الحجارة وتبعث في من قضى عليهم الموت لقرون طويلة روحًا جديدة ويتم إحياؤهم بفضل الله العزيز الحكيم.

وقد رأى الكثير من السلف الصالح رؤى احتوت على إشارات مجازيّة حول موضوع بحثنا وأُريد أن أؤكِّد لكم أن التطوّرات الروحانيّة التي نحن بصدد إلقاء الأضواء عليها لا تنحصر في الرؤى فحسب بل إذا ثابرتم والتزمتم الصراط المستقيم الذي وضعه لنا سيد الخلق أجمعين سيدنا محمد المصطفى ستحظون إن شاء الله بالقرب والنجاة. وقد يظنُّ بعض السالكين أنه قد وصل إلى غايته ومرامه ولا حاجة له في التقدُّم ويتناسى أنه بهذا التفكير قد يجعل نفسه عُرضةً للسقوط في جانب المغضوب عليهم أو الضالين.

فكلما انحرفتم عن الصراط المستقيم رغبةً أو رهبةً فقد تركتم عبادة الله وبدأتم بعبادة الشيطان. وأي شخص يتحلَّى بشيءٍ من التقوى سيعترف بأنه استجاب لدعوة الشيطان وانحرف عن الصراط المستقيم في بعض الأحيان تارةً سرًّا وأخرى علانيّة.

فأنبياء الله يصلون إلى برِّ الأمان تحت حصن (لا حول ولا قوّة إلا بالله) ولا توثِّر فيهم نزعات الشيطان ولا يتحولون إلى حجارة كما في القصص. فَتُحيي أنفاسهم تلك الحجارة وتبعث في من قضى عليهم الموت لقرون طويلة روحًا جديدة ويتم إحياؤهم بفضل الله العزيز الحكيم.

هنا سؤالٌ يطرح نفسه كيف الرجوع إلى الصراط إذًا؟ إنّ دراسة أحوال أنبياء الله وجوانب حياتهم الطاهرة تعطينا ما فيه الكفاية لهذا الغرض. فالرسول يبيّن أحوال سُبل الضلال تلك بأسلوبٍ يندهش له العقل، ولم يكن وصفه ذلك من خلال تجربةٍ شخصيّة -والعياذ بالله- بل كانت تصدر منه هذه التوجيهات لأنه وصل إلى أعلى منازل التوحيد. فهو يصف لنا هذه المخاطر من على المنصة الروحانيّة العالية التي وصل إليها. فالابتلاءات العديدة التي مرَّ بها سيدنا محمد المصطفى أكسبته خبرةً وفهمًا عميقًا للجوانب السلبيّة للإنسان على المستوى النفسي والروحي والأخلاقي. وبهذه الصفة حاز على أعلى مراتب التقوى أي أعلى مراتب الحذر والاحتراس واجتناب ما يُغضب الله. فتلك النُخبة من الأبرار من أنبياء وأولياء لله مرُّوا بطرق التقوى هذه بحذرٍ وتحفُّظ. وحين اجتازوها وصلوا إلى هدفهم بسلام، فمعنى ذلك أنّهم كانوا يعرفون خفايا ومخاطر هذه الطرق لذلك تفادوا ما لا يُحمد عُقباه. ولكن الفهم واليقين الذي تحصَّل عليه سيدنا محمد المصطفى لا مثيل له في زمرة الأبرار لذلك نجد أنه يعرض هذه التفاصيل على الناس فيظنّ المذنب أنه فعلاً قد اطَّلع على ما يدور في خاطره وما تخفيه قرارة نفسه. والواقع أن النبيَّ مرَّ بابتلاءاتٍ شتّى خلال رحلته الروحانيّة فاكتسب فهمًا لتفاعلات النفس والروح. وعلاوةً على ذلك كشف الله عليه أسرارًا كان أهلاً لها وفهم منها ما لم يفهمه قبله وبعده بشر. والفرق بين النبي المعصوم والشخص المذنب أن النبيّ يمرُّ بهذه السُبل رافضًا كل صوت ولا يتأثَّر بها بتاتًا، أما المذنب فيمرُّ بها مُنصاعًا لها ومتأثِّرًا بها.

لا تتم التوبة إلا بعد الاستغفار الذي يتطلب التطهُّر التام، أي يجب أن نمحو جميع آثار الإثم ونطمِسه حتى يضمحل. وقد ذُكِر عن حضرة آدم أنه استتر ببعض أوراق الشجر لإخفاء عورته. والجدير بالذكر أنّ هذه الاوراق المجازية ما هي إلا الاستغفار ذاته. فالمستغفر الحقيقي يُخفي آثار الذنوب تحت الأوراق حتى تنعدم تمامًا.

لنبحث الآن موضوع من كان ينظر ويشاهد حضرة آدم؟.. لقد أخطأ الكتاب المقدّس حين ظنَّ أن حضرة آدم ( ) كان يختفي من عين الله تعالى، فمن المستحيل ان يتوارى الإنسان من الله وراء شجرة أو يغيب عن أنظاره بارتداء أوراق الشجر.

فالاستغفار الذي يتمثَّل في أوراق الشجرة الطيّبة التي كان حضرة آدم ( ) يستر وراءها آثار محو الذنوب ليس عن أنظار الناس فحسب بل عن أنظار الخالق أيضًا. هذا هو الاستغفار الكامل الذي يَهبُ المرء حياةً روحانيّة جديدة. وهذا هو الجهاد الحقيقي الذي يجب على كل مسلم إعلانه والعمل حسب مقتضاه.

وأرى أنّ العالَم بأسره في أيامنا هذه بأمسِّ الحاجة للتخلُّص من ربقةِ الذنوب والانضمام إلى عِباد الله السالكين للصراط المستقيم كي يتزوَّدوا بلباس التقدُّس الذي لا يبلى. إنّ رحمة الله تعالى تترك هذه الأبواب الكبيرة مفتوحةً أمامنا كي نسلكها ولا يفوتنا الأوان.

فلا تُبالوا بما يقوله الأعداء في شأنكم.. اجعلوا عين الله هي شُغلكم الشاغل لأنّها فعلاً ترى ما يخطرُ ببالكم وما تُكِنُّه صدوركم. فالذين يُدركهم الأجل المسمَّى وهم مُلطَّخون بالذنوب ولم يحاولوا تزكيةَ نفوسهم وإزالة أدرانها فأولئك موتى وعَبَدةُ الشيطان. أما الذين يسعون لتزكية نفوسهم بكل جدٍّ وإخلاص ثم تُدركهم المنايا ستضمُّهم رحمة الله إلى زمرة عباده الأبرار رحمةً  وفضلاً منه .

وبكل ثقةٍ في النفس نقول إنّ الاستغفار الذي قام به سيدنا محمد المصطفى يفوق استغفار أي نبيٍّ من أنبياء الله وأي بشر. وقد يعترض بعض الجُهَّال ويقولون: ما دام سيدنا محمد لم يقترف أيَّ ذنب فما هي الحاجة إلى هذا الاستغفار المــُبالغ فيه؟ إنّهم ولسوء الحظ لا يفقهون المعنى الحقيقي للاستغفار وهو أن يجتثَّ الإنسانُ من داخله لا الذنب فحسب بل القِوى السلبيّة التي تجعله يرتكبه أو أن يخطر بباله خاطرُ ارتكابه. وهذا هو الطريق الذي سلكه سيد البشريّة محمد المصطفى فكان إذا مرَّ بطريقٍ فيه موبقات أو مؤشراتٌ للذنوب يجتازه بكل حذر واحتراس دون أن يُبالي بما يحدث، وبهذه الطريقة انتزع جذور الذنب من أساسها فلا يجول في باله للحظةٍ التفكير بها. فمفهوم الذنب لم يبقَ له وجودٌ في شخصِ خير البشر. فاستغفاره لم يكن لارتكابه الذنوب -والعياذ بالله- ولكن لاتِّقائه من أن تخطر بباله. وهذا ما ذكره عن أنّ شيطانه قد أسلم. هذه هي ركائز رحلته للبحث عن الله تعالى. فلا بدَّ أن تواكب رحلاتنا رحلته، والذين لا يُبالون بهذه النِداءات فلا أمل لهم في النجاة. أما المذنب الذي يتعلَّم درسًا من الخِصال المحمديّة الخالدة ويستغفر الله استغفارًا صادقًا ستسعه رحمة العزيز القدير، ونأمل أن يكون من الناجين.

ويصعب على الشخص العادي أن يُدرك حقيقة وكُنه رحلة المصطفى إلى الله تعالى وذلك لعلوِّ شأنها ورفعةِ مكانتها. إلا أنّه يمكنه سلوك الطريق مسترشدًا بآثار أقدامه ومُقبِّلاً إيَّاها. لذلك لا بدَّ أن نلتزم بالاستغفار في حياتنا، فالاستغفار لا يعني طلب المغفرة باللسان، بل المقصود محو آثار الذنوب وقهرها حتى تنعدم وتضمحل.

في القديم كان الناس يضعون غسيلهم الملطَّخ بالماء والصابون على حجرٍ ضخم ويضربونه بالعصي ضربًا مُبرِّحًا كي يمحوا جميع آثار الأوساخ منه. وهذا هو حال المؤمن في تعامله مع ذنوبه. أما المنافق فنجد أنّه يُغطّي أدرانه ولا يُزيلها. فكما أنّ عملية الغسيل هذه لا تتمُّ في بضعِ ثوانٍ كذلك فإنّ إزالة الأوساخ الروحانيّة تستغرق وقتًا طويلاً. وهذا الوقت والجهد يُماثل ما يقوم به الحداد عندما ينظّف قطعةً من الحديد تراكمت عليها الأوساخ والصدأ، فأولاً، ينفضُ عنها الأوساخ ثم يحكُّها بالمحكَّات ثم يصبُّ عليها بعض الزيوت والمواد الكيماويّة ثم يحكُّها بقطعة قماش ناعمة. وبعد أن يبذل هذا الجهد الجهيد ينتهي من تنظيفها.

وتشابه تفاصيل التنظيف والتطهير في العالَم الماديّ تلك التي في العالَم الروحاني من ناحية المجهودات المبذولة. فكِّروا في هذه الحقائق وأمعِنوا النظر فيها كي يتسنّى لكم فهم كُنه الاستغفار التام. وإن اتّخذتم هذا الأسلوب لتطهير أرواحكم سيبرق لكم بصيص أمل مغفرة الله. وتيقَّنوا أنه من صفاته العفو أي أنه يغضُّ النظر عن ذنوب عباده وذلك كي يوقظ همّة المذنب التائِب ليتخلَّى عن الذنوب.

يُشاع في بعض الأحيان أن نظرةً واحدة طهَّرتْ فلانًا وزكَّتْهُ، إلا أننا لم نسمع قط أنّ ثوبًا غُسِلَ بلمسةٍ واحدة ولم نسمع أيضًا بزوال الصدأ المتراكم على قطعة حديدٍ بلمسةٍ واحدة. تُرى مَن أوجدَ هذا القانون؟ أليس الله تعالى هو واضعُ هذه القوانين وخالقها في العالَم الروحاني؟.. فمن أين هذا التعارض؟.

صحيحٌ أنّه في بعض الأحيان تحدثُ عملية التنظيف في العالم الماديّ بسرعةٍ فائقة، وعلى سبيل المثال الصدأ المتراكم على قطعة الحديد لا نتمكن من إزالته أحيانًا بالحكّ وباستخدام بعض المواد الكيماوية ويجب أن نضع قطعة الحديد هذه في فرنٍ شديد الحرارة، وخلال بضع لحظات تحصل النتيجة المرجوّة التي لم نحصل عليها حتى بعد الجهود المتواصلة. لكن يجب أن لا ننسى أنّ هذه العملية يرافقها الاحتراق والالتهاب.

وهذا ما يحدث أيضًا لدى الذين يُبعثونَ فجأةً نتيجة الاستغفار الذي يُحدث فيهم هذا التغيُّر الجذري والمفاجئ. لا شكَّ أنهم ذاقوا الأمرّين من جرَّاء ذنوبهم لذلك اشتعلت فيهم نار الاستغفار الصحيح وأظهروا خيبتهم التامة وخجلهم العميق على عتبة الله تعالى، وولَّدت التوبة النَّصوح فيهم جحيمًا حرق جميع ذنوبهم واجتثَّ جذورها. فمُنِحوا حياةً جديدة فجأةً طبقًا لقوانينه . يجب أن يُحدث الاستغفار انقلابًا في نفوسكم حتى تُوقد هيبة وجلال البارئ نارًا تُحرق الذنوب وتجتثُّ جذورها.

بعد هذا التوضيح نستخلص أنّ الإقلاع عن الذنوب بشكلٍ تام يتطلَّب معاناةً كبيرة. وهذا هو العذاب الذي يجب على المرء أن يذوقه ويمرُّ بمراحله المختلفة لكي يحظى بالنجاة. فهنالك قسمٌ من الناس يجتازونه ببطء ويستغرقون وقتًا طويلاً وإذا شملتهم رحمة الله في آخر المطاف يحظونَ بالنجاة. وقسمٌ آخر تُشعلُ في نفوسهم الندامة والخجل هيبةَ وجلالَ الله نارًا تنبثق منها توبةٌ نصوح فيتغيَّرون تغيُّرًا جذريًّا مفاجئًا. وهنالك أيضًا قسمٌ آخر من الناس تُحدث فيهم نظرة محبة من أحد المقرّبين لدى الحضرة الأحدية حياةً جديدة بإذن الله، حيث رُويَ عن بعض صحابة حضرة الإمام المهدي أنّه نظر إلى بعض الناس نظرةً ملؤها المحبة والوِئام فأحدث الله فيهم انقلابًا مفاجئًا وتغيُّرًا جذريًّا ورزقهم كيانًا روحانيًّا جديدًا. وما كان له أن يحظى بهذه الملَكة إلا باتباعه التام لسيدنا محمد المصطفى . وقد يظنُّ بعض الناس إبّان معاينة تولّد هذا الكيان الجديد أنه يحتوي على إعجازٍ مُنافٍ لقوانين القدرة الإلهيّة. وليس في هذا الادِّعاء ذرّةُ صدق إذ إنّ مثل هذه النظرات تُثبِتُ عزيمة الذين قرَّروا أن يتحمَّلوا مشاق الاستغفار وتؤكِّد على إصرارهم على سلوك الطريق وتجهِّزهم لتقديم التضحيات والتخلّي عن الرغبات الواهية وعن أنواع الرفاهية والراحة ويعيشون عيشة الفقراء الزُّهاد ويضحّون بكل غالٍ ونفيس. ففي الحقيقة تلك النظرة تُحرك فيهم استغفارهم فتثور أرواحهم ونفوسهم وتُعلن الحرب ضد الذنوب وتمحو كل أثر لأي وجودٍ سوى وجود الخالق . ولا يصحُّ القول بأنّ مجرد نظرة تُحدث مثل هذا الانقلاب ولكن الله يُبارك في تلك النظرة ويعزّزها بنورٍ منه فتُحدث بأمره في المرء ما تُحدث. وليس ما أنا بصدد ذكره محضُ أسطورة وليس أيضًا هو مخالفًا لقوانين الطبيعة إذ أنّ هذه القوانين كما وعد لا تبديل لها مطلقًا. ومن المعروف أن لكل شيء ثمنًا فلا تعيشوا في عالم خيالكم الواهي ولا تظنُّوا بأنّ نظرةً من أحد الأبرار ستُصلح بالكم فجأةً أو أنّ الدعاء على ضريح أحد الأولياء سيُحيي أرواحكم.

فالاستغفار الذي يتمثَّل في أوراق الشجرة الطيّبة التي كان حضرة آدم ( ) يستر وراءها آثار محو الذنوب ليس عن أنظار الناس فحسب بل عن أنظار الخالق أيضًا. هذا هو الاستغفار الكامل الذي يَهبُ المرء حياةً روحانيّة جديدة. وهذا هو الجهاد الحقيقي الذي يجب على كل مسلم إعلانه والعمل حسب مقتضاه.

أتطرَّقُ الآن إلى الآية التي استهللتُ بها خطبة اليوم:

قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ،

والتي تُبرز أنّ قول الشيطان يحمل في ثناياه حكمةً بالغة، فإنّه يقوم بأعمال التضليل عمدًا ويؤكِّد على صدق قول الله تعالى في شأنه بأنّه ضالٌّ وغويّ، وبموجب هذا الحكم يُصرِّح أنّه مضطر أن يقضي حياته ضالاً غويًّا. فبعبارة أخرى يقول بأنّه كُتِبَ عليَّ أن أظلَّ ضالاً إلى يوم القيامة، وإذا كنتُ قد قررت بأنني ضالٌّ وغوي فينبغي أن أنشغل بأعمال التضليل والإغواء كي آخُذَ بثأري.

وقوله هذا يؤكِّدُ على أنّ المرء المتكبِّر حين ينهزم يبحث مباشرةً عن طرق الانتقام، وهذا ما نفهمه من قول الشيطان وكأنّه فرض على نفسه طريق الانتقام فقال: أعترف بأنني ضال وقد عزمتُ الأمر أن أخلق لعبادك الذين ينبغي أن يكونوا مُتِّبعين لك وعبيدًا لك مواقع الفتنة والزينة، وسأسوقهم إلى أماكن الضلال وسأُكرِّس لذلك سائر وسائل التضليل حتى يهجروك جميعًا. وهكذا سأزيد عدد أتباعي وأُقلِّل عدد عبادك، وهذا هو انتقامي من وصفك إيّاي ضالاً وغويًّا. ويعرف الشيطان معرفةً تامة أنّه لا يستطيع التسلُّط على البعض منهم ويعرف حقّ المعرفة أنّ عباد الله حقًّا لن يتأثَّروا به لذلك استثناهم قائِلاً:

إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ .

وكلمة أجمعين في الآية السابقة استخدمها لإظهار الكثرة ولذلك استثنى المخلَصين. فالملاحظ انّه استعمل كلمة مخلَصين بفتح اللام أي الذين أخلصهم الله تعالى والذين يراهم الله تعالى مخلصين له وليسوا الذين يتظاهرون بالإخلاص.

إنّ هؤلاء المخلَصين هم معصومون، وإنّ هدف حياتهم أن تتوفّاهم الملائكة وهم في حالةٍ روحانيّة قريبةٍ من حالة هؤلاء الأبرار. وسأشرح لكم جوانب هذه النقطة لتطَّلعوا على دقائق هذا الصراط ولتتيقَّنوا أننا لن ندخل زمرة المخلَصين دون مراعاتها.

قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ،

لقد بيَّنتُ آنفًا أنّ بعض الناس يضلّون عن السير على الصراط المستقيم بالرغم من أنّه واضحٌ وجليٌّ أمامهم، وهذا ما استخلصته من هذه الآية. يقول تعالى انظروا ما أوضح طريقي وما أَقوَمَهُ ولا يمكن أن يضلَّ أي سائرٍ عنه. ومن معاني المستقيم أنّه يؤدّي بالسائر عليه حتمًا إلى المقصود ولن يتعرَّض للانحراف مثل أنبوب البندقية إذا كان مستقيمًا ستخرج الطلقة منه مستقيمة وتُصيب الغرض.

وقد أحاط الشيطان علمًا بأن ليس له سلطان على عباد الرحمان

إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ

أي أنّ ادِّعائك بأنّك تجعل من عبادي أتباعًا لك محضُ كِبْر. فالذين سيتَّبعونك من الناس إنما يركنون إليك لزيغهم الداخلي فلا مجال للافتخار بهم

وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ .

بعد أن وضَّحت لكم الجوانب المختلفة للصراط المستقيم أصبح واضحًا أن أمل الله تعالى فيكم أن لا تنتبهوا للأصوات المغرية ولا تصغوا لها لأنها كاذبةٌ وخادعة.

لا يُقبِلُ المرء على ارتكاب أي ذنب وهو مُتحلٍّ بالصدق. ولكن كل من في نفسه زيغٌ يستجيب بسرعة إلى أي نداء فيه زيغ. لهذا فإنّ الذي ينحرف يقوم بذلك عمدًا نتيجة عِوَجِ نفسه.

وكلمة اتَّبَعَكَ تدلُّ على أنّ خطيئةً واحدة لا تؤدّي إلى الغواية وإنّما يرضخ لسلطة الشيطان بالقيام بخطيئةٍ واحدة ثم تلي سلسلة من الموبقات. فكل إنسان على نفسه بصيرة ويكون في حالة وعيٍ تام عند ارتكابه الخطيئة. فعلى سبيل المثال التاجر الذي يكسب أرباحًا بطريقةٍ مسموحة ومشروعة فهو لا يشعر بتأنيب الضمير لأنّه لم يُذنب، ولكن قد يكون جاره تاجرًا يُنمِّي ثروته بالغشِّ والخداع، فهذا من المستحيل أن لا يؤنِّب ضميره في بداية الأمر ويحسِّسه بالذنب، ثم يدخل حالة اتَّبَعَكَ حيث يخطو خطوات الشيطان الرجيم وتصبح أصوات الضمير خافتةً بالتدريج إلى أن يفقد الشعور بالذنب، وهذا المرض الذي يؤدِّي بصاحبه إلى التحوّل من إنسان إلى حجر، أي أنّ ضميره أصبح من حجر لا مشاعر ولا أحاسيس له.

ويشير في وصفه لجهنّم

وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ (التحريم: 7)،

إلى الصنف الأول من الناس الذين يدمنون على تعاطي الذنوب ولكن يكون فيهم مقدارٌ ولو ضئيل من الشعور بالذنب والمسؤوليّة وأشار إليهم بــــ النَّاسُ . أما الصنف الثاني وهم الْحِجَارَةُ فهم أولئك الناس الذين مات فيهم الشعور بالذنب والمسئوليّة وجميع الأحاسيس والمشاعر النبيلة من حشمةٍ وحياء وشعور بالخيبة فكأنّهم فعلاً حجارة دخلت ضمائرهم عالَم “لا حياةَ لمن تُنادي”. وهذا القسم من الناس يمثِّل أغلبية أهل النار. وبحسرةٍ بالغة أقول أنّ عددًا مُذهلاً ومُخيفًا من سكان العالَم اليوم هم حجارة بأتمِّ معنى الكلمة.

وأتطرَّقُ الآن لذكر بعض المقتطفات من كتابات حضرة الإمام المهدي ( )، ولضيق الوقت يبدو أنني سأعرضُ قسمًا منها في هذه الخطبة والباقي في الخطبة المقبلة -إن شاء الله- وهذا المقتبس مأخوذٌ من الملفوظات المجلد الأول ص 2-4 تحت عنوان “حقيقة التوبة” حيث قال حضرته في أحد المجالس: “ليست فلسفةُ الذَّنبِ أن يخلقَ الله ذنبًا ثم يُقرِّر العفوَ عنه بعد مُضيِّ آلاف السنين”. بهذه الجملة التي تبدو في الظاهر بسيطة قد هدم حضرته عِمارة المسيحية وتركها خاوية على عروشها وذلك لأنّ المسيحية المعاصرة تدَّعي بأنّ الله خلقَ آدم الذي أذنب وارتكب المعاصي وورثت الأجيال المنحدرة منه هذه الذنوب جيلاً بعد جيل إلى آلاف السنين حتى طرأت لله فكرة العفو عن هذا الذنب وفكَّرَ في القضية فقرَّر أن يعفو عنه فخلَقَ المسيح عيسى ابن مريم وقرَّر أنّه بعد خلقه وموته فداءً للبشريّة سيمنح الله عفوه للمذنبين وأما فترة ما بين آدم وعيسى لم يكن الله ليغفر أيَّ ذنبٍ ارتُكِب.

ويتابع حضرة الإمام المهدي توضيحه فيقول: “كما كان أحد جناحَيْ الذُباب يحملُ سُمًّا والآخر ترياقًا، وهكذا يتواجد السمُّ والترياق في نفس الوقت. فلم يُوجد الله في أحد الجناحين سمًّا ثم بعد ذلك أوجد الترياق (دواء مضاد للسم) بعد فترة”.

لقد بيّن لنا رسول بأنّ الذُباب يقع دائمًا على الجهة اليُسرى. من هنا نستخلص بما أنّه يقع دائمًا على اليسار لذلك يكون جناحه الأيسر عُرضةً حين يهبط على الأدران فتلتصق الجراثيم بجناحه الأيسر، وحين يهبط على الحليب يهبط طبعًا على يساره وربما لاحظتم أنّه يعوم مائلاً نحو اليسار لذلك نصحنا: “إذا سقط في الحليب فاغمسوا جناحه الأيمن فإنه يحمل شفاءً”. وإلى هذا الحديث أومأ حضرة الإمام المهدي فقال: “مِن مُنطلق هذا الحديث فإنّ الذُباب حين خُلق في أحد جناحيها سمٌّ فقد خُلق في نفسِ الوقت في الآخر ترياق. فالسمُّ والترياق مُتلازمان منذ الأزل حيث لم تتغير عادة الذباب ولم يتغيَّر هذا المضمون”.

لمــّا يدخل السمُّ في جسمِ أيِّ كائن فإنّ جهاز مناعته يستيقظ ويتفاعل ضدّهُ. ومن الطبيعي أن تنشأ المناعة في الجناح الأيمن للذُبابة. وأرجو من العلماء الأحمديين أن يتعمَّقوا في هذا الموضوع ويدرسوا جميع جوانبه لكي يقدِّموه كبُرهان على صدق الرسول . فيجب على المسلمين ألا ينخدعوا بأنّ غير المسلمين سيُثبتوا صدق الإسلام، بل يجب عليهم أن يُثبتوا صدق دينهم بأنفسهم ويكدُّوا ويضحّوا في سبيل ذلك.

لقد بيّنت لكم من خلال كلام حضرة الإمام المهدي ( ) بأنّ السمُّ والترياق قد خُلِقا في نفس الوقت وقدَّم جناحي الذُباب مثالاً على ذلك، بيدَ أنّ لكلِّ سُمٍّ على وجه الأرض ترياقًا وليس هناك سُمٌّ لم يُخلق له ترياق. فمن اكتشف ترياق السُمّ الذي دخل جسمه فقد فاز ونجا ومن لم يستطع سوف يتمكن السمّ منه ويكون من الهالكين.

يضيف حضرة الإمام المهدي ويقول: “للإنسان أيضًا جناحان جناح المعاصي وجناح الخجل والندم والتوبة والقلق”. حيث تتولَّد التوبةُ من الخجل والندم. إنّ جناح الخجل هو التوبة والقلق، فالتوبة تتولّد من الخجل وتُولِّد القلقَ، لأنه حين ينتبه المرء إلى التوبة يجد أن الخجل وحده لا يكفي خاصةً بعد الخسائر الكبيرة التي لحِقت به.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا إذا كان الترياق والسمّ متلازمين فما هي الحكمة من خلق السُّمِّ؟.

سأُلقي الأضواء على هذا الموضوع في الخطبة المقبلة إن شاء الله.

Share via
تابعونا على الفايس بوك