إحياء أم قيامة!

هذا الكتاب دراسة تحليلية موثقة للدفاع عن الحق الذي قامت عليه المسيحية الأولى النقية التي صدع بها المسيح الناصري عيسى بن مريم كما أنه بيان يكشف الحقيقة التي حجبَها تجّار الدين وسماسرة الخلاص، زبانية الترهيب وأصحاب صكوك الغفران.

والحق أن العقائد المسيحية قد اكتسبت صورتها الحالية من خلال عملية تغيير ممتدة على تاريخ المسيحية كله تقريبًا. فبدلا من الخوض في جدال لا نهاية لـه حول عملية التغيير تلك، اختار الكاتب دراسة العقائد المسيحية الحالية واختبارها على محكّ المنطق والعقل. وبالإضافة إلى موضوعات أخرى قد تمّ في هذا الكتاب بحث مسائل هامة كبنوة المسيح، الكفَّارة، الثالوث، المجيء الثاني للمسيح.

هذا عزيزي القارئ باختصار شديد هو محتوى هذا الكتاب القيِّم: «المسيحية رحلة من الحقائق إلى الخيال» لحضرة ميرزا طاهر أحمد (رحمه الله رحمة واسعة). ورأت أسرة «التقوى» نشره على صفحاتها عبر حلقات متسلسلة نظرا إلى الدعاية الواسعة التي نشطت بشكل خطير في الآونة الأخيرة صوتًا وصورةً وكتابةً بُعَيد الدمار الذي حلّ – ولا يزال يحلّ – بالمسلمين وأراضيهم من قِبل «الدجال».. القوى المادية للمسيحية بالتواطؤ مع الصهاينة. ومما لا شك فيه أن هذا الكتاب بيان حُبٍّ صادق مخلص للمسيح والمسيحيين في جميع أنحاء المعمورة. كما أنه رسالة حبّ لهم، لأنه يقودهم إلى حقيقة مَن يحبّون، وما يحبّون: المسيح الحق، والمسيحية الحقة. ولقد آن الأوان لأن تُفني المسيحية الحقّة ضَلالَ من حرّفها وضيّعها، ولتعود بأجيالها وعالمها كلّه إلى هداية رب العالمين.

وقد حصل شرف نقل الكتاب إلى اللغة العربية للكاتب السوري الأستاذ محمد منير الإدلبي وراجعه ثُلّة من أبناء الجماعة المتضلّعين في اللغة والدين. «التقوى»

الفصـل الخامس

إحياء أم قيامة!

إن سيناريو قيام يسوع من الموتى يطرح الكثير من المشاكل. وقد تمّت مناقشة بعضها في الفصل السابق، ونتحول الآن إلى عناصر وتعقيدات أخرى.

أمامنا الآن طبيعة ذهن يسوع قبل الصلب، وبعد إحيائه من الموتى. لقد عاد ذهنه إلى الحياة ثانية بعد أن تعطل لمدة ثلاثة أيام وثلاث ليال. والسؤال هنا: ما الذي يحدث للدماغ (المخ) فعلاً عند الموت؟

هناك إجماع على نقطة واحدة  على الأقلّ بين خبراء الطب المسيحيين وغير المسيحيين أنه لو ظل الدّماغ ميتا لمدة تزيد على بضع دقائق لمات وانتهى الأمر إلى الأبد. وحالما يتوقف جريان الدم فإن المخ يبدأ بالتحلل. فإذا مات يسوع أثناء الصلب، فلا يعني ذلك إلا أن قلبه قد توقف عن النبض ولم يعد يزوِّد دماغه بالدم، وأن دماغه قد مات بعده فورًا. وهكذا فلا بد من أن نظام حياته كله قد توقف عن العمل، وإلا لما أعلِن أنه قد مات. وفي مثل هذه الحالة، فإننا نواجه مشكلة غاية في التعقيد حول فهم حياة يسوع المسيح وموته.

إن موت يسوع المسيح كما بيّنّا، يعني مغادرةً نهائية لنفسه السماوية، أو إن روحه، كما يمكننا أن ندعوها، قد تحررت من القفص المادي لجسده البشري. وإذا كان الأمر كذلك، فإن إحياءه لا بد وأن يعني عودةَ نفسه السماوية ذاتها إلى الجسم المادّي ذاته الذي كانت قد تركته وراءها قبل ثلاثة أيام. إن مثل هذه العودة للروح ستُعيد حركة ساعة الحياة المادية وتجعلها تدقّ مرة أخرى. ولكي يحدث مثل هذا الأمر لا بدّ أن تعود خلايا الدماغ المنحلة والميتة إلى الحياة فجأة، كما لا بدَّ أن تنعكس العمليات الكيميائية للانحلال السريع بأكملها؛ وهذا يتضمن مشكلة هائلة، وستظلّ تحديًا دائمًا للمسيحيين المتخصصين في الكيمياء الحيوية ليجدوا لها حلاًّ إن وصف انعكاس عمليات الانحلال الكيميائية بكاملها داخل الجهاز العصبي المركزي، لهو أبعد من إدراك خيال العلماء مهما أطلقوا له العنان! ولو أنَ ذلك حدث فعلاً لكان حقًا معجزة تتحدى العلم وتسخر من القوانين التي وضعها الله بنفسه. ولكنها تكون معجزة غير قادرة على حل هذه المشكلة.

إن التعبير «القيامة» إنما يعني خلق جسم سماوي جديد. إن مثل هذا الجسم يكون روحيًا في طبيعته، ويعمل كبوتقة للروح النقية فيه. وهذه الروح تُخلق للاستمرار الأبدي للحياة بعد الموت. ويسميه البعض جسدًا فلكيًا أو جسدًا سماويًا، والبعض يدعونه Athma أي روحًا. وسَمِّه بما شئت فإن المعنى الأساس يبقى هو هو.

إن مثل هذا الإحياء لن يعني فقط إحياء خلايا الجهاز العصبي المركزي فحسب، بل في الواقع إحياء تركيبتها أيضًا! حتى لو تم بناء الخلايا نفسها من جديد وإعادتها إلى الحياة – تمامًا كما كانت من قبل – فإنها ستكون في الحقيقة مجموعة جديدة من الخلايا، خالية من أية ذاكرة سابقة. وسيكون من الضروري إعادة تصنيعها كاملة، مع جميع المعطيات المتعلقة بحياة يسوع، التي كانت قد مُحيت من ذهنه بعد موت دماغه!

الحياة كما نعرفها تتألف من الوعي الممتلئ بالمعلومات المخزونة في بلايين الخلايا العصبية في الدماغ. تلك المعلومات تُقسم بعدها إلى أجزاء أكثر تعقيدًا وتشابكًا في صورة معلومات مبرمجة تُحصل من الحواس الخمس. فلو مُحيت تلك المعلومات لانعدمت الحياة أيضًا. ولذلك فإن إحياء دماغ يسوع سيعني بناء وتصنيعَ دماغٍ مبرمج من جديد وبتركيبة جديدة! وإن هذا التعقيد أيضًا له علاقة بكيمياء بقية جسد يسوع المسيح. فمن أجل إحياء الجسد لا بد من تفعيل مبنى كيميائي هائل بعد استعادة جميع المواد المفقودة في عملية الانحلال. وبحدوث مثل هذه المعجزة العظيمة يبرز السؤال:

من الذي أُعيد إلى الحياة وبأيّ جوهر؟ هل البشر الذي كان في يسوع هو الذي عاد إلى الحياة، أم الإله الذي كان فيه؟ لهذا السبب نركِّز على أهمية فهم ذات يسوع.

كلما كان هناك ما يدل على فشل أو تردد يسوع في إبداء قواه الخارقة كابن الله لجأ المسيحيون إلى الزعم أنه فشل أو تردد بصفته بشرًا وليس بصفته إلهًا. ولهذا فإن لنا كل الحق في أن نسأل وأن نُحدّد بوضوح: أيّ جزء منه، كان بشرًا، وأيّ جزء منه كان إلهًا؟

إن تردد الجزء الإنساني  في يسوع يتطلّب عقلاً بشريًا ككيان منفصل عن عقل يسوع الإله. عندما تمّ إحياء الدماغ، فقد كان العنصر البشري في يسوع هو الذي تم إحياؤه، لأن الكيان الإلهي ليسوع ليس بحاجة إلى دماغ مادي ليدعمه. وذلك لأن الكيان البشري قد عمل كمجرد وعاء للكيان الإلهي خلال إقامته السابقة على الأرض، كما يحدث في حالة الوسيط الروحاني. ولذا، فإن إحياء يسوع لا يعني إلا إحياء صفته البشرية، والتي بدونها تستحيل عودة روحه إلى الجسد ذاته!

فإذا لم يكن هذا السيناريو مقبولاً، فإننا سوف نواجه مشكلة عويصة أخرى، وهي: أن نَعزوَ إلى يسوع خلال حياته على الأرض عقلين مستقلين: عقل بشري وعقل إلهي، إذ يشغل العقلان الحيّز نفسه، ولكن كلاهما مستقل في حد ذاته ومنفصل عن غيره. وإذا كان الأمر هكذا فيجب إعادة دراسة مسألة إحياء يسوع كي نتمكن من فهم طبيعتها الحقيقية بوضوح.

في هذا السيناريو ليس على المرء أن يفهم أهمية إعادة بناء الدماغ البشري من أجل إيجاد محلٍّ للعقل البشري. وما علينا إلاَّ أن نتخيل عيسى يحلّ من جديد في جمجمة مليئة بالبقايا المنحلّة من دماغِ مُضيفهِ السابق.

كلما تعمقنا في هذه المشكلة أطلّتْ مشاكل أخرى برؤوسها في كل مقام جديد!

إن عقل الإنسان يحتاج إلى دماغ كأداة لتفكيره. وأما ما يتعلق بوظائف الجسد المادي، فلو اعتقدنا أن العقل كيان منفصل قائم بذاته، فهذا يدل على أن العقل والروح شيء واحد. وبأي اسم أشرنا إليه، عقلاً كان أم روحًا، فإنه يمكن أن يُعدّ قادرًا على العيش منفصلاً، حتى عندما تنقطع صلته بالدماغ البشري. ولكن إذا كان على العقل والروح أن يسيطرا على الجسد البشري، أو أن يتأثرا بما يحدث في نطاقه المادي، عندئذ يجب أن تكون هناك علاقة قوية بين العقل والدماغ، أو الروح والدماغ؛ وإلاَّ فإنهما ببساطة لا يستطيعان أن يؤثّرا أو يحرّكا أو يضبطا العمليات المادية والذهنية والعاطفية في الإنسان. هذا أمر غير قابل للنقاش.

وهذا يقودنا إلى مشكلة حادة أخرى، وهي: هل الذي يُدعى ابن الله بحاجة إلى دماغ ليسيطر به على الجسد؟! وهل هو يعتمد على دماغ مادّي للقيام بعملياته الفكرية؟!

إذا كان يتجاوز جميع الحدود البشرية، وكان لديه جهاز عمليات تفكير مستقل وفريد لا مثيل له في الكون كلّه الذي خلقه هو، إذن فإن عودة روح الله إلى الجسد البشري، مع عقل الإنسان البشر، تُعيد بناء حالة شاذّة عجيبة لشخصيةٍ مزدوجة، وبطريقتين متضاربتين للتفكير؛ إذ من المستحيل أن يكون العقل البشري والروح البشرية متحدَين مع عقل الله ووجوده. سيظل ثمة اختلاف دائم بين عمليتي التفكير، مع تصادمات مريرة للموجات الدماغية. ربما هذا نوع جديد من الشيزوفرانيا الروحية (الانفصام الروحي)!

بعد أن قلنا ذلك، دعونا نعيد بناء السيناريو بأكمله من زاوية أخرى.

بعد أن درست المسيحية ببعض العمق وصلتُ إلى نتيجة أن هناك خلطًا سائدًا في فهم بعض المصطلحات وتطبيقها دون استيعاب مدلولاتها، في الحالات التي لا تنطبق عليها بالفعل. فالمفاهيم الأساسية المسيحية يكتنفها ضباب كثيف من التشويش وسوء التطبيق ببعض المصطلحات مثل: “الإحياء” (Revival) و”القيامة” (Resurrection) اللذان يحملان معنيين مختلفَين تمامًا. إلى هنا استخدمنا تعبير الإحياء قصدًا عند مناقشتنا إمكانية عودة يسوع إلى الحياة ثانية. وكما قد رأينا بوضوح من النقاش السابق، فإن كلمة “الإحياء” تعني عودة جميع الوظائف الحيوية للجسد البشري بعد الموت – مثلما كانت قبل أن تموت. ولكن “القيامة” هي ظاهرة مختلفة تمامًا.

ولسوء الحظ، فإن الكنيسة المسيحية – في جميع أنحاء العالم – كانت هي المسؤولة عن خلق هذا الارتباك في أذهان المسيحيين، وذلك بإساءة استعمال هذه التعابير باستبدال بعضها ببعض، أو على الأقل، بنسبة معنى أحدها إلى الآخر.

يفهم معظم المسيحيين قيامة يسوع المسيح، وكأنها قفزة إلى الحياة مرة ثانية لجسده البشري الذي كان قد هجره في لحظة موته المزعوم! طبعًا نحن لا نوافق على هذا! ونحتفظ بحقّنا بأن نصف تلك اللحظة بأنها كانت مجرّد غيبوبة عميقة وليست موتًا. وإذا تمَّ فهم قيامة يسوع المسيح وتطبيقه بصورة صحيحة، فإن المصطلح “قيامة المسيح” لا يمكن أن تعني عودة روحه إلى الجسد البشري ذاته، الذي كانت قد هجرته لحظة الموت.

إن التعبير “القيامة” إنما يعني خلق جسم سماوي جديد. إن مثل هذا الجسم يكون روحيًا في طبيعته، ويعمل كبوتقة للروح النقية فيه. وهذه الروح تُخلق للاستمرار الأبدي للحياة بعد الموت. ويسميه البعض جسدًا فلكيًا أو جسدًا سماويًا، والبعض يدعونه Athma أي روحًا. وسَمِّه بما شئت فإن المعنى الأساس يبقى هو هو.

“القيامة” تنطبق على خَلق جسدٍ جديد للروح الأثيرية في طبيعتها، وليست، ونقول تكرارًا، وليست: عودة الروح إلى  الجسد البشري المنحلّ ذاته، الذي تركتْه قبل ذلك.

لقد تحدث القديس بولُس مطولاً، مستعملاً هذه المصطلحات ذاتها عن قيامة يسوع المسيح. وكان يؤمن، ليس بقيامة يسوع فقط بل بقيامة جميع البشر الذين يموتون ويُعَدّون أهلاً، عند الله، لأن يُمنحوا وجودًا جديدًا وشكلاً جديدًا من الحياة. إن شخصية الروح تبقى كما هي، أما مقامها فيتغيّر. وعند القديس بولس، فإن هذه ظاهرة عامة يجب قبولها، وإلاَّ فلا يبقى ثمة معنى للمسيحية أو الدِّين!

إن رسائل القديس بولس إلى أهل كورنثوس يجب أن تُدرس بعمق، لأنها تشكّل قاعدة مركزية لهذه المسألة. وإن هذه الرسائل لا تترك مجالاً للشك، عندي على الأقل، أنه كلما تحدث بولس أن عيسى قد شوهد حيًّا بعد حادثة الصليب، فقد تحدث بوضوح ودون غموض عن قيامته وقيامته فقط؛ ولم يخطر في ذهنه أبدًا أن روح يسوع قد عادت إلى جسده البشري الفاني، وأنه كان قد أحيي من الموت بصورة مادية. وإذا كان فهمي للقديس بولس غير مقبول لدى بعض رجال الدين المسيحي، فعليهم أن يعترفوا بأن القديس بولس قد ناقضَ نفسه بشكل واضح لأنه في بعض رواياته على الأقل عن حياة يسوع الجديدة، لم يترك مجالاً للشكّ في أنه قد فهم حياة يسوع الجديدة على أنها القيامة، وليست عودة الحياة إلى الجسد البشري الذي يقال عنه بأن روحه قد حُبستْ فيه.

فيما يلي بعض النصوص من العهد الجديد التي تتحدث عن ذلك بوضوح. يقول بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس 6: 14:

“والله قد أقام الرب من الموت، وسيقيمنا نحن أيضا بقدرته!”

كما يقول بولس، في تعاليمه في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس الإصحاح 15، العدد 42-44 ما يلي:

“وهكذا الحال في قيامة الأموات: يُزرع الجسد منحلا، ويقام غير منحل، يزرع مهانا، ويقام مجيدا، يزرع ضعيفا، ويقام قويا، يزرع جسما ماديا، ويقام جسما روحيا. فبما أن هناك جسما ماديا، فهناك أيضا جسم روحي.”

وكذلك يقول بولس في الرسالة نفسها، الإصحاح 15، العدد 52-54:

“فإنه سوف ينفخ في البوق، فيقوم الأموات بلا انحلال. وأما نحن، فسنتغير. فلا بد لهذا الجسم القابل للانحلال أن يلبس عدم انحلال، ولهذا الفاني أن يلبس خلودا. وبعد أن يلبس هذا المنحل عدم انحلال، وهذا الفاني خلودا، تتم الكلمة التي قد كتبت: «ابتُلع الموت في النصر!»

ويقول بولس أيضا في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس، الإصحاح 5، العدد 8 ما يلي:

“فنحن واثقون إذن، وراضون بالأحرى أن نكون مغتربين عن الجسد ومقيمين عند الرب.”

إن المشكلة التي بقيت تنتظر حلاًّ، تنجم عن إشارة القديس بولس إلى رواية المسيحيين الأوائل: كيف شوهد يسوع حيًا بجسده إثر الصلب. فلو أن القديس بولس قد فهم أن يسوع كان قد بُعث فقد يكون مُصيبًا طبعًا، وإن “رؤياه” الشخصية ليسوع والاتصال به، يمكن أن تُشرحا على أساس مصطلح “القيامة”، مثل زيارة روحِ شخص ميت من العالم الآخر له شكل يشبه كثيرًا شكله ومظهره قبل الموت. ولكن يبدو أن ارتباكًا ما قد حصل جراء الخلط بين نوعين من الأدلة.

أولاً علينا أن ننظر في الشهادة المبكّرة التي أدلى بها حواريو المسيح أنفسهم الذين أحبوه واحترموه، وإن لم يكونوا قد انضموا إلى المسيحية بعد رسميًا. ولا بد أن يكون القديس بولس قد أساء فهم ذلك الدليل لأنه يتحدث بوضوح عن عيسى وشكله البشري وجسد مادي بحيث لا يمكن تفسيره على أنه قيامة. ولإثبات ذلك ليس على المرء إلا أن يرجع إلى حادثة حين فاجأ عيسى بعضَ حوارييه، حيث نقرأ في إنجيل لوقا الإصحاح 24 العدد 37-43 ما يلي:

“ولكنهم، لذعرهم وخوفهم، توهموا أنهم يرون شبحا. فقال لهم: «ما بالكم مضطربين؟ ولماذا تنبعث الشكوك في قلوبكم؟ انظروا يدي وقدمي، فأنا هو بنفسي. المسوني وتحققوا، فإن الشبح ليس له لحم وعظام كما ترون لي». وإذ قال ذلك، أراهم يديه وقدميه. وإذ ما زالوا غير مصدقين من الفرح ومتعجبين، قال لهم: «أعندكم هنا ما يؤكل؟» فناولوه قطعة سمك مشوي. فأخذها أمامهم وأكل.”

إن هذه الرواية تنفي بشكل قاطع فكرة القيامة؛ وتتحدث عن عيسى وهو يحاول أن يوضح: أنه هو الشخص البشري نفسه وبالجسد المادي نفسه؛ وليس روحًا أو شبحًا، كما أنه يعتمد على الطعام والشراب لبقائه حيًا. وهذا يُظهر أيضًا أن المسيحيين الأوائل كانوا يتحدثون عن شيئين مختلفين. فإنهم كلما تحدثوا عن عودة عيسى من الموت إلى الحياة وواجَههم المشككون حول سخف هذه الفكرة، لََجئُوا إلى فكرة القيامة التي كان يمكن شرحها بشكل فلسفي ومنطقي. تقدِّم رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس بشكل خاص، فرصةً ممتازة لدراسة مأزق يمثل للعيان حين يضع المرء قدميه في قاربين مختلفين.

وأخيرًا، بالعودة إلى دليل مواجهات المسيحيين الأوائل مع عيسى المسيح لا يبقى أمامنا خيار إلا أن نعتقد بأن عيسى الذي ظهر إثر الصلب لكثير من حوارييه وأصدقائه المقرّبين الذين تحدث إليهم وصاحَبهم، ثم انسحب من المكان الذي شهد عملية الصلب رويدا رويدا وفي معظم الأحيان تحت ستار الليل، لم يكن بالتأكيد شخصًا قام من الموتى (بمعنى القيامة)؛ بل كان شخصًا إما أُنعش جسديًا من الموتى؛ أو أنه لم يكن قد مات أصلاً وإنما أُنقذ بشكل إعجازي من حالة قريبة من الموت. لقد كان قريبًا جدًا من الموت بصورة يمكن مقارنتها بحالة النبي يونس وهو في بطن الحوت. وليس ثمة شك عندنا في أن الرأي الأخير هو وحده الرأي المقبول.

ولكي نسهل على المسيحيين وجهة نظرنا، سأعرض حالة افتراضية مشابهة.

والقصة ذاتها تتكرّر في حياتنا اليومية على صعيد الواقع.

لقد تمت محاولة إعدام شخص بالصلب، وساد الظن أنه مات نتيجة لذلك. ولكن بعض أصدقائه المقربين شاهدوه يمشي فيما بعد. وشاهدوا علامات الصلب بصورة واضحة على جسده، ثم يُلقى عليه القبض من جديد باسم القانون ويُقدّم إلى المحكمة مع طلب من المدعي العام أنه قد أفلت من الموت في المحاولة الأولى لإعدامه، ولأجل تنفيذ الحكم عليه يجب أن يُصلب ثانية. وفيما بعد يُدافع ذلك الرجل عن نفسه مؤكّدًا للمحكمة أنه كان قد مات في المرة الأولى وهكذا تحققت غاية القانون، وبما أنه قام الآن من الموتى بقضاء خاص من الله، فإن الحُكم السابق بإدانته يجب ألا يُنفَّذ من جديد، لأنه يتمتع الآن بحياة جديدة تمامًا وأنه لم يرتكب في هذه الحياة أية مخالفة للقانون!

فعليهم أن يعترفوا بأن القديس بولس قد ناقضَ نفسه بشكل واضح لأنه في بعض رواياته على الأقل عن حياة يسوع الجديدة، لم يترك مجالاً للشكّ في أنه قد فهم حياة يسوع الجديدة على أنها القيامة، وليست عودة الحياة إلى الجسد البشري الذي يقال عنه بأن روحه قد حُبستْ فيه.

إذا قبلت المحكمة هذا الالتماس، فمن الواضح أنه لن يُعاقب ثانية، على جريمة كان قد عوقب عليها سابقًا.

لو حدث مثل هذا الحادث في محكمةٍ مّا، في بلدٍ مسيحي، ولدى قاض مسيحي، ومحلّفين مسيحيين، فما الحكم الذي يمكن أو يجب أن يُصدره المحلفون حسب تصور القارئ؟

وإذا رُفض التماس المتهم وحُكم عليه بالصلب ثانية، فعلى أيّ أساس يمكن تبرير هذا الحكم؟

من الواضح أن أيّ قاض سليم العقل – سواء أكان مسيحيًا أو غير مسيحي – والمحلّفين سليمي العقول لن يعبئوا بالتماس المتهم بأنه قد عاد إلى الحياة ثانية بعد الموت. إن مثل هذا الحكم لا يقوم على أساس الانحياز الديني، أو العرقي أو الجنسي المحدود. بل هو عالمي بطبيعته، ولا يمكن لإنسان يتمتع بكامل قواه العقلية، أن يفكّر في حُكمٍ غير هذا. وبالتالي يرفض الفهم البشري بالإجماع دعوى هذا المتهم بأنه قد مات وعاد إلى الحياة ثانية؛ ولن يُقبل منه سوى أنه كان قد نجا من الموت بشكل من الأشكال!

وهذا ما حدث بالضبط في حالة المسيح عيسى. فهي لم تكن قضية العودة إلى الحياة بعد الموت، كما لم تكن بعثًا في قيامة، بل كانت مسألة نجاة من الموت حسب المنطق والعقل السليم.

إن عودة جسد يسوع إلى الحياة ركن أساسي في المسيحية، بحيث يضطر المرء إلى التحرّي عن الأسباب الحقيقية وراء ذلك. والرواية كلها لا تقوم على منطق سليم على ما يبدو! إذ لماذا يختار ابن الله المزعوم العودة إلى قفصه البشري ثانية بعد أن تخلَّص منه مرة؟! وكيف يمكن أن يؤخذ ذلك كبرهان يقيني على أنه قد مات فعلاً، ثم عاد إلى الحياة؟!

لقد سبق أن بحثت هذه الناحية بقدر من الإسهاب، ولست أحاول التأكيد على النقطة ذاتها، ولكنني أرجو أن ألفت انتباه القارئ إلى سؤال حيوي آخر له صلة بالموضوع.

لماذا تأصَّلت هذه الفكرة المنافية للعقل في علم اللاهوت المسيحي ونمت تدريجا خلال قرون قليلة بعد عيسى ليصبح أحد أركان العقيدة المسيحية، الذي بدونه ينهار صرح اللاهوت  المسيحي بأكمله؟!

سنسعى لنصل إلى عقول المسيحيين الأوائل وأفهامهم الذين واجهوا مُعضلةً يكاد لا يوجد لها حل. ثم نبدأ بإعادة بناء الظروف التي نُسب فيها إلى المسيحية شكل مختلف عن حقيقتها.

هذه الطريقة قد تكون أسهل علينا كي نفهم بعمقٍ أكثر ما بَنَتْه المسيحيةُ وما هدمتْه. إن الحقيقة التي يجب التأمل فيها بدقة هي ببساطة كما يلي:

إذا كان عيسى قد مات فعلاً على الصليب، فهو إذن في نظر الشعب اليهودي سيظهر وبوضوح أنه كذاب (والعياذ بالله).

Share via
تابعونا على الفايس بوك