البيعة الصادقة
التاريخ: 1999-08-06

البيعة الصادقة

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

 

 

خطبة الجمعة ألقاها حضرة ميرزا طاهر أحمد أيّده الله،

الخليفة الرابع لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ،

 بتاريخ 24 ربيع الثاني الموافق 6 آب/أغسطس 1999م

في مسجد فضل بلندن.

نقلها إلى العربية: عبد المجيد عامر

«تنشر أسرة التقوى ترجمة هذه الخطبة على مسؤوليتها»

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ (آمين)

إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (الفتح: 11)

وفي السياق نفسه يقول الله تعالى في آيةٍ أخرى:

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (الفتح: 19)

  من غرائب قدَرِ الله تعالى أنّ موضوع الخُطب الذي كنت قد أشرتُ إليه للسكرتير الخاص مُسبقًا بأنني أنوي إلقاء الخُطب حوله بعد الاجتماع السنوي إثر إنهاء سلسلة الخطب عن الشهداء -كان سوف يبدأ بموضوع البيعة. ولشدَّ ما كانت دهشتي إذ لاحظتُ أنّه لم يكن من الممكن اختيارُ موضوعٍ أفضل من هذا بعد البيعة العالمية (المنعقدة في الجلسة السنوية). فإنّما هو فضلُ الله تعالى ومِننه أنه يُظهر هذه المصادفات الجميلة ويربط بين المواضيع.

الحديث الأول الذي سوف أقرؤه عليكم في هذا الصدد هو:

“عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِم”. (البخاري، كتاب الإيمان)

  لقد ورد ذكرُ إقامةِ الصلاة في بداية القرآن الكريم إذ قال الله تعالى:

يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ..

أي الذين يؤمنون بالله تعالى حقيقةً فلابدَّ لهم من أن يُقيموا الصلاة ويُؤتوا الزكاة. الحقيقة أنّ إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هما أمران يُعلِّمانِ النُّصحَ لكل مسلم. إذا تمت إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بمعناها الحقيقي فإنّهما يتضمّنان النُّصح لكل مسلم. ولو تأمّلتم لأدركتم أنّ للنُصح لكل مسلم علاقةً قوية مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في الحقيقة.

والحديث الثاني أيضًا مأخوذ من صحيح البُخاري، وهذا الحديث يقتضي بعض الشرح وإلا قد يُفهم منه أحدٌ معنىً خاطئًا. فقد جاء في الحديث الشريف:

“عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ الخَوْلاَنِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ يَقُولُ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ وَنَحْنُ فِي مَجْلِسٍ: تُبَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلاَ تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ. فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ. فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ”. (البخاري، كتاب الأحكام، باب بيعة النساء)

إنّه لحديثٌ يبعثُ أملاً كبيرًا في النفوس أنّه إذا صدر من الإنسان بعض الذنوب ثم نال العقوبة في الدنيا لكانت كفارةً لعقوبته في الآخرة. ثم قال النبيُّ :

“وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ.”

أي أنّ المذنب إذا ستره الله فلا يتعرَّض لعقوبةً ظاهريّة في الدنيا بما فيها الفضيحة أمام الناس، ثم يكون أمره إلى الله.

لماذا ستره الله؟ وما هي الحكمة وراءه؟ وهل سيستره يوم القيامة أيضًا أم لا؟ إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه. ثم يقول الراوي: “فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ”.

والحديث الآخر أيضًا مأخوذٌ من صحيح البخاري:

“عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي المـَنْشَطِ وَالمـَكْرَهِ. وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ. وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا، لاَ نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ”. (البخاري، كتاب الأحكام)

هذا لا يعني أننا لن نخالفهم الرأيَ في أي شيء. لاشكَّ في أنّ قد يحدث الاختلاف في الرأي في أمورٍ دينيّة هامة. ففي هذا السياق يمكن أن يُفهم النِزاع أنّه إذا تدخَّلوا في الدين وأرادوا التغيير في الأمور الأساسيّة فمن واجب المؤمن أن يتوكَّل على الله تعالى، وبهذا المعنى يبدأ نوعٌ من النِزاع. فالنزاع الذي يجري في هذه الأيام في باكستان على نِطاقٍ واسع مبنيٌّ على أنّهم يتدخلون في الأمور الدينيّة الأساسيّة ويمنعون الأحمديين من أداء بعض الواجبات الدينيّة. وأبناءُ الأحمدية الذين يصمدون في وجه هذه الظاهرة يدخلون في نوعٍ من النِزاع مع الحكومة. ففي هذا السياق يجب أن تفهموا معنى النِزاع من هذا المنطلق أنّه تكون هناك خلافات، ولكن المؤمن لا يترك جانب الأدبِ واللباقة في حالة الاختلاف أيضًا.

الحقيقة أنّ إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هما أمران يُعلِّمانِ النُّصحَ لكل مسلم. إذا تمت إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بمعناها الحقيقي فإنّهما يتضمّنان النُّصح لكل مسلم. ولو تأمّلتم لأدركتم أنّ للنُصح لكل مسلم علاقةً قوية مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في الحقيقة.

وهناك حديثٌ آخر اقتبسته من صحيح البخاري أيضًا، جاء فيه:

“عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ. وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لاَ يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَاهُ، إِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ وَإِلَّا لَمْ يَفِ لَهُ. وَرَجُلٌ يُبَايِعُ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ العَصْرِ فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا كَذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ فَأَخَذَهَا، وَلَمْ يُعْطَ بِهَا”. (صحيح البخاري، كتاب الأحكام)

  إنّ أقسى انواع العقوبة هو ما ورد ذكره في الحديث وهو أنّ الله لا يُكلِّمهم ولا يُزكِّيهم. من هم الذين لا يكلِّمهم الله ولا يُزكِّيهم؟ فقال: “رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ”. لا شكَّ في أنّ اهتمام الإنسان بحاجته الشخصيّة أمرٌ أساسي لا بدَّ منه، فلو أعطى الآخرين منه شيئًا لَعُدَّ من المحسنين، ولكن إذا كان لديه ماء بكميّة أكبر من حاجته ورغم ذلك منعه الآخرين فهذا ذنبٌ كبير، لن ينظر الله تعالى إلى صاحبه.

والثاني: كما ورد في الحديث…

“وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لاَ يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَاهُ، إِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ وَإِلَّا لَمْ يَفِ لَهُ.”

لقد جرَّبتُ أنا أيضًا هذا الأمر مرارًا بأنّ بعض الناس يشترطون أننا لو بايعنا ثم رُزِقنا بالابن، أو زال مرض كذا وكذا أو زالت مشاكلنا كذا وكذا نتيجةً للبيعة لبقينا عليها وإلا فسننقض العهد. الحقيقة أنّ هذا ليس عهدًا للبيعة أصلاً، بل هذا العهد منقوضٌ مسبقًا. والعقوبة التي حدَّدها الله تعالى لذلك كبيرةٌ جدًا بأنّ الله لا يُكلِّمهم ولا يُزكيِّهم يوم القيامة، ولهم عذابٌ أليم.

والكلمة “العصر” الواردة في الحديث تُربِك الذهن بعض الشيء وتُسبّب نوعًا من الإبهام في بادي الرأي. يقول النبيُّ :

“….رَجُلٌ يُبَايِعُ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ العَصْرِ فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا كَذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ فَأَخَذَهَا، وَلَمْ يُعْطَ بِهَا”.

من المعلوم أنّ البائع لو حلف بالله كذبًا -في أيّ وقتٍ كان- وقال بأنّه أُعطِيَ كذا وكذا كان فعله جديرًا بالشجب والاستنكار، فلماذا ذكر النبيّ وقتَ العصرِ على وجه الخصوص؟

الواقع أنّه عندما يكون النهارُ قد مالَ إلى الغروب ويكون وقت البيع والشراء على وشكِ الانفلات من اليد يقوم الناس عادةً بالصفقات العاجلة لدرجة لا يُعيرونَ اهتمامًا لائِقًا للحَلف أيضًا. هذا ما يحدث هنا في إنجلترا أيضًا. تتم الصفقات عند المساء في عجلة لأنّ المحلات تُغلَق بعد ذلك. فالمراد هو أنّه لو اعتمد أحدٌ على حلف غيره مُضطرًّا لأنّه يرى أن الوقتَ كاد أن ينفلت من يديه -ولأنّه كان أيقنه باسم الله تعالى- لكان ذنبًا كبيرًا من البائع.

وهناك حديثٌ آخر مأخوذٌ من صحيح البخاري أيضًا جاء فيه:

“عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المـُنْكَدِرِ سَمِعْتُ جَابِرًا قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ فَقَالَ: بَايِعْنِي عَلَى الإِسْلاَمِ، فَبَايَعَهُ عَلَى الإِسْلاَمِ، ثُمَّ جَاءَ الغَدَ مَحْمُومًا فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى. فَلَمَّا وَلَّى، قَالَ: المـَدِينَةُ كَالكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا”. (صحيح البخاري، كتاب الأحكام)

   هناك أيضاً نوعٌ من الابتلاء والامتحان يتعرَّض له الناس في بعض الأحيان، إذ يقول بعضهم: لاحِظْ أنّك بايعتَ وبالتالي أُصِبتَ بالحُمَّى، أو كنتَ عازمًا على الذهاب للبيعة فأُصِبتَ بالحُمَّى. الروايات التي ذكرتُها عن سيدنا الإمام المهدي مِنْ “سجل الروايات”، توجد فيها مثل هذه الأمور.

هذا الأعرابيُّ أُصيبَ بالحُمَّى عقبَ البيعة وبالتالي تعرَّض للابتلاء، وظنَّ أن الحُمَّى أصابته بسبب البيعة فقال: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فرفضَ النبيُّ ذلك ظنًّا منه أنّ هذا المسكين قد يعود إلى صوابه فيما بعد ويستوعب الموقف بعد زوال الحُمَّى. الحقيقة أنّ ذلك كان لُطفًا كبيرًا من قِبَلِ رسول الله إذ أبى ردَّ بيعته إليه. ثم قال: ” المـَدِينَةُ كَالكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا”.. أي أنّ المدينة كالمختبر الذي يتمُّ فيه اختبار الأشياء وتحترقُ الأشياء الخبيثةُ منها.

إذن فالعلاقة القوية لهذا الموضوع مع الحديث الآنف الذكر هي كأَنّ هذا الأعرابي أيضًا كان يحترقُ في الكِير، وكان خَبَثهُ الداخلي يحترق من جرَّاء تعرُّضه لهذا الابتلاء وهو لا يعرف بذلك. فإنّ هناك ارتباطًا مذهلاً في كلام النبيّ إذ يؤدِّي بعضه إلى بعض تلقائيًا، وكأنّ هناك ينابيع المعرفة تتدفَّق من فمه .

ثم يقول النبي : “وَيَنْصَعُ طِيبُهَا”. من المعلوم أنّه عندما يُصهَرُ الشيء في الكِير يبدأ الخَبَث يزول منه ويصبح الشيء خالصًا نقيًّا. تعرفون أنّ الذهب عندما يُصهَر في النار تذهب الشوائب الملتصِقة به وتزول. فقال إنّ العذاب الداخليّ الذي يتعرَّض له الإنسان في بعض الأحيان يتسبَّب في تطهير أفكاره لأنه يستعرِضها بصورةٍ متكرِّرة ويظلُّ باحثًا عن الطهارة الداخليّة ثم يختارها. إنّها لحالةٌ نفسيّة لا يعرف حقيقتها إلا من مرَّ بها.

هناك حديثٌ آخر مأخوذ من صحيح البخاري أيضًا جاء فيه:

“عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: قُلْتُ لِسَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ بَايَعْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ؟ قَالَ: عَلَى المـَوْتِ”. (صحيح البخاري، كتاب المغازي)

  شيءٌ عظيمٌ فعلاً! إنّ مغزى البيعة هو أنّهم كانوا قد بايعوا على الموت. وفي هذا الصدد يقول سيدنا الإمام المهدي في جملةٍ واحدة: “إنَّ الصحَابة كانوا يُبايِعونَ على تَضْحِيةِ الأنْفُس”. فعندما تصير النفس مِلكًا للغير فهل يبقى مجالٌ للشروط؟ كلا! بل يُصبح كل شيء له. وهذا هو مُلخّص البيعة بأنّ كل شيء يصبح مِلكًا لله بما فيه النفس والمال والعِرض.

والآن أقرأ على أسماعِكم جملةً وجيزةً لسيدنا الإمام المهدي ، يقول حضرته:

“إنَّنا نَأخُذُ البيعةَ بِأمرٍ مِنَ الله، مِثلَما سَجَّلنا في الإعلانِ المطبوعِ أيضًا الوحيَ التالي: “إنَّ الذينَ يُبَايِعُونكَ إنَّما يُبايِعونَ الله”. (الملفوظات ج2 ص 295)

  أي ليس من شأنِ كلِّ مَنْ هَبَّ ودبَّ أن يمدَّ يده ويأخذ البيعة من الناس، بل عندما يكون الأمر من الله تعالى حيث يُكلِّفُ أحدًا لأخذ البيعة عندها يأخذها. هذه هي علامةُ الإمام الصادق والسماوي الذي هو سيدنا أحمد في هذا الزمن. يقول حضرته: “كما كَتبنَا الوحيَ التالي في الإعلانِ المطبوعِ أيضًا: “إنَّ الذينَ يُبَايِعُونكَ إنَّما يُبايِعونَ الله”.

الواقع أنّه لتوسيع دائرة فضل النبي وإحسانه على الدنيا إلى يوم القيامة قد جُدِّد أمرُ البيعة. فقد بايعنا سيدنا الإمام المهدي ظاهريًّا ولكننا في الحقيقة وُفَّقنا لبيعة النبي . فالجملة الإلهاميّة لسيدنا أحمد : إنَّ الذينَ يُبَايِعُونكَ إنَّما يُبايِعونَ الله هي نفس الآية القرآنيّة التي وردت في حقِّ النبيّ .

ثم يقول حضرته :

  “معنى البيعة هو بيعُ النَّفس. وهذهِ حالةٌ يشعُرُ بها القلب. حين يبلغُ الإنسانُ -مُتَقدِّمًا في صِدقِهِ وإخلاصِهِ- درجةً تتولَّدُ فيه الحالة.. عندئذٍ يضطّرُ للبيعةِ من تِلقاءِ نفسه. وما لم تتَولَّد هذه الحالة يجب أن يعرف الإنسان أنَّ صِدقَهُ وإخلاصَهُ ما زالا ناقصين.» (الملفوظات ج2 ص244)

  هناك بيعةٌ ظاهريّة وهناك بيعةٌ داخليّة، أي بيعةُ القلب. ولإفهامِ ذلك ذكرَ سيدنا الإمام المهدي هذا الأمر وقال: “هذهِ حالةٌ يشعُرُ بها القلب. حين يبلغُ الإنسانُ -مُتَقدِّمًا في صِدقِهِ وإخلاصِهِ- درجةً تتولَّدُ فيه الحالة عندئذٍ يضطّرُ للبيعةِ من تِلقاءِ نفسه”. عندها لا يبقى للإنسان أيُّ خيارٍ على قلبه بل يتقدَّمُ إلى عتبةِ الله تعالى بالشوق والحبّ. هذه هي حقيقةُ البيعة. وإن لم تكن الحالةُ هذه فليعرف الإنسان أنّ صدقه وإخلاصه ما زالا ناقصين ولو قام بالبيعة الظاهريّة.

ثم يقول حضرته :

  “فليعرف الإنسان فائدة البيعة، والحاجة إليها. ما لم تُعرف فائدةُ شيءٍ ما وأهميته لا يمكن تقديره كما يجب. فمثلاً يضمُّ البيت أنواعًا عدةً من الأموال والأثاث بما فيه النقود والأخشاب والأشياء البسيطة الأخرى. لا شكَّ في أنّه يتمُّ الاحتفاظ على كلّ شيء حسب أهميته، ولا يُعيرُ الإنسان اهتمامًا للحفاظ على الأشياء البسيطة بقدرِ ما يُعيرهُ للنقود. بينما يرمي الخشبة جانبًا دون أدنى اهتمام، وهكذا دواليك. والإنسان بطبيعةِ الحال يُحافِظ أكثَرَ على شيءٍ يجلب تَلَفُهُ خسارةً أكبر عليه”.

  فَمِنْ خلال هذا الاستدلال يُلفِت حضرته الأنظار إلى أنّه ما هو ذلك الشيء الذي تخافون تلفهُ أكثر من غيره. لو كنتم تخافون ضياع الإيمان لحافظتم عليه أكثر من أيّ شيءٍ آخر.

  “وهكذا فإنّ أعظمَ ما في البيعة هو التوبة ومعناها الرجوع. التوبة اسمٌ لحالةٍ يتراجع فيها الإنسان عن ذنوبه التي توثَّقت بها علاقته والتي كان قد استوطنها، وكأنّه يقيم فيها”.

  عندما يكون الإنسان متورِطًا في الذنوب لا ينتبه إلى أنّه في الحقيقة يُقيم فيها، إلا أن يوقظه الله حين يشاء، فيعود إلى صوابه، وإلا فتبقى الذنوبُ مَوطِنًا له، ويظلُّ هو معجبًا بحياة الذنوب ولا يريد الخروجَ منها. والذين يُخرَجون من أوطانهم يتعذَّبون. ونفسُ الحال بالنسبةِ إلى الخروج من الذنوب أيضًا. المحاولة للخروج من الذنوب دائِمًا تؤدي إلى التعذيب والتأذّي.

  “فمعنى التوبة هو تركُ هذا الوطن، والرجوعُ يعني التَطهُّر. لاشكَّ أنَّ تَركَ الوطنِ يَشقُّ كثيرًا على الإنسان ويتعرَّضُ لألوف المصائِبِ والأذى. كم يتعذَّبُ الإنسان بمجرَّدِ تركِ البيت؟ أما عندَ تركِ الوطن فَيضطرُّ لقطعِ العلاقاتِ مع جميع الأصدقاء والأحبَّاء، بل يَضطرُّ للتَّخلي عن جميع الأشياء مثل السرير والمضجع والجيران والأزقّة والأسواق، حتى يذهبَ إلى بلدٍ غريب…”

فيُلقي الإنسان حينَئذٍ نظراتِ التحسُّرِ على الآخرين، وينسى أنّه سوف يترك هذه الدنيا هكذا وسيسافر إلى بلدٍ آخر.

  “إنَّ أصدقاءَ المعاصي غير أصدقاء التقوى. الصوفيَّة يُسمُّون هذا التغيُّرَ بالموت. التائبُ يتحمَّلُ أنواع الخسائِر، ويواجه مواقفَ مُحرِجة عند التوبةِ النصوح. والله رحيمٌ وكريم، لا يُميتهُ ما لم يعوِّضْه ببديلٍ حسن عن كلِّ شيء. وإلى هذا الأمر أُشيرَ في الآية إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ . أي أنّه يُصبح مسكينًا بِلا سند بعد التوبة لذا يُحبّه الله تعالى ويُدخله في جماعة الصالحين.

إنّ الذين يُسافرون إلى الله تائِبين توبةً نصوحًا يُعوِّضُهم الله تعالى بالأزهار الروحانيّة المنفتحة دائمًا بدلاً من التي كان يَحسبُها أزهارًا وكان قد تعذَّب بسبب الابتعاد عنها. هذا هو المعنى لــــ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ” (الملفوظات ج1 ص 2، 3)

ثم يقول حضرته :

  “إِقرارُ البيعةِ باللِّسانِ فقط ليسَ بشيءٍ ما لم يتمَّ العملُ بها حقَّ العمل بصميمِ القلب. والذي يعملُ بتعليماتي حقَّ العمل يدخُلُ في داري التي جاءَ الوعدُ عنها في كلامِ الله: “إنّي أُحَافِظُ كُلَّ مَنْ في الدَار”. يجب ألا يُفْهَم هنا أنّه لا يدخل داري إلا الذينَ يُقِيمون في دَاري مِنَ الحَجَرِ والـمـَدَر، بل أولئك الذين يتَّبعونني حقَّ الاتِّباع إنّهم أيضًا يدخلون في داري الروحانيّة”. (سفينة نوح، الخزائن الروحانيّة ج19 ص 15)

  الكلمات “أولئك الذين… أيضًا” تستدعي انتباهًا خاصًّا. يبدو أنّه لا يندرج في هذه القائمة إلا الذين يدخلون في الدار الروحانيّة لسيدنا الإمام المهديّ ، ولا أهميةَ لمن يُقيمونَ في بيته ظاهريًّا. ولكن الحقيقة أنَّ لهذه الجملة علاقةً مع زمن الطاعون أيضًا، وكان سيدنا أحمد في ذلك الزمن قد أُخبِرَ كَآيةٍ من الله له أنّه لن يتضرَّرَ أحدٌ يسكن في دارك، حتى لن تموت فأرةٌ فيها. فهذا هو الابتلاء الذي يُشير إليه سيدنا الإمام المهديّ ولكن الحقّ الدائم، والذي ينطبق على العالَم كله، هو أنَّ الذي يقبل صِدقًا وحقًّا شروط المبايعة لسيدنا أحمد يدخلُ في هذه الدار.

كيف يمكن أن يجتمع الجميعُ في الدار الظاهريّة لسيدنا الإمام المهديّ ، إذ أنّها لا تَسَعُ لأكثر من بضع مائة نسمة، وقد بلغ الأمر الآن إلى الملايين؟ فالمراد بصورةٍ عامة ودائمة من الكلام المذكور أعلاه هو: إذا كان هناك أحدٌ يريد الدخول إلى دار المسيح الموعود فالأبواب له مفتوحةٌ على مصراعيها، والدارُ واسعةٌ ولن تضيقَ أبدًا. فَحاوِلوا الدخول في دار المسيح الموعود الروحانيّة متوكلين على فضلِ الله تعالى ورحمته لأنّه وكما أعلن سيدنا الإمام المهديّ ، وهذا هو إعلانُ حق: “هناك سُبُعٌ ضاريةٌ في كُلِّ حَدْبٍ وصوبٍ، وأنا الحِصنُ الحَصين (الذي يحميكم منها)”.

هذه المواضيع كلها يُشبه بعضها بعضًا. لو تأمّلتم في كتابات سيدنا الإمام المهديّ لوجدتم أنّه ليس فيها أي تكرار في الحقيقة، بل كلّما قرأها الإنسان عثرَ على دقيقةِ معرفةٍ جديدة بحيث تتَفَجَّرُ له ينبوع المعرفة من جديد.

يقول حضرته :

  “البيعة والتوبة تَنفَعانِ إذا تمسَّكَ بهما الإنسانُ وعَمِلَ بهما بِصدقِ القلب وخلوص النيّة. إنّ الله تعالى لا تسُرُّهُ إطلاقًا الكلماتُ الجافّةُ التي لا تنزلُ مِنَ الحُلقُوم. تَغْيَّروا بحيث يبلغُ صِدْقُكم ووَفَائُكم وخُشُوعُكم وابتِهالُكم إلى السماء”.

  لقد وُضِعَ الخشوعُ والابتهالُ مقابلَ الكلمات الجافّة، وهذا ما يتميَّزُ به الصدق. عندما تُؤثِّرُ البيعة في القلب تَخلُقُ فيه الخشوعَ عميقًا. وحينما يتولَّدُ الخشوع في القلب يوثِّر حتى إلى السماء.

“إنّ الله تعالى يَحمِي ويُبارِك شخصًا يرى أنَّ صَدرَهُ ملِيءٌ بالصدقِ والحب. إنّه ينظر إلى القلوب لا إلى القِيلِ والقَال الظاهرَين. والذي يجدُ اللهُ قلبَهُ نَقِيًّا مِنْ كُلِّ نوعٍ مِنَ القَذارة والنَّجاسةِ يَنزِلُ فيه ويَتَّخِذهُ بيتًا له”. (الملفوظات، ج 5 ص 247)

  إنَّ قضية “الدار” أيضًا قضيةٌ ثنائيّةُ الأطراف يجب حلُّها. أولاً قال سيدنا الإمام المهديّ إنَّ الذي يسكُنُ ضِمن حدود بيتي فهو مأمون. ولكن لماذا هو مأمون؟ لأنَّ الله تعالى يسكنُ بيتًا لا يسكنه غيره. والبيت الذي يسكنهُ الله جل جلاله فهو المأمون بكل معنى الكلمة لا يُصيبه ضررٌ في الدنيا. ليس في الدنيا سيفٌ ولا سِهام يستطيعُ أن يُؤثِّر فيه، لأنَّ الهجوم الموجَّه إليه يُعتبرُ موجَّهًا إلى الله، كما يقول سيدنا الإمام المهديّ في بيتِ شعرٍ له ما تعريبه:

“لا يمُدَّ يَدكَ إلى الأسُودِ أيُّها الثَعلَبُ الضَّعيف؟”. فَتطهِيرُ القلب لله تعالى، والدخولُ في حظيرةِ بيتِ سيدنا أحمد أمرٌ يضمنُ الأمان، لأنَّ الله تعالى يسكنُ في هذه الحظيرة ولا سببَ لذلك غيره.

  أي ليس من شأنِ كلِّ مَنْ هَبَّ ودبَّ أن يمدَّ يده ويأخذ البيعة من الناس، بل عندما يكون الأمر من الله تعالى حيث يُكلِّفُ أحدًا لأخذ البيعة عندها يأخذها. هذه هي علامةُ الإمام الصادق والسماوي الذي هو سيدنا أحمد في هذا الزمن.

فَنَظرًا إلى المشاكل التي يُواجِهها الناس الآن للوصول إلى قاديان، وقد أصبح ذلك مستحيلاً، كما سبقَ لي أن ذكرت. لأنّ الأعداء في تلك الأيام كانت تقعُ في الآلاف ولكنها الآن تقعُ في الملايين. يقول سيدنا الإمام المهديّ :

  “هناك آلافٌ مِنَ الناسِ المساكِين الذينَ يَصعبُ عليهم الحضور إلى قاديان بسببِ المشاكلِ الدنيويّة ولعدمِ استطاعتهم، وإنّهم قد قاموا بالبيعة بالرسائل فقط. المرادُ من البيعة هو الاطِّلاعُ على حقيقة البيعة. ولو قام أحدٌ بالبيعة بوضعِ اليد على يدي ولم يفهم الغايةَ المتوخَّاةَ ولم يهتمَّ بها فلا طائِلَ في بيعتِهِ ولا أهميّة لها عند الله تعالى. أما الشخصُ الثاني الذي يسكُنُ على بُعدِ آلافِ الأميال ويُبايعُ بِصدقِ القلب ويُبايِعُ بعد الاطِّلاع على حقيقة البيعة والغاية المنشودة منها ثم يُصلِحُ نفسَهُ عمليًّا مُتمسِّكًا بهذا العهد فهو أفضلُ بِآلافِ المرات ممن يُبايعُ وجهًا لِوجه ولا يعمل بحقيقةِ البيعة”. (الملفوظات، ج10 ص 140)

   ونصحَ سيدُنا الإمام المهديّ السيدَ ميرزا أحسن بك، حفيدَ السيد ميرزا أعظم بك مساءَ 18 آب/أغسطس عام 1902م فقال:

   “يُمكِنكَ أنْ تُبايِعَ يوم الجمعة المقبِلة، ولكن يجب أنْ تتذكَّرَ أنَّهُ لابُدَّ من التَغيُّرِ بعد البيعة، ولو لم يَحدُث التَغيُّر بعد البيعة لكانَ ذلك استِخفافًا.”

   المراد من الاستخفاف هو أنّكم تقومون بأمرٍ ذي بال ولا تعرِفونَ حقيقته فكأنّكم تستَخِفُّون به.

   “البيعة ليستْ لُعبةَ أطفال. المبايعُ الحقيقي هو ذلك الذي يأتي الفناءُ على حياتِهِ السابقة وتبدأُ حياةٌ جديدة. لا بُدَّ من إحداثِ التغيير في كُلِّ شيء. تنعدِم العلاقات السابقة وتبدأ العلاقات الجديدة. عندما كان الصحابةُ رَضيَ الله عنهم يُسلِمون كان بعضُهم يواجِهونَ ظروفًا بحيث كانوا يضطرُّون للانفصالِ من الأصدقاء والأقارب جميعًا”. (الملفوظات، ج3، ص339، 340)

  ثم يقول حضرته :

   “كُلُّ مؤمنٍ يمرُّ بالظروف نفسها. المؤمنُ عندما يكون لله تعالى بكُلِّ الإخلاصِ والوفاء يكون اللهُ تعالى وليًّا له. ولكن إذا كانت بنايةُ الإيمانِ باليةً فإنَّ هناك خطرًا. إننا لا نعلم ما في قلب أحد، والله وحدَهُ عليمٌ بذاتِ الصدور، غيرَ أنَّ الإنسان يُؤخَذُ بِخيانته هو. لو لم يكن الأمر سويًّا مع الله تعالى لن تنفع البيعة. أما إذا كان خالِصًا لله يحميه الله تعالى حمايةً خاصة. لاشكَّ أنّه كلّه مِلْكٌ لله، ولكن الذين يُخلِصونَ أنفُسَهم لله فإنّه يتجلَّى عليهم تجلِيًّا خاصًّا. والإخلاص لله يعني أن تتمزَّقَ النفسُ كُليَّةً ولا تبقى منها ذرة”. (الملفوظات ج5، ص70، 71)

  أما فيما يتعلَّق بالحماية فهناك حمايةٌ عامة من الله تعالى لا يمكن بدونها البقاءُ لأيّ شيء، حيوانًا كان أو حشرة من حشرات الأرض. وهذه هي حماية الرحمن. ولكن المراد من الحماية من كلام المسيح الموعود هي الحماية الخاصّة. الذين يُصبحونَ عِباد الرحمن حقًّا يُبقيهم اله تعالى تحت ظلِّ حمايةٍ خاصة. ويحظى بها الإنسان حينما تتمزَّق النفسُ كليّةً ولا تبقى منها ذرة، ولا تبقى من النفسانيّة شيءٌ ويصبح كل شيءٍ لله.

ثم يقول حضرته :

  “لذا أقول لجماعتي متكرِّرًا ألا تعتزُّوا بالبيعةِ أبدًا. ماذا عسى يُفيدُ وضعُ اليدِ على اليد إنْ لم يكن القلبُ طاهرًا. إذا كان القلبُ بعيدًا، وإذا لم يكن هناك انسجامٌ بين القلب واللسان، ويضع أحدٌ اليد على يدي ويُقِرُّ كالمــُـــــنافِقين، فَتَذكَّروا أنّ هذا الشخص سوف يلقى ضِعفًا من العذاب. ولكن الذي يُقرُّ إقرارًا صادقًا يُغفَرُ له الكبائِر ويُوهَبُ حياةً جديدة”. (الملفوظات ج 5، ص 71)

   فيمكن أن تُغفَر الكبائر أيضًا إذا شعرَ المذنب بالندم عليها في هذه الدنيا. ولكن يجب أن يكون التائِب صادق القلب.  ثم يقول سيدنا الإمام المهدي :

   “البيعة على يدي تقتضي موتًا لكي تَحْظَوا بولادةٍ جديدة في الحياة الجديدة”.

   هناك ولادةٌ تتم من بطن الأم في هذه الدنيا، وهناك ولادةٌ أخرى تتم عندما يصبح الإنسان عبدًا لله تعالى في الحقيقة وكانّه وُلِدَ آنِفًا. وكما أنّ المولود يكون بريئًا عند الولادة من بطن الأم، كذلك يَحظَى هذا العبد بالبراءة الحقيقية مجدَّدًا حينما يحصل على الحياة الجديدة لله تعالى.

  “البيعة إذا لم تكن من القلب فلا حَاصِلَ منها. إنّ الله تعالى يريدُ إقرار القلب من خلال بيعتي. فالذي يَقبلُني بالقلبِ الصادق ويتوب عن ذنوبِهِ توبةً نَصوحًا يغفر له الله الرحيم الكريم حتمًا، ويُصبح وكأنّه خرج من بطنِ الأم، فتحميه الملائِكة”. (الملفوظات ج3 ص 262)

هذه هي الحياة الثانية. هذه هي الحياة الأبديّة التي تُوهَبُ مِنْ قِبَلِ رُوحِ القُدُس. ليس المراد من قوله : “فَتَحميه الملائكة” الحماية الظاهريّة فحسب، بل إنّهم يحمونه لِيُبقُوه نزيهًا من شوائب الذنوب كُلِّها، ويحفظونه من هجمات الشيطان.

ثم يقول حضرته :

  “لقد مات المولوي (الشيخ) عبد اللطيف الشهيد رَجمًا بالحجارة بسبب البيعةِ نفسها. أُطلِقتْ عليه الحجارة طوالَ ساعةٍ كاملة حتى توارى بها جُثمانُه، ولكنه لم يقُلْ أُفًّا، ولم يرفع صَرخةً واحدة، بل طلب منه الأميرُ بنفسه ثلاث مرات -قبل بدئ هذا الإجراء الغاشم- أن يتراجع عن موقفه، ووعده أنّك لو تراجعت لَعُفِيَ عنك ولَأُكرِمتَ أكثر وأُعطيتَ مرتبةً أعلى من ذي قبل، ولكنه آثرَ الله تعالى ولم يُبالِ بمصيبةٍ كان سوف يواجهها في سبيل الله. وببقائه صامدًا ترك أُسوةً حسنةً لإيمانه الكامل. كان عالِمًا جليلاً ومُحدِّثًا”. (أقول: كان مُحدِّثًا ومُحدَّثًا أيضًا). “سمعنا أنّه حينما أسَروه ليذهبوا به قيل له: قابِلْ أهلَكَ وشاهِدْهُم، ولكنه قال: لا حاجَةَ لذلك الآن”. (أقول: ظَنًّا منه أنه من الممكن أن يجذبني حُبُّهم إليهم أو يُقلقني هَمُّهم). “هذه هي حقيقةُ البيعة وغَرضُها”. (الملفوظات ج10 ص 140)

  يقول سيدنا الإمام المهدي :

  “أُريد أن أُوجِّه بعضَ كلماتِ النصيحة إلى الذين قاموا بالبيعة. هذه البيعة هي عمليةُ بَذْرِ البذور للأعمال الصالحة”.

   فليسمع المشاركون في البيعة العالَميّة جيدًا. والذين لا يستطيعون أن يسمعوا يجب أنْ يُبلِّغهم المبشِّرون والمعلِّمون، فليُبشِّر الشاهدُ الغائِبَ.

  “هذه البيعة هي بمثابة عملية بَذْرِ البذور للأعمال الصالحة. مثلما يزرعُ أحدٌ شجرةً أو يبذرُ بِذرةً ما. فلو زرعَ أحدٌ شجرةً أو بَذَرَ بِذرةً ثم تركها على حالها ولم يهتم بِريِّها في المستقبل ولم يحفظها لضاعت البِذرةُ أيضًا”.

  هناك كثيرٌ مِنَ الذين يدخلون الجماعة. فلو لم نتمكن من حمايتهم لضاعت البِذرة، ولوقع الذنبُ علينا أيضًا إلى حدٍّ ما، لأننا دعونا الناس باسم الله ثم لم نُحافظ عليهم.

  “تَذكَّروا أنّ هناك بَركةً في الإقرار بالتوبة لدى البيعة. ولو فرض الإنسان على نفسه تقديمَ الدِّين على الدنيا لحصلَ التقدُّم. ولكن هذا التقديم ليس في وسعِكم أنتم بل هناك حاجةٌ ماسّةٌ إلى نُصرةٍ إلهيّة، كما يقول الله جل جلاله: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا . وكما أنّ البذرة دونَ بذلِ المجهود والريِّ تبقى عديمة البركة بل تفنى أيضًا، كذلك لو لم تتذكَّروا أنتم هذا الإقرار كلَّ يوم، ولم تَدْعوا الله تعالى أنْ انْصُرنَا يا ربِّ، فلن ينزِلَ فضل الله. وحدوث التغيُّر بدون نُصرة الله مُحال. وإذا كنتم تدعونَ فقط بعد بذر البذرة تبقونَ محرومين حتمًا”.

   إذا كانوا لا يؤدُّونَ واجبهم بعد بذرِ البِذرة بل يقومون بالدعاء فحسب فهذا أيضًا نوعٌ من الشِرك، فالقيام بجهدِ المستطاع ثم القيام بالدعاء هو النتيجة للإيمان الصادق. ثم كلُّ ما يحصل يحصلُ بفضلٍ من الله تعالى. يقول حضرته :

“إنَّ (الفلَّاح) الذي يجتهد ويحرث الأرض جيدًا لابدَّ أن ينجح أكثَرَ”. إنّ كلمة “لابدَّ أن ينجح أكثَرَ” تُشير إلى بعض الاستثناءات أيضًا. إنّ الناس ينجحون عادةً، وفي بعض الأحيان لا ينجحون أيضًا. فالذي يدأبُ في الاجتهاد ينجحُ أكثر من غيره.

“وأما الفلَّاح الآخر الذي لا يجتهد أو يجتهد أقل نسبيًّا فيبقى محصولُهُ ناقِصًا على الدوام، وقد لا يستطيعُ به دفعَ الضرائِبِ الحكوميّة أيضًا، ويظلُّ فقيرًا دائِمًا. ونفس الحال بالنسبة إلى الأعمال الدينيّة أيضًا. فمنهم المنافِقون، ومنهم الكُسالى، ومنهم الصالِحون الذين يصِلون إلى مرتبة الأبدال والأقطاب، وينالون درجةً عند الله. وهناك من يُصلِّي إلى أربعين سنة، ومع ذلك يبقى على ما كان عليه في اليوم الأول”.

فإذا انتبَهوا يومًا من الأيام على وجهِ الصُدفة، عندها يعلمون أنّ عبادتهم الممتدة على سنواتٍ عدة تكون في بعض الأحيان افتراضيّةً كلها. إذ يبقى الإنسان غارقًا في أفكارهِ وأهوائِه وأُمنياته الشخصيّة، فلا تنالُ عباداته تلك القبولَ في حضرة الله.

  “ولا يُحدِث أي تغيير. لا يشعرون بأيّة فائدة من ثلاثين صومًا. هناك كثيرٌ من الناس الذين يقولون إننا مُتَّقون ونُصلِّي منذُ مدةٍ طويلة ولكننا لا نتلقَّى أيّة نُصرة. والسبب أنّهم يعبُدونَ عبادةً رسميّةً وتقليديّة. لا يفكِّرون في التقدُّمِ إطلاقًا، لا توجدُ لديهم الرغبةُ للتنقيب عن ذنوبهم ولا يوجد لديهم الطلبُ الصادِقُ للتوبة. فَيَظلُّونَ على حالتهم الأولى. فأمثال هؤلاء ليسوا بأقلِّ من البهائِم، ومثل هذه الصلوات تجلبُ الويلَ من الله”.  (جريدة الحَكَم ج8، عدد 38، 39 ص6-8 بتاريخ 10 إلى 17 نوفمبر 1904)

فكلمات “ويلٌ للمصلِّين” الواردة في القرآن الكريم تُشيرُ إلى الأمر نفسه، بأنّهم يُصلُّون، والصلوات بدورها تُنادي بـــ “ويلٌ للمصلِّين، ويلٌ للمصلِّين”. والصلوات التي هي سِرٌّ للنجاح لو أنّها بدأت تجلبُ الويلَ والهلاك فهل يبقى أيُّ أملٍ لخلاص الإنسان؟!

  “إنّما الصلاةُ الحقيقيّة هي تلك التي يصحبُها التقدُّم. فلا فائِدة من التقاليد والعبادة التقليديّة. فلو أنّ جماعتنا أيضًا بقيت بصورة البِذرة فحسب فلا فائِدة من ذلك. الذي يبقى ردِيًّا لا يُوهبُ التقدُّمَ والازدهار. فَتقدَّموا في التقوى والعِبادة والحالة الروحانيّة. تذكَّروا أنّه لا فائِدة من البيعة الفارِغة ووضع اليدِ على اليد. لا تنخدِعوا من أننا وَضَعْنا اليدَ على اليد، فلا خوفَ علينا الآن. الهدايةُ أيضًا نوعٌ من الموت. والذي يقبلُ لِنفسِه هذا الموت يُعطَى حياةً جديدة. وهذا ما يعتقدهُ الأصفياء. فعن هذه الحالةِ الابتدائيّة يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ .. أي أصلِحُوا أنفُسَكم أولاً، وأَزِيلوا أمراضَكم، ولا تُفكِّروا عن الآخرين. نعم! أَصلِحوا أنفُسَكم ليلاً، وَارْشُدوا الآخرينَ أيضًا نهارًا”.

  إنّها لنقطُةُ معرفةٍ عظيمة. فلو أصلحتُم أنفُسَكم ليلاً حين لا يرى أحدٌ إلا الله، لكنتم مؤهَّلين للإرشاد في ضوءِ النهار. أرى أنَّ الإخوة جميعًا يسمعونني، فأقول: لا يستطيع أن يهدي هدايةً حقيقيّةً إلا الذي يكون قد أصلَحَ نفسَهُ ليلاً، مُختفِيًا من الناس، ثم يخرجُ في النهار للإرشاد، مُضطرًّا وليس استكبارًا لِنفسه”.

يُضيف سيدنا الإمام المهدي ويقول: “نعم، أَصْلِحُوا أنفُسَكم ليلاً، وَارْشُدوا الآخرينَ أيضًا نهارًا”.

كما قلتُ سابقًا، إنّه لا يوجد في كتابات سيدنا الإمام المهدي أيُّ تكرارٍ من شأنه أن يجعل الكلام عديمَ الجدوى أو غيرَ ضروري. إذ أنّ كلَّ تكرارٍ يكون محتويًا على نقاط المعرفة التي تُفجِّرُ ينبوعًا جديدًا من العلوم والدقائِق. يقول سيدنا أحمد : “غَفَرَ الله لكم، وخَلَّصَكم من ذُنُوبِكم، وأَزَالَ عنكم مَواطِنَ الضَّعْفِ، ووَفَّقَكم للتقدُّمِ في الأعمال الصَالِحة والحسنات، آمين”.

(جريدة الحَكَم ج8، عدد 38، 39 ص6-8 بتاريخ 10 إلى 17 نوفمبر 1904)

والآن أُنهي الخُطبة على المقتبس المذكور لسيدنا الإمام المهدي ، لأنّ الوقت أيضًا قد أدرَكَنا، والآن نستعدُّ للصلاة بإذن الله.

Share via
تابعونا على الفايس بوك