واجبات الإنسان قبل وبعد التوكل على الله
التاريخ: 1999-09-24

واجبات الإنسان قبل وبعد التوكل على الله

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

خطبة الجمعة التي ألقاها حضرة ميرزا طاهر أحمد أيده الله،

 الخليفة الرابع لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ،

 بتاريخ 14 جمادى الثاني الموافق 24 سبتمبر/أيلول 1999م 

في مسجد فضل بلندن

نقلها إلى العربية: عبد المجيد عامر

«تنشر أسرة التقوى ترجمة هذه الخطبة على مسؤوليتها»

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ (آمين).

وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ * فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (سورة يونس: 85، 86)

الحديث الأول الذي انتقيته في هذا الصدد هو كالتالي:

«حَدَّثَنَا المـُغِيرَةُ بْنُ أَبِي قُرَّةَ السَّدُوسِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ، أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ قَالَ: اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ». (سُنن الترمذي، كتاب صفة القيامة)

  يقول سيدنا الإمام المهدي في سياق هذا الحديث: «التوكُّلُ على اللهِ لا يعني أنْ يترُكَ الإنسانُ المجهود. بل المعنى هو أنْ يُوصِلَ المجهودَ إلى مُنتَهاه ثم يترُكَ العواقبَ في يدِ الله . هذا هو التوكُّل. وإذا كان لا يقومُ بالمجهودِ بل يعتمدُ على التوكُّلِ فحسب فليس توكُّله إلا توكُّلاً أَجوَفَ (لا قيمةَ له).

وإذا كان يقوم بالمجهود فقط ويعتمد عليه ولا يتوكل على الله لكان المجهود أيضًا أجوف. كان هناك شخصٌ يركب بعيرًا، فرأى النبيّ ، فترجَّل تعظيمًا له وأراد أن يتوكل وألا يقوم بالمجهود، فلم يعقل البعيرَ. فعاد واشتكى إلى النبي وقال: لقد توكَّلتُ ولكنني فقدتُ البعير. قال النبيّ . إنَّكَ أَخطأت لو عقَلتَه ثم توكَّلت لكان أنسب». (الملفوظات ج6، ص334، طبعة لندن)

الواقع أنّ موضوع التوكُّل محيطٌ بحياتنا كلّها. الفلاّحون عندما يبذرون البذور فلا يُنْبِتونها بقوَّتِهم. إنّهم يُنشِرون البذور فقط. ثم هناك قانون الطبيعة الذي قد أودعَ البذرةُ اسرارًا معقَّدة للغاية. إنَّ قوة النَبْت الموجودَة في البذرة محيرةٌ للعقول لدرجةِ لو تأمّل فيه الإنسان لاحتارَ من أمره نظرًا إلى التعقيدات الموجودة فيها، وإلا فإنّها في بادئ الرأي الحبَّةُ المحضة التي رُمِيتْ ومن ثَمَّ نَبَتَتْ. ثم هناك حاجةٌ لارتواء الأرض إلى مستوى مناسب، ووقوعِ البذرة في أرضٍ سهلة، ونزول المطر بمقدارٍ ليس أقلَّ من الحاجة ولا أكثر، أو ارتواء الأرض إلى درجةٍ مناسبة بشكل عام. فهناك متطلَّباتٌ أخرى كثيرة هي ضروريّة لنَبْتِ البذرة.

إنّنا نظنُّ أنَ المراد من التوكُّل هو الاعتماد على أحدٍ ليس إلا. الحقيقة أنَّ التوكُّل موضوعٌ غايةٌ في العُمق. خُذوا الحبَّة على سبيل المثال كما بيَّنتُ، وتأمَّلُوا فيها. بقدرِ ما تتأمَّلون فيها تنكشِفُ عليكم الأعماق الجديدة أكثرَ فأكثر. ثم كيف خُلِقَ نِظام البذرة هذا؟ وكيف كانت بدايته؟ ولماذا حَظِيَتْ كلُّ حبَّةٍ بقُدرةٍ على خلقِ حبَّةٍ مثلِها؟ علمًا أنّ هناك أنواعًا عديدةً من الحبَّات أيضًا. فمن الحبَّات ما يحتاج نشرها إلى أسلوب معيّن لأنّها تُصبح في بعض الحالات خفيفةً جدًا لدرجةِ تذروها الرياح حتى تصلَ إلى مناطق نائية في بعض الأحيان. فالقوانين التي خلقها الله تعالى لنشر البذور في الدنيا ليست إلا عملية التوكُّل. والإنسان لا يفكِّر أبدًا أنّه بدون التوكُّل لا يمكن أن تنبت بذرةُ أصغرِ الأشجار تُسمِّى شجرة البلوط. إنّه لَنِظامٌ مُحيِّرٌ تمامًا، إذ تكون هناك بعض النُوى للأثمار التي لا تكاد تنحلّ إلا أن تأكلها الدواب. ولو أكلها الفيل -على سبيل المثال- انحلَّت بسبب الأوكسجين الموجود في بطنه. وبما أنّ الأفيال تقوم بأسفارٍ طويلة فتبقى النُوى في بطنها إلى فترةٍ طويلة. وعندما تُخرجها تكون قد أصبحت صالحة للنَبْت.

فنظام الطبيعة نظامٌ غريبٌ للغاية بحيث يتجلّى الله للإنسان في كلِّ ذرةٍ منه، شريطةَ أن يكون الإنسان يملك البصيرة. إذًا فلا تحسبوا موضوع التوكُّل موضوعًا عاديًّا بل إنّه موضوعٌ غايةٌ في العُمقِ والسِعة.

فقد جاء في الحديث الشريف:

«عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا» (سُنن الترمذي، كتاب الزهد)

إنَّ لهذا الموضوع أيضًا جانبين. الطير عندما يطير فإنّه يقوم بالمجهود، يحفر الأرض ويبحث عن الحبَّة، ويعرف أين يحفر لاستخراج الحبَّة. فلو خرج شخصٌ فقير حاملاً فأسًا أو ما شابه من الأدوات التي يكفل استخدامها كسبَ المعاشِ له فقد توكَّلَ على الله تعالى وما مدَّ يده أمام الناس. فبمِثلِ هذا التوكُّل على الله تعالى سوف يُهيِّئُ الله -من كرمه المعاش له حتمًا.

والبعض يكونون متعوِّدين على عكسِ ذلك إذ يُظهِرون فقرهم على الناس. يقولون في بادئ الأمر أننا ما سألنا شيئًا وما مددنا يدًا أمام أحد، ولكن ملامِح وجوههم، وعيونهم، بل سائر جسدهم تتكلَّم بلسانِ الحال ويقول: أَعطونا شيئًا. فالعارِفون يعرِفون حقيقةَ هذا الأمر. ويتبيّنُ الأمر من أماراتِ جِباهِهم. ومن الناس من يُخفونَ أنفسهم رغم تعرُّضِهم للمجاعة ويكتمون ما بهم. يتكلَّمون ضاحكين مستبشرين ولا يسمحون لآثارِ المجاعة بأن تعلو وجوههم. فلاحِظوا لأيِّ مدى يتغيَّر موضوع التوكُّل في مثل هذه الحالة. إذًا ليس التسوّل الظاهري فقط، وإنّما تقديمُ الإنسان نفسه بحالةٍ تنمُّ عن الفقر».

وجاء في حديثٍ آخر:

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، هُمُ الَّذِينَ لاَ يَسْتَرْقُونَ، وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. (صحيح البخاري، كتاب الرقاق)

  المراد من كلمة «سبعون ألفًا» هنا كلمة التكميل. أي كلمة «سبعون» قد تضمُ مئاتٍ من «سبعون». والأمر متروكٌ إلى مشيئة الله يزيدُ فيها كما يشاء. ولهذا الأمر أيضًا علاقةٌ مع التوكُّل. فالله وحده أعلم كم مرةً سبق أنْ غُفِرَ لِـــــــ «سبعونَ ألفًا» على وجه التكرار، وكم سَيُغفَر لهم في المستقبل على نفس المنوال، إذ إنّ عُمرَ الدنيا ليس معلومًا. فإذا توكَّل كُلُّ جيلٍ على الله تعالى فيستطيع الله أن يغفِرَ لهم ذنوبهم، وسيغفر أيضًا حين يشاء. ولكن رسول الله جعل هذا الأمر مشروطًا بشرطٍ إذ قال: «هُمُ الَّذِينَ لاَ يَسْتَرْقُونَ، وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ ولا يسترقون أي لا يبحثون عن عيوب الآخرين، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.

فهناك أمران اثنان ولهما علاقةٌ قوية مع بعض. الذين يظلُّون باحثين عن عيوب الآخرين إنّهم يهتِكون السِتر، والذين يهتِكون السِترَ عن عيوبِ الآخرين لا حقَّ لهم للتوكُّل، علمًا أنّ هناك ذنوبًا تظهر للعيان تلقائيًّا، يُظهرها الله للناس حين يرى إظهارها مُناسبًا، ولكن المؤمن الذي يُحسِن الظن لا يظلُّ قائما في البحث عن ذنوب الآخرين. والذي لا يظلُّ باحثًا عن الذنوب يعامله الله تعالى معاملةً مُشابهة.

ثم قال النبيُّ : «… وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ». المراد من التطيُّر هو أنّ الناس يتفاعلون أو يتشاءمون – على وجهِ الحرز والتخمين بإلقاء الأزلام أو بأشياء أخرى، وكما يقولون إنّه لو ظهر كذا وكذا لفعلنا كذا وكذا. إنّها لتصرفاتٌ فارغةٌ وليست من التوكُّل في شيء. التوكُّل هو أن يتدبَّر الإنسان في أنّ مسلك كذا وكذا قد يكون أفضل، والظروف توحي ظاهريًا أنّ هذا المسلك قد يكون أفضل، ثم يسلك ذلك المسلك، ولكن المتطيِّرين ينخدعون دائمًا.

هناك حديثٌ في سُنن الترمذي:

« عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ. وَمَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِاللَّهِ فَيُوشِكُ اللَّهُ لَهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ». (سُنن الترمذي، كتاب الزهد)

  لقد سبق لي أنت بيَّنتُ موضوع «أَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ». لو أظهر أحدٌ فاقته للناس باللسان أو عن طريق حالته الظاهريّة، لظلَّ عُرضةً للفاقة على الدوام. ولا يُصبح غنيًّا بصدقاتِ الآخرين.

والكلمات «عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ» هنا أيضًا تحمل أهميةً كبيرة. وليس المراد من التوكُّل أنّكم سوف تحصلون على الرزق من قيامكم بالتوكُّل. بل المراد منه أنّه يجب على الإنسان أن يظلَّ متمسِّكًا بالتوكُّل بكلِّ شدةٍ ويتيَّقن أنّ ربّه يُهيِّئُ له الرزقَ في نهاية المطاف.

يروى عن رجلٍ أنّه كان مشغوفًا بالتنسُّك. فذهب إلى الصحراء وتربَّع تحت شجرةٍ من أشجارها متنسِّكًا، وعزم على أنّه لن يتسوَّل، أما إذا رزقه الله فَبِها وَنَعَم. وبقي الحال على هذا المنوال إلى فترةٍ من الزمن، وانتشر الخبرُ بين الناس أنّ هنالك شخصًا ناسِكًا وعابدًا كبيرًا. فظلَّ الناس يحضرون إليه بالهدايا من هنا وهناك حتى تكدَّست عنده الأطعِمة من مختلف الأنواع بحيث أصبح يوزِّعها على الآخرين أيضًا. غيرَ أنّ الله تعالى كان قد أرادَ ابتلاءه. فحدث ذات يوم أن ظنَّ كلُّ واحدٍ منهم -الذين كانوا يُحضرون له الهدايا والأطعمة- أنّ غيره يكون قد أحضر الطعام له، وبالتالي لم يتلقَّ الناسِكُ شيئًا في ذلك اليوم. فظلَّ جالسًا تحت الشجرة طوال اليوم يُكابدُ الجوعَ والعطش حتى ساءت حالته. ثم خطرَ ببالهِ في نهاية المطاف أنّه ينبغي أن يرى ماذا حدث. فخرج من مكانه وذهب إلى أحد البيوت ودقَّ الباب. فعندما شاهده صاحب البيت استغرب من أمره وسأله قائلاً: ما الذي حَدا بكم إلى المجيء إلى هنا؟ نستميحُكُم عُذرًا، كان من واجبنا الحضور إليكم ولكننا نسينا ذلك. ثم أعطاه الرغيفين وشيئًا من الطبيخ. وعندما أراد الناسِك الذهاب شاهَدَ في الكشف كلبَ صاحب البيت متحدِّثًا إليه. فقال له الكلب في الكشف: إنّني جالسٌ على هذا الباب ولا أذهب إلى أيِّ بابٍ آخر. فَمِنْ حقِّي أن تُعطيني أحد الرغيفين. فأعطاه الناسك رغيفًا. وحينما تأهَّب للذهاب بعد إطعامه الرغيف للكلب، أتبعه الكلبُ وقال: إنّ بطني لا يشبع برغيفٍ واحد، وأنّك أخذت كِلا الرغيفين من سيدي أنا، وقد جئتَ إلى سيدي تاركًا سيّدك أنت، لذا أنا أحقُّ بمال سيّدي. فرمى الناسِكُ الرغيف الثاني ورجع إلى شجرته. ثم حدث أنّ الناس تذكَّروا عندها بواجبهم وجعلوا يُحضِرونَ الرزقَ إليه. كان الله قد أرادَ أن يُلقِّنه درسًا.

فتذكَّروا أنّ التوكُّل ليس بأمرٍ هيّنٍ، كما لا يعني التوكُّل أنّ أحدًا سوف يحصلُ على الرزق فور التوكُّل. لا شكَّ أنّ الله تعالى يُهيِّئُ الرزق على الفور أيضًا إذا يشاء، أما إذا أراد الله غيرَ ذلك فلن يُهيِّئه فورًا.

الحقُّ أنّكم حين تزرعون البذور، تتوكَّلون. في بعض الأحيان تضيعُ البذور، وفي بعض الأحيان تنبُت ولكن نباتًا فارغًا، كما قال سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام: «لا يكون في داخلي شيءٌ مِنْ الغِلال».. ثم تأتي سنةٌ لا ينبت خلالها شيء. فالفلاحون يعرفون ما هو التوكُّل.

إنّ الله تعالى قد أناطَ مع التوكُّل مواضيعَ لو تأمَّل فيها الإنسان لأدرك المعنى الحقيقي للتوكُّل. فنظام الخَلقِ الذي وضعه الله يُكمل ذروته أيضًا بصورةٍ معيّنة، كما حلَّت المجاعة إلى سبعِ سنوات في زمنِ سيدنا يوسف . ويُكشف أحيانًا أحوال هذه الدورة عن طريق الرؤيا قبلَ حلولها، وفي بعض الأحيان إذا تأمَّل فيها الفلاح يستطيع أن يُدركه -بدون أن يُكشَف له- بأنّه يتداول بصورةٍ معيّنة.

حينما كنتُ مسؤولاً عن مزارعنا كنت مُتمسِّكًا بمبدأ -وهذا ما أقول للسيد مسرور أحمد (الأخ المسؤول عن تلك الأراضي حاليًا)- أنّه لا بدَّ من حلول الابتلاء بعد كلّ أربع سنوات. وليس من التوكُّل في شيء أن تقولوا إننا قد بذرنا البذور ولم نحصل على شيء. التوكُّلُ يجب أن يصحبه الصبرُ. فكلّما زرعتم البذور يجب أن تصبِروا، لا تُخمِّنوا ولا تتطيَّروا، بل ينبغي أن تتأمَّلوا في قانون الطبيعة. وبقدرِ ما درستُ أنا قانونَ الطبيعة وجدتُ أنّه بعد كل أربعة أعوام -على وجه التقدير- يأتي سنةُ الابتلاء حتمًا. فيجب أن توفِّروا خلال السنوات الثلاث التي سبقتها. وهذا ما يتبيَّن من رؤيا سيدنا يوسف أنّه أيضًا لابدَّ من التوفير خلال هذه الفترة. وليس من المعقول أن يُستهلك كلُّ ما وقعت عليه اليد. ومما يُنافي التوكُّل أيضًا أن يستهلك الإنسانُ كلَّ ما يحصل عليه ظنًّا منه أنّ الله تعالى قد أعطاه هذا ولسوف يُعطي في المستقبل أيضًا. فنظام التوكُّل نظامٌ عميقٌ جدًا بحيث أنّ أمرًا متعلِّقًا به يؤدِّي إلى أمرٍ آخر وهكذا دواليك.

  عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ. اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نَزِلَّ أَوْ نَضِلَّ، أَوْ نَظْلِمَ أَوْ نُظْلَمَ، أَوْ نَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيْنَا. (سُنن الترمذي، كتاب الدعوات)

إنّ الناس حين خروجهم من البيت كلَّ يوم لا يأخذون عادةً الحيطة والحذر كما يجب، ظنًّا منهم أنّ كلَّ شيء على ما يرام. ولو أخذ أحدٌ الحيطة والحذر بعينِ الاعتبار حسبَ مقتضى الأمر، فأيضًا يجب عليه أن يؤمن أنّه لابدَّ أن يتعرَّض لأنواع الفساد والمشاكل ما لم يُحالفها فضل الله ورحمته. تتعرض السيّارات في بعض الأحيان للاصطدام. من الممكن أن يسوق أحدٌ سيارته بمراعاة جميع مقتضيات الحذر والحيطة -وهو يملك سيارةً فارِهَة ومصونة بكل معنى الكلمة لا خطر له فيها- ولكن يأتي سائقٌ سكران بسيارته من الاتجاه المعاكس فتصطدمَ سيارته بسيارة السائِق الحَذِر. فالشخص المتعوِّد على التوكُّل سوف يدعو الله تعالى أيضًا قبل السفر. والذي يدعو الله تعالى قبل السفر ينقذه الله لا محالة.

ففي إحدى المرات ذكر لي أحدُ أقاربي الذي كان طيّارًا وقال: إنّني كلما خضتُ في القتال مع الطائرة المقاتلة ابتهلتُ في حضرةِ الله بهذا الدعاء: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ . وقال إنّني كنتُ أكتب هذا الدعاء على الطائرة وأردِّده أيضًا. ثم قال: إنني كنتُ دائمًا أعودُ بفضل الله تعالى سالمـًا غانمًا من وسط القصف الشديد. وفي إحدى المرات فقط نسيتُ ذلك وأصبحتُ عُرضةً للقصف المدفعي. وبما أنني كنتُ متعوِّدًا على التوكُّل فتذكرتُ على الفور وبدأت وقمت بالتوكُّل عن طريق قراءة الدعاء، فأنقذني الله تعالى من الموت بفضلٍ منه، ثم نجَّاني من السجن أيضًا بسهولةٍ نسبيًا.

إنّ موضوع التوكُّل محيطٌ بكلّ جانب من الحياة. هناكَ فَرقٌ ملحوظٌ بين المتوكِّلين وغيرهم. والذين ينطلقون متوكِّلين على الله توكُّلاً صادقًا ينقذهم الله من ألوف الخسائر والآفات. ولكن يجب ألا تتوكَّلوا بصورة التطيُّر، بل ينبغي أن تتأمَّلوا وتدرسُوا نظام الطبيعة ثم تقرِّروا بناءً على ذلك.

يقول سيدنا الإمام المهدي :

«الحقيقةُ أنّ التوكُّلَ هو الشيءُ الوحيدُ الذي يجعلُ الإنسانَ مُفلِحًا وفَائِزًا بالمـَرام. يقول الله تعالى: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ .. أي الذي يَتَوكَّلُ على اللهِ فهو يَكفِيه شريطةَ أنْ يكونَ مُتقدِّمًا بِصدقِ القلب وَبِإدراكِ المفهوم الحقيقي لِلتوكُّل بالقلبِ الصَادِق، ويكونُ صابرًا ومُثابرًا، ولا يتأخر مذعورًا مِنَ المشاكِل. الدنيا فانيةٌ ومُفْنِيَةٌ. (أي جديرةٌ بالنسيان والزُهدِ فيها) وكذلك الأمورُ المتعلِّقةُ بها. فيجبُ على الإنسان ألا يهتمَّ بها. بل يُفكِّر في الآخِرة أكثر. فلو سيطرتِ الهُمومُ الدينيَّة على الإنسان لَتكفَّلَ الله أموُرهُ الدُنيويَّة». (الملفوظات ج10، ص 252، طبعة لندن)

  ثم يقول حضرته :

«لا شكَّ أنّ الإنسان يُصيبُه الاضطِرابُ عندَ المشاكِل، ولكن عليهِ ألا يَدَعَ التَوكُّلَ مِنَ اليد. لقد أصابَ النبيَّ أيضًا اضطِرابٌ شديد عندَ معركةِ بدر (كم هو دقيقٌ هذا الفَرق الذي بيَّنه حضرته )، فكان يَبتَهِل: «يا ربِّ، إنْ أَهلَكتَ هذهِ العِصابَةَ فَلنْ تُعْبَدَ في الأَرضِ أبَدًا». غيرَ أنَّ اضطِرابهُ كان ناتِجًا من مُقتضَى البشريَّةِ فقط، لأنّه من ناحيةٍ أُخرى لم يَدَعِ التَوكُّلَ يُفْلِت مِنَ اليد. التوجُّهُ كانَ إلى السماء، وكانَ واثِقًا مِنْ أنَّ الله لن يُضيِّعهُ. لم يَسمَح لليأسِ أنْ يتقرَّبَ منه. فمثل هذه الاضطِرابات ضروريةٌ لتكميلِ أخلاقِ الإنسان ومَدَارِجِه. ولكن يجب على الإنسان ألا يسمحَ لليأسِ أنْ يَقتَربَ منه. إنَّ الأفكار المتنوِّعة تَنْفُثُ في الإنسان وَسَاوِسَ الاضطِراب ولكنَّ الإيمان يَدحَضُها. مُقتضيات البشريّة تَشتَري الاضطِراب، والإيمانُ يَدفَعُه». (الملفوظات، ج5، ص 171، 172 طبعة لندن)

Share via
تابعونا على الفايس بوك