تجارة لن تبور

تجارة لن تبور

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

كيف نتمتع بالصلاة

خطبة الجمعة لمولانا حضرة مرزا طاهر أحمد -أيده الله بنصره العزيز- الخليفة الرابع لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ألقاها بإسلام أباد -مقاطعة سري- إنجلترا يوم 2/ 8/ 1991.

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمْ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (آمين)

كانت الخطب الماضية حول موضوع الصلاة، ولعل هذه تكون الخطبة الأخيرة في هذه السلسلة، تحدثت في خطبتي السابقة عن موضوع (التحيات)، وسأبدأ اليوم من حيث انتهيت.

قلت إن (التحيات) تعني الهدايا. ومفهوم الهدايا مختلف تماما عن المقايضات والمعاملات الإنسانية العامة. يقدم الإنسان شيئا لصديق أو لكبير ولا يرجو مقابلا له، بل يرجو محبته ورضاه؛ هذا هو معنى الهدية.

ومن وجهة النظر هذه.. كل التضحيات المالية التي تقدَّم في سبيل الله.. ينبغي ألا يتطرق إلى ذهن صاحبها أن تُردّ له بعائدها المتزايد. ولقد أشار القرآن إلى هذا الموضوع في قوله: وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ .. لا تفعل المعروف وأنت تتوقع في مقابله معروفًا أكبر منه. ومع أننا نقرأ مرارا وتكرارا أن الله تعالى يعطي أضعافا مضاعفة في مقابل تضحياتنا، ولكن إذا كانت هدايانا لله تعالى بنيةِ تلقّي المقابل بالزيادة لكانت هذه صفقة تافهة جدًا، وبمثابة التضحية نوعًا من التجارة بدلا من الهدية. وصحيح أن هناك متاجرة مع الله تعالى، ولكن معنى التجارة معه تعني مختلفا. فتخبرنا كلمة (التحيات) أن كل ما نقدمه لله تعالى ينبغي تقديمه ليس بغرض جزاء مادي في المقابل، وإنما بهدف نيل رضوان الله تعالى، إذا فهمنا موضوع التحيات والهدايا هذا يكون هناك تأثير غير عادي على كل تضحياتنا. فالصلاة لم توضح لنا مغزى التضحيات المالية فحسب، وإنما فسرت لنا مغزى التضحيات الجسدية أيضا.

نقول (التحيات لله والصلوات والطيبات): فالصلوات هي التضحيات الجسدية؛ والطيبات هي كل شيء طيب نبذله في سبيل الله، سواء كان كلمة أو فعلاً أو مالاً. ومن هذه الزاوية.. تصبح كل علاقات الإنسان مع الله علاقات لتقديم الهدايا.

ولمن يتلقى الهداية موقفان: أن يكون المتلقي أدنى من المـُهدي قدرةٌ ماليةً وأمورا أخرى، ومثل هذا المرء يكون في قلبه رغبة شديدة لرد الهدية بأحسن منها، ولكنه لا يستطيع تحقيق هذه الرغبة. نعم. إذا كان المعطي الأول كريم النفس والقلب حقًا يتقبل الهدية العادية من الذي هو أدنى منه على أنها شيء عظيم جدا، وإلا لا سبيل لتحقيق تلك الرغبة القلبية لرجل فقير.. وكأن تحقيق رغبته القلبية هذه أيضا تتوقف على كرم رجل عظيم. وإذًا ففيما يتعلق بتقديم الهدية إلى الله تعالى فموقفنا هو كموقف الفقير، إذ نقدم الهدية إلى ذلك الموجود الذي هو الأعظم في كل النواحي، والذي لا حاجة به إلى شيء، ولا نملك القدرة على تقديم هدية إليه. ولكنه يتقبل هدايانا المتواضعة لكرمه وجوده.. ويتقبلها وكأننا فعلنا شيئا عظيما. ولما كان قادرًا على إعطائنا ما هو أكثر، لذلك يعطينا بالزيادة تلقائيا، في حين أن مقدم الهدية يستولي عليه الإحساس بفقره وعوزه. ويقدم هديته على استحياء، ويقول لسان حاله: ما هذا الذي أهديه؟ إنه غير لائق بالتقديم إليه. فمحبوبي عظيم جدًا حتى إن كل ما أقدمه ضئيل أمام عظمته ولا يليق بالتقديم إليه.

وبعد هذا فإن تفكير المرء بأن ما أقدمه لله تعالى سوف يرده إليّ مضاعفا.. لهو تفكير دنيء حقا. وما أحطه من تفكير يفسد طبيعة الهدية ذاتها. المرء يحس بالخجل إذا كان المـُهدي يتحدث عن ردها. لذلك ينبغي عليك في صلتك بالله تعالى ألا تفكر هذا التفكير التجاري بأنك ستعطي اليوم شيئا وتأخذ في المقابل غدا ما هو أكثر منه، بل الأجدر بك أن تقول في نفسك أنك لا تملك ما يجب أن يقدم إلى الله تعالى، في حين هنالك في قلبك رغبة ملحة لذلك. فينبغي أن تقدم هديتك بين يدي الله تعالى بالإحساس بالخجل.. وتقول إني أعطي بقدر استطاعتي ولولا ذلك لوجب علي أن أقدم أكثر منها كثيرا.

ثم إذا قبل الله تعالى هديتك، ولكن لم يجازك عليها على الفور في هذه الحياة الدنيا. وفكرتَ بناء على ذلك أن الناس كانوا يقولون بأن في البذل في سبيل الله بركات عظيمة، ولكني لم أر أي بركة في مالي، لكان هذا، ولا ريب. فكرًا دنيئًا منحطًا، ولن يُعتبر ما قدمته هديةً بعد ذلك. وما دامت قد خرجَتْ عن كونها هدية فلذلك لن تُقبل، لأن (التحيات) علمتنا: أن الهدايا هي التي ستُقبل لا غير. إذا قدَّمت كهدية فهي مقبولة، وإذا لم تكن هدية، فقدِّم ما شئت فلن يهتم به، ولا داعي لتحاول إنشاء الصلة بالله، لأن مثل هذه التضحيات التجارية لن تقيم لك صلة بالله.

وتعلَّمنا (التحيات) ثانيًا أننا نقف بين يدي الله خمس مرات في اليوم، مردّدين: (التحيات لله  والصلوات والطيبات)، ولكن يجب أن نفكر هل يقدم المرء نفس الهدايا القديمة مرة بعد أخرى. عندما نجلس ونتلو في كل صلاة أمام الله (التحيات لله والصلوات والطيبات) أكثر من مرة فلا يعني ذلك أبدا أننا ما زلنا نقدم نفس ما قدمناه من قبل من فعل طيب أو تضحية هديةً لله تعالى. في معاملاتنا الدنيوية لا نفعل ذلك. ومن يفعل ذلك يُعد مختل العقل وأحمق.

فالصلوات الخمس في اليوم تبلغنا رسالة: هل فعلتم شيئا من الصالحات فيما بين الصلاتين؟ لو أنكم تكلمتم حتى بكلمة طيبة بين الصلاتين.. فطبقا لحديث الرسول وبنص القرآن الكريم تحتسب الكلمة الطيبة هدية وعملا صالحا. نعم، تعد الكلمة الطيبة أيضا عملا صالحا. ولو أنك خلال هذه الفترة لم تتمكن من إنجاز عمل صالح آخر، فلعلك ذكرت الله تعالى بلسانك، أو قدمت نصيحة حسنة لغريب أو حتى لزوجتك أو لأحد أطفالك أو لصديقك. في الفترة ما بين الصلاتين عليك أن تجهز هدية ما.. تقدمها بين يدي الله لو تفكرت في هذا المعنى وأنت تصلي وتقول (التحيات لله والصلوات والطيبات..) فكثيرا ما يرتعد قلبك، لأنك جئت خالي اليدين وتقول بلسانك: يا رب، أريد أن أقدم إليك هدية بل هدايا.. من (الصلوات) أي الأعمال الصالحة والتضحيات البدنية، ومن (الطيبات) أي الأشياء الطيبة أيضا.

بعد فهم هذا الموضوع تصبح رسالة (التحيات) أفسح مجالا، وتحيط بكل جوانب الحياة. تذكّرنا كي نملأ صلواتنا اليومية بهدايا الأعمال الصالحة، وتخبرنا أن الأعمال الصالحة إنما هي التي ستحظى بالقبول الإلهي إذا قُدِّمت في صورة هدية لا غير. إنها نفس الرسالة التي نجدها في قول الله تعالى:

لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ

لن تفهموا معنى البر والتقوى ما لم تعرفوا أن كل ما تهدونه إلى الله تعالى ينبغي أن يكون الأفضل.. إذا كنتم لا تعرفون أنه ينبغي أن يهدي الإنسان إلى الله ما هو أحسن فلا تعرفون معنى البر. وإذا فمفهوم البر والهدية صار واحدا.. لأن المرء ينتقي الأشياء الجيدة للهدية، وأما للضريبة فيختار الشيء الرديء. إذا جاء جابي الضرائب إلى الحقل ليحصل الضريبة فلن يختار له الفلاح أفضل محصوله من  القمح مثلاً، وإنما يعمد إلى أردأ ما عنده.. ما أصابه البلل أو السواد.. فيعطيه له سدادا للضريبة. ولكن موضوع الهدية على العكس من ذلك تمام. فالآية القرآنية

لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ

تعرِّف لنا الهدية. فالهدية إنما تقدَّم بدافع المحبة. لما كانت تُهدَى للمحبوب.. فإن المحب يقدم الأشياء المحببة إليك.. وإذاَ فإنما تُقبَلُ من الأعمال تلك التي تكون محببة إليك.. والتي تستطيع تقديمها بفخر واعتزاز. إنما تقبل الطيبات سواء كانت تضحية مالية. أو كلمات في حمد الله تعالى.. الطيبات التي يجب أن تهديها في صورة مزينة جميلة تسرك.

بعد تقديم (التحيات والصلوات والطيبات) يقول المصلّي: (السلام عليك أيها النبيَّ ورحمة الله وبركاته. السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) فالسلام الذي نقدمه هنا إلى النبي الأكرم نقدمه كهدية.. لأنه بعد تقديم الهدايا إلى الله تعالى.. فإن محمداً رسول الله هو الأحق بها، لأنه أحبَّ الخلق إلى المؤمن الذي يعرف فضله .

ولما كان الخطاب هنا موجها إلى سيدنا محمد المصطفى في صيغة المخاطب.. يثير بعض الجهال اعتراضا قائلين: خطاب النبي بصيغة المخاطب يدل بأن المصلي -معاذ الله- يعتبره حاضرا موجودًا. إذا كانت هذه الحجة صحيحة فهل الحق تبارك وتعالى غير موجود لأن الخطاب موجه إليه في صورة الغائب.. وليس بصورة المخاطب؟! حيث نقول: التحيات لله، ولا نقول: التحيات لك يا الله. هل استعمال صيغة الغائب في مخاطبة الله تعالى، وصيغة المخاطب مع النبي تجعل المسألة بلا أساس ولا معنى؟ لا، فصيغة الخطاب هنا ذات معنى مختلف. أحيانا يتبدل الحديث من المخاطب إلى الغائب للتعبير عن الاحترام والتكريم، وأحيانا أخرى يتغير الحديث من الغائب إلى المخاطب أيضا لإبداء الاحترام والتكريم. عندما تقول في الأردية عن النبي (آنحضرت) (أي حضرته) فذلك لأن المصطفى غائب، ولكنه مبجل محترم. وكلمة (آن) في الأردية و(آب) (أي أنت) في الهندية تفيد التشريف والتبجيل. في ولاية (أتربرديش) الهندية عندما يخاطبون شخصا حاضرا يستخدمون صيغة الغائب، تعبيرا عن الاحترام الكبير، ويخاطبون الغائب بصيغة الحاضر للاحترام أيضا، فمثلا يخاطبون النبي بصيغة (آب) وهي للحاضر مع أنه غير موجود وذلك احترامًا له . ونفس هذا الأسلوب متبع هنا وبنفس  المعنى. فالمصطفى يخاطّب كالحاضر ونقول (السلام عليك) مع أنه غائب، ذلك للتشريف والاحترام. والله تعالى موجود، ومع ذلك يخاطَب بصيغة الغائب بالنظر إلى عظمته ومجده.

ونجد هذا الأسلوب في كل اللغات وليس لهذا الأسلوب معنى سوى ذلك، إنه لا يعني -لا سمح الله- أنه عندما يبعث المسلمون بالسلام إلى المصطفى يأتي حضرته ويقف أمامنا، كما يؤمن بعض المسلمين الجهال. هذا جهل مطبق ولا صلة له بالحقيقة، بل مثل هذا الفكر يعد من الشرك. كلما قلتَ (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته).. فأنت تعبر بذلك عن تبجيلك واحترامك له. ولا تخاطبه ظانًا أنه يحضر ويقف أمامك. بعد ذلك نقول: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين). بعد خطاب النبي بصيغة المخاطب يتغير الخطاب بصيغة المتكلم. مما يدل على بلاغة وجمالٍ في دعاء (التحيات). بدأتَ تتحدث عن الله بصيغة الغائب، ثم عن المصطفى بصيغة المخاطب، ثم عن نفسك بصيغة المتكلم وتضم فيها كل المؤمنين معنا سواء كانوا من الحاضرين أو الغائبين. فليس هنا مجال لمناقشة الحاضر والغائب.. إنما هو حديث عن المستويات وبيان رائع يتغير بأسلوب جميل.

(وعلى عباد الله الصالحين): السلام لنا ولعباد الله الصالحين. وهنا وصلت المعاني التي تعلمناها في سورة الفاتحة إلى الذروة. فهنا بعد حمد الله تعالى ومدح النبي دعونا بكل أنواع الدعوات لنا وللمؤمنين، وأقمنا بقولنا (السلام علينا) علاقة شخصية بالله تعالى.

ثم نقول (أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله). وهنا ينشأ سؤال: ما مناسبة هذه الشهادة ولماذا جاءت في هذا الموضع؟

بقدر ما تفكرت.. أرى أن معنى الكلمة الطيبة (لا إله إلا الله) موجود في الفاتحة، ومدلول (محمد رسول الله) موجود فيها كذلك. هذا الموضوع موجود فيها وقد ذُكر هنا بصورة متكاملة وبأسلوب جديد. عندما نقول إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فإننا لا نؤكد إيماننا بأن الله تعالى هو المستحق للعبادة فحسب، بل كلمة (إياك) نرفض كل شيء سوى الله. فالواقع إذن أن معنى (لا إله إلا الله) قد ذُكرا ذكراً رائعًا بكلمات مختلفة في: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين . وإذا دخلنا بعد ذلك في موضوع أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ وجدنا أن أعظم النبيين الذي نزلت عليه أمطار النعم الإلهية أكثر من أي أحد إنما هو سيدنا محمد المصطفى . ولذلك عندما ندعو أثناء الصلاة:

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

فإن النبي الذي يسيطر على أفكارنا ويتمثل في ذهننا بوضوح هو سيدنا محمد المصطفى . هو الذي يستحوذ على فكرنا وهو الذي يتملك قلوبنا. والواقع أن ذكر جميع الأنبياء أيضا يَدخل تحت اسمه. فأعظم المنعم عليهم أهميةً وذكرًا هو سيدنا محمد المصطفى . وقد عُبّر هم هذا المعنى وبعبارة أخرى في شهادة (محمد رسول الله).

لقد قامت الصلاة بتربيتنا الروحية مرحلة بعد مرحلة، وما انفك موضوع الفاتحة يتضح لنا فيها حتى بلغ معراجه وذروته في قولنا (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله). ولكنه ذُكر هنا بعد خبرة وليس نظريًا فقط. لقد انطلقت بنا، وجعلت مقام النبي الأكرم واضحا لنا بحيث أننا لو فكرنا في أحد عند تقديم التحيات والهدايا.. يتجه فكرنا أولا نحو الله تعالى الذي يبرز في عقولنا قبل كل شيء، ثم يتجه مباشرة نحو سيدنا محمد رسول الله . وهذا الموضوع نفسه يذكٍّرنا بانه (لا إله إلا الله محمد رسول الله): أي هناك حقيقان: ذات الله تعالى.. ومحمد رسوله، وكل ما سواهما فهو خيال، إذا لا يتبقى بعد ذلك إلا ما يتصل بهما.. ويقوم وجوده بناء على هذه الصلة.

إلى هنا كانت التجوال في سورة الفاتحة سياحة في الحاضر والمستقبل. كان الخطاب بصيغة الحاضر وكان الدعاء بصيغة الحاضر أو المستقبل. والآن تأخذك الصلاة أيضا في جولة إلى أزمنة أخرى، وتأتيك بذكريات السابقين. حتى الشهادتين كانت أدعيتنا تتعلق بالحاضر أو المستقبل حتى أننا عندما أرسلنا السلام إلى سيدنا المصطفى لم نخاطبه باعتباره شخصا من الماضي وإنما خاطبناه كشخص حاضر. وهذا الأسلوب يدل أن عصره حي.. فهو نبي حي ومن حيث الزمن لم يعد محصورا في الماضي فحسب، بل هو نبي للحاضر وللمستقبل أيضا. ولما كان الموضوع حتى هنا مرتبطا بالزمن الحاضر والقادم لذلك جاء ذكره بينهما. والآن تأخذ الصلاة إلى الماضي.. فبعد الشهادتين مباشرة نصلي على النبي ونقول (اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد.. كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.. إنك حميد مجيد). وبقولنا هذا نذكر في دعائنا صلحاء الماضي. وإن أجدر الناس بدعاء الصلاة والسلام بعد محمد المصطفى هو سيدنا إبراهيم ويسمى (أبا الأنبياء). إنه ذلك النبي العظيم الذي جاء سيدنا محمد المصطفى من ذريته. وهو النبي العظيم الذي استجاب الله لدعائه فكان محمد المصطفى أعظم ثماره. وإشارةً إلى هذه العلاقة بينهما قيل لنا: إذا كنتم تدعون للمحسنين إليكم وتقدمون لهم الهدايا فلا تنسوا محسنًا عظيمًا هو إبراهيم. فصلوا عليه وكذلك صلّوا مرة أخرى على محمد رسول الله . الواقع أننا ندعو بدعاء الصلاة هذا لمحمد رسول الله . ولكن نذكر إبراهيم مع محمد تعبيرًا عن تقديرنا العظيم لإبراهيم.

وعبارة (كما صليت) تعني سلامًا مستمرا، وليس سلاما محصورًا في الماضي فحسب. الناس يفهمون هذا الموضوع أيضا فهما خاطئا. إن العبارة لا تعني: اللهم كما بعثت بالسلام على سيدنا إبراهيم وانتهى ذلك، فابعَثْ بالسلام مثله على سيدنا محمد. إذا دعوت بمثل هذا السلام المحدود على النبي فأولى بك ألا تفعل. لقد استُخدم الفعل الماضي في عبارة (كما صليت على إبراهيم) لأن السلام بدأ في الماضي، ولكن ذلك لا يعني أبدا أن هذا السلام قد توقف في زمن المصطفى . يخبرنا القرآن الكريم نفسه أن اسم سيدنا إبراهيم لن يزال مذكورا بالسلام حتى يوم القيامة. ولسوف يُذكَرُ بالسلام في الآخرين.

فمعنى دعاء الصلاة على النبي (اللهم صلِّ على محمد): أرسل عليه سلاما دائما لا ينقطع كما أرسلته على سيدنا إبراهيم سلامًا مستمرًا. وكما أثمرت اللَّهم ذريةَ إبراهيم بثمار عظيمة كذلك أَثمِر محمد المصطفى بثمار عظيمة. وكما أحببت إبراهيم وذريته وكل الذين اتبعوه.. كذلك ليكن حبك لمحمد وآله وكل الذين اتبعوه.

فذكر سيدنا إبراهيم في دعاء الصلاة على النبي يأخذ لونا جديدا أيضا. وبما أنكم تذكرون محسنا سابقا لذلك يَمتد دعاء الصلاة هذا عبر الزمن ويَرتبط بالماضي. وبناءً على هذه الرابطة بالماضي عُلِّم فيما بعد دعاء لآبائكم أيضا:

رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ .

وبدأ المصلي بالدعاء للذرية أولا ولكنه شمل كل الأزمان. فكما جاء من قبل ذكر الآباء الروحانيين لسيدنا المصطفى كذلك يذكر المصلِّي والديه أيضا هنا، ويقول: اغفِرْ لي واغفِر لذريتي واغفر لوالدَيَّ أيضا. لقد ذكر الله أولاً الصلة الروحانية بين سيدنا إبراهيم وسيدنا محمد المصطفى والأجيال القادمة. وبالمثل هنا في هذا الدعاء ذكر لنا صلةً كمثلها بيننا وبين ذريتنا وبين آبائنا، ثم علّمنا الدعاء، بحسب ذلك.

فإذا أقمتم الصلاة بتدبر لوجدتم أنها موضوع مستمر لا ينتهي أبدا. لا يمكن للإنسان أن يؤدي في كل صلاة حقها من كل الوجوه تماما. لذلك عليكم أن تتريثوا عند موضع وآخر في الصلاة لتنالوا المتعة منها. وهذا يتوقف على مزاجكم وحالكم. إذا تريثت عند كل كلمة في صلاتك متفكرا متأملا بهذه الطريقة لاستغرقت الصلاة الواحدة اليوم بتمامه. وهذا شيء مستحيل. لذلك قد خلق الله تعالى فطرة الإنسان بحيث تتغير ميوله دائما. أحيانا يؤدي صلاته بمزاج معين وأحيانا بمزاج آخر. تارةً يأسر قلبَه الشطرُ الأول من سورة الفاتحة فلا يدعه يتحرك إلى الأمام، وتارةً أخرى يخلب قلبَه وسطُ السورة، وحينًا يحدث ذلك في الجزء الأخير منها، وحينًا آخر يكون ذلك في وضع الركوع أو وضع السجود. فالناس على تعدد مزاجهم واختلاف أحوالهم يستطيعون أن ينالوا المتعة من الصلاة على أشكال متنوعة بحسب طبيعتهم. فمن ينشد هذه المتعة ويتأمل في صلاته عندما يجد شيئا يناسب طبيعته سيتوقف فورًا هناك، ولسوف يستمتع أكثر. وهكذا لا تبقى أي صلاة محرومة من الثمار والمتعة. أما إذا كان الإنسان يؤدي صلاته في حال من الغفلة فستبقى صلاته طوال عمره فارغة، وستكون أوعيةً فارغة إذا قدّمها أمام الله تعالى قائلا: (التحيات لله والصلوات والطيبات) كانت تحياتٍ خالية من الصلوات والطيبات. وكأنها محاولةً للسخرية وخداع مع الله ومع النفس.

نسأل الله جل وعلا أن يملأ عباداتنا بذكره الذي يجعل حياتَنا معطرة دائما وأبدًا بأريج حمد لله، وتتلقى أنفسنا المتعة من ذات الله تعالى.. كما قال سيدنا المهدي والمسيح الموعود حتى نصطبغ بصبغة الله تعالى وتنعكس فيها صفاته. ومثل هذه الصلاة هي التي تجعل المرء في النهاية رجلا ربانيا يُري وجه الله. وهذه هي الصلاة التي كلما دخل فيها الإنسان عاد منها بلؤلؤة جديدة، وخرج منها بجوهرة جديدة. لم يحدث أبدا أن خرج أحد من مثل هذه الصلوات صفر اليدين. وكلما تقدم في ذلك كلما اصطبغ بصبغة الله وازداد تواضعًا. وصار أقرب إلى حالة الطاعة والسجود.. وخلا من الكبر والغطرسة وحل محله التواضع والخشوع المتزايد. عسى الله تعالى أن يقدر لنا مثل هذه الصلوات لكبارنا وصغارنا وجيلنا الحاضر وأجيالنا القادمة أيضا.

أُنهي الموضوع اليوم بذكر حادثة وقعت في الصباح.. فقد رحل عنا اليوم فجأة شخص عزيز علينا محبوب لنا من جماعة بريطانيا.. إنه “شودرى هداية الله البنغوي”. لقد لحق برفيقه الأعلى. لقد عرفته لزمن طويل عندما كنت طالبا وكان لي معه صلة مختصرة.

ولد عام 1916، وكان أثناء دراسته وفي كل منصب تبوأه فيما بعد أفضَلَ خادم للجماعة على الدوام، إذ أُتيح له أن يخدم الجماعة بطريقة أو أخرى. قبل تقسيم الهند كان قائد مجلس خدام (الشباب) الأحمدية في دلهي. وبعد التقسيم.. عندما أعيد تكوين جماعة كراتشي بنظام جديد عينه سيدنا المصلح الموعود (الخليفة الثاني y) عضوا في الهيئة الإدارية لها. على أي حال.. هناك كثيرون أتيح لهم خدمة الجماعة.. ليسوا واحد أو اثنين، بفضل الله تعالى.. بل هم اليوم آلاف يقضون حياتهم هكذا في خدمة الجماعة.

أريد أن أتحدث عن السيد “البنغوي” حديثا خاصا. كان بطبيعته خادمًا لغيره. ولم يكن خادمًا للجماعة وحدها.. وإنما كان هكذا أثناء وظيفته وكانت في الغالب بالخارجية.. حيث شغل وظائف في سفارات بشتى بلاد العالم. لقد وهبه الله حبا لخدمة كل إنسان وبإنكار ذات حتى إن غير الأحمديين من رؤسائه أو مرؤوسيه يذكرونه بمحبة عميقة. منذ فترة تلقيت رسالة من صديق له من أمريكا قال فيها: إنه شخص لا يستحق النسيان أبدا. إنه يقدم خدمات عظيمة ويبدي عطفا كبيرا.

في هذه الفترة التي أسمّيها فترة الهجرة والتي أتيت فيها من ربوة (باكستان)، واستقر بي المقام مؤقتا في بريطانيا.. بمجرد أن وصلتُ ناديتُ: من أنصاري إلى الله؟ وكان صوت “هداية الله البنغوي” من أول الأصوات التي لبت دعوتي. وكان في صوته إخلاص وصدق. فقد رأيته بعد ذلك منهمكا في خدمة الدين كل الوقت. كان في أيام المرض الشديد يخفي المرض حتى لا يُمنَع من مواصلة العمل في خدمة الدين. وإني أشهد أن صوته بين تلك الأصوات كان صوتا صادقا حقا، خرج من قلب مخلص. فكانت كل أيام حياته التي قضاها معي مثالا صادقا على أنه دخل في أنصار الله حقا. فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ .. منهم من وفى وحقق ما نوى وقدم نفسه بين يدي الله بعد أن أتم مراده، ومنهم من لا يزال منتظرا. اللهم أَنِزل رحماتك على هذا الإنسان الذي قضى حياته النَفس الأخير في الخدمة.

كنت بعد اختتام كل اجتماع سنوي أهنئه وأقول: لقد خدمتَ خدمة جيدة، تقبَّلها الله منك. فكانت عواطفه تغلبه وكان دائما يقول شيئين: أن خدمتي لا تعد شيئا. إنها ثمرة دعائك إلى الله. وكان يكرر ذلك ويقول بأنه لا يقول ذلك تكلفًا.. وإنما يقوله من أعماق قلبه بكل تأكيد: إن كل ما أنجزته كان بفضل دعواتك إلى الله ولا اعتبار لي في الأمر.

والثاني: أنه كان يذكرني بهذا الدعاء: أرجوك أن تدعو لي دائما أن أبقى على قدمي واقفا في خدمة الدين إلى النَفَس الأخير.

وقد حدث ذلك بالفعل. في هذا الاجتماع السنوي الذي هو أشد ما يكون نجاحا، رأيتم كيف أن الله تعالى وفقه -رغم مرضه الشديد- للخدمة. وعندما علمتْ زوجتي في هذا الصباح الباكر أن السيد البنغوي قد لفظ أنفاسه قالت: لقد سمعت صوته في وقت متأخر من البارحة يعطي تعليماته للمضيفين بشأن الضيوف، ولا يمكن أحد ليتصور أن رجلا بمثل هذا العزم وقوة الصوت.. المشغول في خدمة الضيوف حتى ساعة متأخرة من الليل.. سوف يرحل عنا فجأةً هكذا في الصباح.

وعلى أي حال، فمن فضل الله العظيم أنه منذ أن عينته عام 1985م، مشرفًا أعلى للاجتماع السنوي لم يزل يؤدي مسؤولياته جديا وبنجاح رائع. وكل هذه الحياة منذ هذه المدة كانت فترة إضافية إلى عمره. فالأطباء كانوا فقدوا الرجاء في حياته، ولكن شوقه للخدمة الدينية كان يقوّيه ويقيم أوده. وقَبِلَ الله تعالى شوقه للخدمة ومدّ في حياته مدة جديدة. إن فراق الأحبة مؤلم، ولكن قد يحمل الفراقُ الألم والسعادة معًا، وفراقه من هذا النوع. فالرجل الذي يرحل بعد رحلة ناجية يوّدعه الناس عادةً بقلب مثقل بالحزن، ولكنهم في نفس الوقت يهنئه من الصميم. وبنفس هذه المشاعر أودِّع هذا الراحل وأقول: إننا محزونون إلى الأعماق أيها الرجل، والقلب يذوب حزنا، ولكننا نهنئك من الصميم وبحرارة. لقد عشت حياة ناجحة كمسلم أحمدي حتى النفس الأخير، وفي نفس الحال أسلمت حياتك لواهب الحياة.

اللّهم أَنزِل على روحه رحماتٍ لا تنتهي، واحفظ هذا الفريق من المضيفين الذي أعده السيد البنغوي بالعمل الشاق والإخلاص والدعاء.. احفظه على نفس روح التقوى والحسنات. وأعْطِنا بدلا عنه من يكون نعم البدل، ووفِّق أولاده أن يُحيوا صفاته الحسنة في ذاتهم، ويمنحوه حياة جديدة. أما فيما يتعلق بالجماعة الإسلامية الأحمدية.. فستبقى بإذن الله تعالى حياته خالدة في تاريخها، وأسكن روحه في أعلى عليين.

بعد صلاة الجمعة إن شاء الله سنصلي عليه صلاة الجنازة. وستكون هناك أيضا صلاة الغائب على بعض من أُعلنت أسماؤهم من قبل. كنت أود أن نقوم بصلاة الجنازة عليه هنا في إسلام آباد ونحن قد انتهينا من الاجتماع السنوي، ولذلك استجاب أقاربه وجهزوا النعش بسرعة. فأرجوا أن تبقوا جميعا هنا في أماكنكم بعد صلاة الجمعة.. ويخرج معي عدد محدود لمصاحبتي أثناء صلاة الجنازة أمام النعش.. وأنتم تصلون هنا في أماكنكم.

Share via
تابعونا على الفايس بوك