الغرض من بناء المساجد
التاريخ: 1983-09-02

الغرض من بناء المساجد

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

خطبة جمعة لحضرة مرزا طاهر أحمد أيده الله بنصره العزيز، الخليفة الرابع لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ألقاها في 2 سبتمبر 1983 في ناصر أباد، السند (باكستان)، قبيل سفره إلى أستراليا للقيام بجولة تبليغية.

* أعظم المساجد شأنا وأعلاها مقاما هل أول بيت وضع للناس بمكة أي الكعبة المشرفة. وآخر المساجد أي المسجد النبوي بالمدينة المنورة.

* يجدر من الجماعة أن تتعلم من أبناء هذين المسجدين وأن تدرك أنهما أُقيما لغرض واحد، هو عبادة الله تعالى.

* صلوا بإخلاص وادعوا بحرارة وإلحاح كي يتقبل الله حماسنا وشغفنا وصدق روحنا في عبادته وليجع أفئدة كثيرة تهوي إلى هذا البيت.

*  *  *  *

بعد الشهادتين والاستعاذة بالله وتلاوة الفاتحة قرأ حضرته قول الله تعالى

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (إِبراهيم: 36-39).

وقال:

في غضون أيام قلائل، سنبدأ بمشيئة الله تعالى جولتنا إلى الشرق، وفي اثناء هذه الجولة سيكون عليَّ أداء أعظم مهمة.. ألا وهي وضع حجر أساس لأول مسجد للجماعة الإسلامية الأحمدية في قارة استراليا.. سيكون مسجدًا ومقرًا للبعثة التبشيرية أي سيبنى بجوار المسجد مسكن لإقامة المبشر الذي سيتولى مسؤوليات الدعوة.

ولهذا المسجد مغزى خاص في تاريخ الجماعة الأحمدية، حيث أتيح لنا إنشاء مسجد في هذه القارة الجديدة، التي كانت خالية من المساجد حتى وقتنا هذا. وقد نادت الجماعة بأنها نقلت صورة الإسلام إلى جميع القارات.. فيما عدا هذه القارة التي جاءتها الدعوة بجهود أفراد.. إذ ليس بها بعثة منتظمة أو مسجد للجماعة.

وموقع المسجد يشغل مساحة كبيرة ومكان متميز.. والفضل لله.. فهو يبعد 50 ميلا عن المدينة الأسترالية المعروفة “سيدني”.

وسيبنى المسجد على مساحة تبلغ 27 فدانا، وهي كافية لكل نواحي نشاطات الجماعة. ولقد أخدنا هذه المساحة الكبيرة على أمل أن تمتلئ في القريب بإذن لله تعالى، ثم تضيق عن حاجات الجماعة المتزايدة بما يفوق توقعاتنا.. هذا هو دعاؤنا الذي نرفعه إلى مولانا تبارك وتعالى عند وضع حجر الأساس.

ولما كانت هذه هي خطبتي الأخيرة قبل مغادرة باكستان، فقد اخترت لها موضوع:

“بناء هذا المسجد والغرض من بناء المساجد”.

إن أعظم مساجد العالم وأعلاها مكانة.. هو المسجد الذي حققت أغراضه بعثةُ المصطفى .. هو بيت الله الحرام في مكة المكرمة.. ونحن لا نعرف التفاصيل التاريخية لإنشاء هذا المسجد، وكل ما يذكره القرآن المجيد في هذا الصدد:

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ.. .

ولقد اختار الله تعالى لفظة “الناس”، أي جميع البشر للدلالة على أن المسجد لم يُبْنَ للمسلمين أو الهندوس أو المسيحيين.. وإنما لكل بني آدم بغرض عبادة الله تعالى. لقد أريد لهذا البيت، في الوقت المناسب، أن يكون مبعثا للنبي الذي قدَّر الله أن يجتمع بنو البشر تحت لوائه في دين واحد. والواقع أن العالم اجتمع تحت يد واحدة مرتين: مرة في أوله، وثانية في آخره. لقد بدأت النبوة بآدم حينما كانت البشرية على غير انقسام.. ولا بد أنه أقام بيتا لعبادة الله تعالى.. وأنه هو الذي أنشأ هذا البيت الحرام.. ولما كان العالم غير منقسم حينئذ.. فإن آدم قد جاء للبشر جميعا.. إنه البذرة التي انتقاها الله تعالى لنشر رسالته. والمناسبة الثانية التي أمكن فيها مخاطبة الناس جميعا فقد حانت عند مجيء النبي الذي أرسل للناس جميعا، يدعوهم إلى عقيدة واحدة.. النبي محمد المصطفى .

إن التعبير القرآني فيما يتعلق ببيت الله الحرام شامل وغنيٌّ بالمعاني. إنه لم يقل بأن البيت قد بُني لابراهيم أو لموسى أو لنوح.. وإنما. إنه لم يقل بأن البيت قد بني لابراهيم أو لموسى أو لنوح .. وإنما قرر بأنه وُضع للناس.. كل الناس. وعندما قام هذا البيت كان متعلقا بالناس جميعا.. وفي آخر الأمر أيضا سيجتمع كل العالمين فيه لعبادة إله واحد.. وهذا يعني: عندما يأتي من هو “رحمة للعالمين” و”وبشيرا ونذيرا للعالمين”. ولذلك قلت بأن الغرض الرئيسي من بناء أول بيت هو بعثة محمد المصطفى . ففي بعثته يتحقق الغرض من إقامة بيت الله. إذ أنه المثل الأعلى للإيمان بوحدانية الله تعالى، والعابد الأكمل للإله الواحد.. إنه صاحب العبادة التي ارتضاها الله تعالى وقبلها.. والتي لا تعد عبادة الدنيا كلَّها إلى جانبها شيئا مذكورا.

ومتى تم بناء هذا البيت المجيد؟ لم تُذكر تفاصيل هذا البناء في تاريخ البشرية، ولم يرد ذكره إلا في القرآن الكريم الذي قال إن أول بيت وضع لعبادة الله تعالى هو الذي ببكة. ثم ذكر القرآن الكريم بعض التفاصيل عن بنائه الجديد، وبذلك احتفظ بالأحداث الرئيسية المتعلقة بإعادة تشييده على يد إبراهيم ، لتبقى إلى الأبد دليلا لمن يرغبون في بناء بيت لعبادة الله. فإذا ما شُيد بيت على نهج يخالف مثال إبراهيم ، ولا يستحضر الروح التي ألهمت إبراهيم لبناء البيت .. كان العمل خاليا من المعنى معدوم القيمة. إن الناس يشيدون بيوتا عظيمة وينفقون الملايين في بنائهما، ويجعلونها للرب، ولكنها لا تمت بصلة إلى البيت الذي شيده إبراهيم . إن بناء إبراهيم لم تنفق عليه إحدى الممالك كنوزها، ولم يضع تصميمه بيوت الخبرة المعمارية، ولم يشترك في بنائه عظماء المهندسين، ولم يدفع للعمل به أفواج العمَّال.. ولكن يذكر الله تبارك وتعالى أنه عند إعادة بناء الكعبة كان إبراهيم الوالد هو البنَّاء، وإسماعيل الإبن هو العامل. كان إسماعيل حدثا صغيرا لا يكاد يحسن السعي .. وكان نبي الله إبراهيم يبني البيت بيديه، ويجمع الأحجار، ويحفر الأساس الذي طمرته الرمال. ويحكي حضرة محمد المصطفى أنه عندما أحضر إبراهيم زوجته هاجر وابنهما إسماعيل، أخذ يتأمل المنطقة بحثًا عن بيت الله، وأخيرا وجد آثار جدار صغير غطته الرمال فدلَّه على موقع البيت العتيق الذي دمرته عوامل الزمن. فوضع إبراهيم طفله الصغير على إحدى أحجاره المكشوفة وأخذ يفكر في طريقه لإعادة بنائه.. ولكن الله تعالى أرجأ الأمر إلى الوقت الذي يشب فيه إسماعيل ويصبح قادرا على المشاركة في البناء.. وأمر إبراهيم أن يترك زوجته وطفله في الموقع ويعود إليه فيما بعد لإعادة تشييد البيت.

ولقد انطوى التدبير الإلهي بتأجيل بناء البيت على اعتبارات بالغة الحكمة.. أولها أن إسماعيل هو الجد الأكبر لمحمد المصطفى .. وكان من المقرر أن يشترك في بناء البيت مع أبيه إبراهيم ليتميز نسله عن نسل إسحاق.. ولكن صغر سنه لم يكن يسمح له وقتئذ بالمشاركة المطلوبة في بناء البيت الذي سيبعث عنده حفيده محمد .

وثانيهما أن إسماعيل قد تُرك في واد غير ذي زرع ولا ماء، ولكن الله تعالى أخبر إبراهيم بأن إسماعيل سيشترك معه في بناء البيت.. وكان هذا ضمانا وتأكيدا موثقا بأن المولى سيشمل إسماعيل بحمايته ورعايته حتى يشب ويكبر ويشترك في مهمه تشييد البيت.

لقد كان ذلك بيانا رائعا لمحبة الله تعالى لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. كما أن الواقعة كانت فرصة لكشف ثقة إبراهيم العظيمة في مولاه ، إذ ترك زوجته وابنه كلية تحت رحمته الواسعة. لقد ذكر المصطفى أنه عندما أوشك إبراهيم على الرحيل، يمم وجهه نحو اتجاه معين، تاركا لزوجته زِقًّا صغيرا من الماء وقليلا من التمر.. وأحست زوجته أنه مغادر، فسألته عن ذلك، فلم يجبها.. فأسرعت خلفه، ولكنه لم يكن في حالة تسمح له بالجواب على تساؤلها.. كانت عيناه منداة بالدموع، وخشي أن يضعف إذا تحدث إليها.. وأخيرا توسلت إليه أن يخبرها عما إذا كان يغادرهما بأمر من الله تعالى. وكان لهاجر هدف خاص من سؤالها. فقد تزوجت إبراهيم على زوجته سارة وتعرف غيرتها منها حتى أنها طلبت من إبراهيم أن يتخلص من زوجته الجديدة مرارا.. فأرادت هاجر أن تعرف ما إذا كان إبراهيم يتصرف معها بتوجيه إلهي أم أنه يلبِّي رغبة لزوجته سارة. وأجاب إبراهيم على سؤال هاجر إذ أومأ برأسه ورفع إصبعه مشيرا نحو السماء. واطمأنت هاجر، وعادت إلى طفلها إسماعيل.

لقد كانت هذه بداية قصة إعادة بناء البيت. ولم يرد في دعاء إبراهيم الذي صدر عنه وقت إعادة البناء ذكرٌ لوجود أي بلدة في جوار مكان البيت، وابتهل أن يكون الموقع مركزًا لبلدة محرَّمة، كما حكى القرآن المجيد:

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا .

وعندما أتم البناء وأقامت البلدة كان ابتهال إبراهيم..

رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا .

في تلك الأيام وقعت حادثتان عظيمتان.. إعادة بناء البيت الذي اشترك فيه الأب مع الابن، واستعداد الوالد وولده لتنفيذ ما اعتبراه أمرًا إلهيًّا يضحي فيه الأب بابنه إسماعيل. والأحداث كلها مثيرة ومجيدة. إنها تكشف عن عمق علاقة المحبة بين الله تبارك وتعالى ونبيه إبراهيم ، لقد بُني البيت هيكلا بسيطا، ولكنه كان أحب بقعة إلى الله ليعبد فيها.

وفي دعاء إبراهيم عند تجديد البيت ابتهل لله تعالى لبعثة محمد الذي سيكون سببا في عودة البيت مركزا مخصصا لعبادة الله وحده. ولقد اجيب دعاء إبراهيم تماما كما نطق به.. وفي الوقت المناسب بعث الله تعالى محمدًا المصطفى . لقد ابتهل إبراهيم قائلا:

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ.. .

إنها أربع دعوات تتعلق بمجيء المصطفى . أولها أن يتلوا الرسول آيات الله تعالى عل الناس، ثانيها أن يعلمهم الكتاب أي الشريعة، ثالثها أن يبين لهم الحكمة وراء هذا الشرع.. أي لتقتنع به قلوبهم وعقولهم، وأخيرا.. وكنتيجة لكل ما سبق، يطهرهم.

ولقد أجاب الله دعاء إبراهيم كما صدر عنه مع تعديل مناسب في الترتيب.. حسب ما حكى القرآن المجيد:

هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ.. .

إنه ترتيب إلهي ذو مغزى عظيم. تخبرنا كل الديانات السابقة أن الرسل كانت تتلو على الناس آيات الله، وتعلمهم الكتاب والحكمة وتزكيهم.. ولكن الله تعالى عندما أجاب دعاء إبراهيم قدَّم التزكية على تعليم الكتاب والحكمة.. وبهذا الترتيب الجديد رفع الله تبارك وتعالى منزلة الإسلام إلى درجة أعلى بكثير مما وصلت إليه الديانات الأخرى. لقد قدّر الله أن الأطهار ينالون بركات الإسلام. ولقد اتضح ذلك صريحا في مستهل سورة البقرة.. التي تعلن بأن القرآن المجيد:

ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ .

فالأتقياء.. الذين زكت نفوسهم، وتطهرت عقولهم وقلوبهم.. يجدون فيه الهداية الكاملة.. وتحقق فيهم وبهم أهدافه السامية.

إن المنزلة المجيدة للمصطفى لتبدو جليلة إذ يتزكى أصحابه قبل أن يكتمل تعليمهم الكتاب والحكمة.. لقد أُوتي من الخصائص ما يكفل لمن يصحبه التزكية المطلوبة.. مما يتيح له الإدراك الصحيح لتعاليم الإسلام وحكمه. ولقد أحسن سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود في التعبير عن هذا المعنى في إحدى قصائده الفارسية حيث قال ما معناه:

“إن أدرتَ الدليل على صدق محمد، فكن من عشاقه.. فمحمد هو نفسه الدليل على صدقه وصلاحه”.

نعم، إن أعظم الآيات التي تنهض دليلا على صدق المصطفى وصلاحه.. هي خلاله الكريمة وصفاته الجليلة. إن قدرته على التطهير تزكي كل إنسان، ومن ثم تعده وتؤهله ليتقبل صبغة الله تعالى.

هكذا كان الدعاء الإبراهيمي عندما اكتشف آثار البيت بعد بحث مضن وجهد كبير، امتثالا للتوجيه الرباني. ما كان إبراهيم عارفًا بتقويم البلدان ومواقع الآثار.. وما كان يحمل أجهزة الكشف والتنقيب ومعرفة الاتجاهات.. ولكنه رأى كشفًا، فأخذ زوجته وولده، وقطع الفيافي والقفار في رحلة تمتد مئات الأميال.

وما أن تعرف على البقعة المطلوبة حتى ترك زوجته وطفله عندها، وقفل راجعًا من حيث أتى.. واضعا ثقته الكاملة في الله ، مقتنعًا تماما أنهما عند الموضع حيث يقوم البيت الذي سيكون أكرم البيوت.

إن البناء المادي لا يحمل كل هذا القدر من الأهمية.. إن كثيرا من الحكومات تبني بيوتا لله تعالى تكلف أضعاف ما تعهد به أعضاء الجماعة الإسلامية الأحمدية لعيدنا المئوي.. ولسنا نبتغي مثل هذا الهدف، ولسنا نهتم بمثل هذه المقاصد إن غرضنا أن نبني ما ينظر الله إليه بعين المحبة، وما يعد مجيدا عند أنبياء الله. إن أول بناء من هذه الأبنية قام بشكل بدائي بسيط متواضع.

وهناك بناء آخر يحمل اسم (آخر المساجد).. وهو مسجد الرسول المصطفى الذي أنشأه بعد هجرته إلى المدينة. ولم يكن لهذا المسجد سقف من الآجر أو القرميد.. فإذا ما نزل المطر صار فناؤه موحلا، فيلطخ جباه الساجدين وأنوفهم.. ولكن هذا المسجد عند الله يتربع على قمة من التقدير لا يدنو منها مسجد آخر.

إن دعائي، كلما شيدنا مسجدا، أن نسير في طريق هذين المسجدين، ينبغي أن نبني مساجدنا بالدعاء والدموع.. ونطرد من أذهاننا التفكير فيما إذا كان العالم يرضى أو لا يرضى عن مظهرها المادي.

ينبغي أن ندعو كما ابتهل إبراهيم: ربنا املأ هذه المساجد بالمصلين الذين يصدقون ويخلصون في عبادتهم. لقد أعرب إبراهيم في دعائه عن اشمئزازه التام بعبادة الأصنام التي أحدثت في العالم ضلالا عظيما وقال:

وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ،

أي أن من اختار طريقة تجنب عبادة الأصنام فهو منه، ومن عصاه فخالف طريقته فلا شأن له به.. ولكنه يلتمس له من الله المغفرة والرحمة.

ولقد وصل دعاؤه إلى ذروته في قوله:

رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ .

لقد ترك بعض أهله وذريته في واد قفر..عند بيت الرحمن المقدس.. بغرض أن يكونوا محافظين مداومين على عبادة الله وحده.. لا يشركون به شيئا. والرجاء في الله تعالى رب البيت أن يجعل قلوب الناس تميل إليهم.. وأن يسوق إليهم الثمرات على اختلاف أنواعها.. فلا يحزنون ولا يهتمون وإنما يكونون من الشاكرين. ويعلن إبراهيم أنه قد أقام البيت لله تعالى دون أحد سواه.. ولكن إذا كان في القلب ما لا يدركه فالله تعالى لا تخفى عليه خافية في الكون.. ولا يستطيع أحد أن يُخفي عنه شيئًا بقصد أو بدون قصد.

ينبغي للجماعة الإسلامية الأحمدية أن يأخذوا العبرة والدرس من هذين المسجدين الذين ذكرتهما: أعني المسجد الحرام أول المساجد والمسجد النبوي آخر المساجد.. وأن يذكروا دائما أنهما أقيما فقط لعبادة الله تعالى. إننا لو وضعنا البرامج لبناء المساجد هنا في أستراليا.. وفي كل قارات الدنيا.. بل وفي كل مدينة وقرية.. ولم تكن قلوب البانين عامرة بالتقوى.. وافتقدوا المقدرة على استعمال بيوت الله كما ينبغي.. وافتقروا إلى خصال إبراهيم.. ولم يحوزوا الروح التي تميزت بها عبادة المصطفى .. ولم يكن حافزهم الإخلاص الكامل لله تعالى، ولم يتحلوا بحلية العباد الصالحين التي يتزينون بها في بيوت الله.. إذا كان الحال كذلك لا سمح الله، فإن البيوت تكون عندئذ لا معنى لها.. ويكون السعي لبنائها بلا فائدة.. ويكون ما أنفق فيها مالا ضائعا.. والعياذ بالله.

وإذن فكلما قامت الجماعة الأحمدية ببناء مسجد، وجب على أعضائها أن يوطدوا في أنفسهم عبادة الله تعالى بتصميم متجدد.. في كل مرة أسافر فيها إلى الخارج لهذا الغرض ينبغي أن أكون مقتنعا بأن أعضاء الجماعة يتقدمون.. فمن كان منهم ضعيفًا في عبادته ازداد قوة، ومن كان منهم مواظبًا في عبادته ازداد كمالاً.

ينبغي أن أشعر في سفري أن أعضاء الجماعة يمضون قدمًا في عبادتهم لله بما يوجِّه نظرات محبته ورحمته نحونا. إن عبادتكم للمولى هي التي تسبغ المجد على برامج بناء المساجد وتملؤه بالإخلاص والصدق.

عليكم أن توطنوا أنفسكم على العبادة بإخلاص، تعلَّموا أداء العبادة حق الأداء، علِّموا عائلاتكم الصلاة على وجهها الصحيح، ودرِّبوهم على المواظبة فيها وفهم معانيها فهما كاملا. ازرعوا محبة الله تعالى في قلوب أُسركم وادعوا لهذا الزرع المبارك. إذا فعلتم ذلك فسترون كيف أن الله تعالى الذي أمال قلوب الناس نحو أول بيت وضع لله، سيميل قلوب أهل أستراليا نحو هذا “البيت الجديد”.. وعندئذ لن تقدر قوة على الأرض من وقف وفودهم إلى هذا البيت.

إن أستراليا من الوجهة الروحانية صحراء، والبيت الذي نشيده فيها يشبه البيت الذي شيده إبراهيم عليه السلام. فقد قام في موقع صحراوي مهجور ماديا وروحانيا. وأستراليا برية قفر تماما.. صلوا وابتهلوا إذن بكل إلحاح وإصرار.. لعل الله تعالى يرضى ويتقبل هذه الروح الصادقة في برنا وإخلاصنا وعبادتنا.. وأن يتفضل علينا فيميل قلوبا كثيرة نحو هذا البيت الذي نشرع في تشييده، وألا يبقى هذا البيت وحيدا وإنما يكون، بعونه، نموذجا لآلاف وآلاف من البيوت التي تبنى هنا لعبادة الله .. وأن تمتلأ جميعها بعبَّاد الله.

هذا هو هدف حياتنا وهذه هي جنتنا، هذا هو رضوان الله تبارك وتعالى. فإن أسبغه علينا آمنا بأننا قد أفلحنا في هذه الحياة وحققنا الغرض من وجودنا.

Share via
تابعونا على الفايس بوك