قدسية القرآن الكريم

قدسية القرآن الكريم

مصطفى ثابت

تُثار في الغرب مزاعم كثيرة ضد التحدي القرآني القائل بأنه لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله. ويُقال أيضا بأنه ليس بالضرورة من وحي الله تعالى، بل إن محمدًا كان طفرة من بين البشر. إذ يقولون إنه حسب قانون الطفرة يُمكن أن يُؤتى فرد من الأفراد موهبة فائقة أو قدرة خارقة، لا يماثله فيها أحد من البشر.

وعلى هذا.. فإن كان القرآن كتابا فريدا لم يستطع أحد أن يأتي بمثله، فلا يدل هذا بالضرورة على أن ذلك الكتاب من وحي الله تعالى، بل يمكن القول بأن محمدا كان رجلا عبقريا.. وإنه كان طفرة من بين البشر.

اقرأ الرد على هذا البهتان وافحص الدلائل على أن القرآن نزل من عند الله، من خلال كتاب: القرآن معجزة الإسلام الذي سننشره عبر حلقات في هذه الزاوية.   «التقوى»

الفصل الثالث

القدسيــة

السمة الثالثة من سمات القرآن الكريم هي القدسية. وحين نتحدث عن قدسية القرآن فإننا نعني بذلك أنه كتاب مُنـزّه مصدره الله تعالى. ويُقال عن الكتاب الذي يجمع التوراة والإنجيل إنه الكتاب المقدس. ووصف أي كتاب بأنه مقدس لا يعني بتاتا أنه كتاب يُعبد من دون الله، أو أن هذا الكتاب جزء من الإله، فحاشا للإله أن يكون له جزء. ويُقال عامّة عن الكتب المنـزّلة من عند الله تعالى إنها كتب مقدسة، وليس وصف التقديس لكتاب من الكتب سوى أنه تأكيد على أن مصدره هو الله تعالى، وأنه ليس من بنات أفكار البشر.

وبهذا المعنى نقول إن القرآن كتاب طاهر ومقدس، لأنه جاء من عند الله تعالى. ولكن.. أليست جميع الكتب المقدسة جاءت من عند الله تعالى؟ لا.. إن الكتاب الذي لا يُعلن صراحة أنه كتاب مقدس.. أي أنه نزل من عند الله، لا يصح أن تُخلع عليه هذه الصفة، حتى ولو اعتقد فيه أتباعه أنه كتاب مقدس.

ولنأخذ مثلا على ذلك ما يسمى بكتاب “الأقدس” وهو الكتاب الذي يعتبره البهائيون كتابهم المقدس، ويزعمون أنه نزل من عند الله. ولكن الكتاب نفسه لا يقول ذلك، وليس في أي جملة منه.. ولا في أي كلمة فيه.. ما يؤكّد على أنه وحي من عند الله، وإنما كتبه بهاء الله الذي ادّعى أنه “مظهر الله”. وبطبيعة الحال.. لقد أراد بهاء الله أن يُقنع الناس بأنه مظهر الله.. بنفس المعنى الذي يفهم به بعض المسيحيين شخصية السيد المسيح، حيث إن الكثير من الفرق المسيحية تعتبر أنه هو الله.. أي اللاهوت الذي تجسّد في جسد المسيح وصار هو الناسوت. وبنفس هذا المعنى أراد بهاء الله أن يقول إنه هو الناسوت للاهوت، وبهذه الصفة فإن اللاهوت الذي حل به هو الذي أنزل كتاب “الأقدس” الذي يعتبره البهائيون كتابهم المقدس.

وأمّا ادّعاء بهاء الله بأنه “مظهر الله” فهذا لا غُبار عليه، لأن كل مخلوقات الله هي مظهر الله، الحجر والهواء والماء.. كلها من مظاهر الله. ومعنى مظهر الله هو أن الشيء الموصوف بهذه الصفة يُظهر الله، لأنه يُبين وجوده ويُثبت كينونته، ولكن ليس معناه أبدا أن الله قد ظهر فيه فصار هو الله، مثلما أراد بهاء الله أن يُقنع الناس باستخدامه المعوج لهذا اللفظ.

ولسنا هنا في معرض تفنيد آراء البهائية أو الرد على تعاليمها المغلوطة، ولكننا أردنا فقط أن نعطي مثالا لبعض الكتب التي يعتبرها أتباعها كتبا مقدسة.. أي منـزّلة من عند الله تعالى.. بينما لم تدّع تلك الكتب بتاتا أنها من وحي الله. وعلى ذلك.. يمكن القول بأن كل الكتب التي نزلت من عند الله هي كتب مقدسة، ولكن ليست كل الكتب التي تُعتَبر كتبا مقدسة قد نزلت من عند الله.

والمسلمون عموما يؤمنون بأن الله تعالى قد أنزل الإنجيل على المسيح عليه السلام، والإنجيل معناه البشارة أو البشرى، وتتضمن هذه البشارة أنباءً عن قرب ظهور ملكوت الله. وقد تحققت نبوءات هذه البشارة بظهور الرسول الأعظم الذي أنزل الله عليه القرآن المجيد، وأكمل بذلك الدين وختم الشريعة وأتم النعمة، ووعد سبحانه بحفظ ذلك الكتاب العظيم إلى يوم القيامة. وبذلك فإن ملكوت الله الذي تحدث عنه الإنجيل قد تم تأسيسه على الأرض بمجيء الإسلام.

وقد أوحى الله تعالى للسيد المسيح عليه السلام هذه البشارة.. أي الإنجيل.. وذكرها المسيح لتلاميذه وحوارييه، وهؤلاء أخبروا غيرهم وغيرهم. ثم بعد انقضاء عشرات من السنين، أراد الناس تدوين تلك الوقائع فبدأوا يكتبون عنها. وكثرت الكتابات.. حتى يُقال إنه كان هناك ما يزيد عن الستين إنجيلا.. كتب أكثرها أشخاص لم يعيشوا مع السيد المسيح، ولم يتعلموا منه، ولم يتلقوا منه شيئا. ويدل على ذلك ما سجله لوقا بخط قلمه في بداية الإنجيل الذي يحمل اسمه.. أي إنجيل لوقا، فقال في الإصحاح الأول وفي أول فقرة منه:

“إذ كان كثيرون قد أخذوا في تأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا كما سلّمها إلينا الذين كانوا منذ البدء مُعاينين وخُدّاما للكلمة، رأيتُ أنا أيضا.. إذ قد تتبعتُ كل شيء من الأول بتدقيق.. أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلُس لتعرف صحة الكلام الذي عُلّمتَ به”

وتشرح هذه الفقرة بكل جلاء أن كثيرين قد أخذوا في تأليف القصص عن الأمور التي ذكرها السابقون من الناس.. أولئك الأسلاف الذين عاينوها وشاهدوا أحداثها. وهنا يعترف لوقا.. كاتب الإنجيل.. أنه ليس من أولئك الذين حضروا المشاهد، ولا هو من الذين رأوا الوقائع، ولا هو من ضمن الذين عاشوا تلك الأحداث، وإنما أولئك الأسلاف الذين عاينوها هم الذين سلّموا إلى من تبعهم تلك القصص حتى وصلت إلى لوقا. ولما كان الكثيرون قد أخذوا يؤلفون القصص عن هذه الأمور، أراد هو أيضا أن يكتب إلى صديقه ثاوفيلس عن تلك الأمور.

لم يدّع لوقا بتاتا أنه تلقى وحيا من الله، ولم يدّع أبدا أن ما يكتبه قد أُنزِل من عند الله أو أنه ليس من بنات أفكاره. ولكن من جاءوا بعده.. اعتبروا أن إنجيل لوقا كتاب مقدس، لأنه يقال إن الكنيسة الرومانية حين أرادت أن تقرر أي الأناجيل هي الأناجيل المقدسة.. من بين كل الأناجيل التي كانت موجودة ومتداولة والتي زاد عددها عن 60 إنجيلا.. وضعت الكنيسة جميع تلك الأناجيل على منضدة مستديرة مثبتة على محور بحيث تكون حرة الحركة والدوران، ولما أداروا المنضدة بدأت تلك الأناجيل تتساقط من على المنضدة بتأثير قوة الطرد المركزية، التي ظنوا أنها من تأثير روح القدس، وبقيت على المنضدة أربعة أناجيل فقط، فاعتبروا أن الله هو الذي قضى أن تبقى هذه الأناجيل على المنضدة لأنها “كتب مقدسة”. وبطبيعة الحال.. كان من بينها إنجيل لوقا الذي سبق ذكره.

كان هناك ما يزيد عن الستين إنجيلا.. كتب أكثرها أشخاص لم يعيشوا مع السيد المسيح، ولم يتعلموا منه، ولم يتلقوا منه شيئا. ويدل على ذلك ما سجله لوقا بخط قلمه في بداية الإنجيل الذي يحمل اسمه..

ولإثبات قداسة الأناجيل الحالية، يستشـهد المسيحـيون بفقرة كتبـها بـطرس في رسـالة له قال فيها:

“لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلّم أُناس الله القديسين مسوقين من الروح القدس” (رسالة بطرس الثانية، الإصحاح الأول- فقرة:21)

وحينما ننظر فيما كتبه بطرس الرسول، الذي كان أحد حواريي المسيح عليه السلام، نجد أنه قد بدأ رسالته التي تضمنت الجملة السابقة بما يلي:

“سمعان بطرس عبد يسوع المسيح ورسوله إلى الذين نالوا معنا إيمانا ثمينا مُساويا لنا ببر إلهنا، والمخلص يسوع المسيح”

وهنا أيضا يُقرّ بطرس الرسول بأنه هو الذي يكتب بقلمه إلى إخوته في الإيمان. لم يقل إن ما يكتبه كان وحيا من عند الله. والجملة التي ذكرها مؤكدا على أنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان، لا تثبت أبدا أن كل ما يكتبه.. هو أو غيره.. يكون وحيا من عند الله، أو أن ما قررت الكنيسة أنه كتبٌ مقدسة قد أُنزل فعلا من عند الله. كذلك فإن ما ذكره من أن أُناس الله القديسين قد تكلموا مسوقين من الروح القدس، لا يعني بتاتا أن كل كلام القديسين كان وحيا من عند الله تعالى. ومن الواضح أن هذه جملة عامة، ولا يصح تعميمها على كل الكتابات التي قررت الكنيسة أن يضمها الكتاب المقدس بشكله الحالي.

أما القرآن المجيد.. فقد أعلن مرارا وتكرارا، وأكّد على أنه كتاب نزل من عند الله تعالى كما في قوله:

الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ (الكهف:2) الله الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ (الشورى:18) الرَّحْمَـنُ * عَلَّمَ الْقُـرْءَانَ (الرحمن: 2-3)

وأمر الله تعالى رسوله الكريم أن يُعلن للناس بأن الله هو الذي أنزل هذا الكتاب، فقال:

قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً، قُلِ الله شَهِيدٌ بَيْني وَبَيْنَكُمْ، وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لأُنْذِرَكُمْ بِه (الأنعام:20) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فيِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (الفرقان:7) أَفَغَيْرَ اللهِ أَبتغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إليكمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً، والَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَـابَ يَعْلَمُونَ أَنَّـهُ مُنَـزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَـقِّ فَلاَ تَكُونَـنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (الأنعام:115)

إن هناك العشرات من الآيات الكريمة تعلن بكل وضوح، وتؤكد بكل جلاء على أن القرآن كتاب أُنزل من عند الله تعالى، وأنه تـنـزيل العزيز الحكيم. لم يترك القرآن هذا الأمر مغلفا في ستائر من الشك، ولم يدعه لاستنتاج العقل البشري، ولم يصفه بجملة وحيدة عامة.. يمكن أن تُفهم على هذا المعنى أو ذاك، بـل بيَّنه بعشـرات من الآيات البيـنات.

ورغم كل هذا.. تظل دعوى القرآن بأنه كتاب أوحاه الله تعالى وأنزله الله من عنده.. تظل هذه الدعوى مجرد دعوى خاوية إن لم يكن هناك ما يؤيدها من الأدلة والبراهين. إن من يؤلف كتابا قد يدعي ما شاء من الادعاءات، وليس مجرد تكرار الادعاء بقضية ما.. هو الذي يُثبت صدقها. وعلى هذا.. مهما قال القرآن.. ومهما ذُكر فيه أنه كتاب مُنـزل من عند الله.. فإنه لا يدل بالضرورة على صدق هذه الدعوى، إن لم يقدم الكتاب الأدلة والبراهين على أنه فعلا منـزل من عند الله، وأنه بالفعل وحي من الله تعالى، فإن مجرد الادعاء.. أو تكراره عشرات المرات.. لا يثبت أبدا أنه كتاب مقدس نزل من عند الله تعالى.

أما إذا كان الكتاب لا يدعي أصلا أنه نزل من عند الله، ولا يذكر بصراحة ووضوح أنه من وحي الله، فلا ينبغي أن نضفي نحن البشر عليه صفة لم يدَّعِها مؤلف ذلك الكتاب، الذي يقول فيه إنه كتبه لصديقه أو إنه كان مجرد رسالة أرسلها الكاتب إلى إخوته في الإيمان. أما إذا كان المؤلف مجهول الهوية، أو كان الكاتب غير معروف على وجه التحديد.. مثل بعض الرسائل التي يحتويها العهد الجديد من الكتاب المقدس، فلا يصح أن نصف نحن هذه الكتب أو الرسائل بأنها من وحي الله تعالى.

ومرة أخرى نقول إن الكتاب الذي لا يذكر.. بصراحة ووضوح وجلاء.. أنه من وحي الله لا يجوز أن يوصف بالقدسية. أما إذا أعلن الكتاب بكل صراحة وبيّن بوضوح وجلاء أنه من وحي الله، فإن عليه أن يُقدم الدلائل والبراهين على أن دعواه صادقة، وأنه بالفعل من عند الله.. وإلا فإن دعوى القدسية تسقط عنه ولا يجوز وصفه بها.

فما هي تلك الدلائل والبراهين التي قدمـها القرآن الكريم وأثبت بها أنـه كتاب مُنـزَّل من عند الله تعالى؟            (يُتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك