شواهد تاريخية تكشف كذب المفترين

شواهد تاريخية تكشف كذب المفترين

مصطفى ثابت

السيرة المطهرة (34)

تحت سلسلة السيرة المطهرة يتناول الكاتب

سيرة حضرة ميرزا غلام أحمد

الإمام المهدي والمسيح الموعود

من حياة حضرته المطهرة

في الحلقة السابقة رأينا كيف أنَّ كلا من المولويين المسلمين والمبشرين المسيحيين استنكروا ما أعلنه الإمام المهدي عن وفاة عيسى بن مريم عليهما السلام، مما حدا بهم إلى مناصبته العداء والعمل على التخلُّص منه واستعداء السلطة الإنجليزية ضده وتحريض الحكومة عليه. وكانت الحكومة الإنجليزية قد عانت الكثير على أيدي أتباع محمد أحمد المهدي الذي عُرف بمهدي السودان، مما دفعها إلى التوجُّس شراً من سيدنا أحمد ومن جماعته، فوضعته تحت مراقبة الشرطة حين أعلن أنَّ الله قد بعثه إماماً مهدياً ومسيحاً موعوداً. كان لسيدنا أحمد موقف واضح تجاه نظام الحكومة الإنجليزية لأنها قد كفلت الحرية الدينية وأقامت العدل في ربوع البلاد ورفعت المظالم التي كان يتعرَّض لها المسلمون على يد السيخ والهندوس.

سيدنا أحمد يدعو ملكة بريطانيا إلى الإسلام

وفي خطاباته إلى الحكومة البريطانية، كان يحرص على انتقاء الكلمات الطيبة، والأساليب التي تعبّر عن الاحترام والتقدير، خاصةً عندما كتب إلى الملكة فيكتوريا يدعوها إلى الإسلام. فهذه سُنّة الأنبياء، وهذا هو خُلُقُ المرسلين. وكانت هذه هي وصية الله تعالى لموسى وأخيه هارون عليهما السلام، حينما بعثهما إلى فرعون إذ يقول تعالى:

اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (طه: 44-45)

وكذلك يقول تعالى في كتابه العزيز.. وصيّةً لرسوله الكريم ولكل المسلمين:

ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (النحل: 126)

ونقتطف فيمايلي بعض العبارات التي وجّهها سيدنا أحمد في رسالته التي كتبها باللغة العربية أيضاً إلى الملكة فيكتوريا عام 1893 وقال فيها:

«أيتها المليكة المكرّمة.. إني فكّرتُ في نفسي في كمالاتكِ، فوَجَدتُكِ أنّكِ حاذقةٌ.. يَمُرُّ رأيُكِ في شِعابِ المعضَلاتِ مَرَّ السَّحاب، وتَزفُّ مَداركُكِ في الغامضات كزّفِّ العُقابِ، ولك يَدٌ طُولَى في اسِتنباطِ الدقائقِ، ومَآثِرُ غَرَّاءُ في تفتيش الحقائقِ، وأنتِ بفضل الله مِن الذين يُصيبون في استقراء المَسالِكِ ولا يُخطئون. أنتِ يا مَليكةُ، تَستَشِفِّنَ كلَّ جوهرٍ نقيٍّ، وتَستَنبطينَ دقائقَ الـــمَعْدِلةِ بفكرٍ دقيقٍ وذهنٍ ذكيٍّ، وإنَّ لكِ في هذه اللِّياقة مَآثِرَ حُلْوَ المـــَذاقةِ، مَليحَ السِّياقةِ، ويحمَدكِ المحمودون. فالآن قد أُلْقِيَ في بالي، بعدَ تصوُّرِ كمالاتِكِ وحُسنِ صِفاتِكِ، التي تَضوَّعتْ ريحُها في العالَم، أن أُخبِرَكِ مِنْ أمرٍ عظيمٍ، ليرتَفِعَ به قَدَرُكِ عند ربٍّ كريمٍ، وما أذكُره إلا بفَورَةِ إخلاصي، لأنَّ إخلاصي قد اقتَضى أن أدعُوَكِ إلى خيرِكِ، ولا أُلغِي لَوازِمَ شُكرِكِ، وإنَّما الأعمال بالنيَّات، وبصدقِ النيّة يُعرَف المخلِصون. وما كان لمخلِصٍ أن يَستشعِرَ أمراً فيه خيرُ مُحسِنِه بل يَستعرِضُ متاعَه له ولا يكون من الذين يكتُمون.

أيتها المليكة الكريمةُ الجليلةُ.. أَعْجَبَنِي (أي أثار عجبي) أنك مع كمالِ فضلِكِ، وعِلمِكِ وفِراستِكِ، تُنكِرينَ لدينِ الإسلامِ، ولا تُمعِنينَ فيه بعيون التي تُمعِنينَ بها في الأمور العِظامِ. قد رأيتِ في ليلٍ دَجَى، والآن لاحَتِ الشمسُ.. فما لكِ لا تَرَينَ في الضُحى؟

أيتها الجليلةُ، اعْلَمي – أيّدك اللهُ – أنَّ دِينَ الإسلامِ مَجمَعُ الأنوارِ، ومَنبَعُ الأنهارِ، وحديقةُ الأثمارِ، وما مِن دينٍ إلا هو شُعْبتُه. فانظُري إلى حِبْرِه وسِبْرِه وجَنَّته، وكُوني من الذين يُرزَقونَ منه رزقاً رغداً ويَرتَعون. وإن هذا الدينَ حَيٌّ مَجمَعُ البركات، ومَظهَرُ الآياتِ، يأمُر بالطيباتِ، ويَنهَى عن الخبيثات، ومَن قال خلافَ ذلك أو أَبانَ فقد مانَ، ونعوذُ بالله من الذين يفترون. فبما إخفائِهم الحقَّ وإيوائِهم الباطلَ لَعَنَهم الله ونَزَعَ من صدورهم أنوارَ الفطرة، فنَسُوا حظَّهم منها، وفرِحوا بالتعصُّبَات وما يصنعون.

أيتها المليكة.. إنّ هذا القرآنَ يُطهِّر الصدورَ، ويُلقي فيها النورَ، ويُرِي الحبورَ الروحانيَّ والسرورَ، ومَن تَبِعَه فَسَيَجِدُ نوراً وجَده النبيّون. ولا يُلقَّى أنوارَه إلا الذين لا يُريدون عُلُّواً في الأرض ولا فساداً، ويأتُونه راغِباً في أنواره، فأولئك الذين تُفتَّح أعينُهم، وتُزكَّى أنفسُهم، فإذا هم مُبصرون. وإنّي بفضل الله من الذين أعطاهم الله مِن أنوارِ الفرقان، وأصابَهم مِن أَتَمِّ حظوظِ القرآنِ، فأنارَ قلبي ووجَدتْ نفسي هُداها، كما يجِدُ الواصلون. ثم بعد ذلك أرسَلَني ربّي لدعوةِ الخَلقِ، وآتاني من آياتٍ بيٍّنةٍ، لأدعُوَ خَلقَه إلى دينه، فطوبى للذين يَقبَلونني، ويذكُرون الموتَ، أو يطلُبون الآياتِ، وبعد رؤيتها يؤمنون.

أيتها الملكة الكريمة.. قد كان عليك فضلُ الله في آلاءِ الدنيا فضلاً كبيراً، فَارْغَبي الآن في مُلكِ الآخرةِ، وتُوبي واقْنُتِي لربٍّ وحيد لم يَتَّخِذ ولداً، ولم يكن له شريكٌ في المــُلك وكَبِّريه تكبيراً. أتَتَّخِذونَ من دونه آلهةً لا يَخلُقونَ شيئاً وهم يُخلَقون؟ وإن كنتِ في شكٍّ من الإسلام فها أنا قائمٌ لِإراءةِ آياتِ صدقِهِ. وهو معي في كل حالي، إذا دعَوتُه يُجيبني، وإذا نادَيتُه يُلبيّني، وإذا استَعَنتُه ينصُرني، وأنا أعلَم أنّه في كلّ موطنٍ يُعينني ولا يُضيعني. فهل لكِ رغبة في رُؤية آياتي، وعِيَانِ صدقي وسَدادي، خوفاً من يومِ التنادي؟ يا قيصـرة، تُوبي تُوبي، واسمَعي اسمَعي! بارَكَ اللهُ في مالِكِ، وكلّ ما لَكِ، وكنتِ من الذين يُرحَمون. فإن ظهَر كذِبي عند الامتحان، فوالله إنّي راضٍ أن أُقتَّلَ أو أُصلَّبَ أو تُقَطَّعَ أيدي وأرجُلي، وأُلحَقَ بالذين يُذبَحون. وإن ظهَرَ صِدقي فما أسأَلُ أجراً مِنكِ، إلا رُجوعَكِ إلى الذي خَلَقَكِ، وربَّاكِ وأَعزَّكِ، وآتاكِ كلَّ ما سأَلتِ. فاسمَعي دعوتي، يا مَليكةَ المملكةِ العظيمةِ وقيصَرةَ الهندِ، ولا تَكُوني مِن اللذين يُشمَئِزُّ قلوبُهم عند ذكر الحقِّ ويُعرِضون.

أيتها القيصرة الكريمةُ الجليلةُ – أَذْهَبَ اللهُ أحزَانَكِ، وأطالَ عمرَكِ وعمرَ فِلْذِ كَبِدِكِ، وعافاكِ وحَفَظكِ مِن شرِّ الأعداءِ والحسَداءِ – إنّي كتبتُ هذه الوصايا خالصاً لله رحماً عليك وعلى عُقباكِ، وأدعُو لكِ بركاتِ الليلِ وبركاتِ النهارِ، وبركاتِ الدولةِ وبركاتِ المضمارِ.

يا مليكةَ الأرضِ.. أَسْلِمي تَسلَمِين. أَسلِمي مَتَّعَكِ اللهُ إلى يوم التنادي، وسَلِمْتِ وحُفِظتِ من الأعادي، ويحفَظك من الله الحافظون……

أيتها المليكة! أنا أحد المسلمين، رزقني الله عِرفانهُ، وأعطانِي نُوره وضِياءه ولمعانه، وأظهرَ عليَّ ملكوتَ السماواتِ وحَبَّبَها إلى بالي، وأراني مُلكَ الأرض وكَرَّهَهُ إلى قلبي وصرَف عنه خيالي، فاليوم هو في أعيني كَجيفةٍ أو أَنتَنَ منها، وكذا زينة الحياة الدنيا والمال والبنون.

وفي آخرِ كلامي أنصَحُ لك يا قيصرة، خالصاً لله.. وهو أنَّ المسلمين عَضُدُكِ الخاصُّ، ولهم في مُلْكِكِ خصوصيةٌ تفهَمينها، فانظُري إلى المسلمين بنَظَرٍ خاصّ، وأَقِريَّ أعينَهم، وأَلِّفي بين قلوبهم، وَاجْعَلي أكثَرَهم من الذين يُقرَّبون. التفضيلَ.. التفضيلَ! التخصيصَ.. التخصيص! وفي هذه بركاتٌ ومَصالِحُ. أَرْضِيهم فإنَّكِ وَرَدتِ أَرْضَهم، ودَارِيهم فإنَّك نزَلتِ بدارِهم، وآتاك اللهُ مُلكَهم الذي أُمِّروا فيه قريباً من ألفِ سنةٍ مما تعُدّون. فاشكُري رَبَّك وتَصَدَّقي عليهم، فإنَّ الله يُحبُّ الذين يتصدَّقون. المــُلكُ لله، يُؤتي من يشاء، ويَنزِعُ ممن يشاء، ويُطيلُ أيامَ الذين يشكُرون.» (مرآة كمالات الإسلام، الخزائن الروحانية ج 5 ص 528-536)

هذا هو أسلوب الأنبياء.. وهذه هي أخلاق المــُرسلين. إنهم يقولون الحقّ مهما كان مُرَّاً.. ولكن بأسلوبٍ مهذّب، ويدعون إلى طريق توحيد الله تعالى مهما كان الطريق شاقّاً وصعباً.. ولكن بالقول الليّن وبالحكمة والموعظة الحسنة وبالتي هي أحسن. لقد كان حضرته يُخاطب الملكة فيكتوريا.. إمبراطورة بريطانيا العظمى.. الملكة التي كانت الشمس لا تغيب عن مملكتها ومناطق نفوذها، ويدعوها إلى التوبة عن اتخاذ آلهةٍ من دون الله، ويقول لها أن ترغب في مُلك الآخرة، وأنَّ مُلك الأرض في عينه كالجيفة أو أنتن منها. يدعوها لتُسلِم فتَسلَم، ويؤكِّد أنه يفعل ذلك رحمةً بها، وأنّه لا يطلب منها أجراً على ذلك إلا رجوعها إلى الذي خلقها وربَّاها.

سيدنا أحمد ينتقد تصرَّفات الحكومة الإنجليزية

ومع ذلك فإنّه إذا رأى أمراً مُنكراً فعلته الحكومة لَفَتَ النظر إليه وانتقد ما يراه خطأ، ومن ذلك ما كتبه يقول فيه ما تعريبه:

«إننا لا نعتقد بعصمتها (أي الحكومة الإنجليزية) عن الأخطاء، ولا نرى قوانينها مبنيةً على الحكمة، إذ الأصل في وضع قوانينها هو الجنوح إلى رأي الأكثرية، مع أنّه لا يتنَزَّل على الحكومة وحيٌ حتى لا تُخطئ في سنِّ قوانينها. ولو كانت القوانين البشرية معصومةً من الأخطاء فلماذا التبديل فيها والتجديد؟» (نور القرآن، الجزء الثاني، الخزائن الروحانية ج 9 ص 378)

ثم يسأل القسِّسين المسيحيين ما تعريبه:

«كيف يمكن لجنود هذا الدين (أي المسيحية) الاستعفافُ عن الفجور والزنا وهم لا يستطيعون أن يعيشوا حياة الرهبان لأنهم يهتمون اهتماماً كبيراً للمحافظة على قوتهم البدنية، حيث يشربون الخمور.. ويأكلون لذيذ الأطعمة ونفيسها، مما يُثير شهواتهم، ويزيد في نشاطهم لتأدية واجباتهم العسكرية، كما هو مشهود في فِرق الجيش البريطاني؟ فكيف يمكنهم أن يحموا أنفسهم من الزنا. تُرى هل يوجد في الإنجيل قانون يُحافظ على عفّة الجنود؟ وإن كان فيه قانون أو علاج لهؤلاء العُزّب فلماذا اضطرت الحكومة الإنجليزية إلى سنِّ القرار الثالث عشر من قوانين النظام العسكري المختصّ بمعسكراتها عام 1889.. الذي يأذن للجندي البريطاني الاتصال الجنسي بالمومسات؟ حتى إنَّ السير جورج رايت Sir George Right  القائد العام للجيوش البريطانية بالهند، حضَّ موظفي الجيش على استجلاب أجمل الفتيات وأفتنها لزنى الجنود البريطانيين. والواضح أنه لو كان في الإنجيل علاجٌ لتدارك مثل هذه الضرورات، التي ألجأت الحاكم إلى اتخاذ هذه الإجراءات المخجلة، لما لجأوا إلى دفع جنودهم لهذه السُبل الخبيثة، بدلاً من الطرق المشروعة.» (نور القرآن – الجزء الثاني، الخزائن الروحانية ج 9 ص 451)

وقد وصف الحكومة مرةً في أحد كتبه بما نصّه:

«وكلُّ عقلٍ عندها إلا عقل الدين، ونرجو أن يفتح الله عليها هذا الباب أيضاً كما فتح أبواباً أخرى، والله أرحم الراحمين». (نور الحق، الجزء الأول، الخزائن الروحانية ج8 ص36)

أما المبشِّرون المسيحيون الذين كانوا يتطاولون بأقلامهم على الإسلام، ويبذأون بألسنتهم على أكرم الرسل وخير الأنام، ويتفاحشون في وصف كتاب الله الفرقان، فكان يحاربهم بنفس أسلحتهم، ويلذعهم بالنقد الجارح، ويلسعهم بالأوصاف التي تليق بهم وبأقوالهم وبأفعالهم، فإنَّ ذلك من الحكمة والموعظة الحسنة التي حضَّ عليها القرآن، فالله تعالى يقول:

وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (التوبة: 36)

فالحكمة تقتضي استعمال نفس أسلحة العدو وأساليبه في القتال. وقد كان رسول الله يحضُّ شاعره حسّان بن ثابت أن يردّ على الكفار واليهود، الذين كانوا ينظمون القصائد في هجاء الرسول، والنيل من عِرضه، والتهكُّم على القرآن، فكان يقول له: «اهْجُهُمْ يا حسّانُ.. أيّدكَ الله بروح القُدس.»

وقد نزلت الآيات في سورة القلم التي في مطلع آياتها قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ تصف المكذّبين بالأسلوب الذي يليق بهم، فتقول:

فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ *  وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ * أَنْ كَانَ ذَا مَال وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (القلم: 9-17)

ومن المعروف أنَّ هذه الآيات الشديدة اللهجة قد نزلت في الوليد بن المغيرة الذي كان يتفاحش بهجاء رسول الله والمسلمين.

ومع ذلك فإنَّ رسول الله قد مدح الملك المسيحي.. ملك الحبشة.. وأمر المسلمين بالهجرة الأولى إلى بلاده ليعيشوا في ظلّه، لِما عُرِف عنه من العدل بين الرعيّة، وكفالة الحرية الدينية للجميع.

ولذلك فقد مدح أيضاً سيدنا أحمد عليه السلام نظام الدولة الإنجليزية، لأنه يقوم على العدل المساواة بين الرعية، وهو حين مدح الإنجليز لم يفعل ذلك مداهنةً ولا تملّقاً، وإنما ذكر أنه يفعل لأنهم خلّصوا المسلمين في البنجاب من براثن ظلم السيخ واضطهاد الهندوس، كما أعطَونا الحريةَ الدينية التي كانت مسلوبةً في أيام حكم السيخ. واستشهد في ذلك بقول سيدنا محمد المصطفى الذي قال: «مَنْ لم يشكُرِ الناسَ لمْ يشكُرِ الله». ومن المأثور عن سيدنا عليّ كرَّم الله وجهه أنه قال: «لو أنَّ فرعون مصر أسدى إليَّ يداً لشكرتُه عليها»، والله تعالى يقول:

هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ (الرحمن: 61)

علماء المسلمين يمدحون الحكومة البريطانية

ولم يكن سيدنا أحمد وحده الذي مدح الحكومة البريطانية، بل فعل ذلك قادةُ المسلمين وزعماؤهم وعلماؤهم في الهند وغيرها، وذلك بسبب عدلها وإنصافها للرعية. ومن هؤلاء كان الشيخ محمد عبده، والشيخ رشيد رضا من مصر، وشمس العلماء نذير أحمد الدهلوي، ومشائخ ندوة العلماء بالهند، وأبو الأعلى المودودي، والدكتور محمد إقبال الشاعر الهندي وغيرهم، وإليكم بعضاً من أقوالهم:

يقول الشيخ محمد عبده في كتابه الإسلام والنصرانية ص165:

«إنَّ الأمة الإنجليزية هي وحدها الأمة المسيحية التي تُقدّر التسامح حقّ قدره. فلنا أن نقول ولا نخشى لائماً، أنَّ هذه الخصلة من أجَلِّ الخِصال التي ورثها غير المسلمين عن المسلمين. ألا ترون أنَّ نظامهم في ذلك يقرب من نظام المسلمين، يوم كانوا مسلمين، لا يُفرِّقون بين دينٍ ودين».

إنَّ «الندوة» وهي أكبر مدرسة دينية لمسلمي الهند – وقد تخرّج فيها كثيرٌ من المشائخ المناهضين للأحمدية مثل أبي الحسن الندوي وغيره – وضعت في منهاجها الإداري مايلي:

«حقاً أنَّ الندوة في معزلٍ عن السياسة، ولكن لما كان هدفها الأساسي تخريج علماء مستنيرين، فمن واجب هؤلاء العلماء إطلاع القوم على بركات هذه الحكومة «الإنجليزية» ونشر أفكار الموالاة والوفاء لها.» (مجلة الندوة يوليو 1908م ج 5)

وقد عقدت «الندوة» في الثلاثين من أغسطس/ آب لعام 1908 بمدينة لكهنو حفلتها المشهورة، وذلك لغايةٍ واحدة.. وهي الإعراب عن شكرها للحكومة البريطانية، وأبدت فيها من الأبهة والحفاوة ما أبدت، وقد نُشر كل ذلك في بيان من قِبَلِها على صفحات الجرائد الأُردية والإنكليزية. (راجع الصفحة الأولى من مجلة «الندوة» في عددها الصادر في نوفمبر / تشرين الثاني لعام 1908 إعلاناً تعريبه: «لقد عُطِّلت دارُ العلوم للندوة اليوم بمناسبة العيد الذهبي للحكومة البريطانية، وأرسلت الندوةُ برقية تهنئة إلى صاحب السعادة الحاكم العام.»

علماً أنَّ الحاكم البريطاني جون سكوت John Scott  هو الذي وضع الحجر الأساسي لهذه الندوة بتاريخ 18-11-1908، وكان القائمون عليها يتقاضون مرتّباتهم من الحكومة البريطانية.

والشاعر الهندي محمد إقبال.. وهو شاعر إسلامي عظيم في نظر مسلمي الهند، كان يتغنّى بمدح الإنجليز، وقد مُنِح لقب «السير» من الحكومة البريطانية. ويوم توفيت الملكة فيكتوريا رثاها في أشعاره بمرثيةٍ طويلة قال فيها ما تعريبه:

لقد رفعوا نعش الملكة..

قُمْ تعظيماً لها يا إقبال، وكُنْ تراباً بطريق نعشها.

أيها الشهر، شكلك مثل شكل محرَّم، ولا بأس لو سمّيناك أنت الآخر محرَّماً.

يعني إقبال: لا عجب لو أطلقنا على هذا الشهر الذي توفيت فيه الملكة اسم «المحرَّم»، إذ أنَّ حادث وفاة الملكة لا يختلف كثيراً عن حادث الاستشهاد المروِّع لسيدنا الإمام الحسين حفيد الرسول الكريم ، الذي وقع في شهر محرَّم.

ويستمر إقبال قائلاً:

يقولون: اليوم، يوم العيد. فهنيئاً لكم العيد،

أما نحن فالموت خيرٌ لنا من هذا العيد.

يا بلاد الهند، قد زال عنكِ ظل الله.

حُرمتِ من التي كانت تواسي وتعطف على أهلك.

هذا البكاء الذي يهتزُّ له عرش الرحمن هو بكاء الناس إياها، وهذه الجنازة هي التي كانت زينة لكِ، يا بلاد الهند.

(باقيات إقبال، ناشر: آئينة أدب، اناركلي، لاهور، باكستان، بإشراف السيد عبد الواحد معيني، ماجستير (أوكسن) )

أما المولوي محمد حسين البطالوي – الذي كان أكبر المشائخ المعارضين لسيدنا أحمد – فيقول:

«لا شكَّ أنَّ سلطان الروم ملكٌ مسلم، ولكننا، نحن المسلمين، لسنا أقل منهم اعتزازاً وافتخاراً بالحكومة البريطانية نظراً لحسن نظامها.. بصرف النظر عن الدين. وإنَّ فرقة «أهل الحديث» على الأخص، لما تمتع به من أمنٍ وحرية من قبل هذه الحكومة، لتفتخر أمام جميع الدول الإسلامية الحالية، سواء في الروم أو في إيران أو خُراسان» (مجلة إشاعة السنة، مجلد 10، ص 292، 293).

وأيضاً يقول:

«نظراً للأمن والاستقرار والحرية العامة وحسن النظام الذي تتحلى به الحكومة البريطانية، فإنَّ فرقة أهل الحديث بالهند تعتبرها غنيمةً عظيمة، وتفضّل أن تكون من رعاياها بدل أن تكون من رعايا الدول الإسلامية.» (المرجع السابق)

ويقول المولوي شمس العلماء نذير أحمد الدهلوي الذي هو أستاذ للشيخ البطالوي:

«من مصلحة الهند كلها أن يحكمها حاكمٌ أجنبي، لا هندوسي، ولا مسلم، وإنما يجب أن يكون من أحد سلاطين الغرب، (إنّه لا يخصُّ الإنجليز فقط وإنما يقول أي واحد من أهل الغرب). ومن عناية الله العظمى أنَّ الإنجليز تولَّوا الحكم.» (مجموعة محاضرات مولانا نذير أحمد الدهلوي ط 1890. ص 4 و5)

ثم يقول:

«هل هذه الحكومة قاسية ومتشدِّدة؟ كلا، ثم كلا، بل هي أكثر عطفاً وحناناً من الوالدين.» (المرجع السابق ص 19)

ويستمر قائلاً:

«كنت أنظر، بمنظار معلوماتي، إلى ولاة الهند عندئذٍ، كما كنت أجول بفكري إلى بورما، ونيبال، وأفغانستان، بل إلى فارس ومصر والعرب، فلم أجد في كل هذه البلاد من أقصاها إلى أقصاها أحداً أسلِّم إليه حكم الهند (أي في خياله)، وما رأيتُ فيمن يريدون السيطرة على الحكم أحداً أحقّ من هؤلاء. فقرّرت عندئذٍ أنَّ الإنجليز هم أحق وأولى بحكم الهند، ويجب أن يستمر الحكم فيهم.» (المرجع السابق ص 26)

أما المولوي ظفر علي خان فيقول في جريدته:

«إنَّ المسلمين.. لا يمكن أن يُسيئوا الظن بهذه الحكومة (أي الإنجليزية) حتى ولا للحظة واحدة.. ولو أنَّ شقيّاً من المسلمين تجاسر على الخروج على هذه الحكومة فإننا نقول علناً بأنّه ليس مسلماً.» (جريدة «زميندار» لاهور 11 نوفمبر 1911م)

ويقول:

«نحن مستعدون لإراقة دمائنا نظير كل حبة عرق تسقط من جبين ملِكنا المعظَّم ملجأ العالم. وهذا هو حال جميع مسلمي الهند.» (نفس الجريدة، 23 نوفمبر 1911م)

ثم يقول في إحدى قصائده ما معناه:

«اِنحنَى رأسي بفرطِ الاحترام والإجلال كلما سمعتُ ذكر الملك المعظَّم. الجلالة نفسها تعتزُّ به اعتزازاً، فهو ملك البرِّ والبحر. ليتني أحظى بنظرةٍ واحدة من جلالته». (نفس الجريدة، 19 أكتوبر 1911م)

كذلك.. فإنَّ من أكثر العلماء المتشدِّدين والمتطرِّفين كان أبو الأعلى المودودي، وهو من المعروفين بعدائِهم الشديد للجماعة الإسلامية الأحمدية، ومع ذلك فإنّه لم يستطع إنكار أنَّ المسلمين كانوا يتمتّعون بحرية العمل بشعائرهم الدينية، وعلى ذلك فلم تهد الهند داراً للحرب، فقال:

«كانت الهند داراً للحرب ولاشك، لما كان الإنجليز في سعيهم وراء محو السلطنة الإسلامية منها، وكان وقتئذٍ ولا شك من واجب المسلمين أن يُضحّوا بأرواحهم حمايةً للدولة الإسلامية بالهند، أو أن يُهاجروا من الدولة بعد أن خُذلوا في سعيهم ذاك. وأمّا الآن.. وقد غُلبوا على أنفسهم، واستببّ الأمر للحكومة البريطانية، ورضي المسلمون بالبقاء في ظلها، مع ما لهم من حرية العمل وفقاً لقوانينهم الدينية، فلم يعد هذا القطر داراً للحرب. وذلك لأنها ما نسخت هنا القوانين الإسلامية، فلا يُصَدُّ المسلمون عن اتّباع شعائرهم الدينية، ولا يُكرَهون على العمل خلافها، في حياتهم الفردية أو في معيشتهم الاجتماعية. فلا يسوغ قطعاً.. من حيث أصول القانون الإسلامي.. أن يصير بلد هذا شأنه داراً للحرب.» (كتاب الربا للمودودي، الجزء الأول ص 77 و78 الهامش، الناشر مكتبة الجماعة الإسلامية المودودية، لاهور)

  علماً أنَّ هؤلاء المشائخ كلهم كانوا مناهضين للأحمدية، ومع ذلك يقول أتباعهم وأولادهم اليوم: كيف يمكن أن يكون مؤسِّس الأحمدية صادقاً في دعواه وقد نهى عن محاربة الإنجليز.

هذا، ولا تستطيع الأسرة الحاكمة بالسعودية أن تُنكر تحالفها مع الإنجليز ضد الأتراك الذين كانوا يُشاركونهم في نفس دين الإسلام، ولا يستطيع مسلمو سوريا وفلسطين ولبنان والعراق إنكار أنهم قاموا بالثورة ضد الحكومة التركية المسلمة، وتحالفوا مع الإنجليز لمحاربتها، ووقفوا ضد مظالم الأتراك بفضل مساعدة الإنجليز.

وهذا هو ما فعلته عائلة مؤسِّس الجماعة الإسلامية الأحمدية.. إذ وقفت مع الإنجليز ضد مظالم حكومة السيخ، مع فارق كبير وعلى قدر عظيم من الأهمية، بين السعودية ومن سعى سعيها من المسلمين الذين تحالفوا مع الإنجليز، وبين عائلة مؤسِّس الجماعة، وهذا الفارق هو أنَّ حكومة السيخ لم تكن حكومةً مسلمة كالحكومة التركية، فلا يمكن مساواة التحالف مع الإنجليز في الحالتين.

ومع ذلك.. فلم يحدث بتاتاً، ولو لمرة واحدة، أن أيّد مؤسِّس الجماعة الإسلامية الأحمدية الإنجليز في مهاجمتهم او احتلالهم لأي بلد إسلامي. ولن يستطيع أحدٌ أن يُثبت أنَّ الأحمدية أقدمت، ولو لمرة واحدة، على تأييد عدوان الإنجليز.

ثم هل يمكن لأحدٍ أن يتعامى عما يوجد اليوم من تحالفات سياسية وأمنية بين بعض البلاد العربية الإسلامية وبين الإنجليز والأمريكان وما يتبعها من دمارٍ شامل للمسلمين.

سيدنا أحمد يشرح معنى الجهاد

نعم.. لقد كتب الإمام المهدي عليه السلام، ضد أعمال القتل والاغتيال والإرهاب، التي كان يقوم بها بعض الناس، ويزعمون أنها جهادٌ في سبيل الله، وأوضح متى يجوز القتال، فقال بأسلوبه العربي:

«… فليعلم أنَّ القرآن لا يأمر بحرب أحدٍ إلا بالذين يمنعون عباد الله أن يؤمنوا به، ويدخلوا في دينه، ويُطيعوه في جميع أحكامه، ويعبدوه كما أُمِروا. والذين يُقاتلون بغير الحق، ويُخرِجون المؤمنين من ديارهم وأوطانهم، ويُدخِلون الخلق في دينهم جبراً وقهراً، ويُريدون أن يُطفئوا نور الإسلام، ويصدّون الناس من أن يُسلموا.. أولئك الذين غضب الله عليهم، ووجب على المؤمنين أن يُحاربوهم إن لم ينتهوا». (نور الحق، الجزء الأول، الخزائن الروحانية ج8 ص62)

ولكنه بيّن أنَّ ذاك الوقت لم يكن وقت الجهاد الأصغر.. أي القتال وسلّ السيوف، بل كان وقت الجهاد الأكبر الذي هو جهاد النفس الذي قال تعالى عنه:

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (الشمس: 10-11)،

كما أنه كان وقت الجهاد الكبير، الذي هو جهاد أعداء الإسلام بالقرآن، كما ذكر تعالى:

فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (الفرقان: 53)

ومن المعروف أنَّ هذه الآية مكية، وكان الرسول والمؤمنون يقومون بجهاد المشركين في مكة، ولكن بغير استعمال السلاح أو القتال.

وقال مؤسِّس الجماعة الإسلامية الأحمدية ما نصّه:

«وترونَ كيف كَثُرَ المفسدون، وقَلَّ المصلحون المواسون، وحانَ للشريعة أن تُعدَم، وآنَ للملّة أن تُكتَم، وهذا بَلاءٌ قد دَهَمَ، وعناءٌ قد هَجَمَ، وشرٌّ قد نَجَمَ، ونارٌ أحرقت العرب والعجم. ومع ذلك ليس وقتنا وقتَ الجهاد، ولا زمنَ المرهفات الحِداد، ولا أوانَ ضرب الأعناق والتقرينِ في الأصفاد، ولا زمانَ قَوْدِ أهل الضلال في السلاسل والأغلال، وإجراءِ أحكام القتل والاغتيال. فإنَّ الوقت وقتُ غلبة الكافرين وإِقبالِهم، وضُربت الذلة على المسلمين بأعمالهم. وكيف الجهاد ولا يُمنع أحدٌ من الصوم والصلاة، ولا الحجِّ والزكاة، ولا من العفّة والتقاة، وما سلَّ كافرٌ سيفاً على المسلمين ليرتدّوا أو يجعلهم عَضِينَ. فمن العدل أن يُسَلَّ الحُسام بالحسام، والأقلامُ بالأقلام. وإنّا لا نبكي على جِراحات السِّنان، وإنما نبكي على أكاذيب اللسان، فبالأكاذيب كُذِّبت صُحف الله وأُخفي أسرارُها، وصِيلَ على عمارة الملّة وهُدِّمَ دارُها.» (إعجاز المسيح، الخزائن الروحانية، الجزء 18 ص 155-157)

لقد كان المبشِّرون المسيحيون في زمن المسيح الموعود عليه السلام، يتّخذون من القلم سلاحاً لمحاربة الإسلام، ومن اللسان وسيلةً لنشر العقائد الباطلة والتهكُّم على القرآن، وكانوا يستعملون في ذلك كل الوسائل الشريفة. وغير الشريفة، وقد نجحوا إلى حدٍ كبير في إيقاع المسلمين في شِباكهم، حتى إنَّ بعض علماء المسلمين من المولويين والمشائخ دخل في زمرتهم، واحتفظ هؤلاء بأسمائهم الإسلامية، وكتبوا أقذر الكتب التي تنال من شرف وعِرض رسول الله ، فكان لا بدَّ للتصدّي لهم. وقد نظم المسيح الموعود عليه السلام إحدى قصائده باللغة العربية للردّ على هؤلاء فقال:

اُنظُرْ إلى المتنـصرين وذانِـهمْ

وانظُرْ  إلى ما بـدأ مِن أدرانهمْ

.

مِن كل حدب  ينسِلون تشذّرًا

وينجّسون الأرض  من  أوثانهم

.

نشكو إلى الرحمن  شرَّ  زمانهم

ونعوذ  بالقدّوس من شيطانهم

.

هل مِن صَدوق يُوجدَنْ في قومهم

أم هل عرفتَ الصدق  في  بلدانهم

.

هم  يعبدون   الآدمي  كمثلهم

هم  ينشرون الفسق في أوطانهم

.

الماكرون  الكائدون  من الهوى

والزور  كالأثمار  في  أغصانهم

.

العين   باكية    على   حالاتهم

للعقل حسرات  على  هذيانهم

.

مكرٌ  على  مكر خيالُ  قلوبهم

كذبٌ على كذب بيانُ لسانهم

.

إني  أراهم كالبنـين لِغُـوْلِهم

إن   التطهر  لا  تحل›  بخانهم

.

كيف الرجاء وقد  تأبّطَ  قلبُهم

شرًّا  أراه  دخيلَ  جَذْرِ جنانهم

.

بل  كذّبوا  بالحق   لما  جاءهم

وتمايلوا  حقدًا   على  بهتانهم

.

كم مِن سموم هبَّ عند  ظهورهم

كم مِن جَهول صِيدَ مِن أرسانهم

.

هم أنكروا  بحر  العلوم  بخبثهم

واستغزروا ما كان في كِيزانهم

.

لا يعلم النوكى  دخيلةَ  أمرهم

مِن  غيرِ  رقّتهم ولينِ  لسانهم

.

واللهِ  لولا  ضنكُ  عيشٍ  مُقلِقٍ

ما   مالَ  مرتدّ   إلى   أديانهم

.

قد  جاءهم  قوم  بحرصِ لبانهم

ولينفُضَنْ  ما  كان  في أردانهم

.

كانوا كذئب البَرِّ مكلومِ الحشا

مِن جوعهم فسعوا إلى عمرانهم

.

قوم سُقوا كأس الحتوف بوعظهم

قوم خَروفٌ في يدَي  سِرحانهم

.

عمّتْ  بلاياهم  وزاد  فسادهم

واشتدّ سيل الفتن  من  طغيانهم

.

يا رَبِّ خُذْهم مثلَ أخذِك مفسدًا

قد أفسدَ الآفاقَ طولُ  زمانهم

.

أدرِكْ  رجالاً  يا  قديرُ  ونسوةً

رحمًا ونَجِّ  الخَلْق  من  طوفانهم

.

حلّتْ بأرض المسلمين جنودهم

فسرَتْ غوائلهم  إلى  نسوانهم

.

يا  ربَّ   أحمدَ   يا  إلهَ  محمدٍ

اِعصِمْ عبادك من سموم دخانهم

.

يا عونَنا انصُرْ مَن سواك ملاذنا؟

ضاقت علينا الأرض من أعوانهم

.

كَسِّرْ  زُجاجتهم  إلهي  بالصفا

واعصِمْ عبادك من سموم  بيانهم

.

سبُّوا  نبيَّك   بالعناد   وكذّبوا

خيرَ الورى فانظرْ إلى  عدوانهم

.

يا ربّ سحِّقْهم كسحقك طاغيًا

وَانْزِلْ بساحتهم  لهدم  مكانه

.

يا ربِّ  مَزِّقْهم  وفَرِّقْ شَمْلَهم م

يا  ربِّ  قَوِّدْهم  إلى  ذوبانهم

.

قد   أزمعوا   إضلالنا   ووبالَنا

فاضرِبْ مكايدهم على أبدانهم

.

وإذا رميتَ فإن  سهمك  قاتلٌ

حَدٌّ  كأسياف  على  شجعانهم

.

صِرْنا حَمولةَ جورِهم وجفائهم

زُمّتْ ركاب الهجر مِن  وثبانهم

.

لولا   تَعافَيْنا    تعاقُبَ   سَبِّهم

لرميتُ سهم النار  عند  عُثانهم

.

ما  يظلم  الأشرار  إلا  نفسهم

سترى بندم القلب عَضَّ  بنانِهم

.

ظنّوا   بأن   الله  مخلِفُ  وعده

فبغوا بأرض  الله  من  طغيانهم

.

وقبولُ أمر  الحق  عارٌ  عندهم

صعبٌ على السفهاء عطفُ عِنانهم

.

سُودٌ  كخافية  الغراب  قلوبهم

والخلَقُ   مخدوعون  من  لمعانهم

.

فارقُبْ   إذا  صاحبتَهم   بمحبّةٍ

فتنًا بدينك   عند   اِسْتحسانهم

.

ولقد دعوتُ الرب عند  تناضُلي

واللهُ تُرْسي  عند  ضرب  سِنانهم

.

يا مستعاني ليس دونك مَلجأي

فانصُرْ   وأيِّدْنا   لهدم    قِنانهم

.

يا   من   يعيّرني  بموت  إلههم

أفلا ترى  ما جَذَّ  أصلَ إهانهم

.

واللهِ   إن   حياة  عيسى  حيّةٌ

تسعى لتُهلِك كلَّ مَن في خانهم

.

جعَل المهيمن حكمةً من  عنده

في موت عيسى قَطْعَ عرقِ جِرانهم

.

كيف  الحياة  وقد  تُوُفّيَ  مثله

حزبٌ وخيرُ الخَلق بعد  زمانهم

.

هل غادرَ الحتفُ المفاجئ مرسلاً

أم هل سمعتَ الحيّ من  أقرانهم

.

أتغيظُ ربَّك  لابن  مريم  حِشنةً

وتحيد  عن  مولى  إلى  إنسانهم

.

فاطلُبْ هُداه وما أخالُك تطلبُ

فَاخْسَأْ وكُنْ منهم ومن إخوانهم

.

يا  مَن  تظنّى  البولَ  ماءً باردًا

أخطأتَ مِن جهلٍ  بِاِسْتِسْمانهم

.

يا ربِّ  أَرِني يومَ كسرِ صليبهم

يا ربّ  سلِّطْني  على  جدرانهم

.

فإذا   تكلَّمْنا    فسيفٌ   قولُنا

رمحٌ   مبيد  لا   كمِثل  بيانهم

.

ولقد أُمرتُ من المهيمن بعدما

هاجت دخان الفتن من  نيرانهم

.

ما قلت بل قال المهيمن  هكذا

ما جئتُهم بل جاء وقت هوانهم

.

طورًا  أحارب  بالسهام  وتارةً

أَهوي  بأسياف   إلى  إثخانهم

.

بمهنّدٍ  صافِ  الحديد  جذمتُهم

وعصايَ قد أفنَتْ قُوَى ثعبانهم

.

روحي  بروح  الأنبياء  مضمَّخٌ

جادتْ عليّ الجَودُ من فيضانهم

.

إنّا   نرجّع    صوتنا    بغنائهم

إنّا  سُقينا  من  كؤوس  دِنانهم

.

قوم  فنوا  في  سبلِ مَربَعِ ربّهم

والعُمي لا يدرون مطلع شأنهم

.

كم من شرير أُهلكوا  بعنادهم

ورأوا مُدَى  نحرٍ  وراء  كُبانهم

.

وسيُرغِم   اللهُ  القدير   أنوفهم

ويُري المهيمن  ذُلَّ  داءِ خُنانهم

.

اليوم قد فرحوا  برجسِ  تنصُّرٍ

والحق  لا  يخطو   إلى   آذانهم

.

قوم تميل  مع  الهوى  أفكارهم

وعفَتْ نقوشُ الصدق من حيطانهم

.

ظهرت كأثر السم ثورةُ وعظهم

رحلتْ تُقاة الخَلق من  إدجانهم

.

هل شاهدتْ عيناك قومًا مثلهم

أم هل سمعتَ نظيرهم في  ذانهم

.

بطريقةٍ   سنّتْ   لهم   آباؤهم

يدعو إلى الجَهْلات صوت كِرانهم

.

فكأنّ   أبواب   المكائد   كلها

فُتحتْ   لفتنتنا   على  رهبانهم

.

قد  آثروا  طرق الضلال تعمّدًا

ما زاد خسران  على  خُسرانهم

.

إن الصليب سيُكْسَرَنْ  ويُدَقَّقَنْ

جاء الجِيادُ وزهَق  وقتُ  أتانهم

.

الكـذب مجبنةٌ لكل مُبـاحث

لكنهم  تركوا   حياء   جنانهم

.

سمٌّ  مبيـد  مهلكٌ  في  لبنهم

مَكْرٌ مُضِلُّ الخَلقِ  في  هَدَجانهم

.

فارْبَأْ بدينك عند رؤية وجههم

واقنَعْ بشَوكٍ مِن  جَنى  بستانهم

.

الموت خير  للفتى  من  خبزهم

فاصبرْ  ولا  تجنَحْ  إلى  تَهْتانهم

.

ونضارة   الدنيا  تزول  بطرفةٍ

فاقنَعْ  ولا  تنظُرْ   إلى   أفنانهم

.

النار تسقط كالصواعق عندهم

فتجافَ يا مغرورُ عن أحضانهم

.

أين  المفرّ  من  القضاء إذا  دنا

إلا   إلى   رَبٍّ   مُزيلِ   قِنانهم

.

يَسْبون  جهّالاً   برقّة   لفظهم

يُصْبون قلب الخَلق من إحسانهم

.

فلذا   يُحِبُّ   مزوِّرٌ   أديارَهم

مِن  شحّه  ميلاً  إلى  مرجانهم

.

ولو انتقدتَ جموعهم في دَيرهم

لوجدتَ سقطًا شيخهم كعَوَانهم

.

ما الفرق بين المشركين وبينهم

بل هم بنوا قصرًا  على  بنيانهم

.

يهوي إليهم كلُّ  نِكْسٍ  فاسقٍ

ليبيت  شَبْعانًا   بلحم  جِفانهم

.

في  قلبنا  وجعٌ   وشوكُ  دعابة

من نَخْزِهم خبثًا وطولِ لسانهم

.

ما إنْ أرى أثر الدلائل عندهم

أصبَوا قلوبَ الخلق من عِقيانهم

.

قد عاث في الأقوام ذئب شيوخهم

حدثتْ فنون الفسق مِن حدثانهم

.

تعريسهم  آثارُ  عزمِ   رحيلهم

يُخفُون في الأرْدان حبلَ ظِعانهم

.

عارٌ على الفَطِن الزكيّ طعامُهم

ضارٌ  لخلق   الله   ماءُ  شِنانهم

.

للمرء  قربُ  المؤذيات  جميعها

خيرٌ لحفظ  الدين  من  قربانهم

.

لك كلَّ يومٍ ربِّ شأنٌ معجِبٌ

فانصُرْ عبادك ربّ  في  ميدانهم

.

نَقنِي  التضرّعَ  والبكاء  تصبرًا

نأوي إلى الرحمن  من  رُكبانهم

.

للهِ  سهمٌ  لا  يطيش  إذا  رمى

للحقِّ   سلطان  على  سلطانهم

.

أَنزِلْ جنودك يا  قديرُ  لنصرنا

إنا  لقِينا   الموت   من  لُقْيانهم

.

يا ربّ قد بلَغ القلوب  حناجرا

يا ربّ  نَجِّ  الخَلق  من  ثعبانهم

.

إن القلوب من الكروب تقطعتْ

فارحَمْ وخَلِّصْ روحنا من جانهم

.

ودَعِ العِدا جَزَرَ السِّباع  يَنُشْنَهم

واشفِ القلوب بخزيهم وهوانهم

(نور الحق)

› سهو، والصحيح: “يحل”، أو هو من قبيل حمل اللفظ على معناه إذ المراد من التطهر الطهارة. (الناشر)

Share via
تابعونا على الفايس بوك