العلم والعلماء في بلاد الشام

 العلم والعلماء في بلاد الشام

عيسى الحاج رحمون

قارئي العزيز : في الحلقة الماضية قطعت عهدا على نفسي ملزما إياها بكتابة زاوية شهرية أتناول فيها من خلال مختلف نواحي العلم في بلادنا وفي بقية بلاد العالم ،سواء كانت هذه العلوم نظرية أو عملية ، دينية أو دنيوية ، ثم اخترت بلاد الشام لتكون منطلقا لذلك . وبتواضع الضعيف أمام الجلال ، والخشية والرهبة أمام العلوية حاولت أن اختلي مع نفسي قليلا لأحلق في سماء سرمدية كي أتضرع للقدسية الإلهية لتلهمني جادة الصواب ، وتنير لي ظلمة قصوري وضياعي ، فيجري قلمي على القرطاس بما اختزنته كنوز المعرفة البشرية لعلي بذلك أفي بما وعدت .في الحلقة السابقة بدأت الحديث عن بلاد الشام والجزيرة العربية واعدا بإتمامه لاحقا ، غير أني عدت إلى أزمنة غابرة فلا بد من الحديث إذا عن الجذور قبل الثمر لأنها تهب الحياة . ولن آتي بالجديد حين أقول : إن سكان بلاد الشام قديما – كما هو الحال في هذه الأيام – ليسوا جميعا عربا ، فإن كان الفينيقيون من وجهة نظرنا عربا فإن السريان والرومان والبيزنطيين الذين سكنوا تلك الأصقاع ليسوا عربا – وإن انصهروا مع العرب وتحدثوا لغتهم – بل لكل منهم لغته وثقافته وعلومه التي تركت بصمتها على تلك البلاد ، ومن ثم اختلطت بثقافة وعلوم الأقوام اللاحقة ممن هاجروا من الجزيرة العربية شمالا ، أو من فارس والعراق غربا منصهرين في بوتقة العروبة ومستوطنين تحت راية الإسلام . لقد صمت تاريخ العلم في هذه الديار عن ذكر أسماء رجال اشتهروا في بلاد الشام قبل الاسلام كالحثيين ومن كان قبلهم من القبائل التي نزلت الأرض ولفت فيها آثار لا يمكن أن تقوم بغير علم . غير أن هذا الصمت سمح بتسرب بعض الأسماء القليلة ممن اشتعل أربابها بالعلوم الدينية والدنيوية كاككلدانيين والرومانيين واليونانيين ، ولولا ذلك لقلنا إن أكثر هذه الأمم بدوية علة الفطرة .ومما يجدر ذكره في هذا المقام أن الشيء الهام تركه لنا الفينيقيين هو حروف الكتابة ، وجعلوها مطابقة للأصوات ، ومن ثم نقلوها إلى الأمم التي أبحروا واتجروا معها . وعن الفينيقيين لأخذت شعوب البحر المتوسط ومن اتصل معهم حروفها الابجدية . فإذا كانت الطباعة في نظر العلم أهم اختراعات الزمن الحديث فلا شك أنها بنت بارة لتلك الأبجدية . ولعل البعض يتساءل قائلا : ولكن الكتابة عرفت عند قدماء المصريين قبل ذلك بكثير ، فأجيبه هذا صحيح غير أن كتابة هؤلاء لم تكن بحروف تتوافق مع الأصوات البشرية الأصلية كالحروف التي استنبطها الفينيقيون واشتهروا بها ونشروها بين أكثر الأمم المتمدنة ، وما الحروف المعمول بها في اللغات الأوربية وغرب آسيا وشمال أفريقية سوى اشتيقاقات من الحروف الفينيقية . وعلى الرغم من أن أخبار العلم في بلاد الشام قبل الاسلام كانت ضئيلة ، إلا أنه يستدل منها على أنه كان للعقل مكانة مرموقة عند القوم إضافة لسلامة الذوق ، إذا كان النور يسطع بين أهل هذا القطر بصورة متقطعة . ولن نطيل الحديث إذا ذكرنا أسماء بعض هؤلاء ممن نسيناهم أو تناسيناهم ، ففي ذكرهم عبر . وأول من يتبادر اسمه في هذا المجال هو المؤرخ ، يوسيفوس في القرن الأول للميلاد الذي أصبح واليا على الجليل ، كما يذكر يوستوس الطبراني المؤرخ ، وفيلون الجبلي ، وتيودور الخطيب من عسقلان ، وأقليدس المهندس النجار ، والفيلسوف الرياضي الذي نبغ في صور مثلما نبغ في العلم المهندس الدمشقي بولدر الذي من أعماله إقامة عمود تراجان في رومية ، وبناء جسر على نهر الدانوب . ويمكننا الحديث عن ثاوذوسيوس الفلكي بطرابلس في القرن 1 ق م .

وممن نشأ في اللاذقية نيقولاس صاحب جوامع الفلسفة ، وتوفلس صاحب الحجج في قدم العالم ، وهوميروس البيروني تلميذ فيلون المؤرخ الفينيقي ، وطوروس البيروني الذي اشتهر بالحكمة ، ومواطنة لوبر كوس في اللغويات و الأدبيات ، ومارينوس الصوري في الجغرافيا . وحين انتشرت المسيحية في بلاد الشام نبغ لفي أنطاكية رجال عظام كالقديس يوحنا المسمى فم الذهب اليوناني القديس لوقا ، والشاعر أوستياس ممن أصبحت انطاكية في زمانهم دار حكمة وعلم . كذلك وصفت بيروت بمرضعة الحكمة . أما حمص وبصرى فقد أنجبتا أباطرة لبسوا تاج المملكة الرومانية حكموها . وكانت زينب ، ملكة تدمر التي تتحدث التدمرية والمصرية واليونانية واللاتينية إضافة للعربية ذات باع طويل في نشر علوم عصرها ، وجلبت لمملكتها الكثير من العباقرة من أمثال لنجينوس .

ومن المعروف قديما أنه كان للعلم أربع مدارس في كل من القسطنطينية والاسكندرية ورومية وبيروت . ثم أنشأ الرومان مدرسة في قيسارية وأخرى في أثنا .وكان لصيدا في ذلك العهد مدرسة حكمة ذات شأن ولكن دون شأن مدرسة جارتها بيروت التي لقبت بأم العلوم ، والتي أعفي الفقراء فيها من دفع الرسوم تنشيطا لهم وتشحيذا لهممهم . لا يفوتنا الاستشهاد بما قاله الجغرافي اليوناني استرابون في القرن الأول قبل الميلاد الذي قال : لم يبق في صور و صيدا فينيقيون يضربون في الآفاق للتجارة لأن أغلب أهلها ضربوا في العلوم.

في تلك الأحقاب كانت لغة العلم السائدة هي اللاتينية ومن ثم اليونانية . إلا أن اللغة الآرامية السريانية في حلب وما جاورها ما لبثت أن هبت من رقادها في القرن الرابع للميلاد مؤسسة في مدينة الرها مدرسة عليا كان من طلابها القديس سمعان العمودي والقديس اسحاق الانطاكي ، كما أنشئت فيها جامعة للآداب والمعارف الآرامية . ليس هذا فحسب بل إن السريان أقاموا في غير أرض الشام المدارس التي خرجت للشام رجالا ، وسرت من علومها نسمات مباركة على تلك الأصقاع . وفي نصيبين أنشئت أول جامعة درس فيها علم الالهيات وقدمت للمدينة علماء أكفاء ، وذاع صيتها في فارس والروم و ايطاليا وافريقية ،وكانت مدرسة حران مثلا لتلك المدارس .هذه بعض أخبار العلم ونوابغه ممن اتلهى ذكرهم في بلاد الشام من الفينيقين والسريان والرومان البيزنطيين ، ومازالت بعض آثارهم وأخبارهم شاهدة لهم بالفضل . كما أنهم ليسوا دون من خلفهم في أمور كثيرة مما اهتدى إليها العقل البشري . وإن حرمت علينا كتب هؤلاء لبدائية كتابتها، فقد وصلنا بعص كتاباتهم مما نقشوه على الحجر كي يحدث عن مآثرهم العلمية وأعمالهم الحربية فيما بعد ، حيث يمكننا التسليم بأن من ينشئ هذه المصانع وينزل فيها لا بد أن يكون على جانب من الغنى الذي يزكو بمختلف ضروب العلم في ظل حضاري . وعلى هذه الخلفية يمكننا الحديث بموضوعية عن العلم والعلماء في بلاد الشام فتاريخ العلم عند العرب من أغرب ما سمع في تاريخ البشرية لأنهم كانوا نصف متمدنين أول ظهورهم ، يكثر فيهم الأميون ، ويندر من يعرف الكتابة حتى بين أفراد الطبقة الأولى ، ومن يحسن الكتابة يعد من الممتازين . وفجأة خرجوا من ظلمة الجهل إلى أنوار العالم ومن ضيق البداوة إلى متسع المدنية . فلما جاء الإسلام كانوا مولعين بالشعر والخطابة لا يعرفون غير الفصاحة والبلاغة ، وهما بنظر هم جماع كل العلوم . أما أخبارهم وأنسابهم فكانت تنقل وتحفظ في الصدور . وأما علومهم في الطب والنجوم فكانت عبارة عن تجارب شخصية أو تقليدية . والتدوين لم يكن معهودا عندهم حين دونت الكتابة بالخط العربي قبيل الإسلام على يد مرامر بن مرة تكفل حرب ابن أمية بنقلها إلى الحجاز بعد أن تعلمها في الحيرة . وكان أول من تعلم الكتابة من شباب مكة عبد الله بن سعيد بن العاص بن أمية الذي أسر ببدر ، فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يعلم الكتابة لعشرة من شبان المدينة المسلمين كي يفتدي نفسه من الأسر . ويومئذ تعلم الكتابة زيد بنت ثابت . وحين فتحت الشام ، وكانت أشبه بنصف عربية بسبب من حكمها من الغسانيين في الجنوب والوسط والتنوخيين في الشمال حيث كانوا يحكمونها كعمال للروم أو لمن ينزلها من القبائل والبطون العربية في أرجاء تدمر والفرات وغزة وسيناء . حينذاك كان الشعر مما يفاخر به القوم ، فإذا نشأ فيهم شاعر رفعوا من شأنه واعتمدوا على قريحته في الشدائد وجبلة بن الأيهم من ملوك الغسانيين كان شاعرا مجيدا يعجب بالشعر ويجيز عليه . لقد كان الشعراء يقصدون الشام قادمين من الجزيرة العربية وكأنهم ينزلون على أهل قبيلتهم ومنهم امرؤ القيس ، وحسان بن ثابت والمتلمس.

Share via
تابعونا على الفايس بوك