صحوة القلب دواء للعليل

صحوة القلب دواء للعليل

عيسى الحاج رحمون

مما لا شك فيه أن الشعر ديوان العرب. وكان للغراب حضوره في هذا الديوان، بحيث مُنح مكانته التي هو أهل لها، وكان الغراب سعيدًا بهذه المكانة ليشبع نهمه من بقايا ما تأكله الكواسر. وفي نفس الوقت فقد أطلق هؤلاء الشعراء لخيالهم كل عِنان كي يُفردوا للنسر المكانة اللائقة به، كيف لا وقد أُخذوا بالصفات النبيلة التي يتمتع بها ذلك الطائر الأبي.

لقد أحب هؤلاء الشعراء أن يقدموا لقبائلهم ومجتمعاتهم من خلال هذه التشبيهات والاستعارات اللغوية ما هو ضروري للحفاظ على أنفتِهم وعزتهم وتماسكهم.

واليوم نجد أن الغربان البشرية لم تعد تكتفي بدور الدليل، بل ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير متبوئّة في بعض الأحيان مناصب الوعظ والإرشاد والافتراء، الأمر الذي أوصل هذه المجتمعات والأمم إلى ما هي عليه من ذل وهوان وضعف حتى تداعت عليهم الأمم كما تداعت الأكلة على قصعتهم.

إن أصوات الصلحاء والشرفاء والأتقياء لم يعد بوسعها أن تطرق الكثير من الآذان أو تدخل إلى القلوب المقفلة، كما أن أصوات هذه الغربان البشرية تشوّش عليها في أحيان أخرى مما يفقدها الكثير من عذوبتها وشفافيتها وقوة اندفاعها.

هذه الأمور جعلتني في حزن وألم دائمين كما هو شأن جميع الشرفاء في هذا العالم وما العمل وليس في اليد حيلة؟

إنني أحاول اللجوء في هذه المعركة الدائرة بين الحق والباطل إلى أسلحتي المتواضعة، إنها قلمي وإنسانيتي وإيماني ويقيني آملاً أن تُحيي ذروة الخير والهداية، أو لعلها تدغدغ مشاعر وعواطف بعض الهداهد والغربان والنسور البشرية فتثمر فيها التزاما ومحبة وإخلاصا ونقاء وإيمانا وتقوى. حين ذلك فقط يمكنني الشعور بشيء من الرضا عن قلمي وعن نفسي لأنني حاولت.

.

كان في الحقل غرابٌ حانقٌ

ينفش الريش ويمشي بحذرْ

.

لا يرى من ظلّه إلا القليلْ

ومع الحسر صراخٌ مستمرْ

.

لونه كاللّيل في ظلماتهِ

ومحيّاه، إذا غاق، نُكُرْ

.

قد تبدّى مرشدًا في عصرهِ

لبس الجُبّةَ .. يا مَن ينتصرْ

.

فبكى الهدهدُ مِن حُرقتِهْ

آهِ يا صحبُ إلى أين المفرْ

.

حقلُنا يرشده هذا الجبانْ

أسودُ اللون إذا ضاع النظرْ

.

ابحثوا مِن بينكم شيخًا لنا

يزرع البسمةَ في الوادي النَضِرْ

.

يرشد الطير إلى خالقهمْ

ويرى في الأُفْقِ ربًّا مقتدرْ

.

انظُروا يا إخوتي من فضلكم

فغراب البين يأتي بالنُّذُرْ

.

جذوة الإيمان في كل القلوبْ

وأرى في النفس جمْرًا مستعِرْ

.

فإذا بالنسر مِن عليائهِ

يتصدى للغراب المؤتزرْ

.

قائلا يا هذا إني ناصحٌ

فإذا أبطأتَ أَبْشِرْ بالخطَرْ

.

إنما الصحب عليكم غاضبٌ

اتْرُكِ الحقلَ ولا تُبْدِي أثرْ

.

ليس للوعظ غرابًا مثلكم

اتْرُكِ الوعظَ لمن يُزجي الشررْ

.

قد أضعتَّ العمرَ في واد الزهورْ

فهل الزهر أتاكم بخبرْ

.

صفّق الأسْودُ من ساعتهْ

ومضى مثل سفين مُحتضرْ

.

عَلَّه في السفح يلقَى فجوةً

يتخذ منها مقاما ومقرْ

.

عَمَّ في الحقل هياج وسرور

وغناء وابتسامات قمرْ

.

آه ما أجمَلَ هذا الكرنفالْ

فبذور الخير نجنيها ثمرْ

.

صحوة القلب دواء للعليلْ

ولنا في الشرع فيض مِن دُرَرْ

.

هذه الجبة لم تحمِ الغرابْ

فهل العبرة تكفي للبشرْ؟؟

.

أيها الباغون إن تُؤلمكم

هذه الأشعارُ، فالغد شذرْ

.

هذه الأوزان غيمات ربيعْ

فاتّقُوا الآتي بغيثٍ منهمِرْ

.

ما لكم في السفح حُجْرٌ أومُقام

إنما المأوى إلى حيث صقَرْ

.

انزعوا عن هامِكم هذي القلاع

ليس بالعمّة ألواحُ القدرْ

.

أيها الآتون من الصقيعْ

فتنة الأحزاب قُدَّت من دُبُرْ

.

ارجعوا لله غفّارِ الذنوبْ

عالمِ الغيب وإن قال أَسَرْ

.

توبةٌ مُثلَى وإلا فاحذَروا

وقفةَ الخِزي بيومٍ مُكفَهِرْ

الشرح: (1) حانق: غاضب، ينفش الريش يحاول الظهور على غير حقيقته. (2) الحسر: قصر النظر. (3) غاق: صوت الغراب. (4) البيتان كناية عن أن الغراب أصبح مزهوا بمسوحه الدينية. (5) الهدهد: يرمز للتقى والصلاح في مجتمعات الطيور. (6) يبدي الهدهد استغرابه كيف يمكن لطيور الحقل أن لا ترى عيوب الغراب. (7) الغراب رمز شؤم ولن يكون واعظ خير. (8) يتظاهر الغراب بالتقى والصلاح. (9) يُترك الوعظ  لمن هو أهل له. (10) وهل يمكن للغراب أن يشم رائحة الزهور الإيمانية والروحانية. (11) يترنح الغراب في مشيته مثل سفينة موشكة على الغرق. (12) بذور الخير لا بد وأن تعطي ثمارا طيبة. (13) الشذر: هي النظرة الغاضبة المتحدية. (14) هذه الأبيات مثل مطر الربيع  أما القصائد الآتية فسوف تكون مصحوبة بعواصف هوجاء. (15) إن الله سبحانه وتعالى ينظر إلى أفعال المرء وليس إلى شكله. (16) قوله تعالى يأسر القلوب المؤمنة بفصاحته وجذالة لفظه ودقّة معانيه. (17) إذا لم يرتدع المخطىء ويعلن توبته النصوحة فإن يوم حسابه سوف يكون عسيرا.

Share via
تابعونا على الفايس بوك