بعض أحكام الطلاق والرضاعة
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (231)

التفسير:

سبق أن ذكر الله الخيارين في قوله تعالى (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) وهنا يذكر الخيار الثاني منهما وهو الطلاق فيقول: إذا تمت التطليقة الثالثة فلا تحل هذه السيدة لهذا الرجل أبدا بعد ذلك..اللهم إلا إذا حدث أن تزوجت من رجل آخر، ثم انفصل عنها بالطلاق أو الوفاة مثلا، عندئذ يجوز للزوج السابق أن يتزوج منها.. إذا كانا على يقين أنهما سوف يقيمان حدود الله. فعن عائشة رضي الله عنها أن رجلا طلق زوجته ثلاثا، ثم تزوجها غيرُه وطلقها من قبل أن يمسها، فرأى زوجها الأول أن يتزوجها، فسئل رسول الله عن ذلك فقال: (لا ينكحها الأول حَتَّى تَذُوق عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَها (مسلم، الطلاق).. أي حتى يتم جماع بينها وبين الزوج الثاني، ثم يحدث الطلاق بينهما لسبب ما، عندئذ تحل هذه للزوج الأول.

وللأسف أن المسلمين في زمن انحطاطهم ابتدعوا –إلى جانب البدع الكثيرة الأخرى –بدعة التحليل الشنيعة.. أي أن بعد حصول الطلاق البات احتالوا حيلة يمكِّنون بها الزوج الأول من الزواج من مطلقته مرة أخرى.. وذلك بأن يعقدوا لهذه السيدة على رجل آخر ليبيت معها ليلة ويجامعها، وفي الصباح يطلقها لتعود إلى زوجها الأول. ولكن الإسلام حرَّم هذا الطريق ولعن من يقوم بهذه البدعة.. بدعة التحليل. وقد ورد في الحديث أن النبي قال (لعَن الله المحلِّل والمحلَّل له) (الترمذي، النكاح). فلا مكان لبدعة التحليل في الإسلام. إنما يقضي الشرع الإسلامي أنه إذا تم الطلاق الثالث بين الزوج وزوجته فلا تحل له مطلقا إلا في حالة معينة: أن تتزوج هذه السيدة زواجا شرعيا مع زوج جديد، وتعيش معه في بيته، ثم إذا طلقها هذا الزوج أو مات عنها فللزوج الأول أن يتزوجها زواجا جديدا بمهر جديد وبرضاء أوليائها.. وبدون ذلك لا يجوز أن يتزوجها.

 وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (232)

شرح الكلمات: 

هُزُوًا: مصدرٌ بمعنى المفعول به أي الذي يُستهزأ به، وقد استُخدم المصدر لأجل المبالغة، لأن العرب إذا أرادوا المبالغة في الأمر جاءوا بالمصدر؛ أو بتقدير محذوف تقديره: محلّ الهزو (إعراب القرآن للدرويش).

التفسير:

المراد من قوله (طلقتم النساء) طلاق الرجعة، أما قوله (فبلغن أجلهن) فله معنيان: الأول-إذا أوشكت مدة العدة على الانتهاء، والثاني –انتهت (اللسان). والمراد هنا المعنى الأول.. أي إذا قاربت المدة على الانتهاء فللرجل مراجعتها.

وفي قوله (فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف) ركز مرة أخرى على جواز معاملة الزوج المرأة بطريقتين اثنتين فقط: إما أن يعيش معها بعد ذلك بمعروف، أو أن يودعها بمعروف. وليس أن يرجعها ويمسكها عنده لإيذائها.

(ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه).. من يمسكها بغير المعروف فإنه في الظاهر يؤذيهما، ولكنه في الحقيقة يظلم نفسه، سواء من ناحية أنه بذلك يحدث الفساد والفوضى في المجتمع، أو من ناحية أنه بظلم المرأة يدل على شقاوة قلبه.

وقوله (واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به) يبين أن الأمم السابقة لم تحظ بهذا التعليم، ولكن الله قد آتاكم هذه التعاليم القائمة على الحكمة، ومن واجبكم العملُ بها وشكرُ الله تعالى إذ نجاكم من العثار كالأمم السابقة. أما إذا لم تنتفعوا بها واتبعتم أهواءكم النفسانية فمنذا يكون أشقى منكم؟! فعليكم أن تعملوا بهذه الأحكام ولا تتبعوا طريقا يخالف التقوى.

وذلك بأن يعقدوا لهذه السيدة على رجل آخر ليبيت معها ليلة ويجامعها، وفي الصباح يطلقها لتعود إلى زوجها الأول. ولكن الإسلام حرَّم هذا الطريق ولعن من يقوم بهذه البدعة.. بدعة التحليل.

 وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ  (233)

شرح الكلمات: 

تعضُلوهن: عضَل عليه عضْلا: ضيّق عليه وحبسه ومنعه (الأقرب). فيعني قوله تعالى (لا تعضلوهن): لا تضايقوهن، أو لا تحبسوهن، أو لا تمنعوهن.

أزكى: أنفع أو أطهر (الأقرب).

التفسير:

قوله (بلغن أجلهن) ليس هنا بالمعنى الوارد في الآية السابقة، وإنما يعني انتهاء فترة العدة ودخول المرأة في فترة الحرية.

أما قوله تعالى (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) ففيه اختلاف حول معنى أزواج. قال البعض هو الزوج الأول. والمراد أنه إذا صالحها وأراد إعادة الزوج منها فلا تمنعوها. ويكون الطلاق في هذه الحالة هو الطلاق الرجعي وليس التطليقة الباتة. وقال البعض إن المراد هنا هو الزوج الجديد، والطلاق هنا الطلاق البائن، وحجتهم أنه ما دام قد ذكر من قبلُ الطلاق النهائي لذلك فالمراد من الأزواج هنا الزوج الجديد وليس الأول.

وأرى أن كلا المعنيين ممكن، لأن النوعين من الناس موجودان. فهناك منهم من إذا حصلت خصومة بين الزوجين ثم أرادا الصلح يحولون دون رغبتهما، ويقولون إن تجديد العلاقة مع مثل هذا الرجل يمس كرامتنا وغيرتنا، وكفى ما حدث من الفضائح إلى الآن؛ فينصحهم الله هنا أنه إذا تصالح المطلقان وأرادا الزواج مرة أخرى فلا يحولَنّ أحد دون رغبتهما خوفا من الفضيحة أو سخطا على ما سبق من خلافات مع الزوج.

وفي مقابل ذلك هناك أناس يطلقون الزوجات ومع ذلك لا يكفون عن مضايقتهن ومطاردتهن، وإذا أرادت الزواج من أحد سعوا بأنواع الحيل لعرقلة زواجها، فيذكرون عيوبها للخاطب الجديد حتى يفر منها ولا يتزوجها. وأصحاب المراكز الكبيرة هم الذين يفعلون ذلك عموما، يطلقون النسوة ثم يضعون العراقيل كي لا يتزوجن من أحد بعدهم.

ولا يعني قوله تعالى (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) أن للمرأة أن تزوج نفسها بدون وساطة الولي، بل لا بد من وجود ولي. أما إذا لم يرض وليها فلا بد من الاستعانة بولي الأمر.

وهنا سؤال: هل لأولياء المرأة أن يمنعوها من الزواج من أحد أم لا؟ يرى الإمامان مالك والشافعي أن للولي أن يرفض زواج المرأة من أحد مرة أو مرتين.. أما إذا استمر في رفض كل من يتقدم للزواج منها فهذا لا يجوز. فالرفض مرة أو مرتين يعتبر من باب الاحتياط والحذر.. ولكن لو استغل الولي ولايته لها ومنعها من الزواج فلا يحق له ذلك. وقال البعض إنه إذا لم يرض وليها الذي هو أحق بولايتها فلها أن تتزوج بإذن من ولي هو أدنى منه درجة. وقال البعض الآخر: إنه لا يجوز للمرأة أن تتزوج بدون إذن من وليها الحقيقي أو السلطان الحاكم (الفقه على المذاهب الأربعة). وهذا هو الموقف الصحيح. ولكن إذا لم يرض أولياؤها بزواجها بأي صورة من الصور فلها أن تستأذن من الحاكم أو من القاضي كي تتزوج بخاطبها، أو يمكن أن تمارس الضغط على أوليائها عن طريق القاضي حتى لا يحولوا دون زواجها.

وبيّن في قوله (ذلكم أزكى لكم وأطهر) أن هذا القانون جدُّ مباركٍ ونافع لكم في الدين والدنيا.. أي إذا عملتم به فسوف يفيدكم من الناحية الاجتماعية، وأيضا سوف ينفعكم من الناحية الأخلاقية إذ يخلق فيكم روح الطهارة.

 

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (234)

شرح الكلمات: 

تسترضعوا: استرضع: طلب مرضعة. استرضع الرجل واستعرضت المرأة الطفلَ أي طلبت مرضعة له (التاج).

التفسير:

كان من الممكن أن ينخدع أحد بقوله (حولين كاملين) ويحسب أن الرضاعة ضرورية لسنتين، ولذلك أضاف قوله (لمن أراد أن يتم الرضاعة). وهذا يدل على أن هذه الفترة يمكن أن تقل عن عامين، ولكن فيه أيضا نفي لإطالة هذه الفترة أكثر من سنتين، لأن كلمة (كاملين) تدل على عدم الرضاعة أكثر منهما.

وقوله (وعلى المولودة له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) لا يعني الطعام واللباس فقط.. وإنما يراد بذلك كل النفقات علاوة على المأكل والملبس.

و(بالمعروف) يعني حسب مقدرة الوالد. فإذا كان موسرا فبقدر ثرائه، وإذا كان فقيرا فعلى قدره.

وليس الحديث هنا عن المرضعات الأجيرات وإنما الوالدة المطلقة نفسها.. لأن الحديث هنا في سياق الطلاق. يقول الله إن الوالدة المرضعة لطفل لو طلقها والده فعليها أن ترضع طفله سنتين كاملتين، وإزاء ذلك يجب على الوالد أن ينفق عليها بحسب مقدرته، وليس أن يعطيها بعض المال كأنها مرضعة أجيرة.. لأن إجبار الأم المطلقة على إرضاع طفلها يجرح إحساسها ويمس كرامتها إذا عوملت باعتبارها أجيرة. ولكن الآية أضافت (لا تكلَّف نفس إلا وسعها) لتشير إلى أنه ليس من المناسب أن يطالَب الوالد بما يفوق مقدرته،كما ليس من المناسب أيضا أن تعيش الأم بعد الطلاق كمرضعة أجيرة.

وقوله تعالى (لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده) يمكن أن يكون معناه: ألا تضايق المرأة الرجل بسبب طفله أو لا تضار الوالدة بسبب طفلها. فبهذا القول نصح الله الرجل والمرأة كليهما بألا يُتخذ الرضيع ذريعة ليضايق أحد منهما الآخر. ولكن الكثير من الحمقى يرتكبون هذا الخطأ مما يؤدي إلى هلاك الأطفال أو فساد تربيتهم. والحقيقة أن مثل هذه العملية بمثابة قتل الأولاد. ولقد أسدى القرآن الكريم معروفا عظيما للأجيال القادمة بالنهي عن هذه الأمور.

وقوله تعالى (وعلى الوارث مثل ذلك) معطوف على قوله (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف). وهنا قرر الله حقا عجيبا يُحدث انقلابا في الاجتماع، ويغير وجه المدنية.. إذ أمر أنه إذا توفي أبو الوليد فعلى الورثة أن ينفقوا على مرضعة وليده. وكأن ورثته لا يشتركون في أخذ ميراثه فقط وإنما فرض عليهم أيضا تحمل هذه النفقات.. سواء كانت للمتوفى تركة كبيرة أو صغيرة أو لم يترك شيئا. فقال: من واجب الوارث أن يتحمل ما كان على الوالد أن يتحمله، سواء أكان هذا الوارث ابنا للمتوفَى أو أحد أقاربه.. فعليه عبء تربية وإرضاع الطفل. ولا يتحمله كإحسان وصنيع إلى الطفل وأمه. وإنما هو فريضة فرضها الله عليه. ويعني أيضا أن على ورثته أن ينفقوا على رضاعة هذا الطفل من نصيبه في إرث أبيه.

على أية حال لقد وضع الله بهذا الأمر أساسا جديدا للمدنية، ففرض على ورثة المتوفى تربية أولاده الضعاف.

ولا يمكن القول هنا إنه إذا انتهت فترة الرضاعة يُترك هؤلاء الأولاد دون ولاية ورعاية، بل لا بد أن تُمَد هذه الفترة إلى حين بلوغهم، ويكون من واجب الورثة أن يتحملوا نفقاتهم من مأكل وملبس ودراسة حتى يبلغوا، ويحسنوا تربيتهم حتى يكونوا أعضاء نافعين في المجتمع.

يقول البعض إن هذه النفقة توزّع على ورثة المتوفى بقدر نصيبهم الشرعي من إرثه، بينما يقول الآخرون أن يتحملها من هو أولى بالوراثة سواء ورث شيئا أم لا. وقوله تعالى (فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما) يتبيّن منه أن القرآن الكريم لم يخير المرأة وحدها أو الرجل وحده في اتخاذ القرار فيما يتعلق بإرضاع الطفل وفصاله، وإنما جعل الأمر مشتركا بينهما بالتشاور والتراضي. وهذا مثال فريد في تاريخ الشرائع كلها. إذ أقام الإسلام المرأة مع الرجل على قدم المساواة فيما يتعلق بالأمور العائلية، وأعطاهما خيارا مشتركا.. ولكن بشرط ألا يجبر الزوج مطلقته على إرضاع الطفل، ولا تصر هي على رضاعته أكثر من الفترة التي فرضها القرآن الكريم. وما دام الإسلام يؤكد على الزوج هذا التأكيد لمراعاة عواطف المرأة المطلقة في هذه الأمور.. فما بالك بوصيته له بمراعاة عواطف المرأة التي هي زوجة له.

وبقوله تعالى (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلّمتم ما آتيتم بالمعروف) بيّن أن استرضاع الوليد من امرأة أخرى لا يتنافى مع حقوق الوالد أو حقوق الوالدة.. وليس إثما، ولكنه يعتبر إثما إذا أكرهتم أحدا على الإرضاع بدون تقديم أجر له.. لأنكم ترتكبون بهذا إثمين: أولهما –هضم مال أحد، والثاني –عدم تأدية حقوق الوليد. وهذا المعنى يفسر كلمة (لا جناح). فثبت من كل ذلك أن حقوق الولد واجبة، والتقصير فيها إثم.

وقوله تعالى (إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف).. قد تبدو هذه الفقرة بلا معنى في هذا السياق لأن معناها في الظاهر: إذا آتيتم ما آتيتم بالمعروف، مع أن الأجرة التي يدفعها الإنسان مرة كيف يدفعها مرة أخرى؟

ونظرا لهذه المعضلة قال البعض أن هذا يدل أن على الإنسان أداء أجرة المرضع قبل الإرضاع. ولكني لا أرى هذا. ذلك أن التسليم لا يعني إعطاء الشيء فقط، وإنما يعني أيضا القبول والرضا بالشيء. فيقولون: سلَّم به أي رضي به (الأقرب). وقد استخدم القرآن الكريم الكلمة بنفس المعنى فقال: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) (النساء: 66).. أي يرضوا رضاء كاملا. وبناء على هذا فيعني قوله (إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف) أنكم إذا رضيتم بإعطاء أجرة مناسبة بالمعروف للمرضعة، ونويتم إعطاء هذه الأجرة في كل حال.. فلا حرج في استرضاع الوليد من امرأة أخرى غير أمه. ونظرا لذلك المعنى فمن اللازم أن تتقرر الأجرة وتتحدد قبل الرضاعة، وليس ضروريا أن تؤدّى قبل الرضاعة.

وما دام الإسلام يؤكد على الزوج هذا التأكيد لمراعاة عواطف المرأة المطلقة في هذه الأمور.. فما بالك بوصيته له بمراعاة عواطف المرأة التي هي زوجة له.

أما إذا أخذنا بالمعنى الأول لـ(سلمتم) أي الإيتاء فلا يعني أيضا أن تسلموا الأجرة للمرضعة قبل الرضاعة، وعندئذ يجوز الاسترضاع. وإنما بيّن هنا قاعدة هي أنكم إذا لم تؤدوا الأجر فهذا إثم. كأن قوله (إذا سلمتم) متعلق بقوله (فلا جناح عليكم) وليس (أن تسترضعوا).

وبعد حل مشكلة (سلمتم) تبقى هناك مشكلة أخرى هي كلمة (آتيتم).. لأن معناها الحرفي: أعطيتم وقدّمتم. فيكون المعنى الظاهري لقوله تعالى (إذا سلمتم ما آتيتم): إذا تراضيتم على حق قد آتيتموه. فهذه جملة لا معنى لها.

فلنتذكر هنا أن من أساليب اللغة العربية أنهم يستخدمون للمستقبل صيغة الماضي للدلالة على القرار القطعي..كما قال الله تعالى:  (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق)(المائدة:7).. مع أن الإنسان يتوضأ أولا ثم يقوم للصلاة، ولا يتوضأ وهو قائم للصلاة. فالمراد: إذا نويتم الصلاة فيجب أن تتوضئوا قبل ذلك. وهذا هو معنى (سلّمتم)..أي إذا ما قررتم إعطاءه إياها.

الحقيقة أن معنى الآية أنكم إذا أردتم استرضاع أولادكم من امرأة غير والدته فلا حرج ولا ذنب في ذلك، ولكن بشرط أن ما اتخذتم من قرار بإعطائها أجرا يجب أن تعملوا به دائما، ولا تلجئوا إلى الحيل لعدم إعطائها الأجر. ولقد علمنا الله بذلك درسا أن حق المرضع حق ضروري وهام بحيث ينبغي على الإنسان أن يعد بأدائه وعدا جازما كأنه قد أدّاه.

وبقوله (بالمعروف) أشار إلى أن عليه أن يؤدي أجر المرضع بحسب الحالة الاقتصادية في البلد، ولا يعطي قليلا لا يمكّن المرضعة من العيش. وكذلك في قوله (بالمعروف) إشارة إلى أنه إذا كانت حالتكم الاقتصادية أفضل من الأشخاص العاديين فلا تتقيدوا بالوعد الذي قطعتموه على أنفسكم من قبل، بل زيدوا أجرة الرضاعة بما يتفق مع حالتكم المالية. وكأن الحد الأدنى لأجر الرضاعة هو ما يكفي لسد حاجاتها بحسب الحالة الاقتصادية العامة، ولكن إذا استطعتم فلا تكتفوا بدفع الحد الأدنى، بل ادفعوا لها بحسب حالتكم المالية.

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (235)

شرح الكلمات: 

يتربصن: أي ينتظرن. وهناك مبتدأ محذوف قبله تقديره: “حكمُ زوجاتهم أن”، أو “زوجاتهم يتربصن” (إملاء ما منّ به الرحمن).

التفسير:

يستدل بعض الناس من هذه الآية أن المرأة التي توفي زوجها..إذا أقدمت على خطوة حول مستقبلها بعد فترة العدة المقررة، وهي أربعة أشهر وعشرا، فالذنب عليها وليس على ورثة زوجها.. لأن الله تعالى يقول في مكان آخر (متاعا إلى الحول غير إخراج) (البقرة: 241). ولكني أرى أن هذا الاستدلال غير صحيح، فلو تزوجت المرأة من رجل آخر في خلال العام بعد انتهاء المدة المقررة فلا ذنب في ذلك، بل هو مستحب محمود.. لأن الله تعالى قال هنا (بالمعروف) والعمل بالمعروف معناه أنه عمل بحسب قانون البلد أو عاطفة الفطرة أو بحسب العقل العام. وكل عمل يتم هكذا فلا يمكن أن يعده الإنسان العاقل ذنبا أو خطأ. الحقيقة أن هذه الآية زجْر لأولئك الذين يمنعون الأرامل من زواج ثانٍ. يقول الله تعالى: إذا تزوجن فلا إثم عليكم.. أي ليس في فعلهن هذا أي إثم أبدا.. فلماذا تمنعونهن من الزواج الثاني؟ لهن الحق في أن يتصرفن في أنفسهن كما يشأن.

إلا أن هناك إشارة إلى أنهن لو فعلن بأنفسهن شيئا ليس من المعروف، ومع ذلك لم يمنعهن أولياؤهن أو الحاكم ففي هذا إثم.

ومن أهم الأسباب لتحديد الأشهر الأربعة والأيام العشرة عدة للأرملة أنه إذا كانت حاملا تحرك الجنين في هذه الفترة وتبيّن حملها يقينا، وهذا يحتّم عليها أن تنتظر فلا تتزوج ثانية حتى تضع حملها.

Share via
تابعونا على الفايس بوك