النعمة من محض رحمة الله تعالى والأذى مترتب على أعمال الإنسان
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (الآية: 20)

شرح الكلمات:

أمة: الأمة: الجماعةُ، الجيلُ من كل حي، الطريقةُ، الدينُ، الحينُ، القامةُ (الأقرب)

اختلفوا: اختلف: ضد اتفق. اختلف زيدٌ عمراً: كان خليفته. واختلف إلى الخلاء: تردّد إليه. (الأقرب)

كلمة: الكلمة: اللفظُ كلُّ ما ينطق به الإنسان (الأقرب)

قُضيَ: قضى بين الخصمين: حكم وفصل (الأقرب)

التفسير:

للآية عدة معانٍ منها:

الأول: لقد هدينا الناس في بداية الأمر إلى طريقٍ سليمٍ واحد، ولكنهم انحرفوا عنه فيما بعد وفسدوا.. أي أننا خلقنا الإنسان مجبولاً على الرشد والهداية وأخبرناه بالصراط السويّ، ولكنه انحرف عنه واتجه إلى الضلال. ونتوصل بهذا المعنى إلى الحقيقة بأنَّ الله تعالى إنّما خلق الإنسان من أجل الهداية، ولذلك دلّه على سبيل الرشد والهدى، ولو أنَّ الله تعالى خلقه لإلقائه في جهنم للأبد – كما يظن البعض لسوء فهمهم الآيات القرآنية (تفسير ابن جرير) – لوجّهه منذ البداية إلى طريق جهنّمي، فإذا انحرف عنه أدخله الجنّة!

الثاني: إنَّ توحيد الناس إنّما يتم دائماً بواسطة الأنبياء. إننا نُرسل إليهم نبياً فيهديهم إلى الصراط السوي، ولكنهم يختلفون فيما بينهم بعد فترة، ولولا قضاؤنا منذ البداية أن لا نُعذّب قوماً إلا بعد الإنذار والتحذير لقضينا على هؤلاء المختلفين. ولكنا نُرسل إليهم بحسب هذا الوعد نبياً آخر، فيتَّحِدون مرةً أخرى، ثم يشرعون بعد فترة في الاختلاف من جديد، وهكذا.

ولنتذكّر، نظراً إلى هذا المعنى، أنَّ الذي يُشتّت هذه الوحدة الحاصلة بواسطة الأنبياء إنما يدفع الدنيا إلى هوّة الهلاك، ولذلك فإنه يستحقُّ أشدَّ العذاب.

الثالث: إنَّ الناس دوماً يسلكون سبيلاً واحداً هو معارضة أنبيائهم. فكما أنَّ الناس في الماضي عارضوا رسلهم وصدّوا عنهم، هكذا نرى دأبهم أيضاً. ولولا قضائي أنني ما خلقتُ الناس إلا لنيل الهداية وأنَّ رحمتي فاقت غضبي لقضينا أمرهم وقطعنا دابرهم منذ زمنٍ بعيد.

وهذا يؤكد أنَّ رؤية الآيات ليس بوسع كل إنسان، وإنّما تتطلب رؤيتها عيوناً ترى بخشية ربها

وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ۖ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (الآية: 21)

شرح الكلمات:

الغيب: كل ما غاب عنك؛ ما غاب عن العيون (الأقرب)

التفسير:

في قوله تعالى وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ وردت كلمة (من ربه) وصفاً للآية والمراد: لولا أُنزلت عليه آيةٌ بيّنة، لأنَّ الآية النازلة من عند الله تكون آيةً بيّنة.. أي أنها تُشير بنفسها إلى غاية نزولها وكأنها آيةٌ تتكلم بنفسها.

لقد دأب معارضو الأنبياء منذ القِدم على ترديد كلمة واحدة: ما نزلت عليهم أية آية. ومما يُثير الدهشة أنه رغم استهلال هذه السورة بقوله تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ كان ولا يزال أعداء الرسول يقولون: ما نزلت على محمد أيَّةُ آية! وهذا يؤكد أنَّ رؤية الآيات ليس بوسع كل إنسان، وإنّما تتطلب رؤيتها عيوناً ترى بخشية ربها، وإلا فكيف ساغ لهؤلاء القوم حتى بعد نزول الآيات أن يظلُّوا مُصرّين على مطالبتهم قائلين: يا ليت نزلت معه آية. وفي زمننا أيضاً كان ولا يزال المشائخ المعارضون لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام يردّدون الكلام نفسه أمام الناس: هل تظنوننا مجانين حتى نرفضه رغم نزول الآيات معه؟ ويتناسى هؤلاء أنَّ أعداء النبي أيضاً ما كانوا فاقدي العقول إذ لم يصدّقوه، بل إنَّ العائق نفسه كان حائلاً دون تصديقهم إيَّاهُ.. أي خُلوُّ القلوب من خشية الله، فعميت أعينهم فلم يبصروا الآيات النازلة عليه.

وليكن معلوماً أنَّ الآية تكون بمعنى العذاب إذا طالب بها الكفار، إلا أن يصرّحوا بمرادهم من الآية، فيعني قولهم هذا: لماذا لا ينزل الله علينا العذاب إذا كان محمد نبيّاً صادقاً.

ويتضح من قول الله تعالى إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ أنه ليس ضرورياً لمعرفة صدق الأنباء الإلهية أن يحدَّد بالضبط موعد تحقّقها، وإلا لما قال الله لنبيّه أن قل لهم: إنَّ العلم بموعد نزول العذاب هو عند الله وحده، بل أخبرهم بموعده عند سؤالهم عنه. ولكنه اكتفى بقوله: العلم بموعده عند الله، وعندما يحين نزوله تتجلى عليكم الحقيقة تلقائياً.

فالآية تتضمَّن درساً للذين يعتقدون أنَّ الأنباء الغيبية يجب أن يحدَّد موعد تحقّقها، فعليهم أن يُصحّحوا تفكيرهم وموقفهم من الأنباء. عندما يقع أمرٌ عظيم غير عادي بناءً على النبأ الإلهي بحيث لا يمكن أن يسمَّى صدفةً فيجب ألا ينكر تحقّقه كل إنسان ذي فطرةٍ سليمة، بحجَّة أنّه كان المفروض أن يتحقّق النبأ في وقت كذا أو كذا، لأَنَّ مثل هذا التصرَّف لا يدلُّ إلا على تعنُّته وعناده.

وقوله تعالى إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ يشتمل على ردٍّ لطيف على مطالبة الكفار بالعذاب، حيث يقول الرسول: إنّي أنا الذي يجب أن يضيق ذَرعاً على تأخّر العذاب، لا أنتم، إذ تجعلونني أنا المسكين عُرضةً لعذابكم وعدوانكم كل يوم. فلماذا تتعجّلونه، بدلاً مني. أنتم قابعون في بيوتكم مطمئنين، بينما أتعرَّض أنا للتعذيب والإهانة، ولا يُسمح لي بالخروج من عتبة بيتي، ورغم هذا كله فأنا مطمئن متمسّك بأهداب الصبر، وأمَّا أنتم فإنَّكم قلقون بسبب تأخّر العذاب. أيها الحمقى، طالما أنا المضطهد أنتظره صابراً فلماذا يصعب عليكم انتظاره؟!

المسلمين اليوم مصابون بهذا الداء أيضاً. تحلُّ بهم آفةٌ بعد آفة وتنتابهم كارثةٌ تلو كارثة، ولكن ما أن يُكرمهم الله تعالى بين محنةٍ وأخرى بساعاتٍ من الرحمة وفق سنّته مع جميع مخلوقاته إلا ويعودون إلى غفلتهم السابقة دون التفكير في سبيل النجاة مستقبلاً

وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا ۚ قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا ۚ إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (الآية: 22)

شرح الكلمات:

أذقنا: ذاق المكروه: نزل به فقاساه. أذاقه: صيّره يذوق. والذوق يكون فيما يُكرَه ويُحمد. (الأقرب).

ضرّاء: الضرّاء: الشدةُ، النقصُ في الأموال والأنفس، الزمانةُ (أي العاهة)، وهي اسم مؤنث من غير تذكير (الأقرب)

مكراً: المكر: الخداعُ، جزاءُ المكر، سُمّي به كما سُمّي جزاء السيئة سيئةً مجازاً على سبيل مقابلة اللفظ باللفظ، مَكَرَ الله فلاناً: جازاه على المكر. وقيل: المكر صرفُ الإنسان عن مقصده بحيلة، وهو نوعان: محمود يُقصد فيه الخير ومذموم يُقصد فيه الشر (الأقرب)

التفسير:

قال الله من قبل (في الآية رقم 20) لقد سبق قضاؤنا أننا خلقنا الناس لأجل رحمتنا، وأننا عملاً بقرارنا هذا نُعاملهم دائماً بالرحمة. وفي الآية التالية لها قال: إنَّ الناس يُطالبون رسلنا بالعذاب، ولكنا لا نتعجّل في إنزاله عليهم بل ننزله على مهل، لكي يهتدي منهم من كان له نصيبٌ من الهدى. وقال في هذه الآية: لا نُنزل العذاب على مهل فحسب، بل لا نُنزله دفعة واحدة، وإنّما نصيبهم بقسطٍ منهم ثم نرفعه لكي يُدركوا أنَّ تكذيب الرسل يعرّض الإنسان للعذاب، وأنَّ العذاب قادمٌ لا محالة عليهم وبالتالي يرتدعون عن سلوكهم المشين ويكفّون عن الظلم والعدوان. ولكن أصحاب الطبائع الشريرة لا يُبالون بهذا النصح والإنذار، وإنما دأبهم أن يرتدعوا قليلاً عند نزول العذاب، وما أن نخففه عنهم حتى يستأنفوا التنكُّر لآياتنا ورسلنا من جديد. والحق أننا أشدّ منهم عذاباً وأسرع منهم مكراً، ولكنا نؤجله عمداً، فلا أعمالهم خافيةً علينا حتى نُعجّل بالانتقام منهم خوفاً من نسياننا إيّاها، كما أنّهُ لم يضق بنا الوقت لإنزال العذاب عليهم بحيث نخاف أننا إذا لم نعاقبهم في وقتٍ معيَّن فلن نقدر على عذابهم في وقتٍ لاحق. كلا بل إننا لقادرون على ضربهم في أي وقت نشاء، كما لا تخفى علينا منهم خافية وإن أخفوها.

كما تبيّن الآية أيضاً أنَّ من فطرة الإنسان أنه إذا أَنعم الله عليه برحمةٍ من لدنه ظنَّ أنه سيعيش على الدوام دائماً في راحةٍ ورخاء، مع أنه لو فكّر – وهو في هذا اليسر والرخاء – في ساعة العسر والبلاء ودبّر لها، لنال راحة أطول ورخاء أكثر.

ومن المؤسف أنَّ المسلمين لم يَعوا هذا الدرس القرآني أيضاً، فكان مآلهم هذا الذل والهوان، بل إنهم لا يعملون به اليوم، إذ لا يُحافظون على أموالهم وثرواتهم بحكمةٍ وتعقّل، بل يُبذّرونها تبذيراً، أو يبخلون بها وقت الإنفاق، والنتيجة في الحالتين واحدة: الهلاك والدمار.

إنَّ الآية تحمل أيضاً ردّاً على تساؤل الكفار السابق: إذا كان محمد صادقاً في دعواه فلماذا لا يأتينا بالآية أي بالعذاب؟ فأجاب الله فيها: لقد أنزلنا صنوفاً من العذاب، ولكننا نردفه برحمةٍ منا عملاً بسنّتنا المستمرة، ولكنكم سرعات ما تنسون العذاب لشقاوة قلوبكم وتأخذون في المطالبة به من جديد.

وإنه لمما يبعث على الأسف أنَّ المسلمين اليوم مصابون بهذا الداء أيضاً. تحلُّ بهم آفةٌ بعد آفة وتنتابهم كارثةٌ تلو كارثة، ولكن ما أن يُكرمهم الله تعالى بين محنةٍ وأخرى بساعاتٍ من الرحمة وفق سنّته مع جميع مخلوقاته إلا ويعودون إلى غفلتهم السابقة دون التفكير في سبيل النجاة مستقبلاً.

وبيّن بقوله قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا أنَّ مكائدهم لن تأتي بالنتائج المنشودة، لأنَّ كيدنا أسرع نتيجةً من كيدهم، فكل ما يكيدون به نرتّب عليه عواقبه أولاً بأول، وكلما دبّروا مكيدةً قابلناها بما يحبطها ويُفشلها. أما إذا كِدنا نحن بهم كيداً فسوف تظهر نتائجه قبل أن ينتبهوا إليها.

هناك من يعترضون: لماذا يُطحن الأبرياء في رحى العذاب عندما يحلُّ بالظالمين؟

الواقع أنَّ هؤلاء المعترضين لا يرونَ الوجه الآخر من الصورة، كيف أنَّ الله تعالى – من أجل هداية زمرةٍ من الناس – يمنح الأمان لآلاف الأشرار. أما وقوع بعض الأبرياء في الأذى مع الظالمين فذلك لأنَّ الناس ذوو طباع مَدَنية يُفضّلون العيش معاً فيتأثر بعضهم من بعض، ولا بد أن يتقاسموا إلى حدٍ ما أفراحَهم وأتراحَهم. ولذلك فعندما يحل العذاب بالظالمين يُصاب جيرانهم الأبرياء أيضاً ببعض العذاب.

لقد نسب الله هنا الرحمة إلى نفسه دون الضرَّاء. ذلك أنَّ النعمة تنزل بمحض رحمة الله تعالى، وأما الأذى فيترتّب على أعمال الإنسان نفسه. وبقوله تعالى إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا أشار أيضاً إلى أننا نُنزل عليهم النعم ونصنع بهم الجميل، ولكن هؤلاء يتنكَّرون لصنيعنا ويحاربوننا بنعمنا. نمدُّهم بالأموال وغيرها فيستخدمونها لمحاربة رسلنا ومخالفة تعاليمنا.

Share via
تابعونا على الفايس بوك