في رحاب القرآن
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (126).

أرى أن زمن تحقق هذا النبأ القرآني بصورة كاملة هو زمن المهدي والمسيح الموعود، لأنه في شخصه اجتمع بنو إسحاق وبنو إسماعيل. فنرى أن هذا النبأ يتحقق بالفعل بعد ثلاثة عشر قرنا، ويقبل الإسلام ويدخل في الأحمدية أهل أوروبا وأمريكا وأفريقيا وأستراليا والهند والصين وجاوا وسومطرة والإيرانيون والمغول والأفغان والراجبوت والباتان وغيرهم وغيرهم.. فلا يوجد ملة ولا مذهب إلا ويدخل أهلها في الإسلام عن طريق الأحمدية، ويتحقق صدق هذا النبأ القرآني بأننا جعلنا هذا البيت جامعا للناس المتفرقين.

والمثابة أيضًا “العتبة” التي تحيط بالبئر، لتمنع وقوع ما يفسد الماء، ولتحول دون سقوط أحد في البئر خطأ. ونظرا إلى هذا يكون المراد: جعلنا الكعبة المشرفة لكي يجتمع الناس من كل مكان، ويتلقوا هنا تربية دينية وأخلاقا سامية؛ وثانيا جعلناها لتكون عتبة للعالم.. أي يكون فيها الناس بمأمن من السيئات والزور، وثالثا: جعلناها سببا لاستتباب الأمن، كالقلعة التي يجتمع فيها الجنود ويوطدون نظامهم.. هكذا جعل الله بيته الحرام ليجتمع فيه الناس لتقوية وإصلاح نظامهم. فكما أن القلعة تمنع دخول العناصر غير المرغوب فيها كذلك جعل الله بيته هذا لمنع هذه العناصر من ولوجه.

ثم إن الغرض من القلعة أن يتوطد الأمن فيما حولها ويصان الاستقرار، وهذا الغرض أيضًا متحقق في بيت الله تعالى. فهو مركز لتوطيد النظام، وسبب لصد العناصر غير المرغوب فيها، وذريعة لتوطيد الأمن في العالم.

وقوله تعالى (وأمنا).. نبأ ثان يقول فيه:

أولا- إن هذا المقام مقام أمن.. يعني أنه يُحفظ من عدوان الأغيار،

وثانيا- إن هذا المقام سوف يهيئ الأمن للآخرين،

وثالثا- لما كان الأمن الحقيقي هو طمأنينة القلب لذلك يمكن أن يعني قوله تعالى (أمنا) أن هذا البيت يهب طمأنينة القلب والسكينة. وبالفعل لا يمكن أن ينال الإنسان هذه الطمأنينة القلبية خارج الإسلام. وأبسط مثال على ذلك هو أن الإسلام يُقنِع بما يقول بتقديم الدليل والبرهان، أما الأديان الأخرى فإنها تلجأ إلى الجبر والتحكم بدلا من البرهان. يقول الإسلام إن الذي يقبل أمرا ما بدون برهان فلا حقيقة لإيمانه، بل إنه يعلن على لسان محمد المصطفى (على بصيرة أنا ومن اتبعني) (يوسف:109)..أي أن ما أقدمه من تعاليم أؤمنُ بها عن اقتناع بالدليل والبرهان؛ وكذلك يقبله اتباعي بالدليل والبرهان؛ فشتان بيني وبينكم. أنتم تقولون: اقبل هذا الأمر وإلا تدخل جهنم، ولكن ما أقوله فإني أقدم عليه دليلا معقولا، لأن القلب لا يطمئن بدون ذلك.

كما أن أعظم ذريعة لحصول طمأنينة القلب هي المشاهدة..أي التشرف بالكلام مع الله. لو نال الإنسان هذا الشرف لم يقلقه شيء. والإسلام يَزفّ أيضًا هذه البشرى للمنتسبين إلى الكعبة المشرفة: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) (الفجر:28-31).. ارجعي إلى ربك وأنت في حال من الرضا.. هو راض عنك وأنت راضية عنه. إن أتباع كل الأديان يقولون إن الإنسان إذا عمل بديننا دخل الجنة، ولكن الإسلام لا يقول بأن الإنسان يدخل الجنة بعد الموت فقط، بل يقول: إنني سأريكم ربكم في هذه الدنيا أيضًا؛ مما يدل على أنني دين حق. يقول (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنـزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) (فصلت: 31). فالإسلام يدعي بأنه يجلب طمأنينة القلب للإنسان، أما الأديان الأخرى فلا تدعي بذلك.

والمعنى الثاني للأمن أن يكون الشيء في مأمن. وهذا المعنى أيضًا ينطبق على الكعبة المشرفة، لأنها رغم مؤامرات الأعداء المتكررة لا تزال مأمونة ومحفوظة بفضل الله تعالى. جاءت حكومات بعد حكومات، ودُمرت بلاد بعد بلاد، ولكن بيت الله باق محفوظ بالرغم من هجوم الأعادي، وبقي مقام أمنٍ.

ثم ليس هناك أمة بقي لها معبدها تحت قبضتها دائما. وإنما هي أمة الإسلام التي بقي معبدها المقدس تحت يدها دائما. إن أورشليم المقدسة عند اليهود والمسيحيين كانت في يد المسلمين لأكثر من ألف عام. ثم إن “هاردوار” “وبنارس” وهما مكانان مقدسان لدى الهندوس بقيا في حكم المسلمين لستة أو سبعة قرون؛ ثم وقعتا في أيدي الإنجليز. كذلك “جيا” المكان المقدس عند البوذيين ظل تحت يد المسلمين ثم في يد الإنجليز وهي الآن في يد الهندوس. كذلك الحال مع الجينيين [ الذين يحرمون قتل أي حيوان ] فقد وقع معبدهم في يد قوم بعد قوم. ولكن الكعبة المشرفة هي الوحيدة التي بقيت في يد المسلمين، ولم تستطع حكومة غير إسلامية أن تستولي عليها من يدها. وهكذا كانت مكانَ أمنٍ دائما.

ومن حيث إعطاء الأمن للآخرين فإن الكعبة تختص بذلك بطريقة لا مثيل لها في الدنيا. كل شيء في الحرم يتمتع بالأمن حتى الحيوان حرام صيده. بل إن قطع الأشجار حرام، إلا الإذْخر وهو نوع من العشب والكلأ. ويتمتع الإنسان بالأمن لأن القتال والحرب محرمان في حدود الحرم (البخاري: فضل الحرم). هذا علاوة على ما ينعم به الإنسان من حفظ الله بسبب التقوى والروحانية.

ولكن العجيب أن ذلك البيت الذي اعتبره الله بيتا يهيئ الأمن للآخرين.. فإن أهله المنتسبين إليه يؤمنون بجهاد لا يعطي الأمان لأحد في العالم! هذا أمر عجيب جدا.. لأن الدين الذي سُمِّي دين الأمن والأمان يعتبر بسبب عقائدهم الفاسدة هذه دين الفساد. وهكذا يجمعون بين الأضداد والمتناقضات. ولا يمكن إزالة ذلك إلا أن نخبر الناس بأنه لا إكراه في الإسلام، فهو يحمل تعليم الأمن، ويعطى الأمان للجميع، ولهذا الغرض نفسه أقيمت الكعبة المشرفة.

يقول الله تعالى: تذكروا وقتما جعلنا هذا البيت مثابة للناس وأمنا..أي تركنا أبوابه مفتوحة لكل العالم دون أي تمييز بين قوم ونسل وبلد ولسان.

قوله تعالى (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى).من: هنا للتوكيد أو التمييز، وهناك محذوف قبل (واتخذوا) هو: قُلْنا أو أمرنا. والمراد: أمرنا أن تتمسكوا بمقام إبراهيم مكانا للعبادة؛ أو أن تصلوا في المكان الذي أقام فيه إبراهيم لبناء الكعبة؛ أو أن تُصَلّوا بعد الطواف في المكان الذي وقف فيه إبراهيم للعبادة، شكرا منكم على أن الله جعل هذا البيت سببا لتوحيد الناس وتوطيد الأمن.

ومقام إبراهيم موضع خاص عند الكعبة، أُمر المسلمون بأداء ركعتين نفلا فيه بعد الطواف بالبيت. ويبدو أن إبراهيم بعد أن فرغ من بناء الكعبة صلى في هذا المكان صلاة شكر لله، وإحياء لهذه السنة الإبراهيمية أمر الله المسلمين بأداء ركعتين هناك. إلا أنني أرى أن قوله تعالى (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)، يعني أن تسعوا لتحوزوا في العبادة والطاعة مقاما تبوَّءه إبراهيم فيهما. إن الناس يظنون خطأ أن المراد من (مقام إبراهيم) موضع مادي، مع أن المقام الحقيقي لإبراهيم هو مقام الإخلاص والتقوى والاستسلام الذي كان يتمتع به، والذي عن طريقه رأى ربه. وكأنه يقول: عليكم أن تحبوا الله كما أحب إبراهيم ربه، وتضحوا في سبيل الله كما فعل، وتشتركوا في فعل الخيرات بنفس الإخلاص والحب والتقوى والإنابة الذي كان يتمتع به إبراهيم. لو فعلتم ذلك لنلتم مقامه. فليس المراد من مقام إبراهيم هنا موضعا ماديا، ولكنه مقام روحي. وفي لغتنا أيضًا يقولون: ” لم تعرف مقامي “.. ولا يفهم منه السامع أنه المكان الذي يجلس فيه، وإنما يدرك على الفور أنه يعني مقامه في رفعة القدرة والمكانة.

ولو تمسكنا بالمعنى الظاهري.. أي يقف كل مُصَلٍّ في مقام إبراهيم.. فهذا مستحيل. فأولا- لحدث اختلاف في تعيين يقيني لمصلاه في مقام إبراهيم. ولو عرفوه – على فرض المحال – ما استطاع العالم الإسلامي كله الصلاة هناك.. بل في أيام الحج وحدها يكون في الكعبة مائة ألف أو يزيدون، ولو أن كل واحد صلى في هذا المكان بسرعة لاحتاج إلى دقيقتين على الأقل، وفي ساعة واحدة لن يصلي فيه إلا 30 شخصا وفي يوم واحد 720 مصليا. أما الباقون هم أكثر من 99 ألفا فلن يتمكنوا من أداء الصلاة في هذا المكان في ذلك اليوم. أما المسلمون الآخرون في أنحاء العالم فلا يمكن أن يصلوا في هذا المكان لبعدهم عنه فلو حملنا هذا الأمر على الظاهر ما أمكن أن يعمل به المسلمون.

ثم إن هناك احتمالا كبيرا أن يؤدي التزاحم إلى الفساد، بل بالفعل قد حدث شجار مرَّة وقُتل شخص في مكة بسبب ذلك. فهذه الآية لا تعني المفهوم الظاهري، وإنما معناها أن تحاولوا أن تقفوا في مقام الإخلاص الذي وقف فيه إبراهيم وعبد فيه ربه، وأن تعبدوا ربكم.

ثم إن قوله هذا (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) يشير أيضًا إلى قوله (إني جاعلك للناس إماما).. والمعنى: يجب أن يوجد بينكم أنتم أيضًا إمام حتى تبقى فيكم السنة الإبراهيمية حية. الواقع أن هاتين الآيتين تذكران نوعين من الإمامة: إمامة النبوة وإمامة الخلافة. أما الأولى فقال الله عنها لإبراهيم: (إني جاعلك للناس إماما) فقال إبراهيم (ومن ذريتي) كي يستمر عملي بعد موتي؟ فقال الله تعالى: سيكون في ذريتك بعض الظالمين، فكيف يعهد بهذا العمل إلى الظالمين؟ نعم، إننا نأمر أولادك بالتمسك بسنتك الإبراهيمية، والذين يعملون بأمرنا هذا سوف نجعل منهم أئمة، وسوف يتمتعون بنعم متجددة من الله تعالى. فهذه الآية تتضمن ذكر إمامة النبوة التي تأتي من الله مباشرة.

أما إمامة الخلافة التي يكون للناس دخل فيها، فيشير إليها قوله تعالى (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى).. فقيل للناس: إذا لم تكن هناك إمامة النبوة فمن واجبكم أن تقيموا بينكم إمام الخلافة، وأن تستمروا في ذلك.

ثم إن قوله تعالى (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)حض على أن نؤسس في المدن والأماكن الهامة مراكز للدعوة تكون ظلا للكعبة المشرفة وسببا لنشر الإسلام؛ حيث يجلس الناس يعبدون الله، وينشرون توحيده. يقول الله: يا من تَدَّعون بعشق الكعبة المشرفة، ويا من تدينون بحب بيت الله الحرام، ما بالكم تصوّرون كل منظر يعجبكم مثل “تاج محل ” وتحتفظون بصورته في بيوتكم، وتعرضونه على أهلكم وأولادكم؟ وإذا أعجبتكم فاكهة أتيتم بها إلى بيتكم وتطعمونها أهليكم؟.. ولكن ما بالكم لا تحاولون أن تأتوا بصورة الكعبة إلى بلادكم وإلى أحيائكم؟

ما هي الكعبة المشرفة؟ إنها بناء وقف لعبادة الله. ولكن البديهي أنه لا يمكن للعالم كله أن يزور الكعبة، لذلك فإن الله كما يريد أن يوجد في العالم نُسخ أو صُوَر لإبراهيم.. كذلك يريد تعالى أن تصنعوا للكعبة نسخا تجلسون فيها أنتم وأولادكم.. واقفين مكرِّسين حياتكم لخدمة الدين. وكما أن الذين سوف يتبعون أسوة إبراهيم يكونون أولادا وأظلالا لإبراهيم، كذلك ستكون هذه النسخ أظلالا أو نماذج للكعبة. والحق أنه ما لم تُقَم أظلال للكعبة في كل أرجاء الأرض لا يمكن نشر الدين. يقول الله ناصحا بني الإنسان: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى).. قوموا مقام إبراهيم، ومنه اعبدوا الله – أي أَنشِئوا مراكز لنشر الدين، لأن انتشار الدين بصورة كاملة لن يتم بدون ذلك.

قوله تعالى (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طَهِّرا بيتيَ للطائفين والعاكفين والرُّكَّع السُّجود). يخبر الله هنا ما هو مقام إبراهيم. عهد إلى فلان يعني نصحه نصيحة مؤكدة، وأوصاه مرارا وأكد له. فالمعنى أننا أكدنا أيما تأكيد عليهما (أن طهِّرا بيتي).. قوما بتطهير بيتي وحمايته من العيوب والخراب.. (للطائفين) الذين يطوفون حوله، أو الذين يزورونه مرة بعد أخرى، (والعاكفين) الذين يعتكفون فيه.. أو الذين يقفون حياتهم لمجاورته، (والركع السجود).. الذين يؤمنون دائما بتوحيد الله ويبقون مستعدين لتوطيد التوحيد، ويقضون حياتهم في طاعته والانقياد له، أو الذين يركعون ويسجدون.. فالركوع والسجود هنا ظاهري وروحاني أيضًا.

وللتطهير معنيان: إنه يعني الطهارة الظاهرة أيضًا.. كما قال الرسول أن طهروا مساجدكم وعطِّروها بالعود (مسلم، الطهارة)، كذلك يعني التطهير الطهارة الباطنة.. أي تراعوا حرمة المساجد، ولا تتكلموا فيها بما لا طائل منه. ولكن الأسف أن الناس بدلا من أن يذكروا الله في المساجد يدخلون في أحاديث لا طائل منها، مع أن المساجد إنما تُبنى لعبادة الله. لاشك أنه عند الضرورة يُسمح بالحديث الديني والاجتماعي والمدني في المساجد. أما أحاديث اللغو داخل المسجد فهذا أمر منكر. فعلى الشباب خاصة أن يتذكروا هذا الأمر.

وقد يشير قوله تعالى (طهرا بيتي) إلى أنه سيأتي زمن سوف يضع الناس الأصنام في بيت الله، فمن واجبكم أن تطهروا هذا البيت منها وتلقوها خارجه. وبحسب هذه الوصية طهر الرسول بيت الله وأخرج منه أصناما بلغت 360 صنما (السيرة النبوية لابن هشام، فتح مكة).

لقد نزلت هذه السورة بعد الهجرة في وقت كان المسلمون لا يجدون الأمن حتى في المدينة. ولكن الله قال عندئذ إن كل العالم المتفرق اليوم سوف يجتمع على هذا المركز. فانظروا كيف أن الناس من كل مكان من العالم يحجون هذا المكان، ويتجهون إليه وقت الصلاة. فما أروعها وأعظمها آية على صدق النبي !

 

 

Share via
تابعونا على الفايس بوك