الإسراء والمعراج (الحلقة الثالثة والأخيرة)

الإسراء والمعراج (الحلقة الثالثة والأخيرة)

محمد حلمي الشافعي

كاتب

ثلاثة أنواع من الكشوف

ونُكرِّر ما سبق من أنّ الكشوف تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسمٌ ترى فيه الأشياء والأمور كما هي عليه في العالَم الماديّ دون تبديل.. (مِثْلَ تجليةِ بيت المقدِس للرسول وهو جالسٌ عند الكعبة يروي رؤيا الإسراء). وقسمٌ يحتاج جميع ما فيه من وقائع إلى التأويل والتعبير.. (رحلة المعراج إلى السماوات العُلا)، وقسمٌ يجمع بين سابقيه.. أي أنَّ بعض أحداثه تحتاج إلى تعبير والبعض الآخر يمثّل الأمور كما هي في عالم المادة.. وواقعة الإسراء من هذا القسم الأخير..

ولإيضاح ذلك نضرب مثلاً بما رواه ابن الأثير في تاريخه (أنّه بعد الإسراء قعد رسول الله في المسجد الحرام وهو مغمومٌ خشية ألّا يُصدِّقه الناس. فمرَّ به أبو جهل. فقال له كالمستهزئ: هل استفدت الليلة شيئًا؟ فقال : نعم. أُسرِيَ بي الليلة إلى بيت المقدس. فقال أبو جهل: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟! فقال: نعم. فقال أبو جهل: يا معشر كعب بن لؤي، هلمُّوا؛ فأقبلوا؛ فحدَّثهم النبيّ . فمن بين مُصدِّقٍ ومكذِّب ومُصفِّقٍ وواضعٍ يده على رأسه؛ وارتدَّ الناس ممن كان آمن به وصدَّقه.. وقالوا: فَانْعَتْ لنا المسجد الأقصى. قال : فذهبتُ أنعتُ حتى التبسَ عليَّ.. فجيء بالمسجد وإنّي أنظر إليه فجعلتُ أنعته. قالوا: فأخْبِرنا عن عِيرنا؟ قال: مررتْ عليَّ عيرُ بني فلان بالروحاء وقد أضلُّوا بعيرًا لهم وهم في طلبها. فأخذت قدحًا فيه ماء فشربته، فَسَلْهم عن ذلك. ومررت بعير بني فلان وفلان فرأيت راكبًا وقعودًا بذي مرّ. فنفر بكرهما مني، فسقط فلان فانكسرت يده فسلوهما. ومررت بعيركم بالتنعيم يقدمها جملٌ أورق عليه غرارتان مخيطتان. تطلع عليكم من طلوع الشمس.

فخرجوا إلى الثنية فجلسوا ينتظرون طلوع الشمس ليُكذِّبوه. إذ قال قائلٌ: هذه الشمس قد طلعت، فقال آخر: والله هذه العير قد طلعت يقدمها بعيرٌ أورق كما قال. فلم يُفلحوا، وقالوا: إنّ هذا سحرٌ مبين). (الخصائص: سيرة اين هشام، مسند ابن حنبل)

فهذه الرواية تُبيّن لنا أنَّ ذلك الجزء من أحداث الإسراء من النوع الجلي الذي لا يحتاج إلى تأويل. ومعنى ذلك أنّ الإسراء كان كشفًا، ولو كان بالجسد ورؤية العين البصريّة ما اختلط الأمر على الرسول وما اشتبه عندما أخذ يصفه للكفار مع أنه لم يمضِ على عودته من هناك سوى مدةٍ وجيزة.

ورويَ عن أنس بن مالك أنّ رسول الله قال:

“رُفِعْتُ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى في السَّماءِ السَّابِعة، نَبْتُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ؛ وَوَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ، يخرجُ مِنْ سَاقِها نَهَرَانِ ظَاهِرَانِ وَنَهَرَانِ بَاطِنَانِ، فَقُلتُ يَا جِبْرِيل مَا هَذَانِ؟ قَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَفِي الْجَنَّةِ وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ والْفُرَاتُ”. (ابن حنبل).

  هذا الحديث يدلُّ كغيره على أنَّ المعراج النبويّ لم يكن رحلة جسدية. والسبب واضح كل الوضوح. فهل غيَّر الله الموقع الجغرافي لأنهار المنطقة. وجعل النيل والفرات ينبعان أو يَصُبَّان في أصل شجرة النبق ولا تدري بذلك الشعوب العديدة التي تسكن حولهما؟

أرأيتم أنّ فهم الحادثة على أنّها من أعمال الجسد العنصري يجعل منها مجموعة من الخُزعبلات والعياذ بالله. ولو سلّمنا بأنّ هذه الأحداث إنّما أمور رمزيّة مجازيّة فما معنى أن يكون الجسد قد انتقل إلى هذا المكان الرمزي. وما معقوليّة هذا الفعل. وما مغزاه؟

مغزى المعراج

الواقع أنَّ هذا الكشف الروحاني العظيم يتضمَّن الإشارة الإعجازيّة إلى ما سيُقابل الإسلام من الانتشار خارج الجزيرة العربيّة. وسيبدأ ذلك في المنطقة بين نهري الفرات والنيل. وأنّ ازدهار الأمّة الإسلاميّة ورفعة شأنها سيكون على يد هذه الشعوب. وأنّ الخير الخلقي والروحاني سوف يعمُّ أهل المنطقة وهو نابع من ظلال الدوحة الروحانيّة العظيمة التي ارتقى إليها نبيُّ هذه الأمّة العظيم ويربطهم بالفلاح الأخروي والازدهار الدنيوي.

إنّ إدراك أحداث المعراج إدراكًا صحيحًا يمكننا من تصوُّر عظمة المعراج وحكمته ومغزاه ومراميه القريبة والبعيدة، وكل ذلك يصعب على من يظنُّون أنّ المعراج أو الإسراء كان رحلةً بالجسد المادي؛ فضلاً عمّا يُثيره ذلك من اعتراضات يتعذَّر الإجابة عليها..

فمثلاً يُقال لأصحاب نظرية الرحلة الجسديّة الماديّة: هل كان الرسول بحاجة إلى رؤية النيل والفرات ليتحقّق من آيات ربّه الكبرى؟ أليس الأجدر بذلك جماعة من الكفار.. إذ أنّ إيمان الرسول ما كان يشوبه أي نقص أو ضعف.. وما قيمة أن يرى المصطفى سدرة المنتهى على صورةٍ تُخالف شجر النبق المألوف من حيث ضخامة الثمار وكبر الأوراق؟

مغزى سدرة المنتهى

إنَّ الإجابة على كثير من التساؤلات التي من هذا القبيل لا تتأتَّى إلا إذا لجأنا إلى التأويل وسلّمنا بأنّ سدرة المنتهى ليست نباتًا دنيويًّا ماديًا وإنّما هي رمز إلى أمور أخرى روحانيّة.

ولفظة سدرة مشتقّة من (سدر). يقال سدر الشعر أي سدله، وسدر الثوب أي أرسله طولاً، وسدر الرجل أي تحيَّر، والسدر شجر النبق؛ والسدر البحر.

والمقصود من تجلّي ربّ العزة تبارك وتعالى للمصطفى عند سدرة المنتهى أنّ النبي قريبٌ إلى الله تعالى قربًا يعجز الإنسان عن تصوُّره، أو يعني أنّ الوحي الإلهي للرسول بحرٌ لا ساحل له يذخر بالمعارف والحقائق الإلهيّة، أو أنّ المعارف والعلوم الإلهيّة التي كُشفت للرسول هي كالدوحة العظيمة التي يستظلُّ الإنسان بظلّها فتحميه من شدّة الحرّ؛ وينشد سالك الطريق الروحانيّة في جانبها الراحة ويطرح عن أطراف جسمه التعب والعناء.

كما أنّ من خصائص أوراق السدرة أنّها تُستعمل في تحنيط جثّة الميت للمحافظة عليها من الفساد. فالمعنى أنّ التعاليم التي جاء بها المصطفى من وحي الله تعالى لا يتطرَّقُ إليها الضياع أو النسيان أو التلاعب في نصوصها لأنّها في حفاظة الله تعالى مصونةً من التحريف.. ومن ثم فهي بدورها تحفظ المتمسِّك بها من الفساد الخُلقي والانحطاط الروحاني؛ وهي صالحة لذلك على مرِّ العصور.

كما أنَّ (سدرة المنتهى) تتضمَّن إشارةً غيبيّة إلى صلح الحديبيّة الذي انتهى به الصراع الشديد بين المصطفى والمؤمنين من جانب وبين قريش من جانب آخر.

إنّ (سدرة المنتهى) التي ترمز إلى ما تفضل الله تعالى به على المصطفى وأمّته من تعاليم وإرشادات وحكم وشريعة إنّما هي الطريق إلى الجنة.. جنّة الدنيا من فلاحٍ وازدهار وسعادة وارتقاء، وجنّة الآخرة التي يعجز اللسان والبيان والتصوُّر عن وصف ما أعدّه الله تعالى فيها من أسباب النعيم والسعادة. وكلّما ازداد المؤمنون استمساكًا وعملاً بشريعة الله تعالى كلما ازدادت حياتهم جمالاً وكمالاً ووجدوا من الله تعالى تغيُّرات وترقيَّات تجلُّ عن الوصف.

وتُقرِّر الآيتان:

مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى

أنّ الكشف كان كشفًا جليًّا، لم تكلّ بصيرة المصطفى ولم تخطئ ولم تنحرف عن رؤيته. لقد كان كشفًا يتضمّن آياتٍ ربّانيّة عظيمة بل هي العظمى بين الآيات.. لأنّها تكشف له وللناس جميعًا عن حقيقة محمد ورسالته؛ ومنزلته عند الله تعالى؛ ومكانة شريعته وكتابه بين الشرائع والكتب، ومستقبل دعوته ومصير أمته. آيات سيشهدها الناس: ويراها الأعداء قبل الأتباع.. سيرى الجميع صدق رؤياه. وتبيّن لهم كماله الخلقي.. كمال تشريعاته.. ، كمال أتباعه … فوزه وانتصاراته… ازدهار أمته … الأخطاء والمعاصي التي تقع من بعض المنتسبين إلى أمته.. العلاج الربَّاني لكل الشرور بإقامة الصلاة التي وإن قلَّ عدد مرّاتها فإنّها مباركة الأثر في ترقية أمّة المصطفى وصيانتهم من الزلل إن واظبوا عليها وجعلوا منها صلةً مستمرة مع ربِّ العزّة تبارك وتعالى..

نعم هذه هي الآيات الكبرى والدلائل العظمى على أنّ محمدًا له حديث وشأن مع الله تعالى.. لا يضاهيه فيهما إنسٌ ولا جان.

تعبيرٌ لأحداث أخرى

هكذا الحال أيضًا بالنسبة للأحاديث العديدة الخاصة بوصف الإسراء والمعراج وعلينا أن نفهم حقيقتها ومعانيها على ما يوافق تعبير الرؤيا..

فمثلاً تعني رؤية بيت حصول الرائي على العزّ والفلاح؛ وتعني الدابّة (أي البُراق) أنّ الراكب سينال مرتبةً عالية بعد سفره، ويعني الصعود إلى السماء الأولى أنّ حياة الرائي تمتدُّ إلى الشيخوخة وأرذل العمر، وبلوغ السماء الثانية يرمز إلى أنَّ الرائي يكون عالمـًا  حكيمًا. وتعني السماء الثالثة العزّة والإقبال في الحياة الدنيا. وتعني السماء الرابعة قرب السلطان والحصول على السلطة؛ وتعني السماء الخامسة الفزع والاضطراب والمخالفة والحرب، وتعني السماء السادسة حصول الرائي على الجاه العريض والسعادة الدائمة؛ ويرمز بلوغ السماء السابعة أنّ الرائي يبلغ درجة عالية من القدر والمنزلة الرفيعة بحيث لا يُدانيه أحد. وعلى العموم فإنّ فتح أبواب السماء يدلُّ على قبول الدعاء والبركة والخير.

وقد تحقّقت فعلاً كل هذه الأمور والأنباء للرسول .

أما المشاهد الأخرى فهي لا تحتاج إلى تأويل إذ أنّها تصوِّر بعض الخطايا التي سوف يقع فيها الضعفاء من أمة محمد ، أو التي يقع فيها معارضوه فعلاً، أو التي ستقع من أعداء أمته في المستقبل.

وقد عُرضت المشاهد بطريقةٍ رائعة تبيّن مدى ما تمثّله هذه الخطايا من قُبح في سلوك الإنسان ومدى ما ينتظر مرتكبها من عقوبة دنيويّة إذ ينفر منهم ذوو الطباع السليمة؛ ومدى ما يستحقونه من عقاب أخروي بسبب استبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير.

الإسراء رؤيا

وفيما يتعلّق بالإسراء فقد سمَّاه القرآن المجيد في نفس السورة (الرؤيا) حيث قال:

وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ ،

وإذا ادَّعى بعض المفسرين أن (رؤيا) تعني أيضًا رؤية العين فإنّ القرآن المجيد استعملها بمعنى الكشف في عدّة مواضع، لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ و هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ (يوسف). يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا (إبراهيم).

وجاء في لسان العرب وأقرب الموارد: الرؤيا ما رأيته في منامك. وفي مجمع البحار: الرؤيا ما رأيته في المنام.

وقد ذهب بعض الصحابة رضي الله عنهم وعلماء الحديث إلى أنّ الإسراء كان كشفًا ورؤيا فقط لا رؤية عين. وقد روى ابن إسحاق وابن جرير عن معاوية سُئلَ عن مسرى رسول الله قال: (كانت رؤيا من الله صادقة) الدرُّ المنثور ج4.

وروى ابن إسحاق قال: حدثني بعض آل أبي بكر أنّ عائشة رضي الله عنها كانت تقول: (ما فُقِدَ جسدُ رسول الله ولكن الله أسرى بروحه). التفسير الكبير.

أما كون هذه الرؤيا فتنة فقال ابن إسحاق: قال الحسن: وأنزل الله تعالى فيمن ارتدَّ عن إسلامه لذلك -أي الإسراء:

وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ . سيرة ابن هشام ج1.

ويقول البعض: لو كان الإسراء روحيًّا لما اعترض كفار قريش الذين حكى لهم الرسول ؟ ولكن فات هؤلاء الظروفُ التي حكى فيها المصطفى وطبيعةُ الكشف. إنّ ما رآه المصطفى كما ذكرنا من قبل ليس من قبيل الرؤيا المناميّة التي يراها النائم.. وما كان له ليحكي ما يراه في منامه، وإنّما ما رآه النبي كان كشفًا رآه وهو كامل الحواس.. لأنّه وحيٌ إلهي.. فهو أقوى في حقيقته مما يقع لغيره من الناس. كل ما في الأمر أنّه لا تصحبه حركة ماديّة؛ وأنّ مشاهده رمزيّة تستلزم التعبير والتأويل.

ثم إنّ أم هانئ رضي الله عنها وهي المرأة المؤمنة الحصيفة فهمت ما قاله الرسول ؛ ولم تجد فيه ما يُدهشها. لكنها كانت تعرف عقليّة كفار مكة وتلمُّسهم الأسباب للتهكُّم والسخرية، لذلك لما عزم على الخروج أمسكت بردائه وقالت له تحذّره من أن يحكي لهم رؤياه لأنّهم لن يُدركوا مغزى ما رأى وسيستخدمونه مادةً للاستهزاء: يا نبيَّ الله! لا تحدِّث الناس – أي الكفار المعارضين، بهذا الحديث فيكذِّبوك ويؤذوك قال: والله لأُحدِّثنَّهم. وبينما المصطفى عند الكعبة يمرُّ به عدو الله أبو جهل فيسأله في سخرية هل من نبأٍ جديد؟

والآن لنتساءل فيما بيننا ما هي الأنباء التي كان يرويها الرسول للناس ويتوقع سماعه أبو جهل؟! كانت أنباء الأمم السابقة وما حلَّ بهم من عقاب إذا خالفوا أنبياءهم. وأنباء مستقبل الإسلام الباهر وما يحيق بأعدائه من عقاب.

وها هو الرسول يروي لهذا الساخر المستهزئ ما أراه له الله تعالى.. بلهجة الواثق مما رأى.. المطمئِنِّ لوعد الله تعالى.. يروي بأسلوب من يحكي الأمر الواقع.. وحي الله تعالى: فقال : نعم، أُسريَ بي الليلة.. ولم يدعه عدو الله يُكمل حديثه؛ بل أسرع يدعو الناس ليكونوا شهودًا معه ويشتركوا معه في السخرية والتكذيب من أصدق البشر .

ولكنه لم يكن حُلمًا، ولو قال ذلك -وحاشا له أن يتهرَّب من الحقّ- لزادت سُخريتهم وتمادوا في تهكُّمِهم. إنّه يحكي ما رآه حقيقةً وصدقًا.. وهم لا يُدركون تجربة الرؤيا التي يُريها الله لعباده.. ويكشف لهم فيها من عجائب آياته الكثير.

فلا بدَّ وأن يروي لهم الكشف الذي رآه.. وليُكذِّبه من يكذّب.. فهذا دأبهم يُكذِّبونه منذ أن قال لهم إنّه رسولٌ أمين من ربِّ العالمين.. وليرتدَّ ذوو الإيمان الضعيف الذين جمعوا بين الوهن وسوء الإدراك. أما المؤمنون.. من أمثال الصدِّيق ومَنْ على شاكِلته وما أقلَّهم.. فقد أدركوا وصدَّقوا واطمأنّوا إلى ما تحمله رؤيا رسولهم الكريم من خيرٍ عظيم.. تحقَّق بعد شهورٍ قليلة.. وما انفكَّ يتحقَّقُ حتى يومنا هذا.

نعم يا رسول الله، ما كان لك أن تخاف دهشة أبي جهل وأضرابه فتجعل من الكشف الصادق والرؤيا الحقّة حُلمًا يراه النائمون منهم.. ولكنك  رويتَ ما رأيت.. وكان حقًّا أنّك رأيت.. وكان حقًا تأويل ما رأيت.. ولقد أسرعت السماء لتكمل لك صدق رؤياك.. وتكرِّر لك مشهدًا لم تركّز عليه انتباهك.. وأنت مُنهمكٌ في صلاتك ولقاء إخوانك.. فمن ينظر إلى الجدران ويذكرها وأمامه هذه المتعة الروحيّة العظمى..

نعم أسرعتِ السماء لتكشف لك ما سبق أن كشفتهُ لك منذ ساعاتٍ قلائل.. ولتنبِّه أولئك الذين يظنُّون أنّ الرسول قد ذهب بجسمه ورأى بعين بدنه بيت المقدس.. ثم تختلط عليه الصورة الماديّة بعد فترةٍ وجيزة لأمرٌ بعيد الاحتمال.

هذا، وإنَّ طَلَبَ المعارضين من المصطفى أن يَصِفَ لهم بيت المقدس لأمرٌ يدلُّ على الغباء.. لأنّ الرحلة تمَّت في الليل.. ولا يتوقع من زائر الليل لفترةٍ قصيرة أن يُلاحظ مثل هذه الأمور.. فكان وصفه لها دليلاً آخر على أنَّ ما رآه كان في حالة الكشف الصادق.. سواء فيما رآه النبي ليلاً؛ أو ما رآه أثناء حكايته لأحداث الرحلة.

كما أنّ وصفَ رسول الله لِمَا شاهده من القافلة والعِير ليس من الأمور التي يراها الإنسان ليلاً وهو يمضي بسرعة البرق.. ولكن هذه التفاصيل الدقيقة تدلُّ على أنّه رآها فعلاً في عالَم الكشف.. وأنّ ما سمعه أصحاب البعير الضّال أو أصحاب الماء المشروب هو أيضًا على سبيل الكشف وإن لم يُدركوه.

وجديرٌ بالملاحظة أنّ جبريل لم يمنع الرسول من شُرب مائهم مع أنّه أخبره أنّه لو شرب الماء لَغَرِقَ وغرقت أمته، كما أنَّ المصطفى ما كان ليشرب من ماء أو يكشف إناء دون أن يستأذن من أصحابه.

ولقد جاء قدرٌ من كشف الإسراء من القسم الذي تُرى فيه الأمور كما هي في دنيا الواقع.. وهو ما رواه المصطفى من مروره بعير بأحد الوديان ودلّهم على جملٍ ضلَّ، ومثل هذا القدر لا يحتاج إلى تأويل وقد جعله الله تعالى برهانًا فوريًا على صدق رؤيا المصطفى .

أنباء في هذا الكشف

أما المقصد الرئيسي من هذا الكشف والغرض منه فأمرٌ عظيم. فقد أراد الله تعالى أن يُخبر الرسول ويُريه المخرج القريب من تكذيب قريش ومعارضتها وتعذيبها لأتباعه من المؤمنين.. وذلك بهجرته إلى المدينة المنوَّرة، وما يتعلّق بهذا الانتقال من ظفرٍ وانتصار للإسلام.

والمراد من رؤية بيت المقدِس هو المسجد النبوي الذي بناه في المدينة المنوّرة.. التي بارك الله فيها وما حولها وأعطاها من المجد والسلطان والعلوِّ في الدنيا والآخرة أكثر من بيت المقدِس، ولقد رفع مسجده فيها على كل مساجد الأرض غير المسجد الحرام.

أما لقاؤه الأنبياء وصلاتهم جميعًا خلفه فتعبيره أنّ شريعته ودينه ينسخان كل ما سبق من شرائع الأنبياء؛ وأنّه سيكون رسولاً وهاديًا ومبشّرًا ونذيرًا لكل أمم الدنيا؛ وفيه إشارة إلى أنّ دعوته تنتشر في أطراف الأرض من أقصاها؛ وأنّ هجرته إلى مهجره ستكون سببًا ومفتاحًا لذلك. وفيه النبأ بأنّه سيملك بيت المقدِس وسيكون سيّد ملوكها وعلمائها وأهلها أجمعين..

ولو اطّلعنا على ما كتبه صاحب «تعطير الأنام» لوجدنا تأويل كشف الإسراء يتفق وما ذكرناه، فقد ورد فيه: (تدلُّ رؤية كل مسجد على جهته والتوجّه إليها كالمسجد الأقصى والمسجد الحرام ومسجد دمشق ومسجد مصر وما شاكل ذلك. وربما دلّت على علماء جهاتهم أو ملوكهم أو نوّاب ملوكهم).

أنباءٌ تحقّقت بالهجرة

ومن المناسب أن نُطبِّق هذا التعبير في واقعة الهجرة ونتائجها على الآيات والواقعات:

لقد بدأ الله تعالى قوله سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى . وقوله (سبحان) يُبيّن أنّ الإسراء ليس إلّا رؤيا تتضمَّن نبأً عن أمرٍ يكون في المستقبل ويُظْهِرُ سبُّوحيّة الله . وطبعًا لا تثبت سبُّوحيّة الله بمجرّد إسراء الرسول إلى بيت المقدِس، ولكنها تتجلّى في الهجرة بصورةٍ أعلى وأجلى.. إذ يتم هذا النبأ بواقعةِ الهجرة وكونها مدعاةً لإتمام الأنباء القرآنيّة الأخرى من جهادٍ وقتالٍ وفوزٍ ونجاحٍ للإسلام ودخول الناس في دين الله وقيام حكومة ودولة إسلاميّة وتأسيس مدنيّة دينيّة واكتساحٍ للشرك من جزيرة العرب.. فحصول كل هذه الأمور يدلُّ على كون الله تعالى (سُبُّوحًا). وليس ثمّة من عاقلٍ يُداخله شكٌّ في أنَّ أساس الفتوحات الإسلاميّة كلها هو الهجرة النبويّة الكريمة.

إننا لو أمعنا النظر فيما جرى ليلة الهجرة لتبيّن لنا أنّ الله حقًّا سبُّوحٌ منزَّهٌ من كل نقصٍ وعيب؛ ينصر عباده المخلصين. فرغم ما دبَّره المشركون لقتله من حصارٍ لبيته؛ فلقد نبَّه الله تعالى رسوله إلى الخطر المحدِق به وسهَّل له الطريق دون معرفة أعدائه وأعمى عيونهم عنه، بل وحمى عليًّا إذ عرَّض نفسه لخطر القتل لأيام في فِراش النبيّ من أجل محبّته له. ولقد غشَّى الله أبصارهم عندما وصلوا إلى الغار، فلم يتمكّنوا من رؤية الرسول وصاحبه مع أنهما كانا على قيد شبرٍ منهم. أليست هذه من آيات الله الكبرى؟ أليس الله الذي أجرى ذلك كله سُبُّوحًا؟ أليس لسان حالنا دائمًا يقول: سبحان الله ربِّ العالمين!

أما قوله (ليلاً) فمن المعروف أنّ المصطفى هاجر ليلاً من مكة إلى المدينة، لقد كان جبريل مع النبي في الإسراء وكذلك كان أبو بكر رضي الله عنه مع المصطفى في هجرته، وهذا إشارةٌ إلى رفعةِ شأنِ أبي بكر عند الله تعالى إذ أقامه مقام جبريل .. كصاحبٍ ومُعينٍ للرسول .

وما يجب ذكره أنّ موسى في رؤياه تلقّى وحيًا يُشبه ما قاله الله عن إسراء الرسول فقد قيل:

بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .

وقيل في الإسراء

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ .

فكما بارك الله لموسى في الأرض التي ستكون فيها شريعته بارك لمحمد في الأرض التي تقوم فيها شريعته.. وكِلا الأمرين مِصداقٌ لسبُّوحيّة الله تعالى.

فبيتُ المقدِس كان مركزًا وسببًا لتأسيس حكومة إسرائيل وقيام الشريعة الإسرائيليّة. كذلك كانت المدينة المنوّرة والمسجد النبويّ مركز الحكومة المحمّدية ومهبط الشريعة الإسلاميّة التي أقامت دولة بني إسماعيل في العالَم؛ لذلك نَعَتها الله أي المدينة المنوّرة بالمسجد الأقصى من حيث القُدسيّة والبركة.

ولقد تمَّ النبأ الإلهي (باركنا حوله) في حقِّ المسجد النبويّ والمدينة المنوّرة إذ أنّ الله باركهما. فقد بارك المدينة المنوّرة وما حولها وجعلها حرمًا بفضل دعاء نبيّها إذ قال: (إنّ إبراهيم حرَّم مكة ودعا لأهلها، وإنّي حرَّمتُ المدينة كما حرَّم إبراهيم مكة، وإنّي دعوتُ في صاعها ومُدِّها بمثل ما دعا إبراهيم لمكة.) صحيح مسلم.

ثم قال: (اللهمَّ حبِّب إلينا المدينة كَحُبِّنا لمكة أو أشدّ، اللهمَّ باركَ لنا في صَاعِنا ومُدِّنا.) صحيح البخاري. وقال: (اللهمَّ اجعل بالمدينة ضِعفي ما جعلت بمكة من البركة.) صحيح البخاري.. وقال عن مسجده: (لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجدَ: المسجدِ الحَرامِ، ومسجدِي هذا والمسجدِ الأقصى.) – صحيح البخاري. وقال أيضًا: (أنا آخرُ الأنبياء ومسجدي آخرُ المساجِد -أي أفضَلُها-) صحيح البخاري. وهكذا بارك الله في المسجد النبويّ ومدينته كما بارك بيت المقدِس في زمن بني إسرائيل، بل إنّه بارك في المدينة أكثر بكثير، ولما كانت المدينة المنوّرة عاصمة الإمبراطوريّة الإسلاميّة كان الإسلام دائمًا آخذًا في الرُّقي والانتشار.

ولكن لما غيّر الخلفاء المسلمون عاصمة الإسلام توقف رُقيّ الإسلام وبدأ في الضعف والاختلال، وظهرت الاختلافات الذاتيّة والحروب الداخلية ولم تنته حتى يومنا هذا.

ومن مظاهر البركة التي نزلت بالمدينة بهجرة المصطفى إليها ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان وباءُ الحُمَّى بالمدينةِ قبلَ قدومِ النبيِّ -قيل في كتب اللغة أنّ المدينة كانت تًسمَّى يَثرِب لِكَثرةِ بُكاءِ أهلِها على مُوتَاهُم مِنْ مَرضِ الحُمَّى- فلمّا قَدِمَ إليها زَالَ وباءُ الحُمَّى بِدُعائِهِ فسمَّاها المدينة.)

وأما قوله لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا فكما سبق ان أشرنا من كثرة الآيات والمعجزات الباهرات والغزوات القاهرات للشرك وأهله التي وقعت بعد الهجرة.. وظهور الإسلام على أعدائه وإعلاء كلمته في جزيرة العرب وغيرها أكبر آيةٌ من آياتِ ربّه دونها الآيات الأخرى.

ولقد كشف الله كل هذه الآيات باختصار وجمال عن طريق المثال في كشف الإسراء.. ولكنه ذكر أنّ وقوعها في عالم الحقيقة والواقع سوف يتمُّ في المستقبل بالتفصيل والوضوح الذي رآه في الكشف، وسيكون ذلك بطريقةٍ تدفع الدنيا إلى الإقرار بأنّ الله تعالى (سُبُّوح).. وتحقّق له لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ولن يعمى عن هذه الآيات إلا المعاند أو المتعصِّب.

والقسم الأخير من آية الإسراء إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ أيضًا يؤيّد رأينا لأنّ مشاهدة بيت المقدِس وحده في اليقظة أو في المنام أو في الكشف لا يدلُّ على كونه تعالى سميعًا بصيرًا، وهذا يوجب الاعتراض على أنّ القرآن يأتي بألفاظ في غير محلّها.. ولكن هجرة الرسول لهي الدليل الأكبر على أنّه تعالى هو السميع البصير.

لقد سمع دعاء النبي وتضرُّعاته هو وأصحابه لخلاصهم من كيد الكفار وظلمهم ولإعلاء كلمة الله وانتشار الإسلام.. ففتح لذلك باب الهجرة وجعلها أساسًا وأكبر ذريعة لنشر رسالة التوحيد والحضارة الإسلاميّة، وسمع أيضًا دعاء أبيه إبراهيم من قبل إذ قال:

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ .

إنّ الهجرة هي التي يسَّرت للرسول أن يتلو على أتباعه آيات الله تعالى، ويُزكِّي المؤمنين، ويُعلِّمهم الكتاب والحكمة بحريّةٍ تامة. وهو -جلَّ وعلا- بصيرٌ لأنه حمى الإسلام والنبي والمسلمين في المدينة وفي كل المواقع وحفظهم من مكائد الكفار في كل موطن، وهو حافظ وما زال حافظًا للإسلام والقرآن. وكل هذا هو الدليل على أنّه بصيرٌ يحيط بصره بكل شيء. فليعلم الذين لا يؤمنون بالحق حتى وبعد ظهور الآيات الكبرى، وليعلم المنافقون والضعفاء في الإيمان بأنّه سوف يُجازيهم حسب آثامهم ويُحاسبهم حسابًا شديدًا.

والمسجد الأقصى يُشير أيضًا إلى بيت المقدس نفسها، وتأويل ذهاب المصطفى إلى هناك يحمل نبأً غيبيًّا بأنّه سيملك تلك البلاد، وسوف تكون من مراكز الإسلام الهامة. ولقد تحقّق هذا النبأ بعد سنوات معدودة.. وعلى يد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب دخل الإسلام بيت المقدس ومكث في أيديهم ثلاثة عشر قرنًا. ورغم أنّها ذهبت اليوم إلى أيدي النصارى واليهود.. إلا أنّ ذلك قد تمَّ حسب نبأ أنبأه المصطفى .. ولسوف تعود هذه البلاد المقدَّسة إلى أيدي المسلمين إن عاجلاً أو آجلاً حسب نبوءته .

وإذا أخذنا بتعبير رؤية المسجد وهو علماء البلاد التي بها المسجد فقد تحقّق ذلك أيضًا لأنّ بيت المقدس كانت مركزًا عظيمًا لعلماء المسلمين ومحقّقيه. خرج منها الكثيرون من مشاهير الإسلام ومحدِّثيه.

هذا وإنّ إسراء الرسول إلى المسجد الأقصى يُشير أيضًا إلى أنّه عندما تضعف شوكة الإسلام، وتُغطّي الأرض ظلمة الهجران لكتاب الله ودينه وشرعه، وعندما يُلقي المسلمون بأنفسهم تحت سيطرة الغرب الصليبي.. تسري بركات المصطفى إلى رجلٍ من أمته.. هناك في أقصى بلاد الإسلام ليكون مسجده مركزًا لبركات العالَم المحمَّدي ومنارةً لإشاعة الإسلام الصحيح، فيُنير العالَم بفيوض الإسلام والقرآن، ليفيق المسلمون من غفلتهم ويرجعوا إلى الدين الصحيح، ويحوزوا البركات والأنوار والمجد والحياة التي أُعطيت لأتباع أنبياء بني إسرائيل؛ والتي أُعطيت للمهاجرين والأنصار. وهناك يتحقّق قول الله تعالى:

هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ .

وسوف تبدو عزّة الله تعالى وحكمته في إحياء الإسلام وتجديده ببركة محمد في بعثته الثانية وعلى يد الإمام المهدي والمسيح الموعود .

(اقتباسًا من تفسير سيدنا بشير الدين محمود أحمد )

Share via
تابعونا على الفايس بوك