المراد من الوحي

كلام الإمام حلقة(20)

وليكن معلوما أن الوحي هنا لا يعني ما يقع في النفس نتيجةَ تفكيرٍ كما قد يحصل للشاعر إذا حاول نظم الشعر، أو قال جزءًا من البيت وأجال الفكر للثاني.. فيقع الجزء الثاني في قلبه. فما يقع في القلب هكذا ليس من قبيل الوحي، وإنما هو ثمرة لتفكره وتأمله تبعا لقوانين الطبيعة. فمن يفكر في الحسنات أو في السيئات لا بد وأن يقع في قلبه شيء بحسب سعيه. فمثلا هناك رجل صالح صادق.. يقرض أبياتًا ذَودًا عن الحق، وهناك شخص آخر خبيث فاجر.. يدافع في أبياته عن الباطل، ويسبّ أهل الحق، فكلاهما ينجح بعض النجاح في نظم القوافي، بل لا غرابة لو جاء شعر هذا العدو لأهل الحق والمدافع عن الباطل أحسنَ نظما منه لدوام ممارسته َنظْم الشعر. فلو كان وقوع أفكارٍ في القلب يسمى وحيًا، فلا بد أنْ يُسمى الشاعر الشرير – الذي يعادي الحق وأهلَه ويحمل قلمه دائما ضد الحق ويلجأ إلى الافتراء – مُلهَمًا من الله! وإنكم تجدون البيان الساحر في الروايات وغيرها، وترون كيف أن المواضيع الباطلة تُلقى في قلوب مؤلفيها محبوكة سلسة.. فهل يجوز أن نسميها وحيا؟ بل لو كان الوحي اسما لمجرد ما يقع في القلب من أمور لاعتُبر السارق أيضا من الملهمين، فإنه كثيرا ما يُعمل فكره فيأتي بحيل رائعة للنقْب والسرقة، وتمر بخاطره أساليب مدهشة للنهب وسفك الدماء، فهل يجوز إذن أن نسمي هذه الطرق الخبيثة جميعها وحيا؟ كلا، بل إنما هو ظن أولئك الذين لم يعرفوا ذلك الإله الحق.. الذي -هو نفسه- يُطَمْئِن القلوبَ بكلامه الخاص، ويهب المعارف الروحانية لمن يجهلها.

علامات الوحي الحقيقي

ما هو الوحي؟ إنه مكالمة القادر القدوس مع عبدٍ من عباده الأخيار.. أو مع من يريد أن يصطفيه.. بكلام حي ذي قدرة.. فإذا ابتدأ هذا الحوار بقدر كافٍ وعلى نحو مُرضٍ شافٍ، بحيث لا تشوبُه ظلمة الأفكار الفاسدة، ولا يكون غيرَ كافٍ أو مشتملاً على كلمات قليلة غامضة، بل كان على العكس كلاما لذيذا ذا حكمة وجلال.. فذلك كلام الله يريد به أن يُطَمْئِن عبدَه ويُظهر عليه نفسه. غير أن كلام الله مع العبد قد يكون على سبيل الاختبار فقط، ويفتقد إلى البركة والكفاية، ويراد به اختبار العبد في حالته البدائية ليذوق لذة قليل من الوحي، فإما أن يجعل به حالَه وقالَه كمثل الملهمين الصادقين، وإما أن يتعثر. فإن لم يسلك كالصادقين طريق السداد الحقيقي.. أصبح محروما من استيفاء تلك النعمة، فلا يبقى في يده إلا هتافات زائفة.

لقد تلقى الوحيَ الملايينُ من عباد الله الصالحين، لكن منـزلتهم لم تكن واحدة عند الله. بل حتى أنبياء الله الأطهار.. الذين يتلقون وحيا من الطراز الأول بكل صفاء وجلاء ليسوا سواء في المرتبة. يقول الله تعالى:

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ (البقرة: 254).

فثبت من ذلك أن الوحي فضلٌ محضٌ من الله تعالى.. وليس هو في ذاته دليلا على الفضل، لأن الفضل إنما يكون على قدر الصدق والوفاء، وهي أمور لا يعلمها إلا الله وحده. نعم، قد يكون الوحي أيضا من ثمرات تلك الصفات.. بشرط أن تتوافر في الوحي شروطه المباركة.

لا شك أن الوحي لو تم في صورة حوار بين الله والعبد.. بحيث يسأل العبد والرب يجيب، وكان الوحي متسما بالجلال والنور الربانيين، ومشتملا على علوم غيبية أو معارف حقة.. فلا شك أن هذا الكلام هو وحي من الله. إن الوحي الإلهي يستلزم أن يكون فيه حوار بين الله وعبده. فكما يحادث الصديق صديقَه عند اللقاء كذلك ينبغي أن يتم الحوار بين الله وعبده، بحيث أن العبد إذا سأل الله عن شيء يسمع في الجواب مِن الله تعالى كلامًا لذيذًا فصيحًا خاليًا تماما من أية شائبة من حديث نفسه أو تفكيره أو تدبره، وبحيث تصبح تلك المكالمة والمخاطبة هبةً وهديةً له من الله. فإن كان الوحي على هذا المنوال فذلك كلام الله.. ويكون ذلك العبد مكرمًا عند الله تعالى.

غير أن هذه الدرجة.. التي يصبح عندها الوحي هبةً.. ويتشرف العبد بوحيٍ إلهي متسلسل متدفق بالحياة والطهر، متسم بالصفاء والجلاء، أقول إن هذه الدرجة لا يحوزها إلا أولئك الذين يتقدمون في الإيمان والإخلاص والأعمال الصالحة وفيما لا نستطيع أن نحيط به وصْفًا. إن الوحي الصادق الصافي المصَفى لَيُري عجائب عظيمة من الألوهية. فكثيرا ما يتولد نور جِد ساطع.. مصحوبًا بكلام فيه جلال ونور ساطع. ماذا يبغي العبدُ أعظمَ مِن أنه يحادث مَن خلق السماوات والأرض؟ إن رؤية الله في الدنيا إنما هي أن يكلم الإنسان ربّه.

غير أننا لا نعني من هذا البيان حالةَ الإنسان التي تجري فيها على لسانه كلمةٌ بدون مناسبة، أو جملة أو بيتٌ من شعر هكذا عرضًا.. بل إن مثل هذا الإنسان يكون في اختبار من الله، لأن الله سبحانه وتعالى قد يفتن بهذا الطريق أيضا العبادَ الكسالى الغافلين إذ تجري كلمة أو عبارة في قلب الإنسان أو على لسانه.. وهو لا يدري مصدرها.. أهي من الله أم من الشيطان؟ فلا بد من الاستغفار لدى تلقي مثل هذه العبارات.

أما إذا بدأت المكالمةُ الإلهية مع عبد صالح كشفًا بلا حجاب، بحيث يسمع العبد من الله على أسلوب الحوار المتسم بقوة وجلال.. كلاما جليا عذبا.. زاخرًا بالمعاني فائضًا بالحِكم، وبحيث يتاح للعبد أن يكون بينه وبين الله مثل السؤال والجواب، مرارا، وفي حالة يقظة تامة.. حيث العبد يسأل والرب يجيب، ثم يلتمس العبد مرة أخرى والله تعالى يرد، ثم يعود العبد يعرض طلبه بخشوع وتضرع.. فيجيبه الله تعالى أيضا.. ويتكرر هذا الحوار بينه وبين الله سؤالا وجوابا حتى يبلغ هذا السؤال والجواب عشر مرات على الأقل في مناسبة واحدة، وبالإضافة إلى ذلك يستجيب الله تعالى أثناء هذه الحوارات لكثير من أدعيته، ويُطلعه على المعارف النفيسة، ويخبره بالحوادث المقبلة.. ويُشرّفه بكلامه الجلي الواضح.. سؤالا وجوابا مرة بعد أخرى؛ فمثل هذا العبد الصالح حري به أن يشكر الله تعالى شكرا كثيرا، وخليق به أن يكون أكثرَ الناس بذلا لنفسه في سبيل الله، لأن الله بفضله المحض قد اجتباه لنفسه من بين عباده جميعا.. وجعله وارثا للصديقين الذين خلوا من قبله. إن هذه النعمة نادرة النوال.. ودليل على حسن طالع الإنسان الذي ينالها، وأما ما سواها مما يحسبونه إلهاما فلا قيمة له.

 (فلسفة تعاليم الإسلام)

 

Share via
تابعونا على الفايس بوك