الجن بين الحقيقة والخرافة (الحلقة 7)

الجن بين الحقيقة والخرافة (الحلقة 7)

وفي سورة السجدة يقول الله تعالى:

وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (الآية: 14)

تناولت الآيات السابقة في هذه السورة ذكر منكري لقاء الله يوم الحساب، وموقفهم المخزي الذليل يومئذ، حيث يلتمسون الرجعة إلى الحياة الدنيا.. لعلهم يعملون صالحًا، ويكفّرون عما سلف منهم. ولنتركهم في أمانيهم الباطلة، ولنتدبر في هذه الآية ذلك الإعلان الدستوري العالمي العظيم، إعلان حقوق الإنسان في ناحية الفكر والضمير والعقيدة. يُعلنه الله من فوق سبع سماوات، ويستنه لنا رسول الإسلام .

يقول الله جل ثناؤه: إني خلقت الإنسان حرًا مفكرًا مختارًا مريدًا.. إن شاء آمن بي، وإن شاء كفر. إن شاء دخل في الإيمان وإن شاء عدل عنه. لو كانت مشيئتي أن يكون البشر جميعًا من المهتدين العاملين حسب منهجي.. لخلقتهم جميعًا كذلك، ولَفَطرتهم على الهدى وجبلتهم على الطاعة، ولكن كمال حكمتي اقتضى أن يكون من بين خلقي كائن حر مُريد، يختار محبتي ورضاي وطاعتي عن فهم وإدراك أسمائي الحسنى.. فيطمع في ثوابي ويهاب جلالي، ويطلب كمالاتي ويتعشق جمالي. لذلك خلقت بشرًا.. سويته بيدي وأكملته بروحي، وأطلقت له العنان في أرضي ورزقي. فإن هو اختار منهجي فبها ونعمت؛ حقق الهدف من خلقه وفاز برضاي. وإن هو اختار الكفر والفسوق والعصيان.. فبعزتي وجلالي لأدفعنه في نار جهنم وبئس القرار. الإنسان له مني حرية العقيدة.. أما الجزاء فهو حقي وحدي.. فأنا مالك يوم الدين، لا شريك لي في حساب خلقي.. أعذبهم في الدنيا أو في الآخرة أو كيفما شئت.. لا يملك الجزاء سواي. ومن ادعى لنفسه حق مجازاة أحد على كفره أو عقيدته فقد نازعني مالكيتي وخالف إرادتي.

هذا ما يعلنه الدستور الإلهي في هذه الآية الكريمة وفي آيات أخرى عديدة تعلن الحرية الدينية حقًا مقرر للإنسان. وهو حق يعترف ويتشدق به مسلمو آخر الزمان.. ولكنهم في الواقع لا يعملون به. يدينون بالإرهاب الفكري والعقائدي. والويل لمن رماه قدره في أيديهم، فهم خير من يفتي بقتل الكافر والمرتد والمخالف لهم في أفكارهم البالية وأفهامهم السقيمة. إن فتاوى التكفير تملأ كتبهم المسمومة.. يكفر بعضهم بعضًا. ويكفرون مخالفيهم، ويُفتون بالقتل والرجم جزاء لمن حكموا بكفرهم. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ويقول الله في الآية الكريمة أن الجزاء بيده، ولن يفلت منه وجيه لجاهه.. ولا حاكم لسلطانه.. ولا ثري لماله. كما أن التابع والمحكوم والضعيف والفقير لن يفلتوا من العقاب بسبب أوضاعهم الاجتماعية. فالمنهج الإلهي مسؤولية الجميع، والكل حر في اتباعه، والكل مسؤول عن ذلك أمام صاحب المنهج وحده. والنعيم للجن والإنس، وجهنم للجنة والناس أجمعين.

والآن، لو أن الجِنة صنف من الخلق غير البشر، فما مناسبة ذكرهم ههنا؟ إن الآيات السابقة تتحدث عن بدء خلق الإنسان، وتكاثره، ونفخ الروح فيه، وتزويده بأدوات الإدراك، ثم كُفرانه بنعم الله وإنكاره الحساب، ثم موته وبعثه وحسابه. فأين دور الجِنَّة في كل هذا.. وسياق الحديث كله عن الإنسان؟

ثم تحدثت السورة عن المؤمنين وصفاتهم وجزائهم.. دون أن تتعرض لخلق يخالف البشر. وهل من المعقول أن تحشر الآية القرآنية ذكر الجِنة هنا من غير سبب؟ الحق أن الجنة هم من البشر.. ولكنهم صنف متميز بموقعه الاجتماعي والسياسي.. مما قد يُوهم لهم أن لهم امتيازًا في الآخرة، فلا يحاسبون أو لا يعاقبون. والآية تؤكد على أن جهنم عقاب لهم قبل العامة من الناس العاديين.

ومن الجدير بالملاحظة هنا أن الله تعالى -قبل ذلك ببضع آيات- تحدث عن خلق الإنسان ومراحل تطوره فقال عز من قائل:

الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (السجدة: 8-10)

وقبل أن ننظر في الآيات دعنا نتذكر قول الرسول عن السعي بين الصفا والمروة: “نبدأ بما بدأ الله به”. إن ترتيب الكلمات والآيات في القرآن الكريم ليس عشوائيًا، وإنما هو تفصيل حكيم. ولن نجد في الآيات ما يدعو إلى تقديم أو تأخير كما قد يدعي بعض المتعالمين.

تعلن الآيات الكريمة أن خلق الإنسان مر بمراحل ثلاث: أولها الخلق من طين.. وثانيها التطور الجسدي حتى صار قادرًا على التناسل شأن المخلوقات الحية كلها.. ثم ثالثها التطور الروحي.. أي المرور بعملية تسوية أهَّلَتْهُ لتلقي “الروح” من خالقه. وهذا ترتيب كفيل بأن يوضح للقائلين بأن آدم قد صنع أولاً من كتلة طينية على الشكل البشري المعروف، ثم نفخ الله فيه الروح فدبت فيه الحياة، وقام كائنًا بشريًا كاملاً يعيش في الجنة ويتحدث مع الله.. أقول جدير بأن يوضح لهم بأن مثل هذا القول هُراء باطل، منحول عن أهل الكتاب الذين أساءوا فهم كتابهم (التوراة).

إن ترتيب المراحل كما تسوقها الآيات جليٌّ بسيط، ويقرر أن التسوية ونفخ الروح كان المرحلة الأخيرة، بعد أن كان الإنسان بشرًا حيًا يتكاثر بالتناسل، وقد اكتمل تكوينه الجسدي والعضوي، ومارس الحياة ونما، وبلغ النضج الكافي للتناسل عن طريق أجهزة جنسية متطورة. والمعنى البديهي -كما تقدمه الآيات- إن رحلة الخلق من الطين إلى اكتمال الإنسان خليفة في الأرض مر بالمراحل التالية:

  1. مرحلة التكوين الجسدي ابتداءً من التراب والماء حتى صار كائنًا حيًا.
  2. مرحلة التطور في التكوين الجسدي والعضوي حتى صار قادرًا على التناسل مكتمل الأعضاء والأجهزة.. أي صار بشرًا أقرب إلى الحيوان (جان).
  3. مرحلة التسوية النفسية باكتساب المهارات والخبرات واستخدام الأدوات، مصحوبة بتسوية فكرية روحية جعلت منه كائنًا اجتماعيًا ذا أحاسيس وعواطف وعلاقات. وقد اكتملت هذه المرحلة بأن كان بشرًا سويًا (إنسان) مؤهلاً لأن يتلقى الوحي. وأول من تشرف من البشر بالرقي إلى هذه المرتبة الإنسانية هو (آدم).. فكان بذلك أول بشر إنسان، وأول رسول إلى قومه.. فهو المعلم الرباني الأول، ومن ثم نُسب إليه الجنس كله. إنه الحلقة الأولى في السلسلة المباركة التي قادت الركب الإنساني في طريقه إلى الهدف من وجوده.. بمنهج الله تعالى.. وإلى محبة الله وعبادته.

وتنبه الآية الأخيرة أمة محمد -إلى يومنا هذا- إلى أن الأدوات والملكات التي كانت لآدم وتوصل بها إلى نعمة التسوية ونفخ الروح الإلهي لا تزال لهم. إن الحواس والعقل هبة إلهية للإنسان.. إذا أحسن استعمالها شاكرًا لله أنعُمَه، عارفًا فضله.. لنال بركات السماء، وأخذ نصيبه من التسوية والروح، وحظي بالبشارة الملائكية، تقول الآية الكريمة:

.. وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ

وفي سورة سبأ يعدد القرآن بعض نعم الله على سليمان ومن قبله على أبيه داود (عليهما السلام) فيقول:

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ * فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (سبأ: 11-15)

تناولت هذه السورة موضوع العلم الإلهي الذي لا تغيب عنه صغيرة ولا كبيرة في السماوات أو في الأرض، وأشارت إلى أن بعض الناس يظنون أن ساعة حسابهم لن تأتي أبدًا، وأن عقابهم على ما اقترفوا من شر غير وارد. فتلفت السورة أنظارهم إلى أن القوة والازدهار والرخاء لا يدوم لمن يفسد في الأرض، وأن نزول العذاب المهلك أقرب إلى المفسدين مما يتخيلون، وعليهم أن ينظروا فيما يدور حولهم من مظاهر قدرة الله في السماء والأرض.. ليرتد إليهم نظرهم بالآيات البينات على قدرة الله الذي لا يعجزه شيء.

ثم ذكرت السورة ما وصلت إليه بعض الأمم السابقة من تقدم وازدهار.. ولكنهم عندما خالفوا منهج السماء تبدلت حالهم، وزال عنهم عزهم ورخاؤهم. وليست هذه القصص من باب تسجيل أحداث التاريخ أو من قبيل التسلية، بل هي بشارة ثم تحذير للمسلمين. يبشرهم بما قُدر لهم من العلو والازدهار، ويحذرهم من الوقوع فيما وقعت فيه الأقوام السابقة.. فيصيبهم ما أصابهم.

ومن هذه الأمم أمة نبي إسرائيل، التي ملك عليها داود ، وتوطد ملكه في منطقة فلسطين وما حولها. وأحاط به الأعوان من القادة والعلماء – وهم المشار إليهم بالجبال، وكان من أوليائه ومستشاريه الأتقياء الصالحون، وهم المشار إليهم بالطير، ويؤيدونه ويخدمون مهمته ويعملون معه على ما يصلح مُلكه النبوي، ويزيده بركة وخيرًا.. فتتردد في جنباته أهازيج الحمد والتسبيح والتمجيد لله تعالى. وكان في خدمته أيضًا مهرة الصناع وأهل الخبرة الفنية الذين برعوا في صناعة الأدوات الحديدية، وعلى وجه الخصوص تلك الدروع المتينة التي تستر الأجساد وتحمي المقاتلين، وكانت تفصَّل عليهم بدقة كيلا تعوق حركتهم، وكان الجميع يؤدون واجباتهم مراعين في عملهم تقوى الله تعالى والإصلاح في الأرض.

وتولى الحكم في بني إسرائيل بعد داود الملك سليمان . وكان كأبيه صلاحًا وعلمًا وحكمة. وازدهرت في أيامه مملكة بني إسرائيل أكثر من ذي قبل، ونمت التجارة بينهم وبين الدول المجاورة. وكان له أسطول كبير يجوب بحار المنطقة، من فلسطين إلى الخليج، مرورًا بمضيق باب المندب، فالمحيط الهندي فبحر العرب، ويقطع هذه المسافات الكبيرة لنقل التجارة وحمايتها في مدة شهر ذهابًا وشهر عودةً، مستعينًا بالرياح التي تدفع الأشرعة على فصول السنة شمالاً أو جنوبًا. وتقدمت في أيامه الصناعات المعدنية من حديدية ونحاسية، يستعملها العمال المهرة في مختلف الإنشاءات التي ترضي الله ولا تخالف منهجه. ولقد مكن الله له في الأرض، وسيطر سيطرة كاملة على أهل الجبال، واستخدمهم في كثير من الأعمال التي تتطلب قوة الاحتمال والجلد على العمل.. كإنشاء معابد كبيرة، ذات أعمدة ضخمة مزدانة بنقوش جميلة.. منها معبد سليمان الشهير، ويصنعون له أواني للطهي بالغة الاتساع لتكفي الأعداد الكبيرة من العمال والجند.

ولقد سيطر سليمان على هذه الأعداد الغفيرة من الأتباع بحكمته وحزمه، وكان عقابه شديدًا يردع كل من تسول له نفسه العصيان والخروج على حكومته. وكان قدوة طيبة للجميع، يوصيهم بالمحافظة على نعم الله بحسن استعمالها والمداومة على شكرها. وأخبار التاريخ تكشف لنا عن أن الأمة الإسرائيلية بلغت في عهده أوج رقيها وقوتها. ولما مات سيدنا سليمان خلفه ابنه “رحبعام”. وكان -على عكس أبيه وجده- ضعيفًا سيّء التصرف، فطمعت فيه القبائل وخرجت عليه، وضاعت هيبة الملك، وانقسمت الدولة وفقدت سطوتها وسلطانها. وكان هذا الابن من أبيه بمثابة الأرَضَة (حشرة السوس) التي تأكل صولجان الملك (منسأته)، وإذا ضعف المـُلك فقد مات مؤسسه. إن سقوط سليمان لم يكن بسبب موته.. وإنما بسبب ضعف ابنه الذي أضاع ميراث أبيه حتى تحررت قبائل الجبال من سلطانه، وأحسوا بموت سليمان، وتحرروا من طاعته والعمل تحت يده. وتمنى أهل الجبال (الجن) لو أنهم علموا ما يخفيه لهم المستقبل ما عاشوا سنوات طوالاً في حسرة.. يندبون حظهم لوقوعهم تحت سيطرة الحكم الإسرائيلي، ولخفف عنهم بعض هذا العذاب إحساسهم بقرب الخلاص في عهد الابن الضعيف.

ولقد أطلقت الآية وصف (دابة الأرض) على من أضاع ملك أبيه لأنه كالسوس أو الحشرات التي تنخر وتخرب الأخشاب وتفقدها صلابتها وصلاحيتها. وما أصدقه من وصف! لو أن الابن كان كأبيه لبقي ميراث بيت داود زمنًا أطول، ولصدق قول القائل: من أنجب لم يمت.

ومن الأمم التي غفلت عن شكر نعم الله عليهم أهل “سبأ”. كانت لهم وفرة في الثمار، بطيب المقام.. ولكنهم قابلوا النعمة بالجحود والركون إلى الترف والملذات، فسلب الله منهم ما لم يحفظوه، وانهار لهم “سد مأرب” الهائل.. الذي كان يحفظ لهم الماء للشرب والري، وتحولت جنتهم إلى أرض جدباء لا تنبت إلا الخبيث من الثمر. إن الذين ساقهم الثراء والنعيم إلى الاغترار والركون إلى المتاع والتراخي عن الجهاد في الحياة.. أولئك نسوا منهج الله واتبعوا منهج إبليس. إن الذين يتنكبون عن طريق الأنبياء ويسلكون طرق الشهوات لا مهرب لهم من السقوط والدمار. إن نزعات الشر ودعوات الهدم والفساد لا سلطان لها على المؤمن التقي المتستر بلباس التقوى. ولكنها تنال من أولئك الذين يركنون إلى الشهوات ويتكالبون على حطامها. وفي المثلين القرآنيين السابقين بين لنا الله سببين أساسيين لسقوط الأمم وزوال عزها ومجدها: أولهما -التراخي والتهاون والتسيب في الأخذ بالمنهج الإلهي؛ وثانيهما -الاغترار بما في اليد من نعم، والإعراض عن صونها بالشكر للمنعم والتمسك بحبله كي يحفظها عليهم. وفي ذلك تنبيه وتحذير لأمة المصطفى حتى لا يصيبهم ما أصاب بني إسرائيل وسبأ. وليتهم.. ليتهم تنبهوا ووعوا الرسالة!!

وفي سورة (سبأ) أيضًا جاء قول الله :

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُون (سبأ: 41-42)

فسَّر الرسول الأكرم قول الله في اليهود:

اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ

بأنهم حللوا وحرموا لهم على خلاف ما جاء من الله فأطاعوهم واتبعوهم. فالطاعة الكاملة هي العبادة، ومن استجاب طاعة فقد عبد من أطاعه.. ذلك بالطبع في الأمور الدينية التي لله فيها شرع وتوجيه واجب الطاعة قبل توجيه وشرع كل من سواه.

أما الطاعة المطلقة والانقياد التام والاتباع الكامل.. فلا يكون إلا لله تعالى، من خلال طاعة أنبيائه، مصداقاً لقوله سبحانه:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ (النساء: 65).

ومثل هذه الطاعة تكون على بصيرة كما قال تعالى:

قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي (يوسف: 109)

والملائكة جند الله تعالى، يتنزلون بوحيه ومنهجه إلى الناس. وهم أيضًا الشهداء على خلقه الموكلين بهم. ومن تأثيراتهم أنهم يساعدون الذين يمدون أيديهم إلى الله.. يريدون هديه ويجدُّون في طلب مرضاته. ومن ثم فهم لا بد وأن يُدلُوا بشهادتهم أمام ذي العرش العظيم.. يوم يجمع الله الملائكة والرسل والناس. وسوف يُسألون: هل أطاع هؤلاء المقصرون المفرطون في مسؤولياتهم توجيهاتكم التي بعثكم بها؟ هل سعوا إلى طلب هداي ومنهجي، ومدوا أيديهم يسألون عوني؟

وتجيب الملائكة الموكلة بهم. لا يا ربنا، إنهم ما أطاعونا وما استجابوا لتأثيرنا.. لأنهم كانوا مستسلمين تمامًا لغير ذلك. وما كانت بيننا وبينهم علاقات ولاية ومحبة.. بل كانوا ينفرون منا، وكنت أنت سبحانك ولينا من دونهم. إنهم لم يُتموا سلسلة الولاية التي تمت من الله إلى الملائكة ثم إلى الناس، ليتم الاتصال بين الأرض والملأ الأعلى. يا رب! إن هؤلاء كانوا أصنافًا متعددة: منهم المترفون الفراعنة الذين استسلموا لشهوات باطنة خفية من حب السلطة والجاه والمنصب والملذات الدنيوية والمتع المادية، وكانت هذه المؤثرات تغطي عيونهم وتُخفي عنهم نور الحق. إنهم كانوا يعبدون (الجن). ومنهم من عطلوا ملكاتهم وإرادتهم واستسلموا تمامًا لساداتهم من الحكام والقادة ورجال الدين، ولم يحاولوا من جانبهم أن يفكروا ويعقلوا، وساروا من ورائهم مغمضين خاضعين طائعين مستمرئين لعاعات الدنيا. إنهم يا رب كانوا يعبدون (الجن). ومنهم الجهلة الذين كانوا يصدقون المشعوذين والدجالين، فيزعمون لهم أنهم قادرون على جلب نفع أو دفع مضرة. إنهم كانوا يعبدون (الجن).

إن الانقياد لتأثيرات الخير الملائكية ليست من قبيل الاستسلام الأعمى.. بل هو من توافق الإرادة البشرية مع الفعل الملائكي، وهو ليس عبادة للملائكة.. وإنما هو طاعة لله تعالى. ولذلك لا يوجه السؤال إلى الملائكة بشأن هذا النفر الكريم المؤمن من البشر، وإنما السؤال بخصوص عبدة الجن الغافلين عن الجذب الملائكي.

وخلاصة القول: إن الملائكة يشهدون بأن أهل النار قد سلكوا طريقًا مخالفًا للطريق الذي تعمل الملائكة في تمهيده ودعوة الناس إليه، وأنهم ساروا في طرق سادتهم، متبعين هواهم وشهواتهم.

(يُتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك