الجن.. بين الحقيقة والخرافة

الجن.. بين الحقيقة والخرافة

محمد حلمي الشافعي

كاتب

إن آيات سورة (الحجر) تشير إلى الطبيعة التقدمية في البشر، وتحكي لنا عن المراحل الأولى لنشأته، ومرحلة ما قبل الخلافة وتلقِّي الوحي.. وهي التي وُصف فيها البشر بأنه (جان)، والتي صوَّرها القرآن في سورة البقرة على هيئة حوار على لسان الملائكة..

في قوله تعالى:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ.. (البقرة: 31)

فهذه هي المرحلة المبكرة من حياة البشر، عندما كانوا وحوشًا في سلوكهم، يعيشون في صراع واقتتال على الطعام والجنس. ويعيشون حياة النفور والاختفاء من بعضهم ومن أعدائم وفرائسهم. ولكن الملائكة تعكس الأسماء الحسنى والصفات القدسية على الكون، وتملأه بالحمد والتقديس لرب العرش العظيم.

قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (البقرة: 31)

نعم، ليس هناك أية غرابة في ذلك. فإن الخلاق العليم قد أودع في هذا البشر -الذي يسفك الدماء ويفسد في الأرض- من القدرات والملكات ما يؤهله لاستقبال الوحي السماوي، ويستحق الخلافة والطاعة والتكريم. ولقد عبرَّ عن ذلك قوله تعالى:

فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (ص: 73)

عملية التسوية الإلهية هذه -وهي التقويم والتعديل والتكميل- تشمل التسوية الجسدية ثم التسوية الروحية، التي تصل إلى ذروتها بشرف الكلام مع الله تعالى، وتلقي الوحي الإلهي الذي يرفع الكائن البشري من رتبة (الجان) إلى مقام (الإنسان).. وكأنه وُهب روحا جديدة تؤهله لمهام الخلافة، إذ لابد للخليفة من أن يحمِل قبسا من نور مَن استخلفه، ومسّةً من عطره، ورونقا من صبغته. ولا يتأنَّى ذلك إلا لمن عرف الأسماء الحسنى، واكتسب منها في نفسه ما يستطيع أن يُشِعَّه على من حوله. وعملية النفخ في قوله تعالى: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي تعني دفع التعليم الإلهي في فكره وقلبه ليعرف ربه ومنهج ربه. ويتأكد هذا المعنى من قوله تعالى:

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ (الشورى: 53)،

فالروح هو الوحي القرآني الذي ينفخ في نفس المؤمن قوى جديدة.

وأيضا يتضح المعنى من قوله تعالى:

وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا (البقرة: 32)

وليست ثمة أسماء جديرة بالتعلم بحيث يرتقي بها الإنسان فوق مستوى الملائكة الكرام إلا (الأسماء الحسنى). وما يتشدق به البعض من أن الله تعالى علم آدم أسماء الأشياء فقول متهافت، فالإنسان البدائي في كل مكان على الأرض يتحدث بلغة خاصة، ويطلق الأسماء على المسميات التي وقعت تحت حسِّه، ومن ثم كانت على الأرض عشرات اللغات، فهل علم الله آدم كل تلك اللغات ليعلمها لأبنائه من بعده. وإذا كان الأبناء يستطيعون تسمية جميع الأشياء، فلماذا لا يستطيع آدم؟ وتعليم الأسماء الحسنى بمعنى تردديها وحسب لا يكفى وحده… وإنما المراد تعلم مدلولاتها، والعمل على منوالها، والسير في أنوارها، والتشبه بالمتصف بها- جل وعلا. فهذا هو العلم الذي يُكسب آدم تلك الكرامة التي تؤهله لخلافة الله تعالى. ولابد للخليفة من أن يحمل في نفسه قبسا من نور من استخلفه.

فمجرد تعلم الأسماء لا يميز الإنسان على الملائكة الذين هم جند الله المشرفون على الكون ويعرف كل منهم ما اختص به من أسماء مكوناته. ويدل تعلم الأسماء على أمرين: تعلم لغة تستوعب الأسماء كلها، وتكون وسيلة فعالة في ارتقاء الإنسان اجتماعيا وثقافيا. والثاني أن يتعلم الإنسن أسماء خاصة.. بفهمها والاتصاف بها ترتفع مكانة الإنسان.

ولقد بيّن لنا سيدنا الإمام المهدي أن الله أخبره أن اللغة العربية هي أم اللغات، تعلمها سيدنا آدم عن الله تعالى، وتحقق له بتعلمها لسان يكفل له ولجماعته ونسلهم الحياة الاجتماعية والتقدم الروحاني. وأثبتت الدراسات التي قام بها بعض أتباع سيدنا المهدي وجود آثار واضحة تدل على أن اللغة العربية موجودة في لغات البشر.

ومجمل القول: إن الله تعالى زوَّد خليفته آدم بملكات وقدرات أهّلته للرقي الروحي، ثم تفضل عليه بكلامه، وجعل منه الخليفة الأول والنبي الرسول الأول. أصبح سكان الأرض وقتئذ بمنزلة أبنائه الذين كلِّف برعايتهم وأُمِروا بالدخول في طاعته. وكان على الملائكة بحكم وظيفتهم أن يكونوا أول مُعين له في مهمته النبوية. فالملائكة خلق من جند الله تعالى من وظائفهم نصرةُ أنبيائه، وخدمة رسالتهم ولكن بعض البشر كانوا -ومازالوا- على نفورهم من الحدود والآداب مستسلمين لغرائزهم. كانوا – وما زالوا “جانًّا” ينفرون ويفرون من التمدن والتحضر والاستئناس.. يرفضون الخضوع للقوانين، والارتباط بالمواثيق، والالتزام بالعهود، ويتمردون على التقاليد الجديدة ويتمسكون بما ألِفوه من تقاليد وعادات وأعراف. وبزعامة كبيرهم “إبليس” الذي أعلن العصيان والرفض، وأبدى الكبر والغطرسة.. عزموا على المناهضة والوقوف في وجه المنهج الإلهي. ولذلك صدر القرار الإلهي في مواجهة العصيان والتمرد .. بأن يبوء المتمرد باللعنة والسقوط إلى الحضيض، والحرمان من الرحمة والمحبة والنور الإلهي. وحذَّر الله آدم وجماعتَه من عدوه وعصابِته، وأمرهم ألاّ يختلطوا بهم أو أن يطمئنوا إليهم.. لأنهم يضمرون الشر والغدر.

ومضت الأيام فأنسَتْ آدم صرامةَ التحذير الإلهي. ولعله حسِب أنه بوسعه توصيل دعوته الإصلاحية إلى جماعة إبليس. وهكذا أوقعه ظنُّه هذا في مخالفة غير مقصودة. وكان الظنُّ شيطانا أنساه الحذر. ولقد أعرب القرآن عن حُسن نوايا آدم في قوله تعالى:

وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (طه: 116)

نعم، إن آدم لم يكن عازما على مخالفة التحذير، وإنما كان ناسيا تحت تأثير رغبته الشديدة في أن يؤدي مهمته، ولعله ظن أن العداوة قد فَتَرت، والتمرد قد زال. وإذن فقد اختلط آدم بقوم إبليس وأكل من شجرتهم، وانكشفت ثغوره، وتمكن أعداؤه من إجلائه وقومه عن جنتهم الغنية بالثمار والماء والخيرات. ولم يستطع آدم أن يدفع المهاجمين بشباب قومه، ولم يكف (ورق الجنة) لستر العورة بعد أن أخذوا على غِرة. ومنذ ذلك الزمن.. والصراع قائم بين بني البشر، فمنهم أهل الحق والخير والسلام والمودة من أمثال آدم وسلسلته، ومنهم أهل الباطل والشهوات والكبر والشر من أمثال إبليس وجنوده. وواقعه النسيان والطرد من الجنة ما انفكت تتكرر عبر القرون، إلى أن جاء نبي الإسلام لهداية الجنس البشرى بأجمعه، وها هو كتابه المجيد يحذر أمته من الوقوع في شراك الشيطان، والغفلة عن الدرع الواقي من طعناته.. إنه يوصينا بلباس التقوى الذي يستر المؤمن ويغطي منافذ الشيطان فلا يجد إليهم سبيلا. هذا، وكل من نَهج منهج إبليس مثله، وكل من تزعم فريقه إلى الشر فهو إبليس. وكل خاطر ينسى الحذر شيطان، وكل موسوس بالشر شيطان كذلك.

وجدير بالملاحظة أن قصة آدم مع إبليس تتكرر في القرآن الكريم مرات عديدة، وفي كل مرة جاء فيها ذكر من رفض الدخول في طاعة (آدم) سماه القرآن (إبليس)، والذي حرَّض آدم وأوقعه في النسيان سماه القرآن (شيطانا). وهذا دليل كاف على أن إبليس شيء والشيطان شيء آخر.. ولكل منهما موقفه ودوره الذي يختلف عن دور الآخر وموقفه. ولكن هذا لا يمنع من أن يطلق على أمثال (إبليس) وصف (شيطان) باعتباره محرضا على الشر وزعيما للشياطين.

فإذا واصلناه التلاوة إلى سورة (الإسراء) حيث يقول الله تعالى:

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا * وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا * إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا * قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (الإسراء: 86-90)،

يتضح من الآيات الكريمة أنها تتحدث عن القرآن المجيد ، فتجيب من يتساءل عن مصدره بأنه من عند الله تعالى، وأنه لا دخل لأحد غير الله به.. فهو من أمر الله مصدرا ونزولا وحفاظا، وأنه نعمة جليلة، بل هو أعظم نعمة على البشرية. إن علم البشر محدود، ولا سبيل لارتقائهم في المجال الروحي إلا بهداية السماء وما يتنزل من وحيها، ولو أنهم حُرموا منه ما استطاعوا أن يجدوا بديلا عنه ليرسم لهم منهج الحياة الذي يحقق لهم الهدف من وجودهم، ويوجههم إلى سعادة الدنيا والآخره. إنه من عند العليم الخبير، ولا يمكن أن يأتي العالم كله.. إنسه وجنِّه.. بمثله أبدا.. ولو تضافرت علومهم وجهودهم. ومع أن هذه حقيقة بيِّنة لكل ذي لُب، إلا أن أكثرهم للأسف ينفرون ويصدون.

لنتأمل قوله تعالى: صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ و أَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ . فالقرآن وحي الله إلى النبي .. موجه إلى الناس.. الناس بلا استثناء .. بِصِنْفَيْهم الإنس والجن. ويؤكد ذلك أن التحدي جاء موجهًا للفريقين.. أي لجميع المخاطبين به، ليبين لهم جميعا أنه لو اجتمعت جهود الإنس على كثرتهم.. والجن على قدراتهم وتفوقهم لا ينجحون في الإتيان بمثل القرآن منهجا إلى الله تعالى، يحقق سعادة الدنيا والآخرة. ويلاحظ أن ذكر الإنس جاء لأول مرة قبل الجن، ذلك لأن جماعة المشعوذين أوهموا الناس أنهم يستعينون بقوى خفية وأرواح مستترة تُسِرَّ إليهم بأسرار الغيب والعلوم. فجاء التحدي للإنس ومن يدعون بأنهم أعوان لهم من الجن.

والآية بوجه عام توجه التحدي البليغ إلى كل الناس: عامتهم وخاصتهم، جمهورهم وصفوتهم، شعوبهم وقادتهم.. أن يأتوا بمثل هذا القرآن معنى ومبنى.. مصدرا وأثرا.. صدقا وشرفا.

** وفي سورة (الكهف) قال الله تعالى:

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (الكهف: 51)،

بعد أن تناولت السورة موضوع أهل الكهف كمثال طيب للفتية المؤمنين الذين آثروا حياة الكهوف والعزلة على الكفر والمتع الدنيوية، ثم ضربت مثل صاحب الجنتين واغتراره بما أوتي من مال وولد، وذكرت مثل الحياة الدنيا، وبيَّنت مدى حقارتها كهدف يجري خلفه عبَّاد المادة، وأشادت بقيمة العمل الصالح الذي يبقى أثره.. حذّرت أمة محمد من الانقياد إلى دعاة المادة، والاغترار بالمتع الدنيوية.. وما فيها من جاه أو سلطان.. ثم استطردت تذكرهم بإبليس وموقفه من آدم .. إذ رفض الإذعان لأمر الله تعالى واتباع الهدي الإلهي. الذي جاء به آدم.

هذا المغرور المتكبر، المحرض على الشر، الرافض لتعاليم السماء، المثل السيء لكل عاصٍ من بعده، والأسوةُ القبيحة لكل ضال، هل يليق بعاقل أن يتخذ منهجه ومسلكه ومن سار على طريقته من الأبالسة اللاحقين- بديلا لمنهج الله؟ إنه أعلن عداوته للحق والخير والهدى، فهو عدو لكل فضيلة، مخرب لكل صلاح.. فمنذا الذي يتخذ من عدوه صديقا، ويترك خالقه ورازقه ومحبَّ الخير له.. إذ يشتري الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة والشقاء بالنعيم!!

إن منهج الله يراد به سعادة البشر في حياتهم الدنيا وفي الآخرة .. أما مناهج زعماء الكفر والإلحاد والمادية والفوضوية والنفعية والاستغلال. ومستغلي الشعوب ومضلليهم، ومصاصي دماء العامة ومستبعديهم، وتجار الشعارات والتمثيليات الاستهلاكية.. فبضاعتهم مُنِتة، لا تورثهم جميعا إلا الهلاك والخلود في التعاسة والشقاء. إن صلاح الدنيا وسلامها لا يمكن أن يتحقق بالموالاة  لهؤلاء الأبالسة، الذين لا يعنيهم من الأمر كله إلا شهواتهم المادية، ومراكزهم الدنيوية، التي تخّول لهم السلطان والتسلط والشهرة، وتسيير دفة الأمور وتقدم الصفوف ولفت الأنظار. ومن ورائهم أهل النفاق من آكلي الفضلات والرمم.. يتملقونهم وينفخون في باطلهم بين الناس، ويحصلون بذلك على شيء من الفتات. أما ما يصيب الناس بعد ذلك فلا يعنيهم أبدا. إنهم لا يرفعون شعارا إلا لتخدير العامة وتضليلهم، ولا يسُنون قانونا ولا يسلطون أجهزة أعلامهم وزبانية شرطتهم.. إلا حفاظا على مصالحهم، ودعما لهيبتهم، ومسايرة لأهوائهم وشهواتهم. ولا يدخلون حربا إلا إرضاء لغرورهم، أو طمعا في اغتصاب مابيد غيرهم، أو كسبا لمواقف سياسية كاذبة.

كيف لعاقل أن ينسى ما فعله إبليس “الزعيم الأول” .. مع آدم “النبي الأول”؟ إن الآية الكريمة تنبه الناس ليعرفوا الفرق بين إبليس وآدم. إن آدم وخلفاءه مرايا للكمالات الإلهية. وإبليس وذريته تماثيل الغطرسة والكِبْر، واستعراض القوة والسلطة، والتضليل بكاذب من الوعود وباطل من الأماني ذات الرنين المدوي ..  والمضمون الأجوف الفارغ من الصدق والخير!! ما أتعس ذلك الذي لا يفرق بين الأبالسة في ثيابهم الثمينة، وكلماتهم المعسولة المسمومة .. وبين أهل السماء في تواضعهم وصدقهم، وفي تقواهم وطهرهم، وفي ترفعهم عن الماديات والدنايا، وفي زهدهم عن طلب السلطان والعلو في الأرض، وفي تمسكهم الفعلي بمنهج الله، وفي قدوتهم الطيبة لما يدعون إليه من خير.

ويلاحظ هنا أن القرآن وصف أتباع المنهج الإبليسي بأنهم (ذريته) .. لأنه قائدهم الأول، فهو منهم بمنزلة الوالد وهم الأبناء.. وذلك مماثلا لوصف الناس بأنهم بنو آدم باعتباره معلمهم وإمامهم الأول إلى الهدى والخير.. وأنهم مكلفون باتباعه وطاعة منهجة، فهو كوالدهم وهم بنوه.

وقوله تعالى اسْجُدُوا لِآدَمَ يعني تكليف الملائكة بالعمل في خدمة الرسالة التي يقوم بها آدم.. فهو سجود تكرم وتبجيل وتأييد. وصدور الأمر للملائكة هو الخطوة التنفيذية الأولى في المشروع الذي قدَّره في قوله إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً .. ولابد أن يتضمن بعث آدم ودخول الجميع في نطاق التكليف بطاعته، لأن هذا هو الأصل والمراد.

ويتضح ذلك من قوله تعالى فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ وهذا يعني أن إبليس ومن هو منهم قد صدر لهم الأمر الإلهي بالطاعة عن طريق الدعوة النبوية من آدم.

كما يُفهم فهم أيضا من قوله تعالى اسْجُدُوا لِآدَمَ أي اسجدوا لله مع آدم أو لأجله. فاللام تفيد السببيه أو المتعلقة بمهمة آدم، وأعينوه في مهمته .. مصداقا لقوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (غافر: 52)، فالسجود لله تعالى مع آدم أو ولأجله.

كما أن الآيه تميز بين صنفين من البشر، صنف أسمى من الملائكة، أطاعوا أمر الله فأمر الملائكة بالسجود معهم تأييدا ومؤازرة من أجل ازدهارهم وفلاحهم. وهؤلاء هم آدم وبنوه. وصنف ثان سقط حتى صار أحط من الأنعام، فرفضوا طاعة الله في حين أن الملائكة القائمة على الأسباب قد أطاعو جميعا وأدوا واجبهم. هؤلاء هم إبليس وذريته.

Share via
تابعونا على الفايس بوك