الجِن.. بين الحقيقة والخُرافة

الجِن.. بين الحقيقة والخُرافة

محمد حلمي الشافعي

كاتب

قبل عشر سنوات.. سألني بعض الأصدقاء عن ذِكر الجِنِّ في القرآن والحديث، وواكب ذلك ظهورُ كتابٍ عن الجن محشوٍّ بالخرافات. فكتبت هذه الصفحات مسترشداً بتفسير القرآن لسيدنا الخليفة الثاني – رضيَ الله عنه.  م. ح. الشافعي

قال الله تعالى:

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات: 57) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (الزمر: 3)

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ (آل عمران: 20)

وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ (آل عمران: 86)

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ (الصف: 10)

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ (الشورى: 53-54)

  تدلُّنا الآيات الكريمة السابقة على أنّ الله تعالى قد حدَّد الهدف من خلق الجنِّ والإنس، وحصره في أمرٍ واحد.. هو عبادة الله؛ وأنّ الله أنزل على النبي محمد كتابًا يقوم على الحق، وقرَّره منهجًا لِعبادته؛ وأنّ كل منهج غير القرآن عند الله مرفوض مردود.. لأنّ القرآن هو المنهج الوحيد الصحيح الذي يُحقِّق عبادة الله سبحانه.. والذي يُخْلِص به العابد دينَهُ لله وحده، ويُسلِم إرادته كاملةً له. وهذا المنهج الإلهي ليس لغير الله يدٌ فيه، فهو من عنده.. أنزله على رسوله محمد ليكون نورًا لهداية العِباد إلى العبادة الحقَّة.. وليُعرِّفهم الطريق الصحيح لتحقيق العبوديّة المرادة.

فالهدف من خلق الجنّ والإنس جميعًا هو العبادة..

والمنهج الذي يحقِّق العبادة هو الإسلام..

والوسيلة لذلك هي العمل بما في القرآن المجيد..

والأسوة والبيان هما في اتِّباع رسول الإسلام محمد ، والعمل بسُنَّته وسُنّة خلفائه المهديين من بعده.

والإخلال بشرطٍ واحد مما سبق يحيدُ بالمرء بعيدًا عن الغاية المطلوبة. وليس هناك عاقل عارفٌ بالقرآن يُماري في الحقائق المبيَّنة آنفًا..

ثمَّ إنّ القرآن المجيد وصفَ نفسه بأنّه لَا رَيْبَ فِيهِ ، وحَرصَ على تأكيد هذه الحقيقة منذ البداية، فأعلنها في مستهلِّ “سورة البقرة”. ومعنى ذلك أنّ هذا الكتاب منزَّهٌ عمَّا ينتقص من كماله.. لأنَّه تنزيلٌ من ربِّ العالمين.. الحكيمِ العليم الخبير.. الذي لا تفوتُه شاردةٌ ولا واردة.. الذي يعلم ما في السماوات وما في الأرض. فإذا قرأنا القرآن ودارَ بخلَدِنا معنىً يُخالف ما ينبغي لكتاب الله من الكمال المطلق.. فعلينا أن نُراجع أنفسنا لنُعدِّل من فهمنا كي نصل إلى ما يتَّفق والكمال. هذه حقيقةٌ ينبغي ألا تغيب عن بالنا أبدًا. فالقرآن بريءٌ من أيّ عيب أو نقص؛ ضعفٍ أو خطا؛ شكٍّ أو تناقض؛ تفكُّكٍ أو تعارض؛ سهوٍ أو كذِب؛ حشوٍ أو لغو؛ تفريطٍ أو إفراط. لا شيء في القرآن من ذلك كلّه.. فهو كتابٌ مجيد؛ حكيم؛ عظيم.. من لدن أصدق القائلين.

حسنًا.. فما هي إذن تلك العبادة التي من أجلها خلق الله “الجنَّ والإنس”؟ هل هي تلك الكلمات التي نقولها عند النطق بالشهادتين؟ أم هي تلك الحركات الجسديّة التي نقوم بها أثناء الصلوات؟ أم هي تلك الدراهم التي نبذلها في الزكاة؟ أم هي تلك الساعات التي نُحرم فيها من الطيِّبات أيام الصيام؟ أهذه هي العبادة؟ وأين الحكمة فيها ليُخلَق الجنُّ والإنس من أجلها؟ تعالى الله الخالق أحكم الحاكمين!

إنّه إذا ارتضى بعضُهم أن تكون هذه الأمور الجسديّة الماديّة هي العبادة التي من أجلها خُلِقوا.. فَهُمْ وشأنهم. ولكن العاقل لا يرتضي لنفسه هذا الهوان بعد أن كرَّمه الله وقال: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ . إنّه إذا كانت هذه هي العبادة فإّن المخلوقات الأخرى أقدر منّا على القيام بها.. ونكون في مؤخرة الخلق درجةً وأهمية، ولا نكون جديرين بخلافة الله تعالى. ثم ّإن الله جلّ وعلا غنيٌّ تماما عن مثل تلك الأعمال. نعم، لقد قال لنا المصطفى : بُنيَ الإسلامُ على الشهادتين والصلاة والزكاة والصوم والحجّ؛ وأنّ هذه المظاهر للعبادة مطلوبةٌ مشروعة.. ولكن لا لأنّها هي الغاية، بل لأنّها الوسائل التربويّة لإدراك الغاية الحقيقيّة.. ألا وهي عبادة الله تبارك وتعالى. لقد سمِّيت عبادةً لله من باب تسمية الشيء بسببه.. كأنّ نُسمِّي الخُبْزَ عيْشًا لأنّه ذريعةٌ له.

هناك حديثٌ قدسيّ مشهور يقول فيه ربُّ العزّة:

«كُنتُ كَنْزاً مَخفيًّا، فَأَحبَبتُ أنْ أُعرَفْ، فَخَلَقتُ خَلْقًا، فَتَعَرَّفتُ إِليهِم.. فَبِي عَرَفونِي».

 ومعرفة الله لا يمكن أن تكون معرفةً ماديّة كما تعرف فلانًا بملامح وجهه وخطوط جسمه، لأنّه سبحانه لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ . وإنّما يُعرَف الله تعالى معرفةً روحيّة عقليّة. لذلك اقتضى الكمالُ الإلهي الربَّاني أن يكون من بين خَلْقِه كائنٌ ذو مَلَكاتٍ عقليّةٍ روحيّة.. يمكن أن يتعرَّف بها على المحاسن الإلهيّة كما أعلنت عنها الأسماء الحُسنى.. فيُعجَبُ بها، ويُشغف بها حُبًّا، وينفعلَ لها منجذبًا إليها، ويسعى لاكتسابها وتَمــَثُّلِها في نفسه، ويتخلَّق بها قدرَ استطاعته، ويقدِّرها حقَّ قدرها، ويتغنَّى بذكرها. هذا هو ما يُفهم من قوله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا .. أي كشف لآدم عن صفات كماله، ووهبه القدرة على استيعابها، ثم إشعاعها.. كما تعكس المرآة ما تستقبله من نور الشمس. أما أسماء الأشياء فليس علمًا يُعلَّم لأنّ الإنسان يستطيع أن يضع لكل شيء اسمًا من عنده. أما أسماء الله تعالى فأنَّى للإنسان أن يتعلَّمها بدون مصدر إلهي؟

هكذا يُعرَف الكنز، وتُعرف جواهِرُه الفريدة، ويتغنَّى العِباد بحُسنِها وكمالها وجلالها، ولا يسع العابد إزاءها إلّا أن يهتف من كلِّ قلبه:

«سبحانَ اللهِ الملكِ القُدُّوسِ العزيزِ الحكيم!!.. الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين!!»

فَعبادة الله إذن تعني معرفته. ومن عرفه أُعجِبَ به وأحبَّه، وحاول ما استطاع أن يصبغ نفسه بصبغته القدسيَّة.. ليقترب من محبوبه قدرَ المستطاع. أليس هذا ما يفعله كل محبٍّ مع حِبّه؟ هكذا ينفعل المحبُّ الصادق لمحاسن محبوبه وسيّده.. كما ينفعل الطريق لخُطى السائرين حتى يتعبَّد لهم، ويصبح طريقًا معبَّدًا. وعندئذٍ يصير المحبُّ عبدًا من عباد الله، وتصبح نفسه مُعبَّدة لخُطى الأسماء الحُسنى. وتكون هذه العلاقة الرائعة شرفًا وفخرًا يتيه به العابد على سائر المخلوقات.. التي لم تؤهَّل لهذا المقام، ويُكرِّمُه الله ويسخِّرُ له ما في السماوات والأرض، ويرفعه إلى مراتب وُدِّه ومحبَّته، ويصبح عبدًا ربَّانيًّا.

وكلّما نهل العابدُ من هذا الشهد المصفَّى كلما ازداد حبّه لربّه، وشوقا إلى المزيد من قربه ووصاله، فيزداد سعيا ونشاطا لإرضاء مولاه، فيزيده الله قربا ورفعة، وهكذا يمضي العابد في معراجه صُعُدًا إلى ترقيَّات وكمالات.. درجةً بعد درجة.. في مسيرةٍ لا تنتهي.

هذا أيها الناس، هو الهدف الذي من أجله خُلقنا. وهذا أيها الناس، هو الهدف الذي ارتضاه الله لنا. وهذا أيّها الناس، هو ما أراده الحكيم العليم من وجود الخليفة في الأرض.

ولا يحسبنَّ أحد أن سائر المخلوقات -من غير الجنّ والإنس- تدخل في زمرة العباد. كلا، إنها جميعًا مخلوقة لله خاضعةٌ لأمره، لا تملك إرادة العصيان والمخالفة. إنها عبيد.. تسير وفقًا للسُنن التي قدَّرها الله لا تستطيع منها فِكاكًا. وهي حقًا تُسبِّح الله.. بمعنى أنّها آياتٌ بيِّنات على أنّ خالقها ومدبِّر أمرها إلهٌ وربٌّ حق، متصفٌ بكل المحامد، منزَّهٌ عن كل النقائص. يرى ذلك كلُّ ذي بصيرة فيسبِّحُ الله. أما الذين لهم عيونٌ بلا بصيرة، وقلوبٌ بلا إدراك.. فإنّهم لا يفقهون تسبيح تلك الكائنات. وأما أولو الألباب فإنّهم يسمعون التسبيح في جنبات الكون، ولا حاجة بهم إلى لفظٍ أو صوت. إنّهم يقرأون آيات الله في صفحات الخلق كله.

إنّ العباد هم أولئك الذين يختارون بإرادتهم الحرّة أن يسيروا حسب المنهج الإلهي، وينشطون فيه، شأن المحب المشوق إلى إرضاء حبِّه. ولهذا الغرض السامي -الذي لا يُدانيه غرضٌ آخر- خلق الله الجنّ والإنس.

جاء الإسلام.. ذلك الدينُ الذي ارتضاه الله للبشر منذ أن كان على الأرض بشرٌ مُدرك، جاء بمنهجه النهائي على يد خير البشر.. إمام الأنبياء وصفوة الرسل.. ليضع اللمسات الجماليّة الأخيرة التي تُحدِّد معالم الطريق السويّ إلى الله تعالى.. أي العبادة. ولقد تضمَّن المنهج القرآني، متلوًّا في آيات القرآن، أو مُطبَّقًا في سُنّة محمد المصطفى .. كلَّ المبادئ والسلوكيّات التي توجِّه الإنسان في طريقه إلى الله تعالى.. تحدِّد له اتجاه المسير، وكيفيّة الخطو، والوسائل التي تُعينه على اجتياز الطريق في سعادة واطمئنان، وعلاقته برفاق المسيرة. كما حذره من المزالق التي قد يقع فيها، والمصاعب التي قد تعوق خطاه، ودلَّه على وسائل الوقاية منها.

وسار المصطفى في مقدمة الركب.. أسوةً حسنة.. ونورًا هاديًا. وسار وراءه آلاف القديسين. فكانت الجماعة الإسلامية المحمَّدية الأولى، التي استنارت الدنيا بها، وقطعت بالإنسانية شوطا بعيدا. بل أقول قفزت مرحلة هائلة في تلك الرحلة القدسيّة، وكانت بذلك خير أمة أُخرجت للناس حقا وصدقا.. إذ حققت بنفسها وفي نفسها الغرض الذي من أجله خُلِق الجنُّ والإنس، وبفضلهم أشرقت الأرض بنور ربها، وأسمعت الدنيا تلك النداءات القدسيّة:

الله أكبر *لا إله إلا الله* سبحان الله * الحمد لله….

ومضى المصطفى إلى الرفيق الأعلى وقد أدّى الأمانة وبلَّغ الرسالة. ثم مضى من بعده قرنُه خيرُ القرون، ثم من يلونهم ثم من يلونهم. وبعدها اضطرب ركبُ الأمة الإسلامية، وخلف من بعدهم خلفٌ مزًّق صفوفها فِرَقًا متناحرة، وشِيعًا متنافرة. وحَادَ الناس عن المحَجَّة البيضاء، وانحرفوا عن الصراط المحمدي المستقيم، ومضوا يضربون في الأرض على غير هدى.

ولقد وفّى الله تعالى لهم بوعده.. فأقام لهم رجالاً كانوا كنجوم السماء، يُرشدون السُّراة إلى الدرب الذي سار فيه المصطفى وصحبُه الكرام. أولئك الرجال العظام الذين جدَّدوا للأمة أمرَ دينها، ودَعَوا أقوامهم إلى التزام الطريق المحمدي، وأن يستمسكوا كما استمسك بكتاب الله الفرقان، وأن يسلكوا مسلك نبيّهم . ولكن الكثرة الغالبة من الناس -وا أسفاه- هامت في شِعاب الهوى لا تلوي على شيء.

ومضت القرون، وإذا بالأمة الإسلامية التي كانت شمسًا تستضيء بها المعمورة، تُمسي غاربةً في عينٍ حَمِئة، وهوت إلى الحضيض بين أمم الأرض، وفقدت كل ما كان لها من عزّةٍ وكرامة. فانقَضَّت عليها الأمم تنهشها.. وصدق فيها تحذير المصطفى: “تتَدَاعى عليكم الأُممُ كما تَدَاعى الأكلةُ إلى  قصعَتِها”. وباتت بلاد الإسلام خاويةً من مؤهِّلات الخلافة: فلا تقدُّمًا ولا حضارة، ولا علما ولا خُلقًا، ولا عزّة ولا أنَفَة.. وباتت مثلا بشعًا ينفِر منه أهلُ الشرق قبل أهل الغرب.. ومثلا يضربونه للضعف والفوضى والتمزُّق والتسيُّب..

لقد فرَّطوا في نعمة العبادة، فحقَّ عليهم ضياع نعمة الخلافة والعزّة والتمكين التي وعد الله عباده.. الله الذي لا يخلف وعده حيث قال:

  وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا (النور: 56)

فهل قصَّر المسلمون في شعائر العبادة الظاهريّة، فحجب الله عنهم نعمته؟

اللهم إنّ المساجد كثيرةٌ عامرةٌ بالمصلّين، وهم يحتفلون بشهر رمضان ويصومونه. وهم يحرصون على رحلات الحج والعمرة وينفقون عليها الملايين. وهم يُشيدون الجوامع الفخمة ويزيِّنونها ويفرشونها. وهم لا يتركون مناسبةً دينيّةً أو شبْهِ دينيّةٍ إلّا ويحتفلون بها أيَّما احتفال. وهم يملأون وسائل إعلامهم بالبرامج والأناشيد الدينيّة!! لو كانت تلك الطقوس والرسوم هي العبادة الحقة التي من أجلها خُلِق البشر.. لكانت أمة المسلمين اليوم هي أعظم أمم الأَرض، ولما تركهم الله تعالى هكذا وصمةَ عارٍ على الإسلام!!

نعم، إنّ الله تعالى يبتلي الأممَ كما يبتلي الأفراد.. فيختبرهم بنقصٍ في المال والأنفس والثمرات. ولكن شتَّان ما ببن الابتلاء والعقاب!! إنّ الابتلاء تجربة ربّانيّة بنَّاءة.. تمرُّ بها الأفراد والأمم، والذين يتمسَّكون فيها بالصبر والمصابرة، والثبات على بذل الجهد الصادق، ومضاعفة العمل البنَّاء بما يجذب رضوان الله ويستدرُّ رحمته.. أولئك ينجحون. فسُرعانَ ما يرفع الله عنهم الغُمَّة، ويكشف عنهم الكرب، ويُبدِّل حالهم إلى أحسن حال. فالابتلاء فرصةٌ عظيمةٌ، من اغتنمها فاز وأعقبته الفلاح، كما قال تعالى:

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (البقرة: ١٥٦)

أما العقاب، أعاذنا الله من عقابه، فهو نازلةٌ شديدةٌ تُصيب المنحرفين عن منهج الله. فإن لم ينتبهوا لها ويدركوا مغزاها، وأصرُّوا على زيغِهم وصَمَمِهم وعمَاهم.. اشتدَّ بهم البلاء، وزادت وطأته عليهم حتى يرميهم في هاوية الانحطاط والمذلّة والهوان.

نعم، الابتلاءُ فرصةٌ للمؤمن كي يزداد إيمانًا وتشبُّثًا بحبل الله، فيعود أقوى وأصلب وأفضل. أما العقاب فهو إذلال ومهانةٌ تُعبِّر عن سخط الله وغضبه على من استحقُّوا ذلك. وما نجده اليوم واقعًا بالأمة المنتسبة إلى الإسلام ليس من قبيل الابتلاء أبدًا.. إنّه عِقابٌ شديدٌ أليمٌ مُهين.. يصرخ بأنّ الله تعالى غاضبٌ أشدَّ الغضب.. فلم يعد يُبالي بهذه الأمة.. وأنه بصدد أن يستبدل بهم قومًا غيرهم، ثم لا يكونوا أمثالَهم. وقد اعترف الشاعر باستحقاقهم لما أصابهم فقال متحسِّرًا:

رأى قضاؤك فينا رأْيَ حكمتهأكرِمْ بوجهِكَ من قاضٍ ومُنتَقِمِ

حقا.. إنَّ عقاب الله تعالى -المعبِّر عن غضبه- لا ينزل بالأمم خبطَ عشواء – تعالى الله عن ذلك. إنه لا يصيب أصفياءه.. الذين خلقهم لعبادته وليُظهِر فيهم محاسنه.. لا يصيبهم بما يُذِلُّ أعناقهم، ويجعلهم فتنةً للكافرين والملحدين. إنَّ عقاب الله ينزل في إطار رحمته وربوبيته.. فلا يحيق إلا بمن سَدَرَ في غيِّه بعد إرشاد كافٍ ثم تحذيرٍ وإنذار. ولا ينزل بالأمم إلا إذا عمَّ فيها الفساد، وشارك فيها العامة والخاصة. ولا يُصيب الأمم إلا إذا وضعوا أصابعهم في آذانهم.. واستغشوا ثيابهم وأصرُّوا واستكبروا استكبارا.

لقد تعرَّضت الجماعة الإسلامية الأولى.. بقيادة المصطفى للهزيمة العسكريّة.. وأصابتهم البأساء والضرَّاء.. وزُلزِلوا، وفرَّ بعضهم لينجو بحياته. ولكن ذلك كله كان سحابة صيف سُرعان ما انقشعت.. وبادروا يمدون أيديهم يمسكون بسبب السماء.. ويستغفرون ربّهم، ويُصحِّحون أخطاءهم. ويُصلِحون أعمالهم.. فانقلب الابتلاء نصرًا يتلوه نصر، حتى أضاءوا الأرض بنور دينهم. أما إن يستمر الهوان والانحطاط قرنًا بعد قرن. ويزداد الأمر سوءًا كل يوم.. فذلك الغضب الإلهي.. وذلك المقتُ الإلهي.. وذلك ما يجب أن نتداركه.. فإنَّ رحمة الله قريبٌ لمن

تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى .

  ولقد عمَّ الفسادُ شعوب المسلمين.. وشارك فيه القادة مع الجماهير وعشَّش الضلالُ في عقول المنتسبين إلى الإسلام.. فلم ينجُ منه الخاصة ولا العامة. ونزلت بساحتنا المصائبُ من كل نوعٍ ولون.. وضربتنا الشدائد فما أفَقْنَا ولا استحيينا. ولقد بعث الله تعالى مُجدِّد العصر وإمام الوقت.. مُصدِّقًا لبشارة نبي الإسلام . جاء الإمام المهدي والمسيح الموعود مبشِّرًا بالخير.. يقود سفينة نوح.. يدعو إلى المنهج الذي جاء به المصطفى قبل أربعة عشر قرنا.. عسى أن تنهض الأمة من كبوتها.. وتُشفى من عِلَّتها. جاء ليجدِّد لها أمرَ دينها.. ويُخلِّص النفوس من إسار الماديّة وغِواية الشهوات.. جاء حكما عدلاً وإمامًا مهدِيًّا ليفصل بين الفِرَق والشِيع.. وليجمع البشرية على الكلمة الطيبة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) تحت لواء النبي الأكرم محمد المصطفى .

جاء ليُعيد للقرآن المجيد قداستَه في القلوب والعقول.. ويُخرجه من عالم الشعارات والغناء والارتزاق.. إلى واقع التطبيق والاتباع. جاء ليُلفِت الأنظار والأفكار إلى كمالاته وعلومه وحكمته، ويُزيل ما ألصقه المبطِلون من أعدائه والجاهِلون المحسوبون عليه من ضلالاتٍ وخُرافات. والحق أنّه لو أحسنَ الناس فهْمَ القرآن الكريم فقد فُتِح أمامَهم طريقُ العبادة الحقّة.. الطريق المستقيم الذي لا يبرحُ المسلمون يطلبونه كل يوم.. ويردِّدونه في صلواتهم:

اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المـُستَقِيمَ

وبوسعِ الطبيب الروحيّ أن يُشخِّصَ في جسد الأمة الإسلامية عددا من الأمراض التي أنهكت روحها وجسدها. ومن أشدِّها ضررا على الأمة تلك المفاهيم الباطلة التي أعاقتهم ولا تزال تعوقهم.. عن الانتفاع الكامل بالمنهج القرآني، ودفعتهم بعيدا عن حبل الله المتين وحصنهم الحصين. وأدّت تلك المفاهيم الباطلة إلى إصابتهم بمضاعفات مرضيّة.. أنهكت قِواهم وأضعفت مقاومتهم، وعجَّلت بسقوطهم الذريع الذي هُم فيه اليوم. ولكنهم للأسف الشديد لا يرتدعون وإن كانوا يصرخون.. ولا يعملون وإن كانوا يرفعون الشعارات وبها يهتفون.

ولقد اخترتُ لكم في هذه المعالجة آفةً من الآفات العديدة التي تنخر في جسد الأمة الإسلامية.. وتلوِّث عقيدتهم وتشوِّه تفكيرهم.. تلك هي آفة “الجن”.. التي أُصيب بها الخاصة قبل العامة…

(يتبع)

 

Share via
تابعونا على الفايس بوك