وكأنك يا "أبوزيد" ما غزيت !!

وكأنك يا “أبوزيد” ما غزيت !!

مصطفى ثابت

أبالسة التعصب والجمود وخفافيش الإرهاب وصلوا أيضا إلى مقاعد الجامعة و كراسي القضاء..

د. نصر حامد أبو زيد يعمل بكلية الآداب جامعة القاهرة، وهو أستاذ مساعد يقوم بتدريس الأدب العربي، وله بعض المؤلفات والأبحاث التي نشرها في الدوريات المتخصصة والمجلات العلمية والأدبية، وقد تقدم د. نصر أبو زيد بأبحاثه إلى مجلس الكلية للحصول على درجة أستاذ بالكلية التي يدرس فيها. واستعان مجلس الكلية بثلاثة من الأساتذة لتقييم هذه الأبحاث ورفع تقريرهم إلى مجلس الجامعة. وقد أثنى على هذه الأبحاث عضوان من اللجنة هما الأستاذ د. محمود مكي والأستاذ د. عوني عبد الرؤوف. بينما عارضها العضو الثالث وهو الأستاذ د. عبد الصبور شاهين. اقتنع مجلس الجامعة برأي الأستاذين وأوصى بترقية د. أبو زيد إلى درجة أستاذ، ووافق قسم اللغة العربية على الترقية كما وافق مجلس الكلية.

وكان من الممكن أن ينتهي الموضوع عند هذا الحد.. ولا يثير اهتمام أحد سوى الأشخاص المعنيين فقط. ولكن د. شاهين لم يعجبه ما آلت إليه الأمور، وعزم على محاربة د. نصر وإعلان الجهاد غير المقدس لطرده من منصبه، وفصله من وظيفته. وعزله عن التدريس.. حتى لا يضلل الطلبة حسب ظنه.

و د. شاهين نجم تلفزيوني معروف، صاحب بوق عالي الصوت، طالما استعمل هذا البوق لحث المواطنين على استثمار أموالهم ومدخراتهم في شركات نهب أو توظيف الأموال.. وبالذات لدى شركة الريان. وجهاد د. شاهين في هذا المجال لا يخفى على أحد. وخصوصا من نهبت أموالهم في تلك الشركات، وضاعت مدخراتهم.. بسبب عمليات المؤيدة بالفتاوي وأصوات الدعاية التي كان يطلقها المجاهدون الكبار من أمثالد. شاهين.

والله وحده يعلم مدى قوة شبكة الإرهاب في مصر، وهو سبحانه يعلم كيفية تنظيم العاملين فيها… أما نحن فلا ندري كيف تسربت أنباء أبحاث د. نصر أبو زيد إلى بعض الجماعات المتطرفة، ولماذا هوجم الدكتور واتهم أنه صاحب فكر ماركسي منحرف .. وهي التهمة المفضلة التي يدمغ بها المتعصبون والمتزمتون صاحب كل فكر قد يختلف معهم ولا يكون على اتفاق مع أهوائهم ومقاصدهم. ولعل د. عبد الصبور شاهين يعرف الكثير عن تسرب هذه الأبحاث ووصولها إلى أيدي المتزمتين، ولعله يشاركنا الجهل والعجب من ظهور النقد والإدانة التي وجهها إلى أبحاث د. أبو زيد في صحف المتزمتين والمتطرفين دون علمه!!

وقد دبر أحد النكرات الذين يعملون في حقل المحاماة رفع قضية ضد د.نصر أبو زيد متهما إياه بالكفر والارتداد استنادا إلى أبحائه التي أدانها د. شاهين.. وبالتالي أدانتها كل القوى الرجعية المتخلفة والمتزمتة . وطالب ذلك النكرة بالتفريق بين د. نصر أبو زيد وزوجته د. ابتهال يونس أستاذة الأدب الفرنسي بكلية الآداب. وأذكر أنني وغيري حين قرأنا نبأ تلك القضية عبًّرنا عن عجبنا من أن الدنيا ما زالت تحتوي على هذه العينة السفيهة من البشر. وكان من الطبيعي أن ترفض المحكمة الدعوى لأنها مرفوعة من غير ذي صفة ولم يقع عليه ضرر وذلك حسب القوانين المصرية.

ومرة أخرى.. كان من الممكن أن تنتهي القضية عند هذا الحد، وينسى الناس المحاولة المستهجنة التي قام بها ذلك النكرة، ولكن يبدو أن قوى الإرهاب الفكري التي تعمل في مصر قد أصبحت على جانب كبير من التنظيم والتأثير والنفوذ، فإذا بنا نرى ذلك النكرة يعاود رفع قضية أخرى أمام قضاء الاستئناف العالي مطالبا مرة أخرى بالتفريق بين د. نصر أبو زيد وزوجته. ويقال أن قاضي الاستئناف العالي ذهب إلى المملكة السعودية لأداء فريضة الحج.. ولما عاد أصدر حكمه العجيب في هذه القضية، والذي كان له وقع شديد على جميع المثقفين في مصر. لقد أصدر القاضي حكمه بقبول الدعوى، وحكم بالتفريق بين د. نصر أبو زيد وزوجته!!

كان لهذا الحكم دوى شديد لم يطغ عليه سوى حادث محاولة اغتيال الرئيس مبارك. وفي الأيام القليلة التي سبقت حادثة أديس أبابا، انطلقت الأقلام والأفواه بالتعليق على الحكم العجيب لمحكمة الاستئناف. وكان من الطبيعي أن تتجه الأنظار إلى مفتي الديار المصرية لاستطلاع رأيه في ذلك الحكم العجيب، و د. سيد طنطاوي له مواقف إيجابية متعددة، وسبق أن أعلن رأيه في كثير من القضايا الحساسة التي اختلف رأيه فيها مع رأي الأزهر وشيخه الذي بلغ من العمر عتيا، ولكن المفتي -صاحب الفضيلة- فاجأ الجميع بالامتناع عن التعليق على الحكم.. بحجة احترام القضاء المصري! عجيب حقا أمر في حكم الله وشرعه.. ولكنه يتحاشى إبداء رأيه في حكم بشر مثله هو قاضي محكمة الاستئناف.

إننا لا نشكك أبدا في نزاهة القضاء المصري، ولكن ليس معنى هذا أن كل أحكام القضاء المصري أحكام لا تحتمل الخطأ، فالقضاة بشر مهما كانوا، ولا بد أن فيهم ضعفاء النفوس، وقد كان بينهم من يعمل -بوعي أو بغير وعي- لمصلحة قوى الإرهاب الديني في مصر.. الذي تموله دول بترولية وغير بترولية. وكان من الواجب على فضيلة المفتي أن لا ينسى واجبه نحو أبناء وطنه الذين يدفعون له مرتبه ويحترمونه بسبب منصبه، فكان عليه أن يشرح لهم الأساس الديني الذي بنى عليه قاضي الاستئناف حكمه – إذا كان هناك أساس. وإذا كان يرى المفتي أن الحق في جانب ذلك القاضي لكان من واجبه أن يرفع صوته بالدفاع عنه، فهو يعلم جيدا أن الساكت عن الحق شيطان أخرس.

على أية حال .. علمنا فيما بعد أن قاضي الاستئناف استند في حكمه إلى مبدأ “الحسبة”، والمحتسب هو الشخص الذي كان يمشي في الأسواق في الأزمنة القديمة ليتأكد من أن التجار لا يغشون الناس، وقد ألغى القانون المصري عام 1954 هذه الصلاحيات للمحتسب مع إلغاء المحاكم الشرعية في مصر، ولكن لقاضي محكمة الاستئناف رأي أن وظيفة المحتسب مستمدة من مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وهو أمر يستطيع القيام به أي فرد في الأمة.. وله من الصلاحيات ما لجماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية.. وهي الجماعة التي تقوم بإغلاق المتاجر أو ضرب أصحابها إذا تأخروا عن أداء الصلاة في موعدها. وعلى هذا لم يرفض الدعوى لرفعها من غير ذي صفة كما رفضها القاضي السابق، واستند إلى آراء بعض المتزمتين وإلى آراء د.شاهين في تقييم أعمال د. نصر أبو زيد، ومن ثم أصدر حكمه العجيب بالتفريق بينه وبين زوجته باعتبار أنه لا يجوز لمسلمة أن تعاشر كافرا!!

ولا شك أن هذا الحكم انتصار عظيم لقوى الإرهاب الفكري في مصر، ويفتح أوسع الأبواب لغول التزمت والتطرف للانطلاق والعبث بغير حدود. وقد زغرد له د.شاهين وشركاؤه. مؤكدين أنهم لن يتركوا د. أبو زيد إلا بعد أن تفصله الجامعة وتمنعه من التدريس. ويؤكد صاحبه النكرة الذي خلق المشكلة في المقام الأول أنه لن يترك د. نصر أبو زيد في حاله حتى القبر.

وهكذا.. في غمرة بهجتهم بانتصار الانغلاق الفكري. وعودة محاكم التفتيش التي كانت في أوربا أثناء عصور الظلام، ظهرت أيضا الأحقاد التي تملأ صدورهم، وتكشفت المؤامرات التي يحيكونها في الظلام لوأد التفكير والبحث والتقدم العلمي والفكري في مصر .

ويعتقد كاتب هذه السطور أنّ القضية ليست قضية د. أبو زيد، فنحن لا نعرف بالضبط ماذا كتب، ولا نعرف ما إذا كان قد اجتهد وأخطأ برأيه فأخطأ أو أصاب، ولكن إذا كان د. شاهين يرى بأمانة أن د. أبو زيد قد أخطأ، فلماذا لا يوضِّح للناس الخطأ؟ ولماذا لم يُصحِّح الخطأ ويُبيّن لنا ما هو الصواب؟ ولكن – كما ذكرتُ – إنّ المسألة ليست خطأ الاجتهاد أو صوابه، وإنّما هي معركة الصراع مع قوى التزمُّت والتطرُّف في مصر، وحرصها على إثبات وجودها، والتأكيد على فاعليَّتها وقوّتها وتأثيرها ونفوذها في المجتمع المصري، وذلك باستخدام القانون.. حتى يمكن إشهار ذلك السلاح في وجه كل من يجرؤ على التعرُّض لخفافيش الظلام ودُعاة التخلُّف.

ولا يستطيع أحدٌ التكهُّن بما يمكن أن يحدث في مصر إذا كسب المتطرِّفون والمتعصِّبون والمتزمِّتون هذه المعركة. قد يكون حكم محكمة الاستئِناف بدايةً لانتهاء عهد التفكير وبدايةً لعهد التكفير.. وقد يقوم هؤلاء بمحاكمة المفكِّرين المصريين الذين انتقلوا إلى رحمة الله من أمثال طه حسين وتوفيق الحكيم ومحمد عبده! وقد يجدون فيما كتبوه جملةً هنا أو هناك يعتبرها خيالهم المريض إنكارًا لِما عُرف من الدين بالضرورة، وعلى ذلك يتقدَّم نكِرةٌ آخر إلى قاضٍ منحرف مطالبًا الحكم بعدم دفنهم في مقابر المسلمين باعتبارهم كفارًا مرتدين!!

إنّ القضية خطيرة.. جدُّ خطيرة.. وليس أطرافها د.نصر أبو زيد أو د.شاهين، وإنّما هي قضية الصراع بين الفكر والتزمُّت، هي قضية الصراع بين الاجتهاد، خطأً كان أو صوابًا، وبين انغلاق الفكر وجمود الرأي. ونحن على يقين أنّ مصر لن تقع في براثن أولئك المتزمِّتين، وإذا كانت قوى الظلام قد كسبت جولة فنحن نأمل أن تكون الجولة الوحيدة، وندعو الله أن تكون الأخيرة. وإلّا فوداعًا للحرية،

ووداعًا للفكر، ووداعًا للبحث والإبداع..

ووداعاً لكل أبحاثك واجتهاداتك يا د. أبو زيد.. وكأنّك يا “أبو زيد” ما غزيت!!!

ولا حول ولا قوة إلا بالله..!!!

Share via
تابعونا على الفايس بوك