يصلحه الله في ليلة

يصلحه الله في ليلة

مصطفى ثابت

السيرة الطاهرة (18)

تحت سلسلة السيرة الطاهرة يتناول الكاتب سيرة حضرة ميرزا غلام أحمد الإمام المهدي والمسيح الموعود مبرزا الوقائع والأحداث الهامة من حياته الطاهرة

 جاء في الحديث الشريف عن الإمام عليّ كرّم الله وجهه أنه قال: قال رسول الله : “المهدي منا أهل البيت يُصلِحه الله في ليلة”. رواه أحمد بن حنبل (1/84)، وابن ماجه (4085)، وأبو نعيم في “الحلية” (3/177)، والعقيلي في “الضعفاء” (470)، وابن عدي في “الكامل” (7/185)، وحسّنه الألباني في “الصحيحة” (2371).

وقد اختلف العلماء في شرح هذا الحديث وتفسير معنى قوله : “يصلحه الله في ليلة”، فقالوا إنه يحتمل في ذلك معنيين:

أحدهما: أن يكون المراد بذلك أن الله يُصلحه للخلافة.. أي يُهيئه لها.

والثاني: أن يكون مفتقرا إلى بعض الكفاءات الضرورية لإنجاز المهمة الملقاة على عاتقه، فيسد الله هذا النقص في ليلة واحدة ويجعله قادرا على ذلك قدرة كاملة، وهذه هي معاملة الله تعالى مع جميع أنبيائه إذ يعلّمهم من عنده علوما لا يعلّمها غيرهم فلا يعرفونها. وإن الأنبياء هم تلاميذ الله الرحمن، وهو مصدر علمهم وفضلهم، إذ يعلِّمهم بواسطة الوحي فيتفوَّقون على الجميع. ويرى الحافظ ابن كثير رحمه الله أن معنى قوله: “يصلحه الله في ليلة” أي يتوب عليه ويُوَفقه، ويُلهمه رشده بعد أن لم يكن كذلك (انظر نهاية البداية والنهاية). وقال القاري في “المرقاة”: “يصلحه الله في ليلة” أي يُصلح أمره، ويرفع قدره في ليلة واحدة أو في ساعة واحدة من الليل، حيث يتفق على خلافته أهل الحل والعقد فيها (انظر مرقاة المفاتيح).

لقد أشار إلى ما سبق ذكره كتاب: “المهدي المنتظر وأدعياء المهدية”، من جمع وترتيب الأستاذ محمد بيومي (راجع الفصل الرابع ص23). ونحن لا نرى ما يستدعي الخلاف بين العلماء في معنى هذا الحديث، ولعل ذلك الخلاف قد نشأ عند بعض الأفاضل من العلماء الذين تحرّجوا القول باحتمال وجود أمر من الأمور في الإمام المهدي يقتضي أن يصلحه الله تعالى، وأنه سبحانه سوف يُصلح ذلك الأمر في ليلة من الليالي. وافتراض وجود ما يستدعي الإصلاح في الإمام المهدي لا يحطّ من علوّ قدره، ولا يقدح في عِظَم شأنه، ولا ينال من جلال منزلته.

وكما أخبرنا رسول الله في حديث ”يصلحه الله في ليلة“.. فإن الإمام المهدي سوف يفتقر إلى أمر من الأمور حين يبعثه الله تعالى، ولكن الله سبحانه سوف يُصلح ذلك الأمر في ليلة، كما أوضح ذلك رسول الله . والله تعالى هو الذي يُصلح أمور أنبيائه ورسله، حتى يكون ذلك آية لهم، تبين صدقهم وتدل على تأييد الله لهم.

إن موسى كان يعلم أن لسانه لا ينطلق حتى عيّره فرعون بأنه: لا يَكَادُ يُبِينُ ، فدعا موسى ربَّه وقال:

رَبِّ اشْرَحْ لي صَدْرِي $ وَيَسِّرْ لي أَمْرِي $ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَاني $ يَفْقَهُوا قَوْلي (طه:26-29)،

فشرح الله صدره وأنطق لسانه حتى صار من فرسان البيان في بلاط فرعون كما يتبين من القرآن الكريم من خلال مناظراته مع فرعون.

ومن المعلوم أيضا أن رسول الله لم يكن شاعرا ولا أديبا، ولم يشترك في مجالس الأدب ومحافل الحكماء والشعراء، فعلّمه الله تعالى من لدنه أعلى مراتب الحكمة والبلاغة في القرآن، وآتاه أسمى درجات العلم والعرفان، وأسبغ عليه أجمل اللآلئ ودرر البيان، حتى صار ذلك النبي الأمّي أبلغ البلغاء، وأفصح الفصحاء، وأحكم الحكماء، وأعظم الأدباء، وصار كلامه أبلغ الكلام بعد القرآن، فقال متحدثا بنعم الله عليه وبما فضله الله تعالى على غيره من النبيين: “… وأوتيت جوامع الكلم.”

والإمام المهدي أيضا كان يُعاني من نفس هذا الأمر، فلم يكن له في مجال الأدب ريادة، ولا كان له في مضمار البيان سيادة. نعم إنه درس في حداثة سِنّه من اللغة العربية وقواعدها ما يُمكّنه من قراءة القرآن، ولكنه لم يتبحّر في علومها، ولا انغمس في بحورها، ولا خطا بقدميه في مسالكها ودروبها. ولم تكن العربية هي لغته التي يتحدث بها، ولا لسانه الذي ينطق به. ولم يُسافر إلى أي بلد عربي، ولم ينْزل في منازل العرب وساحاتهم، ولا أقام بين العرب أو البدو أو جاور خيامهم ومساكنهم.

ولما أعلن عن دعوته، ودعا الناس إلى بيعته، وأخبرهم بأن الله قد اصطفاه ليكون الإمام المهدي المعهود، وجعله المسيح الموعود، فراح يدعو القاصي والداني، ويكتب الكتب وينشر المقالات، فإذا بالمشايخ والمولويين المتعصبين، وعلماء زمانه من الأدباء والحاذقين، أخذوا يُعيّرونه بعدم قدرته على سبر أغوار اللغة العربية، وسخروا منه كما سخر أسلافهم السابقون من الأنبياء المكرمين، وظنوا أنهم بعلمهم وأدبهم خير من المرسلين، فقالوا كما يذكر القرآن الكريم على لسان فرعون اللئيم:

أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ (الزخرف:53)

وهكذا تشابهت القلوب والأقوال، وتماثلت النفوس والأفعال، غير أن ذلك لم يُغير من حقيقة الأمر شيئا، ولم يُبدّل من واقع الحال أمرا. فالإمام المهدي لم يكن بالفعل من علماء اللغة العربية، فلم يكن له أن يرد على انتقادات مُخالفيه، ولا أن يُجادل الأدباء والبلغاء من بين مُعارضيه. ولم يكن له من ملجأ يلجأ إليه سوى الله تعالى، الذي خلقه وهو أعلم بحاله وحاجته، وهو العليم الحكيم الذي يؤتي علمه من يشاء، ويهب الحكمة لمن أراد. فألقى بنفسه بين يدي خالقه، وراح يدعو منعمه وكافله ورازقه، وأخذ يتوسل إلى مولاه وحِبِّه وبارئه، أن يؤتيه علوم هذه اللغة العربية، ويجعله أبلغ من كل بلغاء عصره، وأوحد أدباء زمانه.

واستجاب الله تعالى لتضرّعاته، وسمع لكل توسّلاته، وأصلحه في ليلة، وعلّمه أربعين ألفا من جذور اللغة العربية ومصادرها في ليلة واحدة، تماما كما سبق وأخبرنا رسول الله ، حتى صار بفضل ربه كما أراد أن يكون نابغة الأدباء، وإمام البلغاء.

ولما تحقق وعد رسول الله ، كتب هو يصف تلك المعجزة التي أنعم بها الله عليه فقال:

“ومن آياتي أنه تعالى وهب لي ملكة خارقة للعادة في اللسان العربية، ليكون آية عند أهل الفكر والفطنة. والسبب في ذلك أني كنت لا أعلم العربية إلاّ طفيفا لا تُسمّى العلمية، فطفق العلماء يقعضون ويكسرون عود خبري ومخبرتي، ويتزرّون على علمي ومعرفتي، ليُبرّؤن العامة مني ومن سلسلتي. وشهروا من عندهم أن هذا الرجل لا يعلم صيغة من هذه اللسان، ولا يملك قراضة من هذا العقيان. فسألت الله أن يُكمّلني في هذه اللهجة، ويجعلني واحد الدّهر في مناهج البلاغة. وألححت عليه بالابتهال والضراعة، وكثر إطراحي بين يدي حضرة العزّة، وتوالى سؤالي بجهد العزيمة، وصدق الهمة، وإخلاص المهجة. فأُجيب الدعاء، وأُتيتُ ما كنتُ أشاء، وفُتِحت لي أبواب نوادر العربية، واللطائف الأدبية، حتى أمليتُ فيها رسائل مبتكرة، وكتبا محبّرة، ثم عرضتها على العلماء، وقلت يا حزب الفضلاء والأدباء.. إنكم حسبتموني أُمّيًّا ومن الجهلاء، والأمر كان كذلك لولا التأييد من حضرة الكبرياء، فالآن أُيّدتُ من الحضرة، وعلّمني ربّي من لدنه بالفضل والرحمة، فأصبحت أديبا ومن المتفرّدين. وألّفتُ رسائل في حُلل البلاغة والفصاحة، وهذه آية من ربي لأولي الألباب والنصفة، وعليكم حُجّة الله ذي الجلال والعزّة. فإن كنتم من المرتابين في صدقي وكمال لساني، والمتشككين في حسن بياني وتبياني، ولا تؤمنون بآيتي هذه وتحسبونها هذياني، وتزعمون أني في قولي هذا من الكاذبين.. فأتوا بكتاب من مثلها إن كنتم صادقين. وإن كان الحق عندكم كما أنّكم تزعمون، فسيُبدي الله عزّتكم ولا تُغلبون ولا ترجعون كالخاسرين. فلا يُعاتبكم بعده مُعاتب، ولا يزدريكم مُخاطب، ويستيقن الناس أنكم من الأمناء ومن الصالحين. وإن كنتم لا تقدرون عليه لقلة العلم والدّهاء، فانهضوا وادعوا مشهورين منكم بالتكلم والإملاء، والمعروفين من الأدباء. وإني عرضت عليكم أمرا فيه عزة الصادق وذلّة الكاذب، وسينال الكاذبين خزيٌ ونصبٌ من العذاب اللازب، فاتقوا الله إن كنتم مؤمنين.

فما كان لهم أن يأتوا بمثل كلامي، أو يتوبوا بعد إفحامي، وظهرت على وجوههم سواد وقحول، وضمر وذبول، وغشيهم حين وإحجام، وجهلوا كل ما صلفوا ولم يبق لهم كلام. وجاءني حزب منهم تائبين، وكثير حق عليهم ما قال خاتم النبيين، عليه الصلاة والتحيات من رب العالمين. ثم اعلموا يا حزب السامعين.. إن هذه آية استفدته من روحانية خير المرسلين بإذن الله رب العالمين.” (نجم الهدى، الخزائن الروحانية ج14 ص 107-113)

ثم يقول في موضع آخر:

“وإن كمالي في اللسان العربي، مع قلة جهدي وقصور طلبي، آية واضحة من ربي، ليُظهر على الناس علمي وأدبي. فهل من معارض في جموع المخالفين؟ وإني مع ذلك عُلّمت أربعين ألفا من اللغات العربية، وأُعطيتُ بسطة كاملة في العلوم الأدبية، مع اعتلالي في أكثر الأوقات، وقلّة الفترات، وهذا فضل ربّي أنه جعلني أبرع من بني الفُرات، وجعلني أعذب بيانا من الماء الفرات. وكما جعلني من الهادين المهديين، جعلني أفصح المتكلمين. فكم من مُلَحٍ أُعطِيتُها، وكم من عذراء عُلّمتُها، فمن كان من لسن العلماء، وحوى حسن البيان كالأدباء، فإني أستعرضه لو كان من المعارضين المنكرين.

وقد فُقت في النظم والنثر، وأُعطيت فيها نورًا كضوء الفجر، وما هذا فعل العبد، إنْ هذا إلاّ آية رب العالمين. فمن أبى بعد ذلك وانزوى، وما بارزني وما انبرى، فقد شهد على صدقي ولو كتم الشهادة وأخفى.” (أنجام آتهم، الخزائن الروحانية ج 11 ص234-235)

ولكن المعارضين والمخالفين الذين رانت على قلوبهم العماية، لم يشهدوا ويُقرّوا بعظمة شأن هذه الآية، وراحوا يشيعون بين العوام والناس، ويوسوسون لهم كما يفعل الوسواس الخنّاس، أن كتابات سيدنا أحمد في اللغة العربية، لا ترقى إلى مستوى الكتابات الأدبية، وهي عارية من المـُلَحِ الإنشائية، وخالية من الروائع البلاغية، وأنهم لو شاءوا أو أرادوا، لنمّقوا صحفا مثلها بل أكثر بلاغة، ولكتبوا كتبا صنوها بل أجمل صياغة. وهكذا شابهوا بأقوالهم وأفعالهم أولئك الذين اعترضوا على بلاغة القرآن الكريم، فأنكروها قائلين:

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَآ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلينَ (الأنفال:32)

ولكنهم أبدًا لا يقولون، ولمفترياتهم لا يؤيدون، وعلى دعاواهم لا يُبرهنون. وكان هذا هو أيضا شأن المخالفين للإمام المهدي ، فتحدّاهم أن يُناضلوه في هذا المضمار، أو يُنازعوه في الكتابة والحوار، ودعاهم أن يكتبوا بإزائه ويكتب هو أمامهم، حتى يتجلى صدقه ويظهر كذب دعواهم. وفي ذلك كتب يقول:

“…. يا حسرة على الذين يذكرونني بإنكار، لِمَ لا يأتونني في مضمار، يشهقون في مكانهم كحمار، ولا يخرجون كمُمار. إن هم إلاّ كعودٍ ما له ثمر، أو كنخل ليس عليه تمر، ثم مع ذلك يخدعون الجاهلين. إن هم إلاّ كدارٍ خربة، أو جُدرانٍ منقضّة، يُعَلّمون الناس ما لا يعملون، ويقولون ما لا يفعلون. خَبَت نارُهم، وتوارى أُوَارُهم، وختم الله على قلوبهم، وأبادهم بعد شحوبهم، فتراهم كأموات غير أحياء ساقطين.” (المرجع السابق: ص 235- 236)

فلما وخزهم التحدّي، وخافوا من السقوط والتردّي، وعلموا أنهم ليسوا سادة هذا المضمار، ولا أمن لهم من الفضيحة والعار، ولا نجاة لهم من السقوط والعثار، راحوا يزعمون ويروّجون، كما زعم من قبلهم السابقون، أن ما يكتبه الإمام المهدي ليس من تأليفه وخط قلمه، ولا هو من ثمار فضله وأدبه وعلمه، بل إن بعض العرب والشاميين هم الذين كانوا يكتبون له هذه الصحف المزوّقة، وهم الذين كانوا يُملون عليه تلك العبارات المنمّقة، ولا طَوْلَ لهم بمجاراة العرب في الإنشاء، ولا سبيل لهم للتفوق على الشاميين في الإملاء. وهكذا أقرّوا من حيث لا يدرون بعظمة شأن كتابات الإمام المهدي العربية، واعترفوا وأنوفهم راغمة بسمو أساليبه الأدبية، وشابهوا قوما سبقوهم في الكفر والضلال، فأرادوا أن يتساووا معهم في الحال وفي القال.

وقديما.. حين زعم السابقون في اعتراضهم على إعجاز القرآن أنه ليس بكلام معجز، وأنهم لو شاءوا لقالوا مثله.. تحدّاهم الله تعالى في القرآن أن يأتوا ببعض السور المفتريات إن كانوا صادقين، فلما أدركوا أنهم عاجزون عن قبول التحدّيات، اضطرّوا للاعتراف بعظمة هذه الآيات. ولكنهم زعموا أن هذه الآيات ليست من تأليف محمد ، لأنهم كانوا يعلمون أنه أمّي لم يتعلم القراءة والكتابة، وليس له علم بتلك الوقائع التي يذكرها القرآن. وبدلا من أن يعترفوا بأن الله تعالى هو مصدر تلك الحقائق، راحوا يزعمون أنها من تأليف علماء آخرين، على دراية بتلك الحقائق من الكتب السابقة، وهم الذين يُملونها عليه بكرة وأصيلا. وفي ذلك يقول تعالى:

  وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (الفرقان: 6)

فالسابقون أيضا اضطروا للاعتراف بعظمة إعجاز القرآن، رغم أنهم كانوا في أول الأمر يستهزئون ويسخرون، ويزعمون أنهم لو شاءوا لقالوا مثله. وكذلك كان هذا هو شأن المخالفين والمعارضين الذين اضطروا للاعتراف ببلاغة الإمام المهدي الإعجازية، ولكنهم بدلا من أن يُقرّوا بأن الله تعالى هو الذي وهب عبده الإمام المهدي هذا الإعجاز.. راحوا ينسبونه إلى العرب من أهل الشام وأهل الحجاز، وأضلهم الكفر والعناد فنسوا فضل الله العلاّم، وفي ذلك يقول الإمام المهدي :

“…. ثم من اعتراضات العلماء وشبهاتهم التي أشاعوها في الجهلاء، أنهم قالوا إن هذا الرجل لا يعلم شيئا من العربية، بل لا حظ له من الفارسية، فضلا من دخله في أساليب هذه اللهجة، ومع ذلك مدحوا أنفسهم وقالوا إنّا نحن من العلماء المتبحّرين. وقالوا إنه كل ما كتب في اللسان العربية من العبارات المحبّرة، والقصائد المبتكرة، فليس خاطره أبا عذرها، ولا قريحته صدف لآليها ودُررها، بل ألّفها رجل من الشاميين، وأخذ عليه كثيرًا من المال كالمستأجرين، فليكتب الآن بعد ذهابه إن كان من الصادقين.

فيا حسرة عليهم! إنهم لا يستيقظون من نُعاس الارتياب، ولا يُسرحون النواظر في نواضر الصدق والصواب، ولا ينتهجون مهجة المنصفين. وتركوا الله لأشاوي حقيرة، وأهواء صغيرة، فإلامَ يعيشون كالمتنعّمين؟ يُصأصئون كما يُصأصئُ الجرو ولا يستبصرون، ويُضاهي بعضهم بعضا في الجهل فهم متشابهون. وإذا قيل لهم تعالوا إلى حقٍ ظهر، وقمرٍ بهر، فتشمئز قلوبهم ويهربون مستنفرين. أولئك الذين هتك الله أسرارهم، وكدّر أنظارهم، فتراهم كالعمين. يريدون أن يُفسدوا في الأرض عند إصلاحها وجزّءوا الأمانة والدين.

أتنفعهم أقوالهم إذا سُئل ما أفعالهم؟ أو يفيدهم إفنادهم إذا ظهر فسادهم؟ أو يُبرّءون مع كونهم من الفاسقين؟ لا يتّقون عالِم سريرتهم، ولا ينتهون عن صغيرتهم ولا كبيرتهم، ويعثون في الأرض معتدين. يتركون أوامر الله ولا يكترثون، ويتبعون زهوَهم ولا يُبالون، ويسعون إلى السيئات ولا ينتهون. أيظنون أنهم يُتركون في الدنيا ولذّاتها، ولا يُقادون إلى الحاقّة ومُجازاتها، ولا يُؤخذون كالمفسدين؟ أيحسبون أنهم ليسوا بمرآى رقيبهم، ولا بمشهد حسيبهم، ألا يعلم الله ما يجترحون كالخائنين؟

يلجون غابة الشيطان، ويذرون حديقة الرحمن، ويمرّون بالحق مستهزئين. وإذا قيل لهم اقبلوا الحق كما قبل العلماء، وأتوني كما أتى الأتقياء، صعّروا خدودهم كالمستكبرين. وقالوا لولا ألّف بعد الشامي كتابًا، إن كان صادقًا لا كذابًا، فليأتنا الآن بكتاب بعده إن كان من المؤلّفين.

فجئنا الآن لنؤتيهم نظيرها، بل كبيرها، والله موهن كيد الكاذبين. وقد ألّفنا هذه الرسالة، ورتّبناها كما رتّبنا الرسائل السابقة لندحض حجتهم، ونقطع أرومتهم، ونمزّق معاذير المبطلين. وإن هذا مني في العربية كآخر الكتب، وأودعتها من مُلَحِ الأدب، والأشعار النخب، ليكون صاتا لدفع صخب الصاخبين، ولنهدم دار المفترين من بنيانها، وندوس جيفة وجودهم في مكانها، ولنلطم على وجوه المجترئين.” (المصدر السابق ص231-234)

وهكذا كان تحدّي الإمام المهدي لاذعًا واضحًا، ولكن هروب المخالفين وسكوتهم كان عملاً فاضحًا. فأرسل الإمام المهدي إلى كلٍّ من مخالفيه الذين كانوا يدّعون الأدب والبلاغة، ويتفاخرون بأمور الفصاحة وشؤون الصياغة، فكتب يقول:

“…. وكان في هذه الديار تسعة رهط من الأشرار، وكانوا مفسدين في الأرض ولا ينتهجون مهجّة الخيار، وما كانوا صالحين. ووجدتهم في الكبرياء والإباء، كالجملة المتناسبة الأجزاء، أو كأمراض متشابهة في الخبث والإيذاء، ورأيت كلهم من المعادين المعتدين.

فمنهم رجل أمرتسري يُقال له “الرّسل البابا”، إنه امرؤ لا يعرف صدقا ولا صوابا، وكذب بآياتنا كِذابا. وخالطه زمر من السفهاء، فقعدوا بحذاء شمس كالحرباء، وقالوا إنّا نريد أن نُعارضك كالأدباء، ولكنّا لا نجيئك كما تريد، بل آتنا كالغرباء، وإذا جئت فنبارز كالمعارضين.” (المرجع السابق ص236)

وهكذا أرادت تلك المجموعة من العلماء برئاسة “الرسل البابا” أن تتحدى الإمام المهدي ، وهم يعلمون مُسبّقًا أن العلماء الكبار لا يذهبون إلى من يتحداهم، بل على المتحدي أن يأتي صاغرا إلى مجلسهم ومنتداهم. فكانوا يتوقّعون أن يأنف الإمام المهدي من الذهاب إليهم في عقر دارهم كما أنهم يأنفون، وبذلك يقولون إننا تحدّيناه وهو الذي رفض التحدّي، وهرب من ساحتنا وخاف من التصدّي. ولكن الإمام المهدي كتب يقول:

“فعفتُ المسعَى في أوّل نظري إلى الجهلاء، وأخذتني أنَفَة أن أحضر مجلس الحمقاء، ثم رأيت أن لا تعنيف، على من يأتي الكنيف، فقبلتُ كل ما قالوا، وملتُ إلى ما مالوا، وكتبت إليهم أني أقبل أن أكتب مناضلاً في ندوتكم، فعليكم أن تكتبوا مثل ما أكتب أمام مُقلتكم، أو أسمعوني ما أكتب كما زعمتم كمال درايتكم، فصمتوا وسكتوا كأنهم من الميتين.” (المرجع السابق ص236-237)

وهكذا كانت مفاجأة عُمرهم.. أن الإمام المهدي قد قبلَ أن يذهب إليهم في مجلسهم، ويُناضلهم في مكان ندوتهم، ثم تحدّاهم أن يكتبوا أمامه كما يكتب هو أمام أعينهم، فإن أبوا ذلك فعليهم على الأقل أن يقرأوا أمام الملأ من الحاضرين ما يكتبه هو، ويُسمعوه كما يُسمعوا المشاهدين ما خطّه بقلمه أمام نواظرهم، بدون أن يُخطئوا في القراءات، وبغير أن يغلطوا في نطق الكلمات. ولكنهم كانوا يعلمون أنهم كاذبون، وأنهم في الباطل سادرون، وللحق كارهون، وأنهم حتما في النضال مخذولون. وقال الإمام المهدي :

“وقد أُشيع بعده الاشتهار، وأُفشي الأخبار، وأمضضناهم وأحفظناهم فصمتوا كرجل ألثغ، وسكتوا كالذي على تُرب الهوان مرّغ، فانقلبنا عنهم كالمنصورين. فيا حسرة على الرسل البابا! إنه ما خاف ربًّا توّابا، ورأى ذُلاّ وتبابا، وإنه شبّ نارا، ثم أخمدها خوفا واضطرارا، وجال في شجون، ثم خاف مخلب منون، ونسى كل مجون، ومع ذلك ما ترك سير المتكبرين.” (المرجع السابق ص237)

ثم يُتابع الإمام المهدي ذكر العلماء الذين كانوا يتطاولون عليه، وكانوا قبل أن يصلحه الله في ليلة ويُعلمه اللغة العربية.. يتفاخرون عليه بعلمهم وأدبهم، ثم زعموا بعد ذلك أن الشاميين والعرب هم الذين يكتبون له الكتب والقصائد والأشعار، فكتب يقول:

“ومن التسعة الذين أشرتُ إليهم رُجَيْل يقال له “أصغر”، وإنه يزعم في نفسه كأنه أكبر، ويزدريني مفتريا من غير استحياء، ويسبّني في محافل وأملاء، فستعلم كيف يُجعل من الأصغرين. إنه يتّبع الهوى، ولا يجرى طلقًا مع التقوى، يريد أن يفضّ ختوم الشهوات ولو بالجنايات، ويجتني قطوف اللذّات ولو بالمحرّمات، وكذلك تأهّبت له الرفاق، وازداد من المنافقين النفاق، واستحكم في الطباع الذميمة، حتى سبق إخوانه في النميمة، وَمَا أرى مَدحرة لشيطانه، إلاّ أن أدعوه لامتحانه، فأُقبلُ عليه إقبال الطالب المناضل، ليتبين أمر الجاهل والفاضل، وإنه كان يطلبني لوغاه، فاليوم نرضيه بما يهواه، وقد خاطبته من قبل ذات العويم، لأُزيل ما علا قلبه كالغيم، فقلت آتني كالرائد، وتمتع من الموائد، فإن كنت رأيناك كسحاب مطير، أو ثبت معك من البلاغة كمير، فنؤمن بك وبحسن بيانك، ونشيع صفات علو شانك، فيسوغ لك بعده أن تغلطنا في إملائنا، وتأخذ أغلاط إنشائنا، كما أنت تظن كالجاهلين الغافلين. ومع ذلك نحسبك أنك ذو مقول جريّ، ونابغة كلام عربيّ، ويجوز لك ما لا يجوز لغيرك من ازدراء، والطعن على إملاء، وتُحمد عند الناس كالفاضلين المؤدبين.

وأما طراز ازدرائك، قبل إثبات علمك وعلائك، فما هذا إلاّ لبوس سفيه يترك الحياء، وعادة ضرير لا يرى الأضواء، فيحسب النهار المنير ظلاما، والوابل جهاما. وإن كنت من رجال هذا المضمار، ووليجة أهل هذه الدار، فَأَرِنا كمال إنشائك قبل ازدرائك، وَأتِ بكتاب كمثل هذا الكتاب، ثم اجعل بيني وبينك حَكَمًا أحدًا من أُولي الألباب. فإن شهد الحكم على كمالك، وحسن مقالك، وظنّ أنّك جئت بأحسن من كلامي، وأريت نظاما أجمل من نظامي، فلك من بعد أن تتخذ جدّي عبثا، وتجعل تبري خبثا، وأن تحسب درّي الغُرّ كليلٍ دامس، وبياني الواضح كطريق طامس، وتشيع عثاري في العالمين. وإن لم تفعل.. ولن تفعل.. فاتّق لعن اللاعنين.” (المصدر السابق ص238-240)

“…. ومن المعترضين المذكورين، شيخ ضال بطالويّ، وجار غويّ، يُقال له “محمد حُسَيْن”، وقد سبق الكلَّ في الكذب والميْن. وإنه أبى واستكبر، وأشاع الكبر وأظهر، حتى قيل إنه إمام المستكبرين، ورئيس المعتدين، ورأس الغاوين. هو الذي كفرني قبل أن يُكفر الآخرون، واعترض على كتبي وأظهر جهله المكنون. فقال إن تلك الكتب مشحونة من الأغلاط، وساقطة في وحل الانحطاط، وليست كماء معين، وإن هذا الرجل من الجاهلين. وكل ما يوجد في كتبه من مُلَحها وقيافيها، فليس قريحته حجر أثافيها، بل تلك كلم خرجت من أقلام الآخرين.

فقلت يا شيخ النوكَى، وعدوّ العقل والنُهَى، إن كتبي مبرّأة مما زعمتَ، ومنَزّهة عما ظننتَ، إلاّ سهو الكاتبين، أو زيغ القلم بتغافل مني لا كجهل الجاهلين. فإن قدرتَ أن تُثبتَ فيها عثارًا، فخذ مني بحذاء كل لفظ غلط دينارًا، واجمع صريفًا ونُضارًا، وكن من المتمَوّلين. وهذا صلة تلائم هواك، وتقر به عيناك، وتستريح به رجلاك، فتنجو من السفر الدائم، ولا تتيه كالشحّاذ الهائم، وتقعد كالمتنعّمين. وتَغْنَى به عن جعائل أخرى، ومكائد شتّى، وإشاعة عدوّ السُنّة، ووعظ الدّجل والفرية، وتعيش كالمستريحين.

بيد أني أريد أن أرى قبله ريّا فصاحتك، وأشاهد ريح بلاغتك، لأفهم أنك من علماء هذه الصناعة، ومن أهل تلك الصَّوْلة، ولست من الجاهلين المحجوبين العمين ….

ووالله إني أستيقن أنه لا يقدر على إملاء سطر أو سطرين، وكل ما يقول يقول من المين، بل لا أظن أنه يقدر على فهم مقالي، ويُبيّن في المجلس فحواء أقوالي، وإنه من الكاذبين ….

وإني أُيّدتُ من الله القدير، وأُعطيتُ عجائب من فضله الكثير. ومن آياته أنه عَلّمني لسانًا عربية، وأعطاني نِكاتًا أدبية، وفضلني على العالمين المعاصرين. فإن كنتَ في شك من آيتي، وتحسب نفسك حُدَيّ بلاغتي، فتحام القال والقيل، واكتب بحذائي الكثير أو القليل. وجدّد التحقيق ودع ما فات، وبارز في موطن وعيّن له الميقات، وعليَّ وعليك أن نحضر يوم الميقات بالرأس والعَين، ونناضل في الإملاء كالخصمَين. فإن زدتَ في البلاغة وحسن الأداء، وجئتَ بكلام يسر قلوب الأدباء، فأتوب على يدك من كل ما ادّعيتُ، وأحرق كل كتاب أشعتُه أو أخضيتُ، ووالله إني أفعل كذلك فانظر إني أقسمتُ وآليتُ. فارحم الأمة المرحومة، وعالج الفتن المعلومة، فإن الفتن كثرت، والآفات ظهرت، وكُفّر فوج من المسلمين من غير حق، والألسن فيهم طالت، فقم رحمك الله ولا تقعد كالمنافقين.

ألا تستيقن أنك من العلماء الراسخين، والأدباء القادرين؟ ثم مع هذا تعلم أن الله مؤيّد الصادقين، ومخزي الكاذبين، والله مولى أهل الحق ولا مولى للمفترين. وإن لم تقدر على المقابلة، ولم تقم للمناضلة، فرضيتُ بأن تُسمعني ما أكتب من العبارات الأنيقة، والجمل الرشيقة، وكفاني لو فُزتَ بهذه الطريقة، وأظهرتَ ما قلتُ على الحاضرين.

ولكني جرّبتك مذ أعوام، إنك لا تقوم في مقام، ولا تريد قطع خصام، وتَنْحَت في آخر الأمر حيَلاً واهية، ومعاذير منسوجة كاذبة، وتفر كالمحتالين. فعليك أن لا تحتال كأيام سابقة، وتحضر على الميقات في رياغة مقررة، فإن كنتَ غالبا وفاء أمرك إلى غلبة ورشاد، فأخفض لك جناح انقياد، وأتوب على يديك باعتقاد، كالذي قفل من ضلال إلى سداد. فأَلْفِتُ اليوم وجهي إليك يا أبا المراء، وإلى إخوانك من العلماء، وأدعوكم إلى مأدبتي الجفلا، وأُبلّغ دعوتي إلى أهل الحضارة والفلا، فعليكم أن لا تُعرِضوا عن هذه الدعوة، كما أبيتم ذات مرة في الأيام السابقة، فإن هذا يقضي بين الصادقين والكاذبين، وتتجلّى منه آية ربّ العالمين، وتستبين سبيل المجرمين.

بيد أني لا أظن أن تحضروا لفصل هذه القضية، والرجاء منقطع منك ومن أمثالك في هذه الخطّة، فكأني أستنْزل العصم من المعاقل، أو أطلب الولد من الثاكل، أو أستقري الدهن من الحديد، أو أبغي الطيب من الصديد، وأرى أني أرجع إليكم كالخاطئين، وأُضيّع وقتي في سؤالي من المحرومين. وإني لم أفعل ذلك لو لم يكن مقصدي إتمام الحجة، وإظهار الحق على الخاصّة والعامّة. وإني أدعوكم أوّلاً إلى المباهلة، فإن لم تقبلوا فأدعوكم إلى أن يجيئني أحدٌ منكم لرؤية آيتي ويلبث عندي إلى السنة الكاملة، وإن لم تقبلوا فأدعوكم إلى المناضلة في العربية، بالشريطة المذكورة والآتية، وإن لم تستطيعوا فُرادى فُرادى، فما أُضَيّق الأمر على من عادَى، بل آذَن لكم أن يجلس بعضكم بالبعض كالناصرين.” (المرجع السابق ص241-250)

وهكذا كان التحدّي واضحًا بلا مراء، وظاهرًا جليًّا بغير خفاء، لكل العلماء المعارضين والمخالفين من الأدباء، ولكنهم فرّوا من المناضلة والمحاورة، كما يفر الظبي الرعديد من القسورة، فتحقق بذلك وعد رب العالمين، لعباده المؤمنين والمرسلين. إنه سبحانه هو الذي ينصر الصادقين، ويُعز أهل الحق من المتقين، ويهزم أهل الباطل من المفترين، ويخزي الكاذبين الملعونين. ولقد سبقت كلمته لعباده الأبرار، وأصفيائه الأطهار، أن لهم دائما الغلبة والفوز والانتصار، ولأعدائهم الهزيمة والخسار والاندحار، والفشل والتباب والتبار، والمهانة والخزي والانكسار، والذلّ واللعنة والاحتقار، وللكاذبين دائما عقبى النار. فسبحان الذي أوفى وعده، ونصر بفضله عبده، وهزم أحزاب العلماء المستكبرين وحده. وطوبى لمن رأى آيات رب العالمين، وسارع إلى قبول الحق المبين، ودخل في زمرة جماعة الصادقين المخلصين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك