تحويل القبلة
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِن النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِم الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(143)

شرح الكلمات:

السفهاء – جمع سفيه، والسفه: خفة الحلم؛ الجهل؛ الخفة؛ الحركة؛ الاضطراب (الأقرب). فالسفيه قليل العلم؛ قليل العقل؛ المعترض بدون تفكير في الكلام؛ السطحي العقل؛ الذي لا ثبات عنده.

القبلة –الجهة؛ كل ما يُستقبل من شيء (الأقرب).

عليها– التي كانوا عليها أي التي كانوا يعتقدون بأنها قبلتهم.

التفسير:

من أسلوب القرآن أنه إذا أراد بيان شيء هام فلا يصدر حكمه فيه فورًا، وإنما يذكر قبله بعض الأمور كتمهيد لتتضح أهميته للناس وتستعيد قلوبهم لقبول الأمر الإلهي ببشاشة، وتستعد أنفسهم لإحداث تغير بحسب هذا الأمر، ولا يقعوا فريسة للابتلاء إلا في نطاق ضيق. ذلك لأن هدف القرآن أن يهدي الناس ويوقفهم على الحِكم في تعاليمه أيضا، إذ ذكر أولا أن الصيام كان مفروضا على الأمم السابقة أيضا، والصوم يولد التقوى، وبعد هذا التمهيد قال إن الصيام قد فُرض عليكم. وهنا أيضا قبل الأمر بتحويل القبلة أعدَّ طبائع الناس لهذا، وأشار إلى الانقلاب القادم قائلا(سيقول السفهاء من الناس ما ولاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها)..أي أن الذين لا يفكرون في حِكم الأوامر ويعترضون بدون تروٍّ، سوف يثيرون اعتراضا، ورغم كون هذا الاعتراض لغوا تافها للغاية إلا أنهم سوف يكرِّرونه ويقولون: ما الذي حوَّل المسلمين من قبلتهم السابقة التي كانوا عليها؟ لم يكن قد صدر بعد أي أمر بأن يحول المسلمون وجوههم إلى الكعبة المشرفة في الصلاة، ومع ذلك وقبل إنزال هذا الأمر بيّن أنه سوف ينـزل أمرٌ بتحويل القبلة عن قريب، وبسببه سوف يثور الناس ممن هم قليلو العلم والعقل أو مثيرو الأسئلة بدون تروٍّ، ولكن عليكم ألا تحزنوا ولا تخافوا من اعتراضهم..لأن الله سوف يبتليكم في إيمانكم بإنزال أمر جديد في شأن القبلة.

والسين” في كلمة “سيقول “للتوكيد والاستمرارية التي تشمل زمن الاستقبال أيضا. وهناك كلمة أخرى للاستقبال هي “سوف”، ولكنها للزمن البعيد، أما “السين فهي للمستقبل القريب. لم يكن هذا الاعتراض في الماضي وفي ذلك الزمن فقط، ولكن لا يزال الكتاب المسيحيون –مثل وِيري وسِيل وغيرهما- يثيرونه قائلين إن محمدا عندما كان في مكة كان يتجه في صلاته إلى الكعبة، ولكنه عندما جاء إلى المدينة اتجه إلى القدس استرضاء لليهود (تفسير القرآن لويري تحت هذه الآية).. مع أن هذا الاعتراض خطأ تماما.

يظن بعض الناس أن القرآن الكريم في قوله تعالى (سيقول السفهاء) اعتبر المعترضين على تعاليمه من السفهاء وهذا كلام قاس لا يليق به. ولكن هذا الاعتراض أيضا ليس صحيحا لأن الله تعالى لم يقل إن مخالف هذا التعليم سفيه.. وإنما اعتبر من يعارضون العقل الصريح من السفهاء، وقد قدّم على ذلك دليلا لا يبقى لأحد بعد معرفته أي شك ولا شبهة في سفههم وحمقهم؛ كما يدعوهم إلى استخدام العقل ويحاول إقناعهم بالدليل، والذي يحاول إقناع الخصم بالأدلة لا يقال عنه إنه يستخدم كلمات قاسية معه، ولكان من القسوة إذا كان هذا الأمر خلافا للحقيقة أو كان مجرد استهزاء بالخصم، ولكن ما دام القرآن يقنع الخصم بالأدلة، ولم يقل إنه سفيه بسبب معارضته لتعليمه وإنما بسبب مخالفته لصريح العقل، فلا يصح الاعتراض على ذلك. ولو كان هذا مثار اعتراض فمعنى ذلك ألا يلام أحد مهما ارتكب من الحمق، بل يجب أن يُشاد بعقله وتدبره وحكمته!! وهذا ما لا يقول به أحد قط. وإذا كان القرآن قد اتخذ نفس الموقف فما المبرر للاعتراض عليه؟

على أية حال، ففي وقت لم يكن المسلمون يعرفون متى وإلى أين سوف يؤمرون بالاتجاه، كان الله العليم الخبير يعرف أن الناس سوف يعترضون عليهم، وسوف يقع ضعفاء الإيمان في الابتلاء، وقبل أن يعترضوا عليهم، بل قبل أن يؤمروا بتحويل القبلة رد الله اعتراض المعارضين وقال (قل لله المشرق والمغرب)..أي أن القضية المهمة هي عبادة الله، فأينما يأمر الله بالاتجاه فعلى الإنسان أن يتجه إليه لينال رضى الله تعالى. فإنْ أمر بالاتجاه إلى الشرق فيتجه إلى الشرق، وإذا أمر بالاتجاه إلى الغرب، فإلى الغرب. فالاعتراض على تحويل القبلة ولماذا لم يأمر بالاتجاه إلى كذا وكذا..كل ذلك من الجهل المطبق.

وهناك سبب آخر هام لتعيين بيت الله قبلة العالم وهو أن إبراهيم كان دعا ربه أن يبعث من أهل مكة رسولا عظيما، ويكون سبب هداية للعالم كله.. وتظهر على يده آيات سماوية، ويأتي من الله بشريعة كاملة، ويبين أسرار وحِكم الشرع، ، ويقوم بتزكية النفوس.

وبالنسبة لله فالشرق والغرب سواء. وإذا عُينت جهة فليس لأن الله في الشرق أو الغرب،بل لهذا التعيين حِكم أخرى..من أهمها الوحدة. فلو لم تُتخذ جهة معينة للصلاة لاتجه المسلمون إلى الشرق، وبعضهم إلى الغرب، وبعضهم إلى هنا وهناك، ولم يكن لهم أي نظام أو وحدة. فلإقامة الوحدة بينهم ولتسوية صفوفهم أمرهم الإسلام بالاتجاه إلى جهة واحدة. أما إذا لم يعرف الإنسان جهة القبلة وهو في القطار أو الطائرة وما إلى ذلك فله أن يتجه في الصلاة إلى أي جهة، مما يدل على أن الاتجاه إلى جهة خاصة ليس مطلوبا لذاته..ولكن المطلوب هو النظام وخلق الوحدة بين المسلمين.

وهناك سبب آخر هام لتعيين بيت الله قبلة العالم وهو أن إبراهيم كان دعا ربه أن يبعث من أهل مكة رسولا عظيما، ويكون سبب هداية للعالم كله.. وتظهر على يده آيات سماوية، ويأتي من الله بشريعة كاملة، ويبين أسرار وحِكم الشرع، ، ويقوم بتزكية النفوس. يتطلب هذا الدعاء الإبراهيمي أن يكون ذلك النبي العظيم وأتباعه على صلة وثيقة ببيت الله الواقع بمكة حتى إذا اتجهوا إليه في صلاتهم تذكروا ذلك الدعاء الإبراهيمي الذي دعا فيه ببعث محمد . فعندما يقف الإنسان في الصلاة قائلا “الله أكبر” متوجهًا إلى بيت الله الحرام..يتجه فكره فجأة إلى ذلك الدعاء الإبراهيمي، ويرى من واجبه أن يوجه الناس إلى آيات الله نيابة عن الرسول ، ويعلمهم علم الكتاب، ويبين لهم الحِكم وراء الأوامر الإلهية ويحاول أن يطهرهم. ولا يمكن أن يخطر بباله هذا الهدف العظيم الشأن ولن يتولد في قلبه هذا الحماس الشديد إذا ما اتجه إلى لندن أو نيويورك أو باريس، بل يفكر عندئذ في الرقص والغناء، ولن يفكر في العبادة والصلاح والتقرب إلى الله. ومما لا شك فيه أن الله في كل مكان، ولا يمكن لنا القول بأنه في الجزيرة العربية وليس في أمريكا، أو أنه في مكة وليس في أفريقيا، ولكن مما لا شك فيه أيضا أن ببعض الأماكن والأشياء عوامل تذكِّر الإنسان وتوجهه إلى الله بصورة غير عادية. لذلك عيّن الله الكعبة المشرفة قبلة للصلاة، وإلا فإن الله أسمى من أي تجسُّد، وأبواب قُربه مفتوحة لكل إنسان في العالم.

وهناك من يعترض فيقول: هذه الكلمات (لله المشرق والمغرب) عندما وردت في قوله تعالى (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) (البقرة: 116)..فسِّرت بمعنى أن لكم أن تتجهوا إلى أي جهة، بينما اتخذتم نفس الكلمات هنا مبررا لتحويل القبلة..فكيف يُستدل من كلمات واحدة استدلالان متضادان؟

إن هذه الكلمات لم تستخدم من قبل لتكون رفضًا لتعيين قبلة، ولم تُستخدم الآن لتبرير تعيين قبلة ما، بل وردت هذه الكلمات في المرة الأولى (آية 116) بمعنى أن كل شيء من الله تعالى، وسوف يجعلكم حكاما على الشرق والغرب في يوم من الأيام، وسوف يعطيكم من فضله كل شيء. أما هنا فأخبر الله بها أن المقصود الحقيقي ليس القبلة حتى يُعترض عليها، وإنما الهدف الحقيقي هو طاعة الله تعالى؛ فأينما يأمر الله بالتوجّه فالتوجّه إليه يكسب الإنسان رضا الله تعالى.

والجواب الثاني هو أن الآية الأولى (116) كانت نزلت بالمدينة عندما كانت القبلة قد تعينت حتى في رأي الخصوم أيضا، فكيف يمكن أن يقول القرآن إنه لا حاجة للتوجه إلى قبلة معينة وقت الصلاة، فلا يصح أن يعترض أحد: إذا لم تكن القبلة هدفا مقصودا فلماذا عُينت؟ فمثل ذلك مثل المجتمعين للمشورة.. فاجتماعهم في مكان معين ليس هدفًا، ولكنهم بحاجة لتعيين موعد ومكان معين للتشاور.كذلك وإن لم تكن القبلة هي الهدف الحقيقي فإن الله تعالى عيّن للمسلمين جهة محددة لتوحيدهم وتسوية صفوفهم. وإذا لم يكن المصلي يعرف جهة القبلة أثناء سفره، أو يعرف جهتها ولكن بعد أن بدأ الصلاة انحرفت مطيته من حيوان أو قطار أو سفينة أو نحو ذلك عن جهة القبلة فلا يفسد ذلك صلاته ولا ينقض منها شيئا. وهذا دليل على أن الاتجاه إلى جهة معينة ليس مقصودا في ذاته، وإنما عُينت جهة خاصة للاتحاد والنظام وتسوية صفوف المصلين.

قوله تعالى (يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)..أشار بكلمة (صراط مستقيم)إلى أن التعاليم السماوية تختلف بعض الشيء باختلاف الزمن، لأن من سنة الله أنه عندما يتفضل على قوم فإنه يرسل إليهم تعاليم مناسبة لحالهم. وكانت الكعبة قبلة مناسبة للمسلمين لذلك حوَّلهم الله إليها في آخر الأمر، والذين خضعوا لمشيئة الله منقادين لإرادته، ورأوا أن واجبهم اتباع الصوت السماوي، وأن يبقوا أسمى من حدود التقيد بالشرق والغرب..وفقهم الله لطاعة مخلصة لدرجة أنهم توجهوا إلى بيت الله بمجرد أن توجه إليه محمد المصطفى ، واستمروا يجرون في الصراط المستقيم.

Share via
تابعونا على الفايس بوك