التدبر في صفات البارئ في ضوء القرآن والسنة
التاريخ: 1995-03-10

التدبر في صفات البارئ في ضوء القرآن والسنة

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

 

تعريب: المرحوم محمد حلمي الشافعي[1]

خطبة الجمعة ألقاها

حضرة مرزا طاهر أحمد ( أيدَّه الله) الخليفة الرابع

 لحضرة الإمام المهدي والمسيح الموعود ( )

بمسجد الفضل بلندن يوم 10-3-1995

 

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ (آمين)

بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ * قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (الأنعام: 102 – 105)

لقد بدأتُ الخطبة بهذه الآيات الكريمة، لأنّ لها صلة بموضوع الصفات الإلهيّة. كلما أُثيرُ موضوعًا أتحدَّث فيه إليكم، فإنّ الأذكياء وأهل الفراسة والمثقفين والمتحمسين من المسلمين الأحمديين يُسرعون في تدبُّر الآيات القرآنيّة، وقد يشطُّون بعيدًا في هذا، والموضوع حسّاسٌ جدًا، ويجب أخذ الحيطة تمامًا عند النظر فيه.. لأنّ الله تعالى يقول:

لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ..

إنّ بصيرتكم وأفكاركم وتدبُّركم مهما كانت مُستنيرةً فمن المحال أن تُدرك الله تعالى.. إلا بقدْرِ ما يريد الله أن تُدرك بصيرتكم، ويُطلعكم على الأمور، وسوف تعرفون بقدْرِ ما يتجلّى الله بنفسه عليكم.

تقول الآية التالية:

قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ

فالبصائر هي التي تُعرِّفكم الله تعالى.. ومن تدبَّر فيها واستفاد منها فقد نفع نفسه. ومن أغلق عينيه عن رؤيتها فلا بدَّ أن يقع به ضرر. وهذه البصائر تجدونها في القرآن الكريم، وفي الفهم الذي عَلِمَهُ النبي . ولا يحقُّ لأحد أن يفتح فاه في ذات الباري تعالى وإلا ألقى بنفسه في التهلُكة. ولذلك حذَّرنا النبي وقال: تفكَّروا في صفاته .. كي تفهموا وجوده، ولا تُفكِّروا في ذاته.. لانّ ذلك يؤدي على دماركم. يمكن أن تستخدموا أفكاركم في مواضيع أخرى، ولكن في موضوع الذات الإلهيّة عليكم أن تتدبَّروها فقط على ضوء آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي ، ولا تذهبوا أبعد من ذلك كي لا تضلّوا، ولا تسمحوا لأفكاركم أن تتجاوز هذه الحدود في موضوع الذات الإلهيّة.

وعلى ضوء هذه الآيات أودُّ أن أمضي في تناول هذا الموضوع الذي تَلَقَّيْتُهُ من الله تعالى في الرؤيا.. وما برح يتفتّح كل يوم كالزهرة.. كأنّما لا زلتُ في عالم الرؤيا. وقد ذكرتُ بعض الأمور، ولا يزال هناك بعض النقاط لم أذكرها بعد.

ذكرتُ من قبل قول القرآن الكريم عن الله تعالى

كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ .

أي أنّ الله يتجلّى كل وقتٍ في شأنٍ جديد.. في مجدٍ وجلاءٍ وبهاءٍ متجدِّد.. فأيّ نِعَمَ الله تُنكرون يا معشر الجنِّ والإنس.. يا أيُّها الكبار والصغار؟ وكنتُ ذكرتُ عبارةً لسيدنا المهدي في هذا الصدد تؤيِّد موقفي ووجهة نظري، وقلتُ أنّي سأُكمل هذا الموضوع في الخُطب التالية على ضوء أقوال سيدنا المهدي.. وأنّ هناك نقاطًا أُخرى يجب ذكرها.. فبدونها لا يكتمل الموضوع.

وأهم ما في هذا الأمر هو: ما هو الزمن؟ وما معنى أنّ الزمن لا يوجد في الله تعالى؟ إنّ التعريف النحوي والصرفي للزمن في صدد الإنسان ناقص، وهو كذلك ناقصٌ إذا أطلقناه على ذات البارئ سبحانه، ولا نستطيع أن نُطلقه على الذات الإلهيّة إلا بقدَر. ولا بدَّ أولاً أن نضع تعريفًا للزمن. والتعريف الذي فهمته من الرؤيا هو أنّ الوجود الذي لا بداية له، ولا نهاية له، والذي لا يتغيّر.. هو وجودٌ فوق الزمن ومنزَّهٌ عنه. أما التعريف الصرفي والنحوي للزمن فشيءٌ آخر. هناك أمورٌ نرى أثرًا للزمن فيها ولا توجد فيها هذه الشروط. فكلُّ تصوُّرٍ للزمن لا يوجب تغيُّرًا في ذات الله.. ولا يضع بدايةً ونهاية.. يمكن أن يُنسب إلى ذات الله. والقرآن قد نسَبَ مثل هذا الزمن إليه تعالى. يقول القرآن عن الله أنّه إذا أراد أن يخلُقَ شيئًا فإنّه يقول له كُنْ فيكون. فهذه الإرادة تتعلَّق بالوقت والزمن، إذا قبلَ (كُن) لم يكن هذا الشيء.

والآيات التي تلوتها عليكم تتعلَّق أيضًا بهذا الموضوع. يقول القرآن بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ . أي أنّ بداية خلق السماوات والأرض كانت من الله. وهناك فرق بين البَدْعِ والخلق. البَدْع هو الإيجاد على غير مثالٍ سابق، أما الخلْق فهو تطوير الموجود من حالةٍ أدنى إلى أعلى.. حتى يتجلّى الشيء بمظهرٍ جديد. مثلاً.. إذا خلطنا المواد الكيماوية بعضها ببعض تفاعلت وتكوَّنت منها مواد جديدة. وهناك فرع خاص في الكيمياء يُسمَّى الكيمياء التخليقيّة. وعلى أساس هذا العلم يصنعون موادًا لم تكن موجودة من قبل، ولذلك يسمُّونها تخليقًا وليس ابتداعًا. ويذكر الله قدرة الإنسان على الخَلق في دائرةٍ محدودة ويقول أن الإنسان أيضًا يخلق.. ولكن خَلقَ الله أعظمُ من خلق الإنسان. هذا الموضوع واضحٌ لا يختلف فيه أحد. فالله تعالى ينسب إليه الإبداع؛ أي أنه الذي أوجدَ الأشياء ولم يكن لها وجود من قَبل. وتعريف الزمن من هذه الناحية ينطبق على بدع المخلوق وعلى خَلْقِه أيضًا. فالبَدْع هو إيجاده ولم يكن موجودًا، والخلق هو أن تُحدث له تغيُّرات ليتحوّل إلى صورةٍ أخرى أو شيءٍ آخر. وهذان الأمران جاريان في مخلوقات الله.

وكان يعني بذلك أن الصفات تعتمد على المادة، والروح أيضًا صفة للمادة، فإذا انتهت المادة انتهت الروح أيضًا. كانت هذه هي فكرة أرسطو في البداية، ولكن كان أمام نظره سؤالٌ دائم: من أين جاءت المادة؟ وكيف جاءت؟

هذا هو التعريف الهام: الشيء الذي ليست له بداية ولا نهاية ولا تتغيّر ذاته أبدًا.. هو وجودٌ مطلق خالٍ من الزمان. ولكنه عندما يخلُقُ يرى الخَلْقُ فيه الزمن.. ولكن هو في ذاته خالٍ من الزمن.

وقد تناول الفلاسفة أيضًا هذا الموضوع منذ القِدم. وأرى أن أكبر فيلسوف خارج عالم الأديان هو أرسطو.. الذي كان تلميذًا لأفلاطون، وأستاذًا للإسكندر المقدوني الذي درَسَ في مدرسة أفلاطون حتى بلغ الخامسة والعشرين عندما مات أستاذه فخرَج من مدرسته.. لأنّ أفكاره كانت متقدِّمة على أوانه. أذكر ذلك عَرَضيًّا، ولن نتناول الفلسفات التي تعرَّضت لهذا الموضوع، لأنّ الأمر يطول كثيرًا جدًا.. ويحتاج هذا الجانب وحده إلى خُطبٍ عديدة، ومع ذلك لا يُعالج الموضوع في الخُطب لأنّ كثيرًا من المستمعين لا يستطيعون متابعة هذه المواضيع وهضمها لعدم درايتهم بها. ولذلك تُعالَج هذه المواضيع بالكتابة. وليس من الضروري أن تُبحث كل المواضيع بالكلام والخُطب. لقد عرَّفنا القرآن أنّ الله تعالى علَّم الإنسانَ البيانَ، وكذلك علَّمه بالقلم أيضًا. فالجوانب التي تحتاج في تعلُّمها القلم سوف أكتبها إن شاء الله؛ وأدعوهُ تعالى كي يوفِّقني في ذلك حتى أُقدِّم الموضوع في صورة كتاب.

أُريد القول أنّ أرسطو كان أوّل أمره يبدو أقلّ روحانيّةً من أفلاطون ومتأخِّرًا عنه في الفلسفة الإلهيّة، ولكن عندما تقدَّم في السن ونضج.. صارَ أقرب إلى الله في مجال الفلسفة. ولم يكن أهل تجربة في الأمور الروحانيّة.. لذلك توصَّل إلى نتيجة أنّه لا بدَّ من وجود إله.. ومع ذلك لا نجد في كتابته أثرًا لإلهٍ اتصل به وتجلَّى عليه بتجلِّياته ونِعمه. لذلك يضمُّه بعض الفلاسفة العصريون والعلماء إلى مدرسة سبينوزا Spinoza الفيلسوف اليهودي الهولندي الذي قدَّم تصوّرًا يقول فيه بوجوب أن يكون مثل هذا الوجود (أي الإله) موجود.. ولكنه لا يذكر هل هو فعلاً موجود وهل يمكن الاتصال به، بل إنّه ينفي هذا ويقول إنّ مثل هذه الذات لا يمكن أن توجد! فهو من ناحية يرى ضرورة وجود الإله، ومن ناحيةٍ أخرى ينفي وجوده، ونفس الفكرة عند (آينشتاين).. ولكنه ليس أمينًا وصريحًا. أما (سبينوزا) فكان أمينًا في هذا الموضوع.

في الخُطب القادمة سوف أذكر لكم عن آينشتاين الذي نشر خطابًا في عام 1922 وقدَّم نظريته عن الله.. وهي نظرية تافهة للغاية، إذ قد أثَّر فيه فلاسفة عصره من الإنجليز. إنه يذكر نصف القصة ولا يذكر بقيّتها. ولذلك لم يكن أمينًا في تقديم ما توصَّل إليه.. لأنّه لو كان أمينًا لتوصَّل إلى النتيجة التي توصَّل إليها أرسطو. لقد سار في الطريق السليم لبعض الوقت.. ولكنه بعد ذلك انحرف عنه. فمثلاً يقول: يجب أن يكون لكلِّ سبب مُسبِّب، ولا بدَّ أن يكون لكل ما نراه مُوجِدًا.. فلا بدَّ لهذا الكون من بداية.. ومع ذلك يذكُر بداية الكون ويُغمض عن المــُسبِّب والمـــُوجِد له ويتجه وجهةً أخرى.. ويقول مُعترضًا: إننا لا يمكن أن نُقرَّ بوجود إله يتدخل في هذا الكون تدخُّلاً غير معقول.. فليس هناك إلهٌ مثل ذلك. هذا القول منه يُبيّن أنه لم يصل إلى النتيجة المنطقيّة. مع أنّه يعرف جيدًا أنّ هذا الكون المتغيّر لا يمكن أن يكون أزليًّا.. وبدلاً من أن يسير في الاتجاه الذي يوصله إلى الله، إذا به يتجه بتفكيره إلى ناحيةٍ أخرى. ولهذا السبب أقول إنّه لم يكن أمينًا.. فهو ذكي جدًا، ولا أتصوَّر أنّ أفكاره لم تذهب إلى هذه الوجهة الصحيحة. لا بدَّ أنّه فكَّر في ذلك ولكنه أغمض النظر.. وكانت كل استدلالاته هكذا.

ولكن أرسطو كان أمينًا في أفكاره وبياناته، وكان فكره منطقيًّا، مبنيًّا على الأمانة. كان في وقتٍ ما بعيدًا عن تصوُّر وجود إله.. لأنّه كان يرى أن الروح صفةٌ للمادة نفسها. وقد تلقَّى هذه الفلسفة عن أفلاطون. وكان يعني بذلك أن الصفات تعتمد على المادة، والروح أيضًا صفة للمادة، فإذا انتهت المادة انتهت الروح أيضًا. كانت هذه هي فكرة أرسطو في البداية، ولكن كان أمام نظره سؤالٌ دائم: من أين جاءت المادة؟ وكيف جاءت؟ كانا يعلَمانِ أنّ المادة دائمةُ التغيُّر.. فأين كانت البداية؟ وقد توصَّلا من ذلك إلى مفهومٍ للإله سمُّوه المادة الأولى، وهي غير مُتغيِّرة، ومن هذه المادة الأولى تولَّدت سائر المواد. وقالوا أنّ المواد الجديدة المتولِّدة عن المادة الأولى مُتغيِّرة مُتحرِّكة. هناك بعض المنطق في هذا، ولكنه لا يحلُّ المسائل الأخرى. وعندما تدبَّر أرسطو في الموضوع أكثر، وله كتبٌ كثيرة.. منها كتاب أراهُ أهمُّها واسمه “ما وراء الطبيعة”، توصَّل فيه إلى أنّ الله في الحقيقة ليس مادة.. لأننا لا نرى مادةً لا تتغيَّر، ولذلك لا نستطيع أن نُسمّي الشيء الأول مادة.. ولكن نُسمِّه العقل. وحركة هذا العقل لا تحتاج إلى تغيُّر.. فهو أزلي أو يمكن أن يكون أزليًا. هذا الاتجاه في التفكير من جانب أرسطو يتفق مع تعريف الزمن الذي قدَّمته لكم.

فكل تصوُّر للزمن الذي لا يتغيَّر فيه شيء بالضرورة، ولا يكون فيه تصوُّر لبداية أو نهاية.. مثل هذا الزمن يمكن أن يُنسب إلى الله تعالى، ولا يتعارض مع شأنه.. بل إنّ الله يذكُر أمورًا كهذه عندما يُعرِّفُ نفسَه ويقول: إنّ الله -بدون أن تتغيَّر ذاته- تتجلَّى صفاته بطُرقٍ شتّى.. وليس فيها مفهوم الزمن بأنّ لهذه الصفات بداية ونهاية. وهذا هو معنى قوله كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ .. فصفاته تتجلّى ولا تثبت أو تقِفُ عند جلْوَةٍ واحدة.. لأنّ صفاته إذا توقَّفت عند جلْوَةٍ واحدة لانعدم الوجود العاقل الذي يأخذ القرارات بحسب حاجة الوقت، ويقيم علاقات مع مخلوقاته، ولَفَشِلَ هذا المفهوم. لذلك كان أرسطو يرى في البداية هذا الرأي، ونفى أن يكون هناك إلهٌ يتدخَّل في أمور الخلق. ثم قدَّم إلهًا له تدخُّل في أمور الخلْق. ولكن هذه الفكرة امتزجت واختلطت بأفكار الآلهة الكثيرة التي كانت شائعة في ذلك الزمن، وإنه لوجود النور الباطني فيه تكلَّم عن إلهٍ واحد ثم تكلَّم عن آلهةٍ عديدة. ولسوف اتناول هذا الموضوع في كتاباتي إن شاء الله.

الآن أخبركم بأنّ تغيُّر شؤون الله لا يحتاج بالضرورة إلى ذلك الزمن الذي يُغيِّر ذاتَه ووجودَه نفسَه. هناك حاجةٌ ضرورية لأن يتجلّى الله بتجلِّياتٍ كثيرة في وقتٍ واحد.. فلا بدَّ من هذه التجلِّيات للمخلوقات المحدودة. فمثلاً إذا فكَّرتم في ذاتكم فهمتم هذا الموضوع بعض الشيء. يقول الله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ . والسبب في تعثُّر العلماء الذين ضلُّوا في فَهْمِ ذات الله تعالى أنهم قاسُوا الله بوجودهم وذواتِهم أنفسِهم، ووضعوا بذلك حدودًا لذات الله تعالى، ولكن الخالق لا يُعْرَف معرفةً تامة بالمخلوق. نعم.. يمكن للإنسان أن يعرِف الخالق بآثار صفاته.. ولكنها تكون معرفةً محدودة. انظروا إلى الطائرات المعقّدة.. هناك مشهدٌ أتصوَّره في ذهني: لو انقضى هذا العالَم وجاء من بعده عالمٌ جديد فيه مخلوق متطوِّر أكثر من الإنسان.. ومثل هذا الخلق الجديد ثابتٌ من القرآن.. أقول إذا عثرَ هذا المخلوق المتطوِّر الذكي على هذه الطائرة مدفونة تحت التراب بعد الحفر عنها لا يمكن أن يعرفوا من فحص الطائرة أنّ الكائن الذي صنعها (أي الإنسان) كانت له يدان ورجلان وله عينان في مكان معيّن من الوجه، ولا يستطيعوا تصوُّر كيف كان يبدو الإنسان. كل ما يمكن أن يستنتجوه هو أنّ صانع الطائرة كان عاقلاً وذكيًّا قادرًا ذا موارد كثيرة وكان يستطيع تنفيذ ما يفكِّر فيه. من هذه الزاوية أقول أنّه بتجلِّيات الله تعالى يمكن أن نتوصل إلى وجود ذاتٍ عاقلٍ جدًا.. لا شيء باطلٌ في صنعه، ولا في العالَمِ الذي أوجده، وهو موجودٌ له إرادةٌ ووعي وتفكير. ولكن لا نستطيع أن نعرف متى بدأ وجوده أو ماهيّته إلا بقدر ما يُخبرنا. ومن هذه الناحية.. عندما نتدبَّر في آية الكُرسي يتجلّى لنا موضوعٌ جديد. يقول تعالى

وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء .

ويعني (عِلمُه) عمومًا كل ما يدخل في علم الله، وهو يعلم كل مخلوقاته بما لا يمكن لأحد أن يطَّلع عليه إلا بقدرِ ما يشاء الله ذلك. أما إذا كان المراد من (علمِهِ) علْمَ  ذات الله تعالى فيكون معنى الآية أنّ الإنسان لا يمكنه معرفة ذات الله إلا بقدر ما يشاء الله، بل وسيكون ذلك فقط بالقدر الذي يريده الله. ومن هذه الوجهة فإن التعريف أو التقديم الذي يقدِّم الله به نفسه لنا هو وحده الذي سوف يقودنا إلى التعرُّف عليه. وهذا مذكورٌ في القرآن بصورةٍ كاملة كافية لما عند الإنسان من قدرةٍ على الفهم والإدراك. ولم تذكر أكثر من ذلك.

والنبي من هذه الناحية هو آدم الذي عُلِّمَ  كل الأسماء بحسب مقدرة العقل الإنساني؛ ونال كل العلم الذي كان من الممكن للإنسان أن يفهمه من صفات الله؛ والعالَم الذي خُلِقَ فيه الإنسان والمعارف التي يمكن للإنسان في هذا العالَم أن يفهمها قد أُعطيَت للمصطفى . وإن لم تكن قد كُشِفت ونزلت من قبل.. فهذا النزول فيه زمن، ولكن هذا الزمن -كما أوضحتُ من قبل- لا يقتضي لزوم تغيُّر في ذات الله تعالى.. وإنّما هو تجلٍّ جديد لهذا الوجود الذي لا يتغيَّر. للوردة مثلاً تجلِّياتٌ شتّى.. ولكن كل تجلٍّ منها يقتضي حدوث تغيُّر قبل ظهوره. وما لم يحدث تغيُّرٌ في ذات الوردة ما تغيَّرت صفتها وما ظهر تجلِّيها الجديد. إذا تغيَّر لون الوردة فلا بدَّ من تغيُّر حدث في ذاتها. وإذا ظهرت رائحة الوردة لزم أن يحدث قبلها تغيُّر في ذاتها. وإذا صارت الثمرة حلوة أو حامضة فلا بدَّ من حدوث تغيّر. ولكن الله تعالى لا يطرأ على ذاته أيُّ تغيُّر.

فقول أرسطو أن العقل هو الأول وأنّه عنده لا يحتاج لتغيُّر لأنه عقل وليس مادة.. قولٌ أقرب إلى الحكمة. أما الفلاسفة الآخرون بما فيهم العصريون فمتأخرون كثيرًا عن قول أرسطو هذا.. ولذلك علينا أن نعترف بحكمة أرسطو وذكائه.

والواقع أن الله تعالى المنزَّه عن الزمن قد ذكر الخلْق وربطه بإرادته.. والإرادة لا تتطلب تغيُّرًا في الذات. تفكَّر في إرادتك..  أحيانًا تريد أن تفعل شيئًا وتتخذ بعض القرارات.. فتفعلها أو لا تفعلها ولكنك في إرادتك لست مُقيّدًا بالزمن. هناك احتمال أن تفعل هذا أو لا تفعل.. ثم تكون السيد وتأخذ القرار. وفي هذا القصد لا تستخدمون طاقةً تُبذل. ولكن عند تنفيذ هذا القصد أو النيّة تستهلكون الطاقة. وبالطبع فإنّ مَثَلَ الإنسان لا ينطبق على الله تعالى، لأنّ الإنسان في كل ما يفعل لا بدَّ أن يحدث به تغيُّر.. فمثلاً إذا أردتُ أن أقتل ذُبابة فلا بدَّ أن ترتفع يدي وتهبط.. وبدون هذه الحركة لا يتمُّ تنفيذ الإرادة، وتبقى الإرادة مجرَّد احتمال في الفكر. ومن هذه الناحية فإنّ إرادتكم تؤثِّر في الخارج أيضًا. انظروا إلى قوة الإرادة.. إذا استُعْمِلت في الشرّ، فإنّ الحرب العالمية كانت من إرادة هتلر.. ولكن انظروا إلى المشاكل والشرور التي وقعت. لقد أُطلِقَت وأُلقِيَت ملايين الأطنان من القذائف على الناس، فأزهقت ملايين الأرواح ودمّرت ملايين المؤسسات. فللإرادة أو النيّة قوةٌ كبيرة، ولكنها لا تُعطي الطاقة لأنّ مفهوم الطاقة في الواقع خارج الإرادة.

ولكن هناك فرق آخر بين الله تعالى وبين الإنسان.. هناك بالطبع فروقٌ كثيرة.. ولكن بالنسبة للإرادة هناك فرقٌ هام بين الله والإنسان؛ لقد تعثّر الفلاسفة عندما لم يفهموا هذا الفرق. ذلك أنّ إرادة الله تعالى لا تنفذ بسبب الطاقة ولكنها في الواقع تُعطي الطاقة. كل طاقة تتولّد فإنها تتولّد بإرادة الله. لقد عرّف الله تعالى نفسه أن كلما أن أردتُ ان أفعل شيئًا أقول: كُنْ، فيكون ما أُريد.. أي يتحقّق. و(كُنْ) هي تعبيرٌ عن الإرادة وأخذ القرار. فالقرار لتنفيذ الإرادة موجود لأن الله عالِمُ الغيب.. إنّه يقرِّر تنفيذ إرادته.. وقرار التنفيذ يقتضي زمنًا ولكن هذا الزمن لا يقتضي تغيُّرًا في ذات الله. بل إن الله في بعض الأحيان يُغيّر الكون تمامًا.. وكلما أثّرت إرادته في الكون أحدث تغيّرًا. ولكن بالنسبة للطاقة.. فإنّ إرادة الله  لا تحتاج إلى أي طاقة منه كما هو الحال مع القرار الإنساني. فالإرادة تتعلّق بالروح.. والروح لا تحتاج إلى ذلك النوع من الطاقة التي نستهلكها ونجدها في حياتنا اليوميّة.

عندما استيقظت من هذه الرؤيا وفكّرت خطر ببالي أن الله عندما أثار السؤال عن الروح أجاب بهذا الجواب في القرآن:

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي .

الروح تتعلّق بالأمر، ولها القدرة على الأمر، لأنّ الله خلقها بالأمر، وأعطاها بعض القوة على الأمر. فقرار الروح يتطلّب أقل قدر من الطاقة.. وتولِّد أعظم قدرٍ منها.. وكلُّ أفعالنا تقع تحتها. إنّ أفعالنا، بل والأفعال التي تقع حولنا تتأثر بهذا القرار بحيث أن سلسلةً كاملة من الأفعال تبدأ.. لا تقتصر على وقتٍ واحدٍ فحسب.. وإنّما تستمر جاريةً في المستقبل أيضًا بإرادة الله لتؤدّي على كثير من التغيُّرات لأزمانٍ طويلة. فالحرب العالمية الأولى أو الثانية مثلاً قد تركت آثارا استمرت كتفاعل متسلسل.. ولم تكن في الإرادة كل هذه الطاقة، ولم تكن تحتاج إلى كل هذه الطاقة.. ولكن انظروا قدْرَ ما أحدثت من الطاقة.

والنبي من هذه الناحية هو آدم الذي عُلِّمَ  كل الأسماء بحسب مقدرة العقل الإنساني؛ ونال كل العلم الذي كان من الممكن للإنسان أن يفهمه من صفات الله؛ والعالَم الذي خُلِقَ فيه الإنسان والمعارف التي يمكن للإنسان في هذا العالَم أن يفهمها قد أُعطيَت للمصطفى .

ثم الأمر الثاني الذي تنبَّهتُ إليه بعون الله تعالى هو أنّه كيف يخلُق المادة بإرادته ولماذا؟ حاول الناس فَهْمَ الله قياسًا على الإرادة الإنسانية.. لذلك تعثّر كثيرٌ من الفلاسفة -ولكن أرسطو لم يتعثّر- وإن ضلَّ الكثيرون. ولقد سارت الفلسفة الهندوسيّة في طريقٍ زائغٍ عن الحق لهذا السبب.. وقد تناول سيدنا الإمام المهدي هذا الموضوع في كتابه (البراهين الأحمدية) وردَّ على الآريا من الهندوس بصفةٍ خاصة في مسألة أنّ الله يخلق بإرادته، لأنّ الإرادة غير ماديّة، والبشر مادة، ولا بدَّ من انطباق هذا عليه إلى حدٍّ ما. وبما أنّ الله تعالى ليس له مثيل لذلك لا نستطيع أن نضرب مثالاً كاملاً في هذا الصدد. فعلينا أن نفكِّر هل كان أزليًا أو لا. وهل كان أزليًا ذا إرادة أم بدون إرادة؟ فإذا كانت الأزليّة بدون إرادة لم يبقَ هناك إلا المادة.. حيث لا تَفَكُّرَ ولا تَعَقُّل ولا تنظيم، ولا قدرة لها على إحداث تغيير منطقي داخلي في ذاتها.. ولا تستطيع أن تُحدث تغييرات منظّمة في الأشياء الأخرى. في حين أننا نرى الأشياء في عالمنا المادي تتغيّر تغيُّرًا مُنظّمًا وتسير في طريقها بخُطى نمطيّة بنظام، وفيها لطافةٌ مُدهشة. فلا يمكن إذن القول بمادةٍ أزليّة خالية من الإرادة. ولهذا يقول القرآن:

أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ

أي هل أنتم تخلُقون أنفسكم؟ يعني لابدَّ أن يكون هناك خالق. فالتغيُّرات التي تظهر في العالَم المادي.. تُشير إلى حقيقة أنّه إذا كان هناك شيء أزلي فلا بدَّ ان يكون عاقلاً، ولا يطرأ عليه تغيُّر، ولكن المادة تتغير. قد يصعب فهم هذا الموضوع على البعض، ولكن إذا تفكَّرتم اتضح لكم المعنى. هناك احتمالان فقط: هذا الميكروفون الذي أمامي إما أنّه أزلي أو مخلوق.. إذا كان يتغيّر فلا يمكن أن يكون أزليًا.. لا بدَّ أن تكون له بداية بدأ من عندها ليصل إلى حاله هذا. وإذا لم يكن فيه وعيٌ وشعور ولا يستطيع أن يخلق نفسه.. ولا يوجد فيه الشعور الذي لا بدَّ من وجوده قبل أي تغيُّر في المادة.. فلا يمكن من أي زاوية للنظر أن يكون أزليًا، لأن الأزلي لا بدّ وأن يكون له فهمٌ ووعي.. ولأن الأشياء التي تجدها في الدنيا عليها طابع العقل. والأزلي لا يتغيّر.. وإذا كان يتغيّر فلا بدّ أن يكون له بداية ما، ومن ثم لا يمكن وصفه بأنه أزلي. ولا يمكن من العدم أن يتولّد عقلٌ كامل. ولو تتبَّعتم هذا الموضوع من هذه الناحية فلن تجدوا في ذات الله زمنًا إلا الزمن الذي لا يقتضي أي تغيُّر في ذاته.. وإنّما هي الإرادة التي تُغيّر العالَم.

والآن أرجع إلى الموضوع.. فبقرار الله.. أي بإرادته.. كيف تُخلق المادة؟ لا يمكن تقديم مثال كامل من الواقع. ولكن إذا تدبَّرتم في الأمثلة التقريبيّة وجدتم أنّ لهذا الأمر بصماته على أنفسكم. فعندما ترون الأحلام تجدون أنَّ أفكاركم هي التي تخلق الأحداث في الحلم. ولكن لأنّ الفكر ضعيف جدًا فلا يستطيع أن يُعطي هذه الأحداث وجودًا واقعيًا. أما بالنسبة لكم فإنّكم تدخلون عالمـًا مختلفًا وكله من أفكاركم التي تخلق هذا العالم في الحلم، ويكون وجودكم جزءًا من هذا العالَم الذي ترونه في الحلم.. كما لو كان وجودكم الحقيقي لم يبقَ منه شيء في الخارج. فإذا كان في الإرادة قوة فلا تَبْقَى الصور والمفاهيم تصوُّرًا مجرَّدًا وإنّما تصبح حقيقة. وقد أُعطيَ الإنسان لمسة من هذا المذاق حتى لا يرفض وجود الله ولا يرفض وجود القوة فيه على الخلق.

في مثال فرعون قال الله عن السحرة أنّه كانت في أفكارهم قوةٌ استطاعت أن تجعل الحبال تبدو كالثعابين، وشاهدها الناس على أنّها كذلك سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ .. ولكن للخالق الذي أعطاهم هذه القوة قوةٌ أعظم قدرًا.. قوةٌ غلّابة تغلّبت على الثعابين.. فأكلت عصا موسى الكذب الذي خلقوه. فهذا التصوير الغالب من الله تعالى ابتلع الحبال التي هي من تصوير فكر السحرة.. من هذا نرى أن فكر الإنسان يؤثِّر على فكر الآخرين. وقد صدَّقَتْ على ذلك الاختبارات العلميّة الحديثة في موضوع (التخاطر)، وهو يُدَرَّس الآن في الجامعات، وأكَّدت الاختبارات أنّ فكر الإنسان يؤثِّر على غيره بدون أي واسطة ماديّة معروفة كالأشعة أو التيار الكهربائي، ويؤثِّر فكر إنسان على إنسان آخر تأثيرًا يجعله يقوم بأعمال وحركات معيّنة.

وأروي لكم مثالاً شهدته بنفسي، وقد شهدت كثيرًا من هذه الأمور. فقد اشتركتُ ذات مرة وأنا في بريطانيا في دعوةٍ للعلماء، وكنا نأكل ونتحدَّث في بعض الأمور والمسائل، وأثناء ذلك أُثير في هذا المجلس سؤال: هل في فكر الإنسان قوة تؤثِّر على الأشياء الأخرى دون واسطة ماديّة معروفة. فقلت لهم: إنّي لم أُجرِّب ذلك شخصيًّا ولكن القرآن يقول بذلك، وذكرت لهم الآية. فقالوا لماذا لا نجرِّب عليك؟ قلت: جرِّبوا. فخرجت من الغرفة وصحبني أحدهم لمراقبتي، وتشاوروا فيما بينهم، وعندما رجعت إليهم وجدتهم يجلسون في دائرة ممسكين بأيدي بعضهم بعضًا، وقالوا لي: اقفز وادخل في الوسط واجلس مسترخيًا ولا تفعل شيئًا. وجلست لفترة ثم لا أدري لماذا فكَّرت أن أحُلَّ رباط حذائي، فحللتُ الأول ثم الثاني.. فقال أحدهم: أكمل الباقي. وفجأةً انقطع حبل فكري وسألته: ماذا تعني بالباقي؟ فقالوا: لقد فكَّرنا أن نحلَّ حذاءك وتخلعه وتجلس بدونه. وقد فعلتَ ما فكَّرنا قبل أن تتعطَّل قوة الفكر بطلب فعل الباقي. فتفكيرهم هذا أثَّر وأحدث حركة. ومثل هذه الحركات نجدها في أفكارنا أثناء الحلم. ولكن المجنون الذي ينقطع اتصاله الفكري عن الدنيا فإذا بأفكاره تؤثِّر فيه حتى أنّه يُصدِّقها ويتبعها في تصرُّفاته. ولكن الله تعالى هو صاحب القوّة الأولى، وإرادته غلّابة مسيطرة على كل فكرٍ سواه.. ولذلك نبَّهتكم وتلوت الآية التي تقول لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ .. فليس في الكائنات شيءٌ مثله أبدًا. وقلت إنّ الأشياء الماديّة تُشير إلى الله بعض الإشارات ولكن ليس منها شيء أزلي، أمّا الله فهو أزلي. فلا مخرج لنا بالتفكُّر في هذا. لا نستطيع أن نُقِرَّ بوجود الكون، ولكنه موجودٌ فعلاً. كيف كانت البداية؟ يقول الله بنفسه إنّ كل الطاقات في إرادتي. ثم عندما أُريد.. تأخذ الإرادة شكل الواقع العملي فيتمُّ العمل. إذا فكرتم في هذا كأنّه حلم.. فهو حلم كل ما فيه حقيقي موجود. لذلك قال بعض الفلاسفة أنّ كلّ شيء موجود هو وَهْم. لقد تعثَّرت هذه الفلسفة كثيرًا لأنّ أصحابها لم يستفيدوا من القرآن الكريم. لو تدبَّروا في صفات الله المذكورة في القرآن لفهموا أسماء الله بالقدر الذي سمح الله به، ولم يتعثَّروا في الوصول إلى الإيمان بذاته، واستفادوا من البصائر التي أخبر الله عنها بقول

قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا

لقد جاءت هذه البصائر من عند الله.. لأنّه لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ولكنه يُدْرِكُ الأَبْصَارَ . إذا أردتم أن تفهموا الله تعالى فذلك غير ممكن لأنكم عاجزون عن أن تصلوا إلى الله بأفكاركم، ولكن لابدَّ أن تكون لكم صلةٌ به.. وعندئذٍ يصل إليكم.. ولقد وصل إليكم بقدرِ ما كان ضروريًا لتفهموه وتعرفوه، وبقدرِ ما تسمح به مقدرتكم.

فإذا تدبَّرتم في ذلك كان مصدر نفعٍ لكم ولصالحكم. ولا حرجَ في التفكُّر في الله ما دام هذا التفكُّر في نطاق تعبيرات القرآن وفي نطاق فهم النبي للقرآن.

وفي هذا العصر فإنّ سيدنا المهدي هو آدم الثاني، وقد أُعطيَ علم أسماء وصفات الله. وعلى ضوء العلم الذي نتلقَّاه منه..  إذا فكَّرنا وفهمنا أسماء الله.. فلا إثمَ في ذلك، ونتوصل إلى نتيجةٍ صحيحة. بل قد أمر الله بالتدبُّر في هذا، وقال فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ أي من تدبَّر فسوف ينتفع بلا شكّ. فالتدبُّر في صفات الله تعالى ضروري حتى ننتفع من ذلك.. وهذا موضوعٌ مستمر لا ينتهي، ولكن لا بدَّ أن يكون هذا التدبُّر على ضوء القرآن الكريم في إطار الحدود التي ذكرها الله.

سوف أُكمل الموضوع في الخُطب القادمة إن شاء الله. علمًا أنّ الموضوع لا ينتهي، ولكني أضع لكم الخطوط العريضة التي تتفكَّرون بحسبها في صفات البارئ، والصلة التي تستطيعون إقامتها مع الله تعالى بتدبُّركم في صفاته. وعلى ضوء هذا أدعوكم للتدبُّر في صفات الله، وأُنبِّهكم إلى الأخطار التي تتولّد من خداع النفس واعتمادكم على أفكاركم وتخطِّيكم حدود ما في القرآن والحديث. إنّ هذا يؤدّي إلى الضلال والهلاك. ولكن التفكير ضروري على ضوء القرآن والحديث. وكلما تفكَّرتم هكذا كلما تجلّى الله لكم أكثر واقتربتم منه أكثر وحدث فيكم خَلْقٌ جديد.. لقد بيَّنتُ لكم بعض الجوانب.. وعرَّفتكم موضوع (الشأن). إنّ قوله كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ يعني أنّه بتدبُّركم في صفات الله تعالى سوف تتجلَّى لكم شؤونٌ كثيرة. وإذا تجلّى للمرء شأنٌ جديد فإنّه لا شك يرى نورًا جديدًا.

لقد شرحتُ لكم مفهوم الزمن. وكيف يوجد في الله تعالى.. ولكن بالمفهوم الذي لا يتعارض مع الذات الإلهيّة، ولا يقتضي أي تغيُّر في صفات البارئ. فالتدبُّر لازمٌ لتحقيق ازدهار لا ينتهي.. ولكن بحرص كما بيَّنتُ لكم. وفَّقنا الله لذلك.

[1] رئيس التحرير السابق وهو كاتب من مصر الشقيقة

Share via
تابعونا على الفايس بوك