ذو القرنين

بقلم: نذير المرادني

كاتب من القطر العربي السوري

دراسة وتحليل

وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِّنْهُ ذكْرًا (الكهف: 84).

لقد علقَ بالفكر الإسلامي خصوصًا عبر عصور الظلمات والانحطاط كثير من الخرافات تولدت إما عن سوء فهم للنص القرآني الكريم أو لقِلة دراية بالأحداث التاريخية التي سردها القرآن الكريم بغرض كشف الغطاء على أهم الأحداث في تاريخ الإنسانية التي حُرفت حقائقها ودقائق أحداثها أو في قالب نبوءات مستقبلية. وفي خِضم تلك المتاهات تسرب للفكر الإسلامي ما فيه الكفاية لردع أسس التفكير القويم الذي طالما نادى به الدين الحنيف منذ بعثة خير خلق الله سيدنا محمد المصطفى .

وسأتناول بالبحث في هذه السطور قصة “ذو القرنين” المذكورة في القرآن الكريم وقبل أن أخوض فيها أود التنويه والتأكيد على أن كتاب الله القرآن المجيد ليس بكتاب تاريخ، وأنّه لا يسرد حوادث تاريخية لِمجرّد إثبات وقوعها، وأنّ ما يُسمّى بقَصص القرآن هي في الواقع أنباء عن حوادث وقعت في الماضي أو أنها ستحدث في المستقبل، وقصة ذي القرنين لا تخرج عن هذه القاعدة.

وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِّنْهُ ذِكْرًا (الكهف: 84).

لقد كان ذو القرنين مؤسِّسَ الإمبراطورية الفارسية الميدية والتي مثَّلت قرني الكبش التي رآها النبيّ دانيال في منامه (وهو نبي إسرائيلي) حيث يقول دانيال: “رأيتُ الكبش ينطح غربًا وشمالاً وجنوبًا فلم يقف حيوان قدّامه ولا منقذ من يده وفعل كمرضاته وعَظُمَ” (دانيال 8-4)، ولقد صدَّق القرآن المجيد هذه الرؤيا للنبي دانيال وخاصّةً فيما يتعلّق بفتوحات ذي القرنين غربًا وشمالاً وجنوبًا. قال تعالى:

حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فيِ عَيْنٍ حَمِئَة وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيِهمْ حُسْنًا (الكهف: 87).

وقوله تعالى:

حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْمًا لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (الكهف: 94).

وقوله تعالى أيضاً:

حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلعَ الشَّمْس وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَلْ لَّهُمْ مِّنْ دُونِهَا سِتْرًا (الكهف: 91).

إنّ اسم ذي القرنين هو اسم صفة لِملك ميديا وفارس الذي ينطبق على الملك كورش الفارسي. فقد اعتلى هذا الملك عرش فارس بعد موت أبيه، وفتح فيما بعد مملكة ميديا وضمّها إلى مُلكه، حيث كانت مملكة كبيرة من ممالك فارس، وبهذا الفتح للملك كورش تحقَّق الجزء الثاني من رؤيا النبيّ دانيال حيث جاء فيها: “فرفعت عيني ورأيت وإذا بكبشٍ واقف عند النهر وله قرنان والقرنان عاليان والواحد أعلى من الآخر والأعلى طالع أخيرا”. (دانيال: 8-3).

لقد ذكر القرآن المجيد أربع علامات مميّزة لذي القرنين:

الأولى: أنّه كان عبدًا صالحًا باركه الله بالوحي الربّاني، (حسب مفهوم الآيات: 87-92-99 من سورة الكهف).

الثانية: أنّه كان فاتحًا عظيمًا وحاكمًا عادلاً رحيمًا عامَلَ الشعوب التي حكمها بالحسنى (حسب منطوق الآيتين: 85-89 من سورة الكهف).

الثالثة: أنّه زحف نحو الغرب وحقّق فتوحاتٍ عظيمة إلى أن وصل مكانًا وجد عنده الشمس تغرب في بحيرة مظلمة (عَيْنٍ حَمِئَةٍ). ثمّ تحوّل إلى الشرق، وفتح وأخضع مناطق واسعة لمملكته (حسب الآيات: 85-87-88-89 من سورة الكهف).

الرابعة: أنّه ذهب أخيرًا إلى مكان يقع في منتصف الطريق عاش فيه قوم بدائيون كانوا لا يرتاحون من غارات أقوام يأجوج ومأجوج عليهم، فناشدوه لمساعدتهم، فبنى لهم سَدًّا (جدارًا) ليمنع هجمات يأجوج ومأجوج على هؤلاء البدائيين (حسب الآيتين: 90-98 من سورة الكهف).

إنّ هذه الصفات الأربع لا تنطبق على أحد من الملوك القدماء ولا قادة الجيوش العظماء بقدر ما تنطبق على الملك كورش الفارسي. فهو الذي أطلق عليه القرآن المجيد اسم ذي القرنين.

إنّ أول ميزة خاصّة لذي القرنين هي أنّه كان من عباد الله الصالحين المنعم عليهم بالوحي الربّاني، وهذه الميزة تمنعنا من الأخذ برأي مَن قال إنّ ذا القرنين هو القائد المقدوني الإسكندر الكبير المعروف بوثنيته.

لقد صدّق القرآن المجيد ما ذكره الكتاب المقدّس (العهد القديم) عن كورش، حيث جاء في كتاب النبي أشعيا ما نَصُّه: “القائل عن كورش راعيَّ، فكلّ مسرتي يُتمم، ويقول عن أورشليم ستبنى (بعد أن هدمها نبوخذ نصر) وللهيكل ستؤسس. هكذا يقول الربّ لِمسيحه لكورش الذي أمسكتُ بيمينه لأدوس أمامه أممًا وأحقاء ملوك، أَحُلُّ لأفتح أمامه المصراعين، والأبواب لا تغلق. أنا أسير قدّامك والهضاب أُمهِّد… لكي تعرف أنّي أنا الربُّ الذي يدعوك باسمك” (إشعياء: 44).

أمّا الميزة الثانية لذي القرنين فهي كونه فاتحًا عظيمًا فنجد أخبارها في كتاب أخبار الأيام الثاني (36) فنقرأ: (هكذا قال كورش ملك فارس إن الرب إله السماء قد أعطاني جميع ممالك الأرض).

ويقول تعالى:

إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا (الكهف: 85-86)

وهذه الميزة يؤيدها التاريخ أيضًا، فقد ذكر عن كورش بأنه كان فاتحًا عظيمًا وحاكمًا رحيمًا محسنًا كريمًا، وقد عامّلّ الشعوبَ التي فتح بلادها بكرم الأخلاق، وبذلك حاز على ولائهم التام. وإليكم ما ذكره (تاريخ العالَم) عن كورش الفاتح:

(لقد عرفت أنه كان هناك مَن أطاعوا كورش عن طيب خاطر منهم وهم على بعد سفر أيام عديدة منه، وآخرون على بعد أشهر منه والبعض لم يروه البتة، حتى أنّ بعضهم كان يعلم يقينًا أنهم لن يروه يومًا ما، ومع ذلك فكلّهم خضعوا لحكمه لأنه فاق جميع مَن سواه من الملوك ومَن أخذوا السلطة عن آبائهم وكذلك على مَن حصل على السلطة بجهدهم الخاص…، وفوق ذلك كله كان رحيمًا كريمًا إلى أقصى الحدود فإنّ درعه لم يطلخ من سفك الدماء ولا من جرّاء أعمال اللؤم أو الانتقام…، وكان يعفو ويقدم الهدايا لأعدائه المغلوبين).

الميزة الثالثة المذكورة في القرآن المجيد -لذي القرنين- هي أنه أنشأ مملكة واسعة تمتد من الشرق إلى الغرب، ومن الحقائق التاريخية المعروفة أن كورش حكم مقاطعات واسعة امتدّت إلى البحر الأسود في الغرب والى حدود أفغانستان وسمرقند وبخارى في الشرق، ويمكن القول بالاختصار عن فتوحاته في الغرب أنه ما كاد يصبح ملكًا على فارس وميديا حتى حرّض كريوس ملك تركيا حكّام بابل ومصر وسبارته فقاموا لمحاربته لكنه هزمهم شرّ هزيمة خلال أيام فقط، وفُتِحَت أمام كورش الطريق ليواصل زحفه حتى شواطئ البحر الأسود، فاحتلّ بابل ونينوى والمستعمرات اليونانية إلى الشمال من تركيا حتى بحر مرمرة. وهكذا وصل تلك الـ (عَين الحَمِئة) أي البحرة المظلمة التي كانت تقع غربي تلك البلاد.

وأمّا عن فتوحاته في الشرق، فقد جاء في (تاريخ العالم – المجلد الثاني) تحت عنوان (كورش) ما نصُّه: (لا نعرف إلى أين امتدّ سلطان كورش نحو الشرق، لكنه من المحتمل أن تكون جميع بلدان الشرق المذكورة في نقوش داريوس القديمة الخاضعة منها والمتمرّدة قد أُخضعت جميعها لِكورش، معنى ذلك أنّ مناطق خوارزم وسمرقند وبخارى كانت تابعةً لحكمه، ومّما لا شك فيه أنّه حكم كذلك على مناطق شاسعة من أفغانستان الحديثة).

وتُلقي الفقرة التالية كذلك -من الكتاب نفسه- الضوء على الفتوحات الواسعة التي تّمت على يد كورش في الشرق والغرب: (وعندما وجد كورش شعوب آسيا مستقلّين انطلق بجيش صغير من الفرس فاحتلَّ بلاد ميديا عن طيب خاطر أهلها، وكذلك الهرقانيين وأخضع السوريين والآشوريين والعرب والكبادوسيين وكل الفرغانيين والليديين والكاريين والفينيقيين والبابليين وانضمّ تحت سلطانه كذلك الياكتريانيون والهنود والسليزيون وكذلك الساسيون والبغلاجونيون والمجاديديون وشعوب أخرى لا يمكننا أن نُحصي أسماءها. لقد حكم اليونايين الذين يقطنون آسيا وانحدر نحو البحر فحكم القبارصة والمصريين. لقد حكم جميع هذه الشعوب دون أن تكون بينه وبينهم ولا حتى بين بعضهم بعضًا لغة مشتركة، لكنه تمكّن من أن ينشر مهابته على جزء كبيرة كهذا من العالم، بحيث أدهش الجميع ولم يقدر أحد على مقاومته.. وبدون حرب استسلمت له الممالك الكبرى.. وحتى صور تلك المدن الحصينة الشامخة التي لا تُقهر ولم يُفلح أحد في قهرها.. دانت له بالولاء طوعًا. وفوق كل هذا هَلَّلَ له شعب اليهود الصغير عند مياه بابل بما لم يفعلوه نحو إنسان ما قبله ولا بعده واستقبلوه كالمنتصر والمنقذ والمخلِّص والمحرِّر).

أمّا الميزة الرابعة المذكورة في القرآن المجيد لذي القرنين هي أنّه بعد فتوحاته اتّجه نحو مكان يقع في منتصف الطريق حيث عاش قومٌ حياةً أشبه بحياة المتوحشين، وكانوا هدفًا لِهجمات متتالية من قبائل يأجوج ومأجوج، فبنى لهم سَدًّا لِيصدّ عنهم تلك الهجمات، ولكي نفهم وندرك جيدًا هذه الفقرة القرآنية من الضروري أن نعرف أولاً من هم قبائل بأجوج ومأجوج. يقول المؤرِّخ جرومي: (كانت مأجوج تُقيم وراء القفقاس قرب بحر قزوين ويُشير هيودوتس أنّ هؤلاء البدو الذين أطلق عليهم المؤرخ يوسفوس اسم “السكثيين” أي القبائل المجهولة المتوحّشة جاءوا من الممرّ الطبيعي الواقع بين جبال القفقاس وبحر قزوين وهو المسمّى بممرّ دربند) (تاريخ العالَم للمؤرخين – مجلد 2 – ص: 582).

ويبدو أيضًا أَنّ السكثيين أو يأجوح ومأجوج سيطروا على مناطق إلى الشمال والشمال الشرقي من البحر الأسود، وأنّهم اجتازوا تلك المناطق من خلال ممرّ دربند، وغزوا واحتلّوا فارس وحكموها وأنّ الملك كورش حاربهم وهزمهم وأنقذ فارس وما حولها من براثنهم.

أمّا ما ذُكِر عن أنّ ذا القرنين بنى سدًّا منيعًا في وجه غزوات يأجوج ومأجوج فإنّه يوجد في المكان الذي كان -حسب ما يروي هيردوتس- يمرّ منه مأجوج ومأجوج لِغزو بلاد فارس نجد سدًّا يُعرَف بسد دربند الذي يبلغ طوله حوالي (80 ثمانين كيلو مترًا) تقريبًا، وهو معروف أيضًا بسدّ الإسكندر، ويبلغ ارتفاعه حوالي عشرة أقدام، وكان يُشكِّل بأبوابه الحديدية وأبراجه العديدة للمراقبة خطًّا دفاعيًا قويًا على الحدود الفارسية.

ويعتقد بعضهم خطأً أنّ الإسكندر الكبير هو الذي أقام سدّ يأجوج ومأجوج لكنّ هذا الاعتقاد يُخالِف الحقائق التاريخية الثابتة. فقد انتصر الإسكندر على داريوس في صيف سنة 330 ق.م لكنّ هذا النصر لم يُحقِّق له السيطرة على بلاد فارس بأكملها، وبدون تريّث واصل الإسكندر زحفه إلى الإسكندرية، واضطر بعدها إلى العودة لِيُخمد ثورة قامت ضدّه، وزحف بعد ذلك نحو مدينة كابل حيث واجه ثورة أخرى في صفوف جيشه، ولم يصل بلاد الهند إلاّ في شتاء سنة 329 ق.م. وقد أتمّ الإسكندر جولته تلك كلّها بسرعة جعلت بعض المؤرّخين يشكّون فيما إذا كان الإسكندر قد حقَّق فعلاً كلّ ذلك في وقت قصير كهذا، مع ذلك من المسلم به أن الإسكندر زحف نحو الهند دون أن يتوقف في أيّ مكان، ومن الهند رجع سنة 324 ق.م إلى فارس فواجه مرّة أخرى ثورة في الجيش، وبعد إخماد تلك الثورة قفل عائدًا إلى وطنه، ومات في الطريق.

إن هذه الحقائق تُظهر وتُثبت أنّ حملات الإسكندر العسكرية قد تَّمت بما يُشبه الإعصار وأنّه فتح جزءًا كبيرًا من العالم في وقت قصير جدًا، ولم يكن بمقدور الإسكندر خلال هذه الحملات العاصفة أن يُوَجِّه اهتمامه إلى أيّ مشروع كبير كبناء سدّ ضخم مثل الذي نحن بصدده، ويبدو أن الفكرة السائدة بأنّ الإسكندر هو الذي بنى هذا السدّ نشأت من اعتبار بعض المفسِّرين خطأً أنّ ذا القرنين هو الإسكندر الأكبر.

وأحسن دليل على أنّ سد دربند بُني خلال حياة الملك كورش بغرض حماية شعوب فارس من هجمات يأجوج ومأجوج ما أثبتته المعطيات التاريخية من أنه بعد وفاة كورش بمدّة اعتلى الملك داريوس عرش فارس وهاجم هذا الملك العظيم أقوام يأجوج ومأجوج عن طريق أوروبا مارًّا باليونان.

ولا يفوتني أن أذكر في نهاية بحثي هذا أن كتاب الله القرآن أعطانا تفاصيل دقيقة حول ما اندثر وغاب أثره في تاريخ الإنسانية وذلك ليثبت الله كمال نبوة محمد المصطفى . فالنبوءات الغيبية لا تذكر ماذا سيحدث في المستقبل فحسب بل تذكر أيضا تفاصيل الأحداث التي لم تدونها كتب التاريخ أو دونتها بصورة بشعة مُحرفة. فكثير من الأقلام التي كتبت التاريخ ما كانت أقلام أمينة ولا أقلام صادقة. فالتاريخ يطوي بين صفحاته كثير من الزيف والتزوير والخداع لذلك كثير من الحقائق ظلت مجهولة حتى بعثة سيد الخلق محمد المصطفى .

 

 

Share via
تابعونا على الفايس بوك