تعقـــيبات

 

(1) تعقيب على مقال الأستاذ ميشيل البشارة حول رأي القرآن الكريم بولادة السيد المسيح. المنشور في جريدة “الاعتدال” السورية بتاريخ 18-8-95

إن من أهم الأمور التي أرسى الإسلام قواعدها بين الناس جميعا هو التعايش الفكري واحترام العقائد الدينية للغير، ونشر المحبة والسلام، وذلك طبقا لمضمون الشريعة الإسلامية التي جاء بها النبي محمد . لذلك وجدنا تاريخ المسلمين الأولين التي لا نجد مثيلا لها بين الأمم الأخرى.

إنها حضارة القرآن، آخر الكتب السماوية، الذي خرج نوره من الجزيرة العربية، فبلغ في سنوات قليلة مشارق الأرض ومغاربها، واكتسبت الأرض بنوره حضارة إنسانية رائعة ومتميزة، وامتدت لقرون طويلة. وكما أخبر القرآن عن مستقبل المسلمين والمجتمع البشري أخبارًا عجيبة، أخبرنا أيضا في قصص الأنبياء والصالحين أخبارًا مدهشة تتعلق بحياتهم، ومضامين رسالاتهم، وحقيقة موقف أقوامهم من هذه الرسالات.

وسورة (مريم) المكية هي من سور القرآن التي تضمنت أخبارا مذهلة خاصة بالأنبياء زكريا ويحيى والمسيح وأمه مريم عليهم السلام، لهذا وجدنا السيد/ ميشيل يعتمدها أساسًا لمقاله المذكور، فكان بحق مقالا رائعا ومنهجا متميزًا، أثار بهذا مشاعر الكثيرين، ونبّه إلى ضرورة مواصلة مشوار التقارب المسيحي الإسلامي .. القائم على توازن أطراف الحوار.. من حيث الاعتراف المتبادل، لما لهذا الموضوع من أهمية بالغة، خصوصا أننا في بلاد الشام نَنْعَم بعبق أجواء هذه التقارب الأخوي بفضل الله ورحمته. وهذا ما عبر عنه السيد/ ميشيل بقوله:

“ومن المعلوم أنه -من بين جميع شعوب العالم- لا يؤمن بولادة المسيح من غير أب إلا المسلمون والمسيحيون، بينما ينكر ذلك الملحدون وأهل الديانات الأخرى من يهود ووثنيين وبوذيين وغيرهم. ولهذا الاشتراك في إجلال السيد المسيح وطهارة أمه أثر كبير في التقائنا نحن المسلمين والمسيحيين على أهداف مشتركة”.

وبما أن لكل ديانة من الديانتين كتابًا سماويًا مستقلاً، فهذا يعني أن بين الكتابين نقاط التقاء كثيرة، ونقاطًا أخرى اختلف الباحثون حولها بسبب تفسيرها وتباين منهجها. إلا أن إيماننا بالحوار الهادئ كمنهج لتوضيح هذه النقاط يدفعنا إلى ضرورة بيان وجهة نظرنا، معتمدين في ذلك على النصوص القرآنية والإنجيلية المقدسة، هادفين إذكاء روح المودة والأُخُوّة بيننا.

وعودة إلى آيات سورة مريم التي استشهد بنصوصها السيد/ميشيل، وبعد تدبّرها نستخلص منها الحقائق الآتية:

أولاَ: تخبرنا السورة المذكورة أن السيدة مريم بعد بشارة الحمل سافرت إلى مكان بعيد عن موطنها.. لكي تلد هناك ابنها المبارك.. بعيدًا عن عيون كهنة أورشليم. وهذا مصداق قوله تعالى:

فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا .

ثم وصفت السورة مكان الولادة بقوله تعالى:

فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ ،

فكلمتا “قصيّا والنخلة” لا تنطبقان على مدينة بيت لحم التي يعتقد الإخوة المسيحيين أن السيدة مريم وَلَدت فيها السيد المسيح ، لأن كلمة: قصيّا، تعني مكانًا بعيدًا، وبيت لحم ليست بعيدة عن القدس هذا البعد المفهوم من كلمة “قصيّا”، وكلمة “النخلة” المعرّفة بـ “ال” تعني: وجودًا معهودا مسبقا في أذهان الناس.. يتعلق بريف مصر المتميز بانتشار أشجار النخيل فيه. وهذا ما أشار إليه إنجيل متّى في الفصل الثاني حيث جاء فيه: “ولما انصرفوا إذ بملاك الرب يتراءى ليوسف في الحلم قائلاً له: قُم فخُذ الصبي وأمّه واهرب إلى مصر وكن هناك حتى أدعوك”، وهذا يؤكد أن الولادة تمت في مصر.

ثانيا: تضمنت الآيات المذكورة أيضًا بيان المرتبة الروحية للمسيح بأنه كان عبدًا لله ونبيًا مرسلاً، ويتبين ذلك من قوله تعالى على لسان المسيح: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا . وهذا ما أكده المسيح نفسه في إنجيل يوحنا قائلاً: “وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته”.

ثالثا: كما بينت النصوص من سورة مريم أن المسيح لا يتمتع إلا بطبيعة واحدة بَشَرية، وأنه عاش كغيره من البشر، وكان خاضعًا لسنن الله وقضائه وقدره، بحسب قوله تعالى: وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا .

وهذا ما أكدته الروايات الإنجيلية من أن المسيح مارس حياته كإنسان بعد نجاته من الموت على الصليب. إن ولادته بطريق إعجازي من غير أب، كان فيها دروس وعِبَر لبني إسرائيل الذين قست قلوبهم وأصبحت كالحجارة، حتى ظهرت فيهم فِرق تنكر القيامة والبعث والدينونة، كفرقة (الصدوقيين). كما كان لهذه الولادة الإعجازية إشارة أخرى: انتقال نعمة النبوة من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل، وأن المسيح هو آخر نبي في السلسلة الموسوية أبدًا. وهذا ما عبر عنه المسيح بقوله: “إن ملكوت الله يُنزع منكم ويُعطى لأمة تعمل أثماره” (متى 21).

رابعاً: قال السيد/ ميشيل معقبًا على طريقة حَمْل السيدة مريم الإعجازي: “وهي التي لم تتزوج ولم يقربها الرجال”. والحقيقة التي ذكرتها الأناجيل وأشار إليها القرآن، أن السيدة مريم تزوجت بعد ولادة المسيح وأنجبت بعد ذلك العديد من الأبناء، وهذا مصداق قوله تعالى:

وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (آل عمران: 37)..

أي سيكون لمريم ذرية طيبة مباركة، واستجاب الله لدعاء والدتها. والذرية كما جاء في كتاب مفردات القرآن للإمام الراغب:

“يقصد بها الجمع من الأولاد”.

أما رأي الأناجيل في هذه المسألة فإليكم بيانه: جاء في إنجيل لوقا عن ولادة المسيح ما نصه: “وصعد يوسف أيضًا من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية إلى مدينة داود التي تدعى بيت لحم لأنه كان من بين داود ومن عشيرته ليكتتب مع مريم امرأته المخطوبة وهي حبلى”. وهذا يؤكد أن السيدة مريم كانت حبلى بالمسيح وهي مخطوبة ليوسف النجار.

وجاء في إنجيل متى ما نصه: “فلما نهض يوسف من النوم صنع كما أمره ملاك الرب فأخذ امرأته مريم ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر وسمّاه يسوع”.. أي أن يوسف النجار لم يعاشر مريم كزوجة له إلا بعد ولادة المسيح .

وجاء في إنجيل متى ما نصه: “أليس هذا هو ابن النجار؟ أليست أمه تسمى مريم، وإخوته يعقوب ويوسى وسمعان ويهوذا؟ أوليست أخواته كلهنّ عندنا؟ فمن أين له هذا كله؟”.. وهذا بيان إنجيلي واضح يذكر أسماء إخوة المسيح الأربعة الذكور، ويشير أيضا إلى أخواته من الإناث، أولاد وبنات يوسف النجار.. من والدته مريم.

ويجدر التنبيه هنا إلى مسألة هامة وهي: ألّا يظنّنّ أحد أن زواج السيدة مريم وإنجابها الأولاد بعد ولادة المسيح، يمكن أن يسيء إلى قدرها وينتقص من مكانتها وطهارتها أبدًا، لأن كل ما فعلته كان بأمر من الله، وأنها بذلك عاشت الحياة الطبيعية التي عاشها أعظم الأنبياء والقديسين، لتكون مثلاً حيًّا لغيرها من النساء الصالحات.

وأختتم مقالي هذا بذكر نبوءة المسيح التي وردت على لسانه في إنجيل يوحنا..  وهو يبشر بمجيء المعزّي أو روح الحق، ويقصد بذلك النبي الخاتم: محمد .. حيث يقول عنه

“وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ، لأَنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ. ذَاكَ يُمَجِّدُنِي، لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ. كُلُّ مَا لِلآبِ هُوَ لِي. لِهذَا قُلْتُ إِنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ” (إِنْجِيلُ يُوحَنَّا 16 : 13-15)

..أي أن ذاك النبي الذي سوف يتكلم بواسطة الوحي الإلهي.. ستكون معه شريعة إلهية كاملة، فيها كل ما تحتاجه البشرية. ليس هذا فحسب، بل إن ذاك النبي سوف يُخبركم عنّى أيضًا، ويبين لكم حقيقتي وحقيقة ما جرى بيني وبين كهنة أورشليم من أحداث هامة. وموقف هؤلاء من والدتي مريم أيضًا. وهذا الذي قدمناه هو بعض هذه الحقائق القرآنية. أرجو أن يستمر حوارنا، فالحقيقة هي أغلى من كنوز الأرض جميعًا.

(2)

حول موضوع الردة في الإسلام

نشرت صحيفة “تشرين” في عددها رقم 2626 الصادر بتاريخ 26/6/95 نص بيان صدر عن الكتّاب والمثقفين السوريين حول قضية الدكتور نصر حامد أبو زيد تضمن استنكارهم الشديد للقرار الصادر عن محكمة استئناف القاهرة والمتضمن التفريق بين الدكتور حامد وزوجته الدكتورة (ابتهال يونس) باعتباره مرتدًا عن الإسلام، كما أكد البيان على تضامن المجموعة مع هذا المفكر العربي.

ونشرت جريدة “السفير” في عددها رقم 7123 تاريخ 4/7/95 تحت عنوان “لجنة الدفاع عن نصر أبو زيد” بيان مجموعة المستشرقين الألمان والمدرسين العرب والأجانب في الجامعات الألمانية حيث طالبوا برفع الاضطهاد عن المفكرين، ودعا إلى طرح قضية أبو زيد وشرحها علانية للرأي العام الألماني. وجاء في مقال الأستاذ علي حرب ما نصه: “إذا كنا جميعا نطالب بإلغاء القرار الهمجي الذي قضى بالتفريق بين أبو زيد وزوجته باستصدار قرار مناقض له، فإن المطلب الأهم هو إلغاء حكم الارتداد من أساسه، بحيث لا يكون ثمة وصاية أو رقابة من أحد على سواه في ما يؤمن به أو يعتقد”.

وبسبب خطورة هذه المشكلة فقد بادر المجلس الأعلى للثقافة في مصر إلى إصدار بيانه بتاريخ 17/6/95 وجاء في نصه:

“يعبر المجلس الأعلى للثقافة عن عميق قلقه لما بَدا مؤخرا من الالتجاء إلى القضاء كوسيلة للتدخل في حرية التعبير في ميادين الفكر والإبداع والبحث العلمي والجامعي، ويرى في هذا خطرًا ماثلاً يهدد مستقبل هذه الأمة في لحظة مصيرية من تاريخها”

إنني أؤكد على هذا المنهج الجديد للمتشددين في مصر لا يهدد أبناء مصر فقط. إنما يهدد أيضًا جميع الفئات المثقفة في العالم الإسلامي. وبما أن مجموعة المحامين والقضاة الذين خططوا لهذا القرار الظالم. اعتمدوا في حيثيات القرار على التشريع الإسلامي، فقد وجدت أنه من المفيد العودة إلى الأصول الإسلامية لبيان حقيقة موضوع الردة في الإسلام، نظرًا لأهميته في هذه الأيام.

  1. دعم الإسلام مبدأ الحرية الدينية، وصان حرية المعتقد بقوله تعالى: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ (البقرة: 257)، وقوله: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ (الكهف: 30).
  2. بيّن ربنا سبحانه وتعالى في كتابه العزيز أن مهمة النبي ، ومن نهج نهجه من الخلفاء والدعاة، هي الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأكد النبي على ذلك فقال: “بشِّروا ولا تنفروا”، كما وضح أن مهمة النبي هي إبلاغ الدعوة للناس، أما الحساب فهو أمر يخص الله وحده.. بدليل قوله تعالى في: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (الرعد: 41) ، وقوله تعالى أيضًا: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (آل عمران: 21). إن محاسبة الخلق حقّ إلهي لا يسمح لأحد بممارسته حتى ولو كان نبيا. لذلك وجدناه يقول لنبيه : فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (الغاشية: 22-23). وقال تعالى أيضًا: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (الأَنعام: 108). وقال أيضا: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (الأَنعام: 67). قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسير هذه الآية، لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ..أي لست عليكم بحافظ حتى أجازيكم على تكذيبكم وإعراضكم عن قبول الدلائل، إنما أنا منذر والله هو المجازي لكم بأعمالكم. فإذا كان حق الحساب ممتنعا عن الرسول فكيف يطالب بممارسته اليوم علماء آخر الزمان من المشائخ والقضاة الذين استشرى فيهم الجهل والفساد والنفاق حتى وصفهم النبي بأنهم قردة وخنازير.
  3. بعد هذا البيان القرآني التي تجلت فيه الرحمة الإلهية بكامل أبعادها نتساءل: متى يكون المسلم مرتدا عن إسلامه؟ وقبل أن أجيب عن هذا السؤال لابد من الإشارة إلى أن مؤسسي الجماعات الإسلامية المتطرفة من أمثال الشيخ أبي الأعلى المودودي هم وراء انتشار الفهم الخاطئ لموضوعي الردة والجهاد في كتابه “حكم المرتد في الإسلام” ما نصه: “هناك طريقتان فقط للتعامل مع المرتد، فإما أن نجعله خارجًا عن القانون بأن نجرده من مواطنيته ونسمح له فقط بمجرد الوجود، وإما أن ننهي حياته”. وهكذا قد نصّب هذا الشيخ الجاهل نفسه حاكما مطلقا على المسلمين، بل جعل نفسه إلهًا!!! أما الجواب عن السؤال: المرتد عن الإسلام هو من يعلن نفسه أنه ارتد عن الإسلام. وما لم يفعل ذلك لا يجوز لأحد مهما كان موقعه أو سلطته أن يعتبر أحدا من الناس مرتدا.. مهما كانت الدوافع والأسباب، لأن المسألة شخصية بحتة، والإنسان حرٌّ في ما يعتقد، والإسلام كفلَ الحرية الدينية للناس جميعا.
ملحوظة: سوف نعيد نشر خطاب هام لإمام الجماعة الإسلامية الأحمدية حول الردة في الأعداد القادمة – إن شاء الله.

Share via
تابعونا على الفايس بوك